الحديث القرآني الرمضاني – 6 رمضان 1440 هـ / 12 مايو 2019

فيديو الحديث:

صوت الحديث:

نص الحديث :

حديث في ضوء القرآن الكريم (3) – سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم

قم المقدسة – 6 شهر رمضان 1440 هـ /  12 مايو 2019م

بسم الله الرحمن الرحيم

أُثير تساؤل حول اجتماع الغفلة والإعراض عند الناس بينما الموضوع واحد، وهذا يؤدّي إلى التنافي والتناقض، حيث أنّ الغفلة تقوم على عدم الالتفات، هي عدم التفاتٍ وانتباهٍ إلى الشيء المغفول عنه، بينما الإعراض عن هذا الشيء قائم على الالتفات وعدم التقدير له، بعد أن ألتفت له لا أعطيه الوزن الذي يستحقّ منّي أن أقف عنده، وأرتّب عليه شيئاً، فكيف تجتمع الغفلة والإعراض كما في الآية الكريمة؟

سبق التوجيه لورود الإعراض والغفلة في الآية معاً للناس حسب رأي السيد الطباطبائي “أعلى الله مقامه”، قال بعضهم بأنّ الغفلة تأتي بمعنى الإهمال، والإهمال للشيء يكون معه الالتفات، فلا تتنافى الغفلة بهذا المعنى مع الإعراض، لكن هذا التوجيه يجعل كأنّ الإعراض توكيداً للغفلة (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ)، “فِي غَفْلَة” خبر أول، و”معرضون” خبر ثاني، فهذان الخبران يكون أحدهما تأكيداً للثاني.

أو “وَهُم معرضون” لها تفسير آخر وهو (وهم معرضون في غفلة)، فهم مبتلون بالإعراض، وعدم الاكتراث، وعدم الاكتراث هذا أيضاً في حال غفلة، فكأنه جمعٌ بين الغفلة والإعراض، وربما هذا من منشأ كون الإعراض عن غفلة، فعندما يقولون بأنّ الغفلة تأتي بمعنى الإهمال، فتجتمع بهذا المعنى مع الإعراض بلا إشكال، لأنها والإعراض أمرٌ واحد، فكأنّ الوسطين أحدهما يؤكّد الآخر، وذلك إذا لم نأخذ بالتفسير الثاني وهو معرضون في غفلة، وأنّ الغفلة هي منشأ ذلك الإعراض وليست حالاً للإعراض نفسه.

ممّا قالوه في اجتماع الغفلة والإعراض: أنّ الإعراض يأتي في طول الغفلة، فهم في غفلة، ويبقون في غفلتهم برغم ما ينبّه عليه العقل من يوم الحساب. الفطرة والعقل لا يسمحان بالجهل الكامل والغفلة الكاملة عن يوم الحساب، يدلّان على الحساب ويُثيران في الإنسان الحسَّ المستقبليَّ للحساب، لكن التمادي في طلب الدنيا، والتوغّل في لذّاتها، وانخلاق الشوق العارم لها، من خلال هذه السيرة للإنسان تجعله يغفل يومَ الحساب برغم ما عليه من تنبيه العقل والفطرة.

تأتي الآيات الإلهية، اللفظية، التكوينية، آيات الكون والأنفس، وما يحدث في حياتنا كلّ يوم؛ فتنقل هذا الإنسان من غفلته التي سبّبها شوقه للدنيا، وغرمه بها، وذوبانه في لذاتها، هنا يأتي دور الإعراض؛ كانت غفلة، عدم تنبّه، حدث بالمنبّه التنبّه، يأتي دور الإعراض الذي يقوم على الالتفات، وهم في مرحلة غافلون، وفي أخرى معرضون، لكنّ الآية الكريمة لا تُشعِر بهذه الطولية، وهذا الترتّب، تقول: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ)، ليس أنهم في غفلة ثم في إعراض، وإنما هم في غفلة وهم معرضون، في نفس الوقت، مُجتمِعٌ الإعراض والغفلة.

بعد أن تكون غفلة، وانغماسٌ في الدنيا انغماساً كاملاً، يُعطي غفلةً مستوليةً مسيطرة، تذهب قيمة العقل، قيمة الوجدان، قيمة الفطرة، تُنسي الإنسان ذاته، تُنسيه ربّه، تنسيه مستقبله، وتلهيه عن حاضره، مع هذه الغفلة، ومع روح العناد والمكابرة للحقّ، والتي تقف وراء الإعراض عن آيات الله، الإعراض عن يوم الحساب والتفكير فيه، عن كلّ ما يتوّعد هذا الإنسانَ في يوم آخرته، هنا تنبني نفسية، وينبني نوعٌ من التفكير العنادي، أو من المواجهة للحقّ، فتنتقل النفس من مرحلة الغفلة والإعراض إلى مرحلة المواجهة والمكابرة والإسقاط، ومناهضة الحقّ ومحاربته.

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ، مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ).

هنا تبتدئ النجوى، ويبتدئ التآمر والتخطيط في مواجهة الرسالة والرسول، في مواجهة الحقّ؛ لأنّ النفس بعد أن غفلت غفلةً أعطتها حالة من الاستكبار، وبعد أن فقدت الروح أيَّ لذةٍ لموتها، وبقت النفس لا تلتذّ إلا بلذائذ المادّة، وبعد أن ينسى العبدُ ربّه وعظمته وجماله وكماله، روح الاستكبار هذه وقد تعملقت واستطالت تبدأ في مكابرة الله، وتبدأ في رفض إلوهية الله لتفرض ألوهيّتها في الناس، ترفض حاكمية الله لتكون لها الحاكمية على الآخر، هنا تبدأ مرحلة الصراع العنيف مع الرسالة والرسول والحقّ، وتُوَظّف كلّ الإمكانات في سبيل القضاء على الحقّ.

(…وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ)، “أَسَرُّوا”، الواو عندما نقول هنا ضمير يعود على الناس فيكون التعبير تعبيراً مألوفاً، وأسرّ أولائك الناس، أولائك السفلة، أولائك المعرضون، أسرُّوا النجوى، أولائك أسرُّوا النجوى.

إذا نفصل “وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى” عن أولائك الناس، ولا نُحمّل “وَأَسَرُّواْ” ضميراً يعود على أولائك الناس، المعاندين، المُعرِضين، الغافلين، فإذن تكون اللغة من لغة “أكلوني البراغيث”.

(…وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ)، “الَّذِينَ ظَلَمُواْ” يمكن أن تكون بدلاً عن الضمير في “أَسَرُّواْ”؛ لبيان ظلم أولائك، ظلم نجواهم، وأنّ نجواهم قائمة على الظلم، وقد جاءت من منطلق الظلم، وليس من منطلق الشُبهة، وليس من منطلق العدل ولا حتى الشُبهة، وإنما من منطلق الظلم، يعني مع وضوح رسالة الرسول “صلى الله عليه وآله” وآيته الكبرى، والآيتيّة في نفسه “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، مع وضوح ذلك، إلا أنّ العناد والمكابرة ساقت أولائك الناس إلى نجواهم، وهذا من الظلم.

(…وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ)، أو تكون ” الَّذِينَ ظَلَمُواْ” فاعل، وتكون اللغة على نحو لغة “أكلوني البراغيث”. (وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى) مَن أسرّ النجوى؟ الذين ظلموا.

فهنا إسرارٌ للنجوى، والنجوى حديث محصور بين المتناجين لا يسمعه أحد، فكيف يأتي عليها إسرارٌ؟ هناك حديثٌ سرّ، وهناك تشاورٌ سرٌّ حول هذا الحديث، فمطلوبهم أن يكون حديثهم مكتوماً، ومطلوبهم أن يكون اجتماعهم لهذا الحديث ولهذا التآمر مستوراً مخبوءاً أيضاً، فتستّرٌ دائم.

لماذا هذا التستّر كلّه وهم جبهة لا زالت قوية -جبهة المشركين-؟

مرّة تأتي المعارضة، أو تأتي المؤامرة من خمسة، ستّة، معروفين بالعناد وبالمكابرة والمواجهة، فتأتي تشكيكاتهم، وشبهاتهم، وإثاراتهم، وتملك القدرَ اللائق بها من التأثير.

ومرّة يأتي الرأي منتشراً بين الناس الكثيرين، وغالبية المجتمع رأيٌ واحد، اعتراضاتٌ متشابهة، إشكالات على الجهة المعنيّة مختلفة، تأتي دفعة واحدة من المجتمع، وكأنّها وليّةُ مليون رأي، وقد اتّخذ كلٌّ رأيه من مُنبَعث وضوح الإشكال والإحساس بفظاعة الأمر.

أيّ الصورتين أقوى في المهاجمة؟ أيُّهما السلاح الأقوى من بين هاتين الصورتين لهذه الشبهات؟ أن تأتي من خمسة معروفين بالمكابرة، بالمعاندة، بالمواجهة المألوفة لهذه الجهة، أو أن يأتي الرأي عريضاً، ممتدّاً، مستطيلاً، منتشراً من مجتمع كبير؟ لا شك أنّ الصورة الثانية أشدّ وأمضى من الصورة الأولى.

فربما كان التآمر الخفيّ، والنجوى السريّة، كانت من أجل مفاجئة الرسول والجماعة المؤمنة بموجة هائلة واسعة منتشرة من الاعتراضات المكثّفة ومن الشبهات والإشكالات المكثّفة، فهذا النوع من الانتشار إنْ لم يُعطي إحباطاً في نفس الرسول “صلى الله عليه وآله” يعطي إحباطاً في نفوس المؤمنين من حوله، ويهدّ ثقتهم بالإسلام وبالرسول “صلى الله عليه وآله”، فإنّ للرأي الجمعي الكبير الواسع تأثيراً كبيراً على الأفراد، فربما كان منشأ الاحتفاظ بالتآمر عن أعين الناس لهذا الوجه أو أمثاله.

(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ)

بمَ نواجه رسول الله؟ بمَ نواجه الدعوة الإسلامية؟ بمَ نُنهي هذا الالتفاف وهذا الانجذاب للقرآن الكريم؟ بمَ نُسقط هيمنة الكتاب الكريم على القلوب والأرواح والنفوس؟ بمَ نباعد بين مَن آمن برسول الله وبين رسول الله “صلى الله عليه وآله” وشخصيّته الجذّابة؟

(…هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ؟) هل مُدّعي الرسالة من الله عزّ وجلّ؟ وهذا بشرٌ مثلكم، ليس له ما يتميّز به عليكم، طبيعي إنْ كان ذكياً ففي الناس أذكياء، إنْ كان حكيماً ففي الناس حكماء، إنْ كانت له صفات كمالٍ بشري فالآخرون لا يفتقدون هذه الصفات ولو كانت بمقدارٍ نسبي، وكونه هو الأعظم كمالاً، وكونه هو الأكثر توفّراً على صفات الكمال من بين غيره شيءٌ غير معلومٌ عندنا وعندكم أيها المخاطبون -بالنسبة لمن يريدون أن يخاطبوهم من المجتمع المسلم الأول-.

(هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مثلكم..)، سؤالٌ تقريري، وأنّه ليس أكثر من بشرٍ مثلكم، والرسول لا يكون بشراً، الرسالة لا يكون حاملها إلاّ من مستوىً آخر فوق المستوى البشري، نريد مَلَكاً، -هذا اعتراض أوّل-.

المتآمرون يقولون: ماذا تقولون لو أنّ هذا البشر أمدّه الله بآية تُثبِت رسالته؟ هنا لابدّ أن تنقطع الحجة، يقول بعضهم لبعض: يمكن أن تنقطع حجّتنا، تسقط كلمتنا، وتذهب شبهتنا بأن يقولوا له آية وهي القرآن، إذن تعالوا نقول: إنّ القرآن سحر، تعالوا نقول: ليست له آية إلا القرآن، فتعالوا نضرب في القرآن نفسه، نُسقط قيمة القرآن نفسه.

(أفتأتون السحر)، يا مجتمع، يا بشر، يا عقلاء، يا حكماء، يا من أنتم حريصون على مصلحتكم، على استقلاليتكم، على حريّتكم، تستجيبون للسحر وأنتم تعرفونه سحراً؟ هذا كونه سحراً شيءٌ واضح، شيءٌ جليّ، وأنتم على عقلٍ وحكمة، فكيف تُقدمون وتسلّمون وتستجيبون وتتفاعلون مع سحرٍ وساحر؟ وتُعطون الحاكميّة للسحر والساحر؟ تعطون الحاكمية على أنفسكم، على كلّ دنياكم لكتابٍ هو سحر، ولمدّعٍ للرسالة هو ساحر؟!

(وأنتم تبصرون)، تعلمون، والأمر واضحٌ عندكم، يريدون أن يخاطب بعضهم بعضاً، وكذلك يخاطبون المجتمع المؤمن، بأنكم كيف تعطون بأنفسكم بهذه البساطة، تعطون كلّ شيء لكتابٍ هو سحرٌ، ولبشر هو ساحر؟

(..هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ، قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

هم كانوا في سرّ، والرسول “صلى الله عليه وآله” قال: ربي يعلم القول، والقول يشمل السرّ والعلن، يشمل ما هو لفظٌ جرى سرّاً، وما هو لفظٌ يجري أو جرى علناً، فعبّر بالقول ليبيّن أنّ علم الله عزّ وجلّ لا يخفى عليه جهرٌ ولا سرّ.

(قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ)، أنتم تتكلّمون في حجرة من الحجرات في الأرض، أو في بقعة من بقاع الأرض، كل لفظٍ يجري سرّاً أو علناً في أرض أو في سماء معلوم عند الله، يعلم بما قلتم، ويعلم بما جئتُ به، وما أدّعيته بأنّه من عنده، وهو القادر على أن يؤاخذني، والقادر على أن يؤاخذكم، وهو القاضي، ولن يقضي ربّي إلا حقّا، وسيحقّ الحقّ وهو ما معي، وسيبطل الباطل وهو ما معكم.

(قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ)، وكفى، كفاني أنْ يعلم ربي القول في السماء والأرض، ويعلم ما قلتم، وما أردتم بما قلتم، وما قلتُ وما أردتُ ممّا قلت.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، سميعٌ لكلّ قول، عليمٌ بكلّ شيء من قول وغير قول، بكلّ ذرّة، بكلّ خَطْرة، بكلّ خَلْجة، بكلّ هاجس، بكلّ تفكيرٍ، بكلّ وجلٍ، بكلّ خوفٍ، بكلّ شيءٍ هو عالمٌ بما هو في السرّ وما هو أخفى.

إذن، إذا كان الأمر راجعاً إلى السميع العليم، إلى من يعلم القول في السماء والأرض، ولا تخفى عليه خافية، فالأمر له كلّه تبارك وتعالى، وهو القاضي فيه، وكلمته لن تُغلَب، وكلمته هي المهيمنة، وهي المسيطرة، وستجدون ذلك إنْ لم يكن قريباً فمن بعد حين.

تأتي الاعتراضات الأخرى، أو خيوط التآمر الأخرى، (بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ).

بشرٌ مثلكم أتى بسحر، أرادوا أن يترقّوا عن التهمة بالسحر إلى تهمة أخرى، المُتَرَقّى إليه لابدّ أن يكون أحسن في الترقّي على طريق الحسن، وأسوأ في الترقّي من الأسوأ إلى الأسوأ، يعني أنّ الدرجة الأولى على سوئها فإنّ الدرجة الثانية أسوأ، والثالثة أكثر سوءاً، وهكذا..

هنا تبيين لشدّة السوء، الأشدّيّة في السوء، الأشديّة في القبح، الأشدّيّة في البلاهة، الأشدّيّة في عدم الصلاحية للاحتجاج.. على هذا الطريق يأتي قولهم (بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ)، إذا كان في السحر عناية من الساحر، وتفكير، وجهد، وتعلّم، وما إلى ذلك، فإنّ أضغاث الأحلام ما هي إلا شيء مفروض على الإنسان لا يملك في صيغته شيئاً صحّ أو لم يصحّ، ليس له فيه تدبير، وإنما هو الاستجابة لأضغاث الأحلام، استجابة إنسان موهوم، إنسان يحكمه الخيال، إنسان لا يملك درجة من التروّي، من التعقّل، من الفكر الصامد، الفكر المحلّل، الفكر الدارس، هذا يدلّ على تفاهة في الذات، على ضحالة في التفكير، هذا ربما كان أكثر سوءاً -من هذه الجهة- من السحر الذي هو فنٌ من الفنون، وإنْ كان فنّاً مُغالطيّاً ضارّاً.

(بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ)، الافتراء هو أشدّ من أضغاث الأحلام في سوء النفس في التعملّ في تزييف الحقيقة، والافتراء هنا على الله أكبر إثماً ترتكبه النفس، لا ترتكبه إلا نفسٌ ساقطة، واهية، لا ترى أيّ قيمةٍ لأي شيء، قد سقط العدل عندها كلّ السقوط، حكمها الظلم كلّ الحكم.

هذا الافتراء لمّا نقارنه بالأحلام يكون أشدّ سوءاً من الأحلام من جهة، أضغاث الأحلام تغلبني، تغلب عقليّتي الصغيرة، تلاقي فيَّ سباحةً وراء الخيال فتنفذ من خلال ذلك إلى قناعاتي، أما الافتراء فهو انقضاضٌ عمديٌّ منّي على الحقّ والحقيقة، وخروجٌ على الصدق بروحٍ متقصِّدة، فإذن هو أسوأ من الأحلام من هذه الجهة.

(بَلْ هُوَ شَاعِرٌ)، وإذا كان الافتراء على قبحه، وسوءه، وتسافله، وتسافل صاحبه، وكان منقصةً شديدة، إلاّ أنّه كما سبق في السحر يحتاج إلى تفكيرٍ وإلى حياكة خاصة، وخاصةً إذا كان افتراءً على الله عزّ وجلّ، الافتراء على طفلٍ يختلف عن الافتراء على عاقلٍ حكيم، فكيف بالافتراء على الله عزّ وجلّ، يحتاج إلى مهارة، يحتاج إلى عقلية، يحتاج إلى تدبّر طويل، يحتاج إلى خبرة، يحتاج إلى محاسبات عقليّة، ومعادلات، ودراسة راجح ومرجوح، وما إلى ذلك.

أمّا الشاعريّة فليس فيها شيء من ذلك كلّه، إنما هي ملكة فنيّة ترتبط بالأوزان والقوافي، وتستمدّ مادّتها في الأكثر من الخيال والوهم، فهي لا تدلّ على شيء من عبقرية، ولا تدلّ على شيء من رجاحة عقل، وإنما تدلّ على خيالٍ عريض، وعلى أوهامٍ قد تُشرّق بصاحبها وتغرّب، ولم تقم يوماً من الأيام حضارةٌ وبناءٌ حضاريّ شامخ على شِعر، إنما تقوم على فلسفة، وعلى دراسات عقلية، وعلى نتاجات عقلية ثرّة وغزيرة، فأين رسول الله -هذا الذي يدّعي الرسالة من الله عزّ وجل-، أين محمدٌ “صلى الله عليه وآله” وشعره القرآني من قيادة أمّة، صناعةِ حضارة، إغناءٍ للإنسان، إغناءٍ لأوضاع الإنسان، استقامةٍ بهذا الإنسان على طريق النجاح والغايات الكبرى، هذا إنسانٌ ليس في وادي الرسالة، وليس من الله في هذا الأمر الذي ادّعاه في شيء.

هذه هي الوجوه، وهذه هي الإشكالات، وهذه هي خيوط المؤامرة التي تُحضَّر للترويج لها في المجتمع المؤمن لإسقاط شخصية الرسول “صلى الله عليه وآله”، وشخصية القرآن العظيم.

يأتي الردّ الإلهي، والله عزّ وجلّ ليس ممّن ينفعل، وليس ممّن يُستفزّ، وليس ممّن إذا غضِب خرج عن الحقّ، والله هو الحاكم الذي لا يستعجل، والحكيم القدير الذي لا يخاف أن يُغلَب.

وبهدوء (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ).

ما هي القرى المُهلَكة؟ ما طبيعة تلك القرى؟

هي قرىً لم يؤمن أهلها بعد أن جاءتهم الرُسل، لم يؤمنوا بالرُسل ولا بآيات الرُسل، وإنما اقترحوا من عندهم معجزات خاصة، وأرادوا من الرسل الذين جاؤوهم أن يأتوهم بهذه المعجزات بخصوصها، تأتيهم المعجزة التي طلبوا فيكفرون بها، قانون إلهي بأنّه إذا طلب قومٌ المعجزة من الرسول فحقّق الله عزّ وجلّ على يديه تلك المعجزة فأنكروها وردّوها، لم يكن لهم إلاّ العذاب العاجل، الإهلاك الدنيوي. هذا قانونٌ إلهي.

تقول الآية: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)، النفسية التي يقابل بها هؤلاء رسولَ الله “صلى الله عليه وآله” أشدّ نَكَداً، والقلوب التي يواجهونه بها هي أشدّ قسوة.

عقولهم عقولهم، قلوبهم قلوبهم، عنادهم عنادهم، مكابرتهم مكابرتهم، استكبارهم استكبارهم، عنجهيّتهم عنجهيّتهم، بل هم أكثر عنجهيّة وكِبراً ونفوراً من الحقّ، أولائك لم يؤمنوا حين جاءتهم الآيات، المعجزات المقترحة، هؤلاء يؤمنون؟

هم أبعد إيماناً من الأمم السابقة التي حقّ عليها العذاب الدنيوي قبل العذاب الأخروي؛ لعدم رضوخهم للمعجزات التي اقترحوها بأنفسهم، أعطوا عهداً بأنه إنْ جاءتنا هذه المعجزة على يديك آمنّا، قوم فرعون طلبوا أكثر من معجزة، معجزة، اثنتين، ثلاث، أربع، ربما أكثر، يستجيب الله لهم بعد حين برفع العذاب عنهم، القُمّل، الضفادع، ما إلى ذلك، ويتمادون في الاستكبار، حتى المعجزة الأخيرة جاء بعدها الهلاك بغرق فرعون وقومه. عاد، ثمود، وما إلى ذلك من الأقوام من أغرقوا، منهم من أخذتهم العاصفة، منهم من عذّب بألوان العذاب في الدنيا.

(مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)، سؤالٌ للإنكار، لأنهم لن يؤمنوا.

(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ).

اعتراضاتهم بشر، أنت رسولٌ بشر، فكيف نؤمن لك؟ الآية تقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ)، لم تنزل رسلٌ من الله من صنف الملائكة، الرسل كلّها بشر، بشريّتهم تُعطي وجاهة أكثر لإرسالهم، أو تعتبر سلبيّة في إرسالهم؟ -هذا من جهة- ثم جاءوا بشراً مجردّين كآخر البشر من دعم إلهي خاصّ، أو أنّ الرسالة تثبت بدعم الله وبرضا الله وبأمر الله عزّ وجلّ؟ لو أُمرنا بأنّ نقدّس حجراً، وثبت أنّ الأمر من الله عزّ وجلّ، إذا كنّا عبيداً نقدّس هذا الحجر أو لا نقدّسه؟  نقدّس هذا الحجر بقدَر ما أمر الله عزّ وجلّ.

بشر، صحيحٌ أنّه بشر، وكلّ الرسل كانوا بشراً، المؤاخذة ساقطة، ولكن أينكم من الوحي؟ (إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ)، فعليكم أنْ تُرَّكِزّوا أنّ هنا وحياً أو ليس هنا وحي؟ مع رسول الله وحي أو ليس معه وحي؟

يأتي الكلام عليه إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.

زر الذهاب إلى الأعلى