الثورة التي أبقت الإسلام حياً – 2

*الجزء الثاني من كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم بعنوان (الثورة التي أبقت الإسلام حيّاً)، والتي ألقاها سماحته في مساء اليوم الثاني من محرم الحرام 1441هـ / 2 سبتمبر 2019م:

للمشاهدة :

نص الكلمة :

السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أنصار الحسين
وصلتُ في الحديث عمّا كان يواجه الإمام الحسين عليه السلام من وظيفة، وما كان عليه أن يتحمله من مسؤولية بحسب القرآن الكريم وبحسب السنّة المطهّرة. مرّ الكلام عن المسألة بلحاظ آيات القرآن الكريم، أطرح بعض الأحاديث على أن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يحتاج وجوبها إلى بيان، قضيةٌ تمثل ضرورة من ضرورات الإسلام.
ولكن مع ذلك، أذكر مع رسول الله “صلى الله عليه وآله”: أن الله يبغض المؤمن الضعيف الذي لا زبر له، وقال: هو الذي لا ينهى عن المنكر.
مؤمن، يصلي، يصوم، يلتزم بفرائض الإسلام كلها، إلا أنه لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، بذلك يكون ضعيفاً يبغضه رسول الله “صلى الله عليه وآله”، أي يبغض فيه ضعفه، وهذا الضعف يمثل ثلمة في إيمانه.
ما هذا الضعف؟ هو أنه لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر.
وعنه “صلى الله عليه وآله”: أنا آمركم بخمس الله أمرني بهم، بالجماعة (1)، والسمع والطاعة (2)، والهجرة (3)، والجهاد في سبيل الله (4).
(1) “الجماعة” أي التزام جماعة المسلمين، جماعة الحق، وجماعة الحق من كان على الحق ولو كان واحداً في قبال عشرة ملايين أو خمسين مليون، لأن ما يحقق معنى الجماعة في ترابطها وأخوّتها وتماسكها إنما هو الإيمان والحقّ، أما أهل الباطل فهم ليسوا بجماعة يقوم لها بناءٌ على أساسٍ متين، ولا تستحق هذا العنوان، هي أهواء متشتتة، طموحات متضاربة، تراهم صفاً واحداً، تراهم قلباً واحداً وهم على أهواء ونيات شتّى، بهذا لا يكونون جماعة.

(2) “السمع والطاعة” ليزيد؟ لعالمٍ فاسق؟ لحاكمٍ فاسق؟ السمع والطاعة من غير مناقشة، من غير توّقف في تبيّن قيمة الرأي والكلمة تصدر من هذا الذي تجب طاعته، هي طاعةٌ لمن؟ سمعٌ وطاعةٌ لمن كان السمع والطاعة له سمعاً وطاعةً لله، ومتى نحرز ذلك ونضمنه؟ إنما يُضمن بتحقق شرط العصمة في هذا الآمر الناهي، ، نبيٌ معصوم أو إمامٌ معصوم.

(3) “الهجرة في سبيل الله”، اعتزازاً به، تقديماً له على كلّ الدنيا، الإنتماء الدينيّ الحقّ مقدمٌ في حياة المسلم، إيمانٌ من داخل أعماقه بأنه الأهمّ في وجوده، وأنّ شيئاً ما يَعدل من هذا الإنتماء شيئاً لا يوجد، كل ما دونه لا يعدل منه شيئاً، يعني لا يساوي منه شيئاً، فتكون من أجله الهجرة، الإحتفاظ بالإيمان وبالإسلام تكون من أجله الهجرة.

(4) الجهاد في سبيل الله المعني به فيما يظهر هنا هو أعمّ من المعنى المُصطلح، وهو الحرب الإبتدائية التي تقوم على دعوة أهل الكفر للإسلام.

عن الإمام عليٍ “عليه السلام”، تقول كلمته المروية عنه: ظهر الفساد فلا مُنكِرٌ مُغيّر، ولا زاجرٌ مزدجر.
ماذا يعني؟ يعني إنقلاب على الإسلام، غياب إسلام، نسيان الإسلام، تخلي عن المسؤولية الإسلامية، يعني الفساد في الأرض.
استعظم هذا “عليه السلام” واستكثره لأنه فساد في الأرض، نتيجة هذا -أمر غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- هو الفساد في الأرض ومنه الظلم.

عن الإمام الحسين “عليه السلام”: كان يُقال لا تحلُّ لعينٍ مؤمنةٍ ترى الله يُعصى فتطرف حتى يغيّر المنكر القائم.
كأنه شائعٌ بين المؤمنين ولا ضبابيّة في هذا القول، في الوسط الإسلامي، في الوسط المتشرع، في الوسط العلمائي، في وسط الصحابة المقربين من رسول الله.
هذا القائل نفسه “عليه السلام”، ماذا كان موقفه الفعلي من الوضع القائم يوم يزيد ويومه، ويوم أن شطّ وضع الأمة عن الإسلام مسافاتٍ ومسافات على يد فساد وظلم وبغي وجاهليّة السياسة الأموية.
الموقف الفعلي للإمام الحسين “عليه السلام” في تشخيصه هو للوضع، هو شخّص الوضع واتخذ موقفه وهو المعصوم “عليه السلام” الذي يعطي موقفه شرعيةً لكلّ موقفٍ مماثل.
تشخيصه، أو حكمه على الوضع المُشخص بصفاته المعيّنة، هذا الحكم الذي يتخذه هو حكمٌ ليس في حقّه فقط وإنما في حقّ كل مُكلّفٍ عاش تلك الظروف وشهد ذلك الواقع وتحقق في حقه ذلك الموضوع وكانت متوّفرة له شروط النهضة والمواجهة -الشروط الشخصية والشروط الظرفية والموضوعية-.
تشخيص الإمام الحسين “عليه السلام” كما تعرفون الوضع: إن هذه الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها، فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما. إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون.
نفس كلمة أمير المؤمنين “عليه السلام” وهو أنه لا يوجد أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، الدنيا قد تغيّرت، كان يسودها الإسلام، يحكمها الإسلام، كانت النفوس إرادتها إرادة إسلامية، موقفها موقفاً إسلامياً، فهمها فهماً إسلامياً، كانت أمة تجسّد الإسلام بدرجةٍ ملحوظة، اليوم هي أمةٌ أخرى وعلى الخط الآخر وفي الخندق الآخر بدرجة وأخرى كلّها خطيرة.
-قلّ الديانون-، الأمة قلّ فيها الديانون، فلم تعد تلك الأمة المؤمنة التي صنعها رسول الله “صلى الله عليه وآله”.
(..وأدبر معروفها)، دنيا بلا معروف يعني بلا سداد، بلا صواب، بلا حكمة، بلا تقوى، بلا رعاية مصالح، بلا عدل، بلا نزاهة، هذا هو معناها، وهذه دنيا ليست هي دنيا الإسلام.
(..لم يبقَ منها إلا صبابة كصبابة الإناء) شَحّت، ضَؤلت، تفُهَت، تكّدرت، ساءت، تبعث على الكآبة، تبعث على الإشمئزاز، لا تُستساغ، هذا ما بقي من الدنيا، إذا كان فيها خير فهو ذلك الخير القليل الشحيح، ولا يكاد يسلب منه شيء بلا دخيل.
(..وخسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل) حياة وَسخة، ذليلة، لقمة ذليلة، تأكل لقمتك ولكن ليست اللقمة الحلال، في الكثير يأكل الناس اللقمة ولكنها ليست اللقمة الحلال، وليست اللقمة الهنيئة الآتية عن طريق الشرف وعن طريق الإحتفاظ بالعزّة والكرامة والإنسانية، لقمة ربما باع من أجلها دينه، ربما باع من أجلها عرضه، بيت صغير، ولكن كان ثمن هذا البيت كلّ صلته بالله تبارك وتعالى، فهو عيشٌ خسيس.
من كلمته “عليه السلام”: ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟
الوضع ليس سليماً، الوضع يحتاج إلى تصحيح، الوضع يحتاج إلى ثورة، الوضع يحتاج إلى نسف وإقامة بناء جديد.
والسرّ أين؟ السرّ في تحكّم يزيد، في خلافة يزيد، في السياسة الأموية المنحرفة عن خط الله وعن عقيدته وحكمه.
كلمته “عليه السلام”: أيها الناس إنّ رسول الله قال “من رأى سلطاناً جائراً ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعداون فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله”.
مدخل ذلك السلطان الجائر، شريك، مسؤول، شريكٌ للسلطان الجائر، مسؤول أمام الله عزّ وجل، أدخل مدخل السلطان الجائر، لماذا هذا كلّه؟ لأنّي لم أغيّر عليه بفعلٍ ولا قول، وأنا أملك فعلاً أو أملك قولاً تغييرياً لهذا الوضع الظالم الجائر البعيد عن الله عزّ وجل.
الإمام أمام هذا، وتشخيصه، يتخذ قراره الذي لا رجعة عنه فيه.
يروى مما سمعتُ وتسمعون من التحذيرات والنصائح المخلصة وغير المخلصة للإمام “عليه السلام” بأن يعدل عن وجهة نظره في مواجهة الحكم الطاغوتي، والوقوف إلى آخر لحظة في حياته أمام جور ذلك الجائر.
القرار لا رجعة فيه، (وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً) يُبيّن مستوى خروجه وثورته وأنها على أي خط ومن أجل أي هدف وقُربةً لِمن، وتأخذ هدفها وأسلوبها وأحكامها ومشاعرها وطموحاتها من أي مصدر.
بياناً لهذا، قال (وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مُفسداً ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي)، مَن جدّه؟ أأحدٌ يجهله؟ جدّه رسول الله حامل كلمة الله إلى الأرض وأهل الأرض، صاحب المنهج القرآني اللاحب الواضح السماوي الرفيع.
كيف يكون إصلاح هذه الأمة؟ إصلاح أمة جدّه رسول الله، أمة القرآن، أمة السنة المطهرة، بمَّ يكون؟ بالعودة الحقيقية الصادقة للإسلام، فهدفه أن يعود بالأمة، بمسار الأمة، بحركة الأمة، بتطلّعات الأمة، بفكر الأمة، بإرادة الأمة، بنفسيّة الأمة، بعلاقات الأمة إلى الخط الإسلامي الصحيح، تطبيق الإسلام وهي وظيفة الأنبياء والأوصياء.
(..وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي)، الإصلاح ليس بالمعنى السياسيّ الموجود الذي هو في مقابل التغيير، قد تُستعمل كلمة الإصلاح في مقابل التغيير الشامل، الإصلاح بالمعنى الإسلامي هو إصلاح كل ناحية من نواحي الحياة، إصلاحٌ لا يتوّقف عند حدّ، إصلاحُ مسيرة الإنسان في اتجاهه إلى الله ومسار الإنسان إلى الله لا يتناهى، فدائماً نحن نحتاج إلى تصحيح وإصلاح وتخليص من الشوائب، من عراقيل، من مشاعر، من قصورات.
(أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي)، سيرة جدّه بما هو رسول، وهو ليس برسول لكن الرسول له وظيفة أخرى وهي الإمامة، الرسول رسولٌ وإمام، نبيٌ وإمام، السيرة في الناس كان بوصفه إماماً، سيرة إمامته “صلى الله عليه وآله” في الناس، سيرة إمامة عليٍ “عليه السلام” في الناس بما هو إمام، بهذه السيرة.
متى يتأتى له أن يسير بسيرة جدّه رسول الله؟ لابد أن يحكم، لابد أن يتسلّم الأمور، لابد أن تكون بيده زمام دولة الإسلام حتى يستطيع أن يسير بسيرة رسول الله “صلى الله عليه وآله” في الناس”، هو يريد أن يسير بسيرة رسول الله في حدود عائلته؟ في حدود العلاقات مع أصدقائه؟ أو يعني أنه يريد أن يسير بسيرة رسول الله في فضاء الأمة الكبير والساحة العريضة للأمة وإنْ اتسعت ما اتسعت؟ وهذا يحتاج إلى قوة وحاكميّة وسلطة.
ستقول لي بأنّ الإمام -إذن- أراد أن يحكم، أقول لك نعم أراد أن يحكم، هو أراد أن يحكم مع معرفته بأنه لا يحكم، يعني داخلٌ في الغرض الإسلامي، الصحيح أن يحكم، أن ترجع القيادة له، حين يوافق مريداً مختاراً غير مضطرٍ على أن تكون القيادة بيد يزيد أو أقلّ من يزيد سوءً ولا تكون في يده فهو هنا ليس على خط الله تماماً.
الإمام الحسين “عليه السلام” ليس له أن يتخلى عن موقع الإمامة، ليس مُخيّراً بين أن يكون إماماً وبين أن لا يكون إماماً، فرضٌ واجبٌ عليه أن يتوّلى شؤون الإمامة مع الإمكان.
هذا الهدف وهو هدف الإمامة الفعليّة للناس، طبعاً ليس حكماً وإنما حكم جزء من الإمامة، تلك الإمامة الفعليّة ما كان ممكن تحقيقها -وكلمات الإمام الحسين كلها تكشف عنها لأنه أكد أكثر من موقف وتلقى خبراً من رسول الله ومن أبيه ومن أم سلمة بأنه يُقتل ولا ينتصر انتصاراً عسكرياً- عندما نقول أنّ هذا هدف فليس معنى أنه يتحقق في نظره.
ولكن حتى يوضع الناس على طريق الله حقّاً وصدقاً لابد من حاكميّة الرسول أو حاكمية وصيٍ من أوصيائه ولو في المدى الزمني الذي بَعدُ لم تصل فيه الأمة إلى الرشد الكافي وعدم الخوف من وضعها على النأي أو الميل عن الإسلام، ولو في هذه المدة التي قد تستغرق ألف سنة أو أكثر من ألف سنة في التربية الإلهية التي يمارسها رسول الله “صلى الله عليه وآله” وأوصيائه للإنسان على الأرض.
(..وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين)، التأشير كلّه إلى هدف فعلية الإمامة على الأرض، وممارسة الدور الحاكم للأمة، هذا لن يكون، والتطبين هنا على الموت وهو يشاهد الشهادة بين عينيه وفي ناظريه واضحة كالشمس.
تقول كلمته “عليه السلام” في خطبته -نقرأ استذكاراً لإحياءنا، نحن كلنا نعرف هذه النصوص، ولكن نريد أن نحيي بها قلوبنا وأن نُنير بصائرنا ونذّكر هذه الذات المُتلكئة التي تملكها الوساوس وحب الدنيا، نريد أن نرشّدها ونضعها على الطريق ونعطيها بصيرة-: خُطَّ الْمَوْتُ عَلَى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلَادَةِ عَلَى جِيدِ الْفَتَاةِ، وَ مَا أَوْلَهَنِي إِلَى‏ أَسْلَافِي اشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ، وَ خُيِّرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لَاقِيهِ، كَأَنِّي بِأَوْصَالِي تَقَطَّعُهَا عُسْلَانُ الْفَلَوَاتِ‏، بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وَ كَرْبَلَاءَ فَيَمْلَأَنَّ مِنِّي أَكْرَاشاً جُوفاً، وَ أَجْرِبَةً سُغْباً لَا مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ، رِضَى اللَّهِ رِضَانَا أَهْلَ الْبَيْتِ، نَصْبِرُ عَلَى بَلَائِهِ وَ يُوَفِّينَا أُجُورَ الصَّابِرِينَ، لَنْ تَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لَحْمَةٌ هِيَ مَجْمُوعَةٌ لَهُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ تَقَرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ، وَ يُنَجَّزُ لَهُمْ‏ وَعْدُهُ، مَنْ‏ كَانَ بَاذِلًا فِينَا مُهْجَتَهُ وَ مُوَطِّناً عَلَى لِقَاءِ اللَّهِ‏ نَفْسَهُ، فَلْيَرْحَلْ فَإِنِّي رَاحِلٌ مُصْبِحاً، إِنْ شَاءَ اللَّه‏”
(خُطَّ الْمَوْتُ عَلَى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلَادَةِ عَلَى جِيدِ الْفَتَاةِ)، قضية الموت قضية حتمية، وفي نفس الوقت هي زينة، الموت للمؤمنين زينة، نقلة للسعادة، نقلة من سعادة محدودة -في أحسن أحوالها- إلى سعادة مطلقة، وهو قلادة زينة، قلادة على جيد الفتاة، لماذا تضع الفتاة القلادة على جيدها؟ للتزيّن، والموت كذلك.
(وَ مَا أَوْلَهَنِي إِلَى‏ أَسْلَافِي اشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ)، هو شديد الإشتياق، بالغ الإشتياق، أسلافه ماتوا، توفوا، استشهدوا، مشتاقٌ إلى مصيرهم، ومشتاقٌ إلى مَلئهم.
(وَخُيِّرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لَاقِيهِ، كَأَنِّي بِأَوْصَالِي تَقَطَّعُهَا عُسْلَانُ الْفَلَوَاتِ‏، بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وَ كَرْبَلَاءَ فَيَمْلَأَنَّ مِنِّي أَكْرَاشاً جُوفاً، وَ أَجْرِبَةً سُغْباً) الذئاب، ووحوش مفترسة، تملأ أجوافها الفارغة من دماء الحسين “عليه السلام”. بطون جائعة تأخذ من أجلها الوحوش الدم.
(لَا مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ)، أيها الحريص على الدنيا، أيها البخيل بحياتك على الله، أيها الذي تفرّ من كلّ موقفٍ تشمّ منه ريح الموت وإنْ كان فيه الجنّة، أين تذهب؟ لا محيص، ليس هناك مفر، لا وَزَر، قضية حتميّة، فإما أن تموت على الفراش وفي سبيل الشيطان، أو تموت شهيداً من أجل الرحمن تبارك وتعالى فتكون الحيّ الذي يُرزق بعد لحظةٍ من موته.
(رِضَى اللَّهِ رِضَانَا أَهْلَ الْبَيْتِ)، هذا هو إمامنا، الإمام الحقّ الذي يأخذ بيد الناس، حركة الأرض، كل وضعٍ في الأرض، كل خاطرةٍ في القلب إلى الله، هو من تحرز فيه بأن رضاه رضى الله، وأهل البيت “عليهم السلام” قد أحرزنا فيهم بأنّ رضاهم رضا الله.
(..ألا َومنْ‏ كَانَ بَاذِلًا فِينَا مُهْجَتَهُ)، ليست مكاسب دنيا، رحلة جهاديّة، سيوف تُشهر، ونفوسٌ تسقط على بوغاء كربلاء، ودماءٌ تنزف، وأرواح تصعد إلى الله، هذا هو مفاد رحلة أبي عبدالله “عليه السلام” في خبره إلى أصحابه، هل يمكن أن تكون هذه دعاية سياسية؟ أسلوب من يريد أن يجمع أنصاراً لنصرته؟ لابد أن يغرر بالناس ويعدهم بالوعود المعسولة، بالنصر القريب، بالنصر الدنيوي، المكاسب الدنيوية الهائلة، سنفتح، سنهيمن، ستحكمون، هذا غير موجود، ستموتون، ستستشهدون، هذا لحكمةٍ خاصة ولخصوصية في المعركة، لأنها معركة غير رابحة عسكرياً، وربحها غير الربح العسكري، ربحها إبقاء الإسلام الصافي الصادق، وتقديمه من خلال صفوة بشرية تبرهن على صدق الإسلام من خلال صلابتها، صدق إيمانها، وفائها لقيادتها، وعيها، منهجها القرآني، لو تقدّم مع الحسين “عليه السلام” عشرة آلاف، والجيش الأموي ثلاثين ألف مثلاً، وفرّ من جيش الحسين خمسة آلاف، هذا يسجل كسلبية من سلبيات هذا الصف أو لا؟
الإمام الحسن “عليه السلام”، الإمام علي “عليه السلام” كان لديه أمل بالنصر العسكري، ويريد أن يحقق النصر العسكري، فهو لا يحاول أن يبعد كل العناصر التي لم تستوفي حقيقة الإيمان، أما الإمام الحسين “عليه السلام” هؤلاء لا يخدمون هدفه، لأن هدفه أن يُقدّم من خلال واقعة كربلاء إسلاماً قرآنياً صادقاً ينطق للناس بلسانٍ مُبين بأننا نحن قرآنيون.
وقرأتم وسمعتم من هم أنصار الحسين “عليه السلام” في كربلاء.
(..وَ مُوَطِّناً عَلَى لِقَاءِ اللَّهِ‏ نَفْسَهُ، فَلْيَرْحَلْ فَإِنِّي رَاحِلٌ مُصْبِحاً، إِنْ شَاءَ اللَّه)، تمشي مع الحسين “عليه السلام” وأنت مقرر وموّطن لنفسك بلقاء الله، تستشهد، الذي هو بهذا المستوى، بهذه الصورة فليرحل معنا، الباقي ابتعدوا..
(..فَلْيَرْحَلْ) معنا، القرار الجازم الحاسم الحدّي، الذي لا تردّد فيه بمقدار شعرة (فَإِنِّي رَاحِلٌ مُصْبِحاً، إِنْ شَاءَ اللَّه)، لا أحد يتوقع التريّث، تفكّر، تردد.

ماذا قال في كربلاء “عليه السلام”؟
(ألا وإنّ الدعيّ بن الدعيّ قد رَكزَ بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة)
بعيد بعيد بعيد.. الذلة في الأرض ونحن في السماء، فأين تكون تنال منّا الذلة شيئاً.
هل استبعاد الذلة مزاجي؟ وقتي؟ نفسٌ استثارات وتُحديت فأعطت هذا النوع من ردّ الفعل، أصول ثابتة يقوم عليها رفض الذلة في أهدأ لحظة، وفي أسعد لحظة حياة، في ليلة عرس، في لحظة نصر، في قمّة الفرح الدنيوي والإعتزاز الذي قد يعيشه الآخرون بالدنيا لا تذل نفس الحسين “عليه السلام” أمام أي موقفٍ صعبٍ وأمام أي إغراءٍ كبير، هذه هي الذلة التي ينفيها الإمام، ليس رفضاً إنفعالياً آنياً للذلة، رفض مبدئي غائص في الأعماق.
(..يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون) نحن نستمدّ هذا الشعور، وهذا الخيار، من صلتنا بالله عز وجل، والله لا يرضى الذلة لعبده، حتى من هم أقل من الإمام الحسين “عليه السلام” وإلا لماذا أدخل المؤمنون، يعني حتى من هم أقل من الحسين مثل حجر بن عدي وغير ذلك، يأبى الذلة للحسين “عليه السلام”، وقد عزّ على نفرٍ أن يتخذ الإمام الحسن “عليه السلام” موقف الصلح وإنْ كان من منطلق الفهم المعصوميّ والوعي الإسلامي والحكمة الدقيقة وليس من منطلق شوبٍ من ضعفٍ في النفس، ومع ذلك عزّ عليهم ذلك، وجهروا بما يرون أنّه لا يليق بأن يجهروا به للإمام الحسن “عليه السلام” من لوم.
(..وحجورٌ طابت وطهرت) التربية، التربية، التربية، طهارة الحجر، العفّة، النزاهة في الأم، في الأصل، هذا يُخرج نوعيّة خاصة من الناس. أوجد حجور طيّبة طاهرة توجد جيلاً مصنوعاً على ضوء شخصية الإمام الحسين “عليه السلام”، جيل مثل أنصار الإمام الحسين “عليه السلام”.
(..وأنوفٌ حميّة، ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام)، يعني الحمزة؟ رجال بني هاشم، انتبه إلى طاعة اللئام، أما طاعة الإمام فشرفٌ وعزٌ وكرامة وليس ذلّة، هنا تهين النفس الأمّارة بالسوء، هنا تدوس شهواتك، وهناك في طاعة اللئام تعلوك شهواتك، أنت هنا في طاعة الإمام المعصوم “عليه السلام” سيّد قرارك، وسيّد نفسك، وهناك نفسك هي السيّد وقرار نفسك بهواك، عقلك هناك بيد هواك، وهنا وفي طاعة المعصوم هواك بيد عقلك، هذا هو الفرق، ولذلك المرفوض هو طاعة اللئام.
(..ألا وأنّي زاحفٌ بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر)، وكأنها في حكم الأسرة الصغيرة، سبعون أمام عشرين وعشرة آلاف وثلاثين ألف في رويات أخرى، ماذا يعني؟ أسرة صغيرة. تعيش علاقات الأسرة، أب وولده، هذه هي الأسرة. (وخذلان الناصر) هنا بيان لسوء وضع الأمة وسوء موقفها، كيف يُخذل أبو عبدالله “عليه السلام” وهو الإسلام كلّه يومذاك، أين وعي الأمة؟ أين غيرة الأمة؟ أين إرادة الأمة؟ أين بصيرة الأمة؟ أين صلة رسول الله؟ أين المودة في القربى؟ أين القيم الإسلامية؟ أين الأحكام الشرعية؟.. أمّة غابت عن إسلامها أو غُيّب عنها إسلامها.
هذا شيءٌ من الحديث، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله الطيبين الطاهرين.

زر الذهاب إلى الأعلى