الحديث القرآني الرمضاني – 2 رمضان 1435هـ / 30 يونيو 2014م

سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم

في إضاءات قرآنية في رحاب (سورة الشورى)

الحلقة الثانية

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

تقدم أن الرزق بلحاظ الجميع يخضع للموازنة من الله وحسب حكمة وتدبير إلهي بينما هو عليه الإنسان من تحمل ومستوى وما يناسب ذلك من رزق الله سبحانه، علاما في الرزق من تنوع، وبالنسبة لرزق الأفراد والجماعات والأقوام المعينة تأتي سنن أخرى تقدم منها سنة الابتلاء، على ان الموازنة بينما عليه مستوى الإنسان وما يناسبه والتي تصل بهذا الانسان الى الصلاح لو أخذ بتعاليم دينة، والحياة قد لا تخلو من ابتلاء، لأن هذه الحياة حياة ابتلاء وإمتحان، وليس هناك وضع من الأوضاع التي خلقها الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة بحيث يُجبر الانسان على الطاعة، ويضطره إضطرارا لها ويفقده القدرة على الاختيار، في كل الظروف شديدها وسهلها لا جبرية على طاعة ولا على معصية، هناك ظرف قاهر يفقد الإنسان الحيلة أمامه تماما يحدد سلوكه بشكل حديدي لا مناص له منه فهذا الحالة ليست موجود في الحياة وإنما الانسان وجد مختارا بيختار مصيرة إلى جنة أو نار بإرادته ولا يجبر على هذا الطريق او ذاك الطريق.

  • سنة الاستدراج

يسيء الانسان للنعمة فيضعها في غير موضوعها وينحرف بها عن وظيفتها في مخالفة لله عز وجل، فهنا يأتيه درس تأديبي أو درس استداراجي، وهذا الانسان وصل في اساءة استعمال النية إلى أن يخرج عن  رحمة الله عز وجل، المسألة ليست قائمة على نوع من ضعف النفس؛ وإنما على عناد واستكبار واستعلاء ونصب هذه الذات الضعيفة الواهنة منصب القوة المطلقة في مقابل قوة الله سبحانه، فما يقول الله أقول خلافه، وماذا يأمر الله أفعل خلافه، وهذه حالة متردة جدا.

وهناك مستويات من الإساءة ومن المعصية ومن مخالفة الله عز وجل تحتاج الى عقوبة، وهذه العقوبة مرة تكون بالإهلاك أو الإمراض، ومرة بلون ثاني ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، وصاحب هذه النعمة  التي أفسد بها خلق الله عز وجل وأفسد البيئة والعقلية والنفسية والدينية والطبيعية كفرعون وما عمل، فهذا قد يزاد له في النعم، وزيادة النعم تغرية بمزيد من القوة ومزيد من البطش وبمزيد من التفلت عن أمر الله عز وجل وعناده ومكابرته، وهذا في مضرته وهذا رزق ليس من رزق الرحمة، ونستطيع تسميته من رزق العذاب، فكلما تمادى في غيه وكلما كابر الله عز وجل وعاند استحق مزيد من العذاب وموقعا أسوء في جنهم.

الاية الكريمة تقول: “وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ”[1]، السياق سياق عقوبة فهنا تكذيب، فالسياق سياق عقوبة فيعطى له ويمهل بحيث لا ياتيه درس مؤدب وصفعة ترده الى الطريق وقد يزاد في رزقه، مؤمن تقي بداء الانحراف عنده أو التساهل فتأتيه صفعة صغيرة من قدر الله عز وجل  تفيقه وترده الى الطريق وتضعه على الجاده.

أما هذا تمادى وعناد وكابر فهنا يأتيه استدراج فيكون عقابه بمزيد من النعمة ومزيد من الرخاء، ومزيد من الإهمال بالعقوبة.

“وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ”[2] والإملاء: الإمداد وأمدهم بخير الدنيا والعطاات والشهرة والسلطة والقوة القدرة، “وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ”[3] ولكنه إملاء يصل بالمملا إليه إلى سوء نهاية، وإمداد بسوء استعمال من أمد به يكون للهلاك الأكبر ولا هلاك أكبر من هلاك الآخرة، وقد يأتي من بعد هذا الاستدراج تأتي نازلة كبرى من نوازل الحياة، فيعجل له بالعقوبة ولا يسقط ذلك عقوبة الأخرى.

تأتي سنة قد تسمى سنة التأديب “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”[4] الفساد يؤذيهم ويضر بهم، فالفساد يسبب الجفاف ويسبب القحط، فساد البيئ وفساد البر والبحر وفساد الشعوب وفساد الاوضاع ينقلب على المجتمع كله ويؤثر على المجتمع. أفسدنا البيئة بالغازات السامة والتصحر والحروب واجتثاث البيئة الخضراء وبالحرق وبتلويث الماء، فهذا سيعود بالضرر على المجتمع الإنساني وعلى المجتمع المفسد وعلى من فعل ومن سكت على الفعل السيء وهو قادر على الرد، ومشكلة الناس في الحياة هي أنهم ينتظروا الفاسد يتمادى في فساده حتى يتمعلق ويقوى عليهم ويغلب فتصعب مقاومته.

لو مشينا مع الشرعية الإسلامية، أنا في البيت خالفت وواجهت إنكار ومواجهه، أنا خالفت في السوق -في بدايات مخالفتي- واجهت هذا الإنكار والمواجهة، لو وُجِهَ كل منكر برد هذا المنكر بالأساليب اللينة وبالإنكار والإعراض والمقاطعة الخفيفة وبإنقطاع الابتسامة المعتادة في وجه فاعل المنكر -أمور خفيفة لا تكلف جدا- لو عم هذا لم يتح لمشكلة ولإنحراف من الإنحرافات أن يكبر وأن يتمعلق وأن يتمرد صاحبة، ولكن المشكلة أن يترك للمنكر إلى أن يشق طريقه حتى يترعرع وحتى يشمخ ويستعلي وينتفخ وهنا تكون كلفة رد المنكر عالية جدا يتوقف عنها الكثير، وتكلف الكثير الكثير ويطول حل المشكلة.

“وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ”[5]، فحذاري حذاري من لا أجد عقابا سريعا على فسادي ومعصيتي فيغريني هذا للمزيد من المعصية، حذاري حذاري من أرزق راتب ألف دينار فأضع هذا الألف دينار في معصية الله فيزاد الأف إلى ألفين فأحسب أن ذلك نعمة وأني في مأمن من العقاب، فهذان الألفان استدراج يسرعان بي إلى جنهم وإلى موقع أسوء في جهنم، وهكذا الجماعة تنتصر فتبغي في الأرض فيأتي نصر جديد وتكبر القوة فيزدادون عتوا وتجبرا وطغيانا وفسادا وهذا استدراج.

  • سنة التأديب

“لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”[6]، أسئنا  وأفسدنا البيئة يذيقنا الله بعض الذي عملنا لعلنا نفيق، ولم يذقنا جزاء وعقوبة كل الذي عملنا بل بعض الذي عملنا فلعلنا نفيق.

“لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”[7]، هنا سر هذه الإذاقة، أذيق الناس الذين أفسدوا وخربوا الأرض بعد إصلاحها، والأرض وجدت صالحة قادرة على اداء وظيفتها التي تساعد الانسان على اداء بدوره الخلافي فيها، فيها كنوز وامكانات هائلة وموازنات في الرزق فيأتي الانسان فيفسدها، فلا تستطيع أن تعطي الثروة الكافية لخلق المجتمع السعيد بإفساد الإنسان.

“لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”[8]، وهذه الإذاقة للون ما يجره العمل بطبيعته من خسائر ومن أمراض واضطرابات لعلم يرجعون الى الطريق والهدى والرشد إلى الله تبارك وتعالى، وهذه سنة التأديب وهذه تربية.

ولدك يسيء فتأدبه الأدب الخفيف المصلح وليس أدب نقمة وإنما أدب رحمة، بحكمة وعقل ورشد وبعدم انفعال وأنا هادئ تماما، ومرة أكون ثائر وكأني أنتقم من عدو وما أضره من تأديب، والأم والأب أحيانا يضرب الولد وهو في حالة إنفعال شديد جدا، الولد يحس أن أسدا مفترسا منقضا عليه، وهذا يفسر عن غضبه، ولكن مرة يحس منه الولد ويشعر بأنه تأديبا ليس للانتقام،  والولد يتدلل زائد ويتميع كثيرا فيشتهي ويشتهي ولا يشتهي فيحرمه وجبتين أو ثلاث فيعود، فإن استمر على الطريق فسد،  “اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم” أبوه الآن في خير وتراه يتخير فيما يشتهي وما لا يشتهي وكل شيء متوفر لديه ولكن بعد حين لا يجد إلا تمرة، ولا يجد إلا سرير خشن أو نوما على الأرض فما يفعل؟ فيأتي درس التأديب.

البشر كذلك حينما يتركون على هواهم وعلى شيطانهم ونفسهم الآمرة بالسوء فيتضررون ويفسدون فيأتي درس تأدبي يرد من له قلب فيه شيء من الحياة إلى الطريق، ومن له درجة من الرشد ومن التواضع إلى الحق وله قدرة على التذكيره فيرده إلى الطريق رحمة به.

والحمد لله رب العالمين

 

[1] سورة الأعراف، الآية 182.

[2] سورة الأعراف، الآية 183.

[3] سورة الأعراف، الآية 183.

[4] سورة الروم، الآية 41.

[5] سورة الأعراف، الآية 182.

[6] سورة الروم، الآية 41.

[7] سورة الروم، الآية 41.

[8] سورة الروم، الآية 41.

زر الذهاب إلى الأعلى