كلمة آية لله قاسم يوم العاشر من المحرم 1430هـ

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين والطاهرين واللعن على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

 

السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين. السلام على الأجسام المضرجة بالتراب، على الأجسام المصرعة على الثرى، على الأرواح الصاعدة سعيدة إلى السماء، على القلوب الهادية، على الأنوار المضيئة، والبدور المشعة، على آيات الله في كربلاء، على كل خلية، وعلى كل ذر من الأجساد الطاهرين الشهداء التي سبحت بسم الله صدقا وحقا.

 

أرواحنا للطفل الرضيع الفداء، حيث يسقط شهيدا في سبيل، السلام عليك حبيبي الحسين، السلام عليك شفيعي الحسين، السلام عليك يا نور في الأرض، يا حجة الله على عبادة، السلام عليكم سادتي يا رسول الله وعلى آلك الطيبين الطاهرين.

 

كلمتان أحضر لهما قلبك، أفتح لهما عقلك، أتركهما أن ينطلقا من وجدانك من روحك، ذقهما قولا، أبقى معها فعلا، كلمتان ليستا للحظة، كلمتان للأمر كله، وللمواقع كلها، وفي كل الساحات، وفي كل المواقف، وعند كل الامتحانات، عند كل رغبة، عند كل شهوة، عند كل تحد، كلمتان أعطهما كل عنادك، كل إصرارك، كل استكبارك، هيات منا الذلة. الأخرى جواب لكلمة الغريب الشهيد الغريب، لنداء صريع كربلاء، هل من ناصر؟ “لبيك يا حسين”. اللهم اجعلنا صادقين مع هتافاتنا، اللهم اجعلنا على مثل هذا ونموت.

 

“أني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي” النص مهم جدا، هذه الكلمة منه عليه السلام لها أهمية كبرى، كلمة تضع حركة الإمام الحسين عليه السلام وثورته في إطارها الذي أطلقة منه، وتحركت في حدود، وهي كلمة ترسم حركة الثورة، وتحدد وسيلتها، فالهدف الإصلاح لأمة جده- الأمة الوسط- أن صلحت صلح العالم، وأن فسدت فسد العالم.

 

ليس من بعد أمة الإسلام أمة أخرى تترجى لأن تصلح العالم، فصلاح هذه الأمة صلاح للعالم كله، وفسادها فساد للعالم كله، والوسيلة لا تخرج عن الأمر بالمعروف، أمر لا يتعدى المعروف، وأسلوبا لا يزايل المعروف، ووسيلة لا تشذ عن المعروف، كما تأمر بالمعروف يجب أن تكون وسيلتك متقيدة بالمعروف. والنهي عن المنكر نهيا لا يرتكب منكرا، نهيا لا يسجل على نفسه منكرا، نهيا يزايل دائما المنكر، وينئ بنفسه عن المنكر. وكانت ثورة كربلاء النظيفة الهدف، النظيفة الرؤية، النظيفة الكلمة، النظيفة كل وسيلة من وسائلها وهذا من أسباب الخلود.

 

الثورة ثورة الإمام الحسين عليه السلام بعيدة كل البعد عن الانفعال وخفة العقل وخفت النفس، لم يمسها شيء من الغرور، ولا من هوى الأرض، ولم تبتلى بنسيان للواقع والرسالة، ثورة محكمة، واعية، رسالية، تملك التقدير الدقيق للأمور والمواضعات، وتراعي الشروط والمواصفات، لا أشر ولا بطر، ولا غياب للإحساس بالحرمات فيها، وهي تأخذ بالتضحية بالنفس، بالمال، بالأهل، بكل شيء إلا القيم، إلا الحكم الشرعي، إنها تضحي بكل في الأرض، وبكل ما هو من الأرض من أجل العلقة بالسماء. بريئة من الإفساد والظلم، والمباينة للإسلام في الهدف أو الأسلوب، ومن الوقوع في الانتقاص لحق الحياة، وكرامة الإنسان، نظيفة، طاهرة، تعتمد الإصلاح، والأخذ بالمجتمع والأمة والإنسان كله إلى الخط الصحيح الصاعد، وليس هو إلا الصراط القويم إلى الله.

 

ثورة تستهدف أن ترتفع بإنسان الأرض إلى مستوى ملائكة السماء إن لم تتجاوزه مستوى، ثورة تصحح لك أوضاع الأرض لكنها لا تستقنع معها، ترتفع لك بمستوى الطين إلى شفافية الروح دون أن تبتذي بكثافتها، ثورة تعطيك الموقع المادي الكبير لكنها تبقيك أكبر، ثورة تقضي لك كل حاجات الحياة ولكن تتجاوز بك بعيد بعيدا عن إطار هذه الحياة، فهما، عقلا، قلبا، إرادة، لتجعلك الصامد القوي المتين الأبي الشديد الشامخ أمام كل تحديات الحياة ومغرياتها، ولا ثورة كهذه الثورة إلا ثورة على يد رسول أو إمام معصوم عليه السلام ، وما عدى تلك الثورة تتسلق الكمال لتقترب من ثورة الإمام الحسين عليه السلام، ثم لا تبلغها.

 

وكانت ثورة في هذا العصر اقتدت بثورة الإمام الحسين عليه السلام، وقطعت أشواطا كبيرة على طريقها،؛ لأنها انطلقت من رؤية الحسين، وتعلمت دروسا من الحسين، وملكت النفس الأبية التي فجرتها زادا من زاد روح الحسين عليه السلام، روح ربها المنبر الحسيني، الله أكبر كم يعطي هذا المنبر العظيم؟ كم من مليون حضر هذا المنبر في هذه العشر الأيام في العالم؟ وكم أعطى من شعور عزة وكرامة ورسالية وتصحيحا روحيا؟ أعطوا المنبر الحسيني والموكب الحسيني كل ما تملكون ثم لن تكونوا إلا مقصرين.

 

النصر المتقدم يرفض عددا من المنطلقات للثورة، ويشرَّع للإصلاح منطلقا للشرعية، الإصلاح معناه، موضوعه أن هناك إفسادا وفسادا وتحريفا انحرافا ووضعا شاذا متأزما، وقد يكون بالغ السوء والقسوة والخطورة، ولقد كان الوضع  كأحلك صورة، وأبشع صورة في الانحراف والشذوذ عن خط الإسلام، حتى لكان الإسلام مهددا بالانمحاق، هناك ألوان من الفساد والإفساد، والذي أراد عليه السلام أن يواجه وينسفه بثورته الإلهية العارمة، كان هناك حكم مفروض بالقوة، وعلى خلاف إرادة الأمة، وتعاليم دينها القومي، وهذا وحده كاف لثورة على يد الإمام الحسين عليه السلام، كان حاكم بمستو مترد منحط، دينيا وسياسيا وثقافة عامة وقبول اجتماعيا، كان مثل سوء في الأمة الصالحة، وهذا وحده كاف لأن ينهض الإمام الحسين عليه السلام في وجه ذلك الحكم.

 

كان ممارسة الحكم الأموي الذي كان يزيد يمثل امتداد له، ممارسة جاهلية، ساقطة، سخيفة، رذائل تجري على يد الحاكم، ظلم، قتل، سفك للدماء، استئثار للثروات، عملية مخطط لها تستهدف خلق شباب الأمة وشبابها، وهذا ظلم كبير يكفي وحده لثورة الإمام الحسين عليه السلام.

 

مسألة جذرية أكبر من كل هذا وكل هذا نتيجة مترشحة من ذلك الأمر، ما هو؟ ليس في الإسلام حكومة تسلك، سواء جاءت وراثية، أو ديمقراطية، أو جاء ت عن أي وجه، في الإٌسلام إمامه. هناك حكومة للتسلط للقهر، للاستعباد الناس، ترى أن الناس خوِل وعبيد، ترى الأرض وإنسانها ملك للملك، ملك للحاكم، هذا لون للحكم. قبضة حديدية تضبط الأمور الخارجية على مسار هوى الحاكم، ومن أجل مصلحة الحاكم، حاكم غاية اهتمامه هي الأرض، وهو يمتاز بالأثرة وإذا أعطى، أعطى نكدا، وإذا منع منع ظلما، إذا أعطى قليلا خسيسا، أما الثمين الغالي فهو له ولحاشية، أنه الملك، أنه الحاكم المتسلط، هذا ما أراد أن يقول عنه الحكم الأموي، عن الحاكم في الإسلام.

 

أما الإسلام فالإمامة عنده تترشح من رحِم الدين، وتحمل قيمه، وتعيش همه، ولها رؤية لا تتعدى رؤيته، ووظيفة أن يرتفع بالإنسان إلى أفق السماء، يقضي على الحالات الحرجية، يلبي حاجات الحياة المادية، يرتفع بالمستوى المادي، يتقدم كل الأمم في عالم المادة، صناعة، زراعة، في أي مجال من المجالات، لكن هذا الأفق في نظر الإمامة هو الأفق الصغير، هو الأفق الواطي، وهذا كله ليس غاية وإنما هو مقدمة لصناعة الإنسان، لكمال الإنسان، لعروج الإنسان، لملائكية الإنسان، لشفافية الإنسان، لطهارة هذا الإنسان، لعلو هذا الإنسان. المفروض أن أنبي قبل أن تنبي لي دار، أبني لي عشرين دار، مائة دار، واهدمني، ماذا فعلت بي؟ أنزرع؟ أنصنع؟ أنقيم أوضاع على الأرض شامخات، ناطحات سحاب ونحن وضيعون؟ ونحن لئام؟ ونحن مغلبون على أمرنا ومهزومون للرغبة؟ ونتقاتل على الشيء الدون؟ لا، كل شيء يجب أن يتعملق في هذه الحياة على يد الإنسان مما هو صالح على أن يعلو الإنسان كل شيء من دونه، ولا يرى على نفسه استحقاق السجود الخضوع لغير الله وحده، الإسلام يريد أن يصنعك هكذا، وأنت حين تقول “هيهات منا الذلة” يجب أن تقولها لرغائب والشهوات والإغراءات، قبل أن تقولها في الساحة السياسية وفي الساحة العسكرية، وأن انهزمنا أمام الرغبة، وأمام اللذة والشهوة فنحن منهزمون، وإذا انتصرنا للإسلام فهو انتصار ظاهري لا ينتصر بالإسلام حقا ما لم نغلب أنفسنا.

 

هذا الفساد كان أكبر فساد، وكان أكبر نقلة مضارة للإسلام، وهي نقلة الحكم في الأمة من مستوى الإمامة المربية الهادية الممونة بعلم القرآن، الممونة بروح القرآن، الصاعدة بالناس إلى الله، النقلة من هذا إلى الحكم التسلطي الأرض الذي إذا ما انفصل عن السماء لابد أن يقوم على الظلم، وأن يستعبد الإنسان.

 

ثورة الإمام الحسين عليه السلام للإصلاح الشامل تنضيج الإنسان الارتفاع بمستوى الإنسان، وهذا لا يتحقق إلا بالأخذ بدين الله تبارك وتعالى. وما والإصلاح السياسي المستهدف للإمام الحسين عليه السلام إلا مظهرا من مظاهر الإصلاح الأوسع والأعمق، ووسيلة عملية من وسائله الفاعلة -الإصلاح السياسي وسيلة فاعلة من وسائل إصلاح الإنسان- والذي لا يملك مفاتيح القرار يبقى ضعيفا دائما، فالإسلام يصر على أن يكون مفاتيح القرار بيده وهذه مسئولية أمة كاملة، وأساليب الوصول إلى مفاتيح الفرار ولو بالمشاركة الشعبية يحتاج إلى جهد جهيد، وعقل حكيم وصبر وأناة.

 

وعلى الأمة كل الأمة أن تسترد حكم الله تبارك وتعالى في الأرض بالوسائل التي يرضاها الله عز وجل وتلتزم طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ما يخرج من أجله الإمام المهدي عليه السلام وعجل الله فرجه الشريف من أجل أن يضع الناس على الطريق، لا يضع الناس على الطريق وهو في زاوية من مسجد، ومساحته زاوية من مسجد، ومن خلال خطبة في مسجد؛ إنما يضع الناس كل الناس، وهذا العالم كل العالم على الخط الصاعد إلى الله، من خلال قرار نافذ يعرف هو صلوات الله وسلامه عليه كيف يصل إليه.

 

ثوار كبار عظماء، من هم؟ حبيب بن مظاهر، العباس بن علي، كل كبير وكل صغير من أولئك الأفذاذ، لماذا هم عظماء؟ قاتلوا في سبيل، مع معرفة سبيل الله، ومع التقيد العملي بحكم الله، ومع الارتباط القلبي بطاعة الله؛ لأنهم لم يغادروا خط الله عز وجل في شهادتهم، وتلك الشهادة الكبير الحقة أكبر شهادة، كان واحدهم أمة، ومعلما للأجيال،وكل واحد منهم وأصغر واحد منهم أن كان فيهم صغير –وحاشاهم- يمكن أن يقود وعيه، وتقود أخلاقيته، وتقود روحيته جيل بعد جيل إلى شاطئ الأمان، أولئك أفذاذ، فإذا وقفت عند ضريح أحدهم قف ذليلا.

 

ثورة الإمام الحسين عليه السلام لم تكن ثورة تحت أي ظرف من ظروف الاضطرار، هناك ثورة تحت وطأة الجوع، تحت وطأة الحرمان، تحت وطأة التهميش، تحت وطأة الخوف، كل هذه المنطلقات، وكل هذه الظروف ما كان منها شيئا يحاصر الإمام الحسين عليه السلام، حتى التخيير بين السلة والذلة؛ إنما جاء بخيار الإمام الحسين عليه السلام، لماذا؟ لأن الحكم الأموي يقطع، يقطع زلمه الكبير ومستشاروه وخبرائه وكل مؤسسته، بأن الحسين لا يفرط في الإسلام، وأن وجود يزيد هو ضياع للإسلام. لولا هذا الموقف المعروف من الحسين عليه السلام ما كان ليزيد أن يتحرك بالإمام الحسين عليه السلام ليهدد ملكه، الحسين انطلق من منطلق الاختيار التام والتخطيط الهادئ، والقرار الحر، فكان أكبر الأحرار وكل الذين معهم مثلا في الحرية العالية. كونوا أحرار ولن تكون أحرار حتى تكونوا عبيدا لله.

زر الذهاب إلى الأعلى