الحديث القرآني الرمضاني الثامن 1444هـ

الحديث القرآني الرمضاني الثامن لسماحة آية الله الشيخ عيسى احمد قاسم – 23 شهر رمضان 1444هـ / 14 ابريل 2023 في قم المقدسة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين.
الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا النبي الكريم وآله الطيبين الطاهرين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قرأنا في بدء سورة العنكبوت (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)، 1/2/3 من سورة العنكبوت.

بيَّنت الآيتان السابقتان أن الفتنة قد أصابت أمماً قبل هذه الأمّة -أمّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم-، وذكر هذا الأمر تقدَّم أنّه لإعطاء درسٍ وأكثر من درس.
الآية الكريمة قالت (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)
في بيان من كانوا مفتتنين قبل هذه الأمّة، جاء قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) إلى آخر الآية، فجاءت آيات هنا لتبيّن أقواماً وأمماً قد افتتنوا، وقد فتنوا الأنبياء الذين أرسلوا لهم، وافتتنوا بأولئك الأنبياء، أقوام،ٌ أممٌ افتتنت بأنبياء وتلقّى الأنبياء منهم أذىً كثيرا، من هم تلك الأمم؟
تلك الأمم، نوح “عليه السلام”، من بعده هود وصالح، من قبله آدم، إدريس، شيث، كلُّ أولئك الأنبياء ابتلوا بمن كان في زمنهم وتلقَّوا أذىً كثيرا.
ذكر أولئك الأمم؛ لبيان الفتن التي سبقت لأممٍ قبلنا -قبل الأمّة الإسلامية التي ارسل إليها رسول الله صلَّى الله عليه وآله-، من بعد نوح ذكرت الآية الآتية إبراهيم “عليه السلام”، (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).
الواو التي سبقت “إبراهيم”، هذه الواو عاطفة على نوح “عليه السلام”، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا) (وَإِبْرَاهِيمَ)، الآية تكلمت عن شيءٍ من رسالة نوح وقصّته، فعطفت على نوحٍ إبراهيم، فإبراهيم مرسلٌ بعد نوحٍ “عليه السلام”، ومنهم من يرى أن إبراهيم مُقدَّرٌ أمام هذا اللفظ (إذكر)، فالواو واو عطف ولكن ليست عطفاً لإبراهيم على نوح، وإنما العطف هنا عطف قصّةٍ على قصّة، إنتهى الكلام عن قصة نوح “عليه السلام” فعُطِفَ عليها كلامٌ عن قصة إبراهيم “عليه السلام، فيكون التقدير (“وأذكر” إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).
وهناك تقديرٌ ثالث، هذا التقدير يذهب إلى أنّ من الأنبياء إبراهيم “عليه السلام”، فلا يكون إبراهيم منصوباً وإنما يكون مضموماً، إبراهيم مبتدأ مؤخر، ومن إبراهيم خبره، ومن الأنبياء والمرسلين إبراهيم. هذا تقديرٌ ثالث.
على القراءة المشهورة (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوه)، “إذ” ظرف لقول إبراهيم “عليه السلام”، إذكروا إبراهيم حين قال لقومه، “إذكر” أو “أرسلنا” إبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله.
على قراءة “إذكر إبراهيم إذ قال لقومه”، يعني فلنتذكر إبراهيم في قوله حين قال لقومه اعبدوا الله واتقوه”.
عبادة الله معروفة، هنا أمرٌ بعبادة الله، مضاعفٌ إليه أمرٌ بتقواه تبارك وتعالى، عبادة تورث التقوى الرادعة عن كلّ معصية، وعن كلّ سوءٍ وعن كلّ ما لا يرضاه الله عزَّ وجلّ.
هنا سؤال: عبادة الله دائماً تأتي محصورةً في الله عزَّ وجلّ، -القرآن عندما يأتي بالأمر بالعبادة إنما يأتي بأمرٍ بعبادةٍ توحيدية لا شرك فيها، دائماً يأتي التعبير بما يفيد أنّ هذه العبادة المأمور بها هي لله وحده، بلا شريك، بلا شوب من شركٍ أو اتخاذ عديلٍ لله عزَّ وجلّ في أمر العبادة، لكن هنا ليس موجوداً هذا الشيء فيما قد يُقال، يعني مأمورٌ بالعبادة ولكن العنصر التوحيدي غير مذكور في الآية-، الآية الكريمة تقول (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوه)؟
الجواب على ذلك: إذا التفتنا إلى كلمة (اتَّقُوه) فهذا وجه من الإجابة. توحيد الله عزَّ وجلّ متكرر الأمر به في القرآن الكريم، التوحيد في العبادة وفي كلّ شيء، فلا شك من بعد معرفة وجوب توحيد الله عز وجل من خارج الآية، هذا أمرٌ لا شك فيه، أنّ توحيد الله وجوبه مما لا يشك فيه مسلم لتكرار هذا الأمر، ولقضاء العقل بهذا الأمر التوحيدي، بعد هذه المعرفة من خارج الآية، والأمر في الآية بالتقوى، ينتج عن ذلك بأنّ هذه العبادة المأمور بها في هذه الآية هي عبادة توحيدية، لماذا؟ لأنّ تقوى الله تخالفه عبادةٌ فيها شرك، فلمّا جاء الأمر في الآية الكريمة التي نحن فيها بتقوى الله، فهو أمرٌ يشمل توحيد العبادة، وإنْ لم يكن هذا الأمر في نفسه دالاً على التوحيد نفسه، لكن يأخذ دلالته على التوحيد من سياقه المصحوب باقتران الأمر بتقوى الله عزَّ وجلّ التي لا تتم -كما نفهم من الخارج- إلا بتوحيده. هذا شيء.
الشيء الآخر الدال على أن الأمر أمرٌ بالتوحيد في العبادة وليس بمطلق العبادة فقط، مما يشمل الشرك في العبادة، (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، يأتي كلام من القرآن الكريم (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا)، ويسقط حقّ الأصنام في العبادة، وسوء العبادة للأوثان ومخالفته، وأنّ عبادة الأوثان مخالفةٌ للعقل، مخالفةٌ لأمور كثيرة سيأتي ذكرها، فالسياق إذن في الآية الثانية يدلّ على أنّ العبادة المأمور بها في (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ) هي عبادةٌ لله وحده لا يُشرك فيها شيءٌ به تبارك وتعالى، فما من آية في القرآن، وما من أمرٍ قرآني بالعبادة إلا وهو أمرٌ بالعبادة الخاصة وهي العبادة الخالصة الصادقة التوحيدية المتنزهة عن كلّ شيءٍ من شركٍ بالله تبارك وتعالى. لا شرك من النفس، من طاعةٍ للعادة، أصلّي للعادة، أصلّي لأنّي أستوحش قطع العادة، أصلّي كرامة للنبي، كرامة لمَلَك، إرضاءً لمجتمع، كلُّ ما فيه شمّة الشرك مفسدٌ للعبادة، خارجٌ عن العبادة المأمور بها في صلاةٍ أو غير صلاة، وهذه القضية الرئيسة في إيمان الإنسان المسلم، في حياته، في امتحان إيمانه، في تجربته الحياتية التي كلّها معروضة على محك الإيمان الخالص الصادق لله تبارك وتعالى، والعبادة تشمل كلّ فعلٍ من الأفعال التي تجب فيها طاعة الله عز وجل، وما من فعلٍ يصحُّ صدوره من الإنسان المسلم إلا أن يكون من منطلق طاعة الله عزَّ وجلّ والخضوع لأمره وحده، وكذلك هي التروكات التي تكون من الإنسان.
فلنلاحظ أنفسنا في كلّ لحظةٍ من اللحظات أنّ ما نأتيه، أنّ ما نتخلّى عنه، أنّ صداقاتنا، أنّ عداواتنا، أنّ كل شيءٍ من حركةٍ وسكون، أنّ أيّ فعلٍ نقارفه، هل هو من منطلق طلب رضوان الله وتوحيده أو من طلب رضوان أحدٍ غيره، أو أننا نشرك مع الله شريكاً في طاعة هذا النهي أو هذا الأمر؟

(وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)
(خَيْرٌ لَّكُمْ) الصيغة هل هي صيغة تفضيلية أو صيغة وصفية مجردّة من التفضيل؟ تقول هذا فعلٌ خير، تصفه بأنّه خير، يعني تقول بأنّ هذا فعلٌ خارج عن الشرّ داخلٌ في حيّز الخير، تقول بأنّ أكلُك الآن خيرٌ لك من نومك، هو نفس اللفظ لكن هناك مستعمل لمجرد الوصفية، هنا مستعمل للوصف مع الأفضلية، أن تنام الآن خيرٌ لك من أن تأكل، وصيغة التفضيل معروفة.
الصيغة هنا هل هي وصفية أي مجرد وصف أم وصف مع التفضيل؟
يمكن أن تكون في تفسير الآية على هذا الوجه أو على ذلك الوجه، “خيرٌ لكم” مع لحاظ الناحية التفضيلية وأنّ هذا الخير خيرٌ من شيء آخر، أنتم على عبادة الأوثان على عبادة غير الله، أو أنتم على الشرك بالله تحسبون أنّ هذه العبادة -عبادة الأوثان- فيها خير -طبعاً لا خير فيها- ولكن حسب تصوّركم وحسب اعتقادكم الخاطئ، ووهمكم الساقط، أنّ في عبادتهم خيراً لكم، ولو أنّها تجمع بينكم على المودّة في الدنيا، أنّها تكون محور تلاقيكم، تفاهمكم، معاشرتكم مع بعضهم البعض، والتقارب بينكم، يتخذونها -عبادة الأوثان- مودّةً بينهم، يعني نوعٌ فيه من التوحد الذي يعطي مودّةً للمتوحدين حول هذا المحور، فتحسبون أنّ هذه فائدة، وهي ليست الفائدة التي تطلب، لأنّ هذا تمحور حول الشرك، وهذه المودّة نفسها تكون شرّاً، حيث يكون محورها الوثن. هذا وجه.
يعني يصح أن يكون (خَيْرٌ لَّكُمْ) بمعنى أكثر خيرية، هذا على تقدير أن يكون في ظنّكم شيءٌ من الصواب وهو ظنٌّ خائب ساقط فاشل، ويصحّ أن يكون (خَيْر) وصف مجرّد، كلمة (خَيْر) للوصفية المجردة عن عنصر التفضيل، (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ)، خيرٌ محض، عبادة الله التوحيدية خيرٌ محض خالص لا يشوبه شرّ، لا تشوبه خسارة، لا يشوبه أيّ كدر، خيرٌ خالصٌ ليس مستتبعاً لأيّ شيءٍ من الشرّ، فيكون وصف هو أنّ العبادة كلّها خير، وكلّها عطاءٌ كريم، وكلّها شرفٌ للإنسان، وكلّها ارتفاعٌ وارتقاء بذاته، وسعادة له في الدنيا والآخرة، هذا هو الوجه الثاني في كلمة (خَيْر).

(وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)
هو خيرٌ لكم في الحقيقة والواقع، خيريته ليست متوقفة على علمكم، علمتم أم لم تعلموا هو خيرٌ لكم، لكن متى تدركون هذا؟ إدراككم لهذا يحتاج إلى معرفة الشرّ من الخير، وفي أين يكون الخير وأين يكون الشرّ، وهذا يحتاج إلى وعي غير مغشوش لم يسيطر عليه الضلال، لم تسيطر عليه غيوم المعاصي، لم تُضعف موضوعية تفكيره الذنوب، تحتاجون لهذا العقلٍ المميّز، إنّما تدركون أنّ هذا خيرٌ لكم إدراكاً يجعلكم لا تقدّمون شيئاً عليه -وهو العبادة التوحيدية- عندما تكون لكم عقولٌ مدركة، غير مغشوشة، غير منحرفة عن الفطرة، عقول تميّز وتعرف ما هو الخير وما هو الشرّ، هناك من يرى الخير في انتحاره، يرى الخير في زناه، يرى الخير في شرب الخمر، يرى الخير في أن يقتل أباه وأمّه، إلى آخره، تحتاجون بأن تحتفظوا بعقلٍ ونفسيةٍ وإدراكٍ دائماً مميِّز بين الخير وبين الشرّ، ثمّ أين يكون الخير وأين يكون الشرّ، يعني تفضيل الخير على الشرّ، تقديم الخير على الشرّ، وأن تعرف أين يكون الخير، الخير في انطلاقي وراء شهوات الدنيا؟ في استهلاك عمري -ويمكن تقصير عمري- للانكباب على اللذات المحرمة، وحتى الانكباب الزائد على اللذائذ المحللة؟ قد أرى أن خيري، مصلحتي، أن سعادتي، كلّها في أن أصرف العمر في أحضان الشهوات وإنْ كانت منكرات! لابد من التمييز حتى نعرف صدق الآية الكريمة (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ).

(وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ)
قول إبراهيم سواء كان قبل رسالته أو بعد رسالته فإنّ قوله (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوه) قولٌ مرضيٌّ لله تبارك وتعالى، وأمره به أمرٌ ثابتٌ عقلاً وثابتٌ نقلاً، فالله عزَّ وجلّ هنا يريد من الناس أن يأخذوا بقول إبراهيم “عليه السلام” (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوه).
وربما جاء في التفسير (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوه)، اعبدوه بقلوبكم، انصرفوا إليه بكلّ قلوبكم، فلتكن قلوبكم لا تفارق الإيمان واليقين بوجوب عبادة الله وإكباره، عظِّموا الله عز وجل في قلوبكم، أكبروه في قلوبكم، خافوه في قلوبكم، اخشوه في قلوبكم، ارجوه في قلوبكم، تعلّقوا به في قلوبكم، كلّ هذا عبادةٌ لله عزَّ وجلّ بالقلوب، واتقوه في الخارج باجتناب كلّ محرّم، واجتناب كلّ ما يُغضبه. هذا قد يدخل أيضاً في التفسير.

الآية الأخرى (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) – الآية 17 من سورة العنكبوت.
هل (إِنَّمَا) حاصرة أو هي شيء آخر؟
لدينا “إنّ” و”ما”، تركيبها (إنما)، “ما” في (إِنَّمَا) هل هي للحصر؟ بمعنى أنتم لا تعبدون إلا الأوثان؟ هل المعنى هكذا؟
لا، “ما” هنا، ليس بمعى الذين “إنّ الذين تعبدون من دون الله أوثانا”، من أين عرفنا هذا؟
إذا كانت “ما” بمعنى الذين “إنّ الذين تعبدون من دون الله” لا تكون كلمة أوثان “أوثاناً”، بل تكون أوثانٌ، اسم إنّ، وخبر إنّ، يعني تكون الأوثان إسم إنّ مؤخر، وتعبدون من دون الله خبرها مقدّم، عندما جاءت “أوثاناً” عرفنا أنّ “ما” ليست بمعنى “الذين”، إذن هي بأي معنى؟ يسمونها “ما” الكافّة، ما معنى ذلك؟
“ما” لها معاني كثيرة منها الكافّة، بمعنى أنها تأتي بعد عاملٍ من العوامل النحوية التي تعمل في الألفاظ. “إنّ” لها عمل، هي نصب المبتدأ، اسمها، ورفع خبرها، الخبر يكون مرفوعاً، والإسم منصوباً، هي تعطلّ عمل “إنّ” في مدخولها، دخلت “ما” فعطلت عمل “إنّ” في كلمة “أوثان” التي هي إسم “إنّ”، إسم “إنّ” منصوب، هنا تعطّل عملها وكفّت عملها “ما”، كفّتها عن العمل بالتأثير في إسمها بالنصب، كانت تنصب والآن لم تعد بعد دخول “ما” أن تنصبه.
(إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا)، يعني ليست بشيء، هذه أوثان ليست محلّاً للعبادة، بعيدةٌ كلّ البعد أن تعبد، حجر، خشب، فليكن ما يكن، حديد، أي شيء، هذه الأوثان نفسها لا عقل، لا إرادة، لا مالكية، لا تملك نفعاً ولا ضرّاً لنفسها حتى تملك لغيرها، تُصنع ولا تصنع، ما الشيء الذي يؤهلها لأن تُعبد؟
المعبود خالق، مُكوِّن، رازق، عالم، قدير، كلّ صفات الكمال له.
العبادة تكون لمن كان خالقاً ورازقاً وحيّاً لا يموت، وليس قبله شيء، وليس بعده شيء، لا أوّل له، لا آخر له تبارك وتعالى.
اِعْطِنَا صفة من الصفات -ولو النسبية، حتى شيءٌ نسبي من قدرة ليس موجوداً عندها- فهذه عبادة مخالفة للعقل تماماً، مخالفة للفطرة، مخالفة لكلّ رجاءٍ يُرجى فيها، ولا تملك ضرّاً ولا نفعا.

(إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا)..
هي مخلوقة على أيديكم وتعطونها إسم الآلهة، وهي بعيدة كلّ البُعد عن مستوى الإنسان فضلاً عن مستوى المخلوقات الحيّة، فضلاً عن الخالق العظيم تبارك وتعالى. هل هناك أكبر من هذا الإفك؟
عندما تقول لحجر ملقى على الأرض هذا إلهٌ رازق خالق وما إلى ذلك، ليس هناك كذب أكبر من هذا الكذب، هذا إفك.
الشيء الآخر لمعنى (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا)، هذه مخلوقات بأيديكم تعطونها صفة الآلهية فتتحول إلى معبودات عملية من بشرٍ كثيرين فتُضلّ وتُخسِّر الناس عقولهم وتمتصُّ حياتهم، وتسقط قيمتهم، فتخلقون في الناس إفكاً، فتلعب هذه الأصنام في الناس عند عبادتها دور الإفك، دور الكذب، دور الإضلال، دور إيقاع الناس وعقولهم ونفوسهم في التيه والضلال.

وغَفَرَ الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

زر الذهاب إلى الأعلى