وقفة قرآنية : آية الله قاسم – ٨ شهر رمضان ١٤٤١هـ

الوقفة القرآنية لسماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم، والتي يبثّها مركز المقاوم للثقافة والإعلام خلال ليالي شهر رمضان المبارك – ليلة الاحد 8 رمضان المبارك 1441هـ / 2 مايو 2020م:

فيديو الوقفة:

صوت الوقفة:

نصّ الوقفة:

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم أيُّها الأخوة المؤمنون والمؤمنات.

كان الحديث في العبادات حسب خصوصيَّاتها وعطاءاتها المرتبطة بكلِّ واحدةٍ منها، وهي خصائص ترجع إلى طبيعة العبادة ونظامها الخاصّ وما استهدفته من صناعة هذا الإنسان. وقُلنا بأنَّ لكلّ عبادة عطاءها الخاص إلى جانب العطاء العام المُستهدِف لإيجاد الإنسان الكامل.

الصلاة -وسَبَق الكلام فيها-:

الصلاة وكأيّ عبادةٍ أخرى مربوطة بأوقاتٍ محدَّدة: صلاة الفجر، صلاة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.

تكون في حالة النوم المُستغرِق، تكون منهمكاً في شُغلٍ، تكون في لذَّةٍ مُباحة، تكون في أيّ ظرف، تكون مُنشَّدَّاً إلى أيّ فكرة معيَّنة تحرص على الوصول إلى ما هو الحقُّ فيها، تكون في أيّ حالةٍ من حالات الارتباط بأيّ عملٍ من الأعمال، تُناديكَ الصلاة، إذا وَسِعَكَ أنْ تؤخر بعض الشيء فإنّه لا يَسَعُكَ أنْ يمرَّ وقت أدائها وأنتَ تاركٌ لها، هنا الصلاة تقول لكَ قَّدِّم الصلاة على كلِّ اهتماماتك، تقول لكَ الصلاة خيار الله لكَ أنْ لا تتأخر لحظة واحدة وأنْ لا تتقدَّم لحظةً واحدة عن الوقت المُحدَّد لكَ أنْ تُصليّ فيه، عليكَ أن تقتلع نفسكَ، أنْ تُواجه نفسكَ، رغبتكَ، شوقكَ لأيّ شيءٍ معيّن أنتَ مشتغلٌ فيه، ضروراتكَ، عليك أنْ تنفصل بنفسك عن كلّ هذا وتستعلي على كلّ حالات الارتباط التي تُعارض الصلاة في وقتها وتتجه إلى الصلاة.

هنا تصنع بكَ الصلاة حالة تحكُّم في الوقت، في الهدف، في التوجُّه النفسي، تجعلُ لكَ الحاكميّة على نفسك، وعلى وقتك، وعلى كلّ الاهتمامات التي تستجذب نفسك.

هذه تربية تعطيك الشخصيّة القويّة والحديديّة والقادرة على أنْ تقفَ الموقف الحَدِّيّ في قضايا الأهمّ والمهمّ فضلاً عن قضايا الحقّ الصريح والباطل الصريح. هذه تربية، وهذه ممارسة يومية ولعدَّة مرَّات في اليوم، أنتَ تقفُ عدَّة مرّات في اليوم ضد نفسك، ضد رغائبها، ضد ارتباطاتك بالأصدقاء، بالمحترمين، بأيّ موعدٍ من المواعيد إذا جاء مُضايقاً لواجب الصلاة. يعني أنتَ تصنع نفسكَ على ضوء دينك مُستقلاًّ ومُستعلياً على كلّ الضغوطات.

الزكاة:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ﴾ – سورة التوبة، الآية 103

كم هو ارتباطنا بالمال؟ ارتباط قويّ شديد جدَّاً، قد ينسى أحدُنا أخاه وينسى ابن عمّه وينسى كثيراً من الأمور المهمّة من أجل المال ويَشحُّ بالمال على الكثيرين وعلى مَنْ يجب عليه أنْ يبذله من أجلهم.

المال له موقع خاص في النفس، وذلك ليس عبثاً وإنّما لارتباط الحياة بالمال، وقيمة المال قيمة مؤثرة جدَّاً في استقرار حياتنا، في تمشية أمور حياتنا، في أداء ضروراتنا، في التوصُّل إلى كثيرٍ من أغراضنا، إلى آخره.

ويأتي الأمر بأخذ الزكاة من الأموال ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ﴾ ، لماذا هذا الأخذ؟ ومَنْ الآخذ؟

الآخذ هو رسول الله “صلى الله عليه وآله” بحاكميّته الإلهية، وبموقع إمامته الكبرى للأمّة كلّ الأمّة، وفي ما يجب للبشرية كلّ البشرية.

أَخذُ الرسول للصدَقَة من أيدي الناس يستهدف بناء نفسيّة خاصة تستعلي على هذا الإرتباط الشديد، وتتجاوز ضغطه وجاذبيّته تقديماً للهدف الأعظم، تقديماً لمصلحة الرسالة على هذا الارتباط، وتفوُّقاً لأهميّة الرسالة على ما لهذا العنصر -وهو عنصر المال- منْ جاذبيةٍ وضغطٍ شديدَيْن على النفس.

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ﴾

الارتباط بالمال الارتباط المُتجَاوز للحد المعتدل يُنسي الله عز وجل، لابد من الارتباط بالمال، والإسلام لا يحارب فينا دوافعنا المادية، بالعكس فهو يرعاها كلَّ الرعاية، والتربية الإسلامية لا تستهدف إستئصال أو تعطيل أو التقليل من أهميّة الدافع المادي، أيِّ دافعٍ من الدوافع المادية وهي نِعمَةٌ من الله فينا. مَهمَّة التربية الإسلامية أنْ لا تُعطي السيطرة للدافع على العقل والدِّين والوعي والرسالة والشرف، وأنْ تضع حدَّاً لهذا الدافع وذاك دون أنْ يتحوَّل إلى قوّةٍ مُدَّمرة لإنسانية الإنسان، ودون أنْ يتحوَّل لقوّةٍ تُحدث الفوضى في الأرض من حيث التضارب في المصالح والتغالُب عليها والتنافس على هذه الدنيا.

رَزَق اللهُ المال من أجل يبنوا به أنفسهم ومصالحهم، وكلّ النعم من الله عزَّ وجلّ لبنائنا، وحتّى لا يتطرَّف دافع فيُفسِد هذا الغرض تَتَدَّخل التربية الإسلامية، فتطهيرُنا بالصدقة تخفيفٌ من غلواء الإرتباط بالعنصر المادي، وأنْ لا تُستهلك حياتُنا في طلَب المال، وأن لا تَفسُد وتتدَّمَّر الحياة من حولنا ونحن نجمع المال الكثير ونشحُّ به على إصلاح الوضع، وحتّى لا تضيع القيم وتنتهي مسألة مسجد ومسألة مأتم ومسألة مَيْتَم، إلى آخره، والمال أكداسٌ في يد الآخر.

﴿ تُطَهِّرُهُمْ ﴾ هذا الدافع الذي قد يُفسد عليكَ الحياة كلّها ويفصلُك عن الهدف الكبير للحياة، ويؤول بكَ إلى أنْ تكون أكثر جماديّةً منه، تأتي الصدقة المأخوذة منْكَ مِنْ رسول الله “صلى الله عليه وآله” ومِنْ الخليفة الحقّ لرسول الله. وهذا المال الذي يأخذه إنّما سيكون للبناء، لرعاية المصالح، لمعالجة أوضاع الناس، فَقْر الناس، جَهْل الناس، خَوْف الناس، لمعالجة مرَض الناس، إلى آخره، لهذا كلِّه.

ومَا التزكية التي تُزَّكِّيهم بها يا رسول الله؟

تطهير، تنظيف، تَخْلِيَة مِنْ المفاسد، مِنْ قذارات النفس والقلب، مِنْ حالة الشُحّ، مِنْ حالة الجماديّة، مِنْ حالة البلاهة وتصوُّر أنَّ السعادة في المال، إلى آخره.

ثمَّ يأتي دور التزكية، ليس تطهيراً فقط وإنما تزكية بمعنى تنميةً صالحة.

طَهُرت النفس فصارت تتلَّقى كلَّ فيضٍ من فيوضات الهُدى، وتترَّقى في معارج الكمال، تَخلَّصَت من جاذبيّة الأرض الجاذبيّة المُضِّرَّة، صارت ترتفع، وصارت تَسمُق.

هذه هي الصدقة والزكاة.

الصوم:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ – سورة البقرة، الآية 183

والتقوى هدفٌ عام، والتقوى منْ ذكر الله ولَذكرُ الله أكبر في الصلاة، ومن اتَّقى سَلِمَ وصّحَّت كلُّ مسالكه، ذكر الله يُعطي الوعي ويُعطي التقوى، تمّثُّل الصفات والأسماء العُليا للمَثَل الأعلى لله العظيم الكامل اللامحدود في كماله، هذا ماذا يفعل في الإنسان؟ هذا كلُّه يجعل الإنسان في أمنٍ من كلِّ ضعفٍ، من كلِّ هزيمةٍ، من كلِّ ضلالةٍ، من كلِّ انحرافٍ، من كلِّ سقوطٍ، من كلِّ تقصير.

الحجّ:

﴿ ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ – سورة الحج، الآية 32

مَبعَث تعظيم شعائر الله تقوى القلوب، فالقاعدة لانطلاقة التعامل المُحتَرِم والتعظيم لشعائر الله هي قاعدة التقوى وأرضيّة التقوى.

وهذا التعظيم يُثمر تقوىً فوق تقوى، هذا التعظيم مُنطلقه التقوى وعطاؤه التقوى.

﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ – سورة الحج، الآية 37

يعني لن ينال رضا الله، لحومها، الدماء التي تُسيلونها، واللحوم التي توّزعونها، والأموال التي تبذلونها لهذه اللحوم، كلُّ هذا لا ينال رضا الله تبارك وتعالى ولا يرتفع إليه، ينالُه التقوى، ينالُه رضاه وينالُ جزاءه، وينال إحسانه، وينال تكريمه تقواكُم.

القيمة في ذواتِكُم، وليس فيما تكسِبُه يدُكُم في الخارج، ما وراء هذا الكَسب، الكسب نظيف ومأمورٌ به ومرضّيٌّ عنه، ولكن الجزاء من أجل التقوى وراء هذا الفعل.

بذْل الأضاحي، وبذْل المال وراء هذه الذبائح، وتوزيع هذه اللحوم، كلُّ ذلك قيمته مأخوذةٌ من التقوى التي تدفعُ إليه. احترام أمر الله عزَّ وجلّ، التعظيم القلبي لله عزَّ وجلّ، خضوع القلب لله عزَّ وجلّ، وطاعته التي ساقَت لهذا البذْل هو محلُّ نظر الله عزَّ وجلّ وهو الذي يُجازي عليه.

الجهاد:

﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾ – سورة الحج، الآية 40

الدين ضرورة الأرض والإنسان، ولا تَعمُر الأرض ولا يسعَد الإنسان إلاّ بالدين، والجهاد للدين وليس للسلب، وليس للسيطرة. والكافر البعيد عنكَ كلّ البُعد والذي أنتَ في انفصالٍ روحيٍّ وفكريٍّ وسلوكيٍّ عنه، عندما يقول “أشهد أنْ لا إله إلا الله وأشهدُ أنَّ محمداً رسول الله”، لحظة وتحوِّلُه أخاً لك، ومَنْ حارب للمال فهذا لا يُوقف طمَعه، أنْ يشهَد المُحَارَب الشهادتيْن لا يُوقف طمعَ الطالب للمال وطمعَ الطامع في المال. إنَّها الرسالية، إنَّها المصلحة للجميع، الهداية للجميع، الإستقرار للجميع، الأمن للجميع، الحفاظ على إنسانية الجميع.

﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ .. ﴾

أُمِرَ بهذا الدَفْع، وبهذه المواجهة، وبهذه المحارَبَة، لماذا؟ ﴿ لهُدّمت صوامع …… ﴾ .

إذا أُتيح للكفر أنْ يتبَذَّخ، وأن يستَكبِر ويستعلي، وأنْ يحكم الأرض بهواه، وأن يُضّلَّ ما شاء أن يُضّلّ، وأنْ يُفسِد ما شاء أن يُفسِد، لا تبقى صومعة ولا بِيِعَة ولا صلاة ولا مسجد ولا يبقى أثرٌ للدين أساساً. والغرض ليس الصومعة في نفسها، وليس المسجد في نفسه، وإنّما أن يكون عند هذا الإنسان ارتباطٌ شديدٌ بذكر الله حتّى يسمو هدفه، حتّى تنقى نفسه، حتّى يُكفَى شرّه، حتّى يُترَقّب خيره.

﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ – سورة الحج، الآية 41

حَرْبُ الإسلام وتمكين أهل الإيمان من أجل إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، والنهي عن المنكر. وكلُّ فسادٍ في الأرض مُنكر، وكلُّ قبيحٍ يرتبكه إنسان منكر، وكلُّ سلبيةٍ من السلوك مُنكر، فحتّى لا يبقى منكر فتصفو الحياة وتنقى وتطُهر وتزكو ويسعَد فيها أهل شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها بلا فرقٍ بين قومٍ وقوم، وشعبٍ وشعب.

يأتي الكلام لتكملة الحديث إنْ شاء الله، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

زر الذهاب إلى الأعلى