وقفة مع بعض أيات الذكر الحكيم “3”- 12 أبريل 2020

صوت الحديث :

نص الحديث :

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله الأعظم المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين

السلام عليكم أمّة القرآن والإسلام

يقول تبارك وتعالى في كتابه المجيد: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) – البقرة/ 155 – 157

(إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ)

هؤلاء المؤمنون، والمصيبة تصيب المؤمنين من موقفٍ سلبيٍّ منهم تجاه منكراتٍ مثلاً، أو موقفٍ إيجابيٍ خسيسٍ منهم بفعل المنكرات، وقد تأتيهم لا بكسبٍ من أنفسهم من نوعٍ سلبيٍّ أو إيجابيٍّ خسيس، وإنما تأتيهم بفعل وكسب آخرين كفّاراً كانوا أو فسقةً فَجَرة.

فالحروب التي يضطر المسلمون لخوضها دفاعاً عن النفس ليس لهم دخلٌ في تسبيبها إلا أن قالوا آمنّا بالله، وهذا ظلمٌ يقع عليهم من الآخر، ولكن أمام أيّ نوعٍ من الابتلاء والمحنة والمصيبة الضرريّة يأتي موقف الصبر من المؤمنين الصادقين في الإيمان.

أولائك (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) وقَوْلهم (إِنَّا لِلَّهِ) إقرارٌ منهم بالمُلك الصِدق، أنّنَا مملوكون مُلكاً مُطلقاً كاملاً مستوعباً تامّاً، مملوكون وجوداً بدنيّاً، ومملوكون وجوداً روحيّاً، مملوكون من أصل خلقنا، ومنذ البداية ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً وآثار وفي كلِّ ما في اليد وفي كلِّ ما يُحيط بنا من ظرفٍ وما يكون لنا من حال.

والمالك لنا لا شريكَ له، نحن مملوكون بالكامل ومالكُنا الحقّ مالكٌ لنا بالكامل، فلا مَفلَتَ من مُلك الله لنا، ولا لحظة وجود ولا حياة يُمكن أن تكون لنا من غير إذن الله ومن خلال عطائه وببركة فيضه.

(إِنَّا لِلَّهِ)

ماذا يترتّب على هذا المُلك؟ هذا الإقرار بالمُلك له لوازم ومترتبات، هذا الإقرار بالمُلك شهادةٌ على النفس لإلزامها بما يستلزمه هذا الإقرار، إنّها لتعترف بأنّها مملوكة بكلّ وجودها، وفي كلّ لحظةٍ من لحظات هذا الوجود لها، وهذا يُلزمها بالرضا بما يفعل بها المالك، فليس المملوك بالمُلك التكويني الذي يستولي من المملوك على كلّ ذرّةٍ من وجوده وعلى كلّ لحظةٍ من لحظات وجوده، ليس للمملوك بهذا الوصف وبهذا المستوى أيّ اعتراضٍ على مالكه.

أنتَ تهدمُ دارك ويعترض عليكَ معترض وربّما كان فعلك خطئاً فتقول أنّها مُلكي وليّ التصرف فيما أملك، على أنّ ملككَ ليس المُلك الحقيقي، ملكك مُلكٌ اعتباريٌ قانونيٌ أذِنَت به الشريعة اعتباراً وتوافق عليه العقلاء، واليوم الدار لك وغداً ليست لك ببيعٍ أو موتٍ أو حريقٍ أو ما إلى ذلك.

أمّا أنتَ وأنا فمملوكان لله المُلك الحقّ، فما معنى هذا المُلك الحقّ؟

معناه أنّي لا أستطيع أنْ أستقلَّ بوجودي ولا بحياتي ولا بصفةٍ من صفاتي، ولا بفعلٍ من أفعالي، ولا بأثر من آثاري عن قدرة الله وحاكميّته وقهره وفيضه وعطاءه.

المُلك الحقّ هو ألاّ تكون لكَ لحظة وجودٍ ولا لحظة حياة إلا بإذن مالكِكَ وعطاءه، ونحن وكلّ شيءٍ في الكون مملوكون لله على هذا المستوى من المُلك.

نحن شيءٌ بالله، نحن لا شيء ونحن صِفرٌ بلا الله.

هذا المملوك -الذي وجوده من عند ربّه، رزقه من عند ربّه، تدبيره من عند ربّه، قيامه من عند ربّه، بصره من عند ربّه، سمعه من عند ربّه، كلّ شيءٍ عنده من عند ربّه- كيف يعترض على أن الله أخذ منه بصره؟ أو أخذ منه قوةً من قواه؟ لم يدفع أُجرة، ولم يُقَدِّم جميلاً إلى الله، وحتّى طاعاته لله عزّ وجلّ مَنٌّ من الله عليه أنْ وفّقه إلى هذه الطاعات وأكرمه بهذه الكرامة، كرامة طاعته تبارك وتعالى، لأنّ طاعة العبد لله عزّ وجلّ انشدادٌ من هذا الإنسان إلى الكمال، ولحظة ننشدٌّ إلى الكامل تبارك وتعالى هي لحظة تربية لنا ورَفعِ معنوية ولحظة سموّ، فمن كانت طاعتنا له مَنَّاً منه علينا فكيف لنا أن نعترض عليه لو سلَب منّا نعمةً من نعمه وكلّ نعمه علينا تفضّلٌ منه سبحانه وتعالى.

هذا إقرار صادق يقينيّ تقوله نفْسُ المؤمن من داخل أعماقها (إِنَّا لِلَّهِ)، ويتَرتَّب على هذا الإقرار التسليم بقضاء الله وقدَره، والرضا بقضاءه وقَدَره، ويتَرتَّب عليه الامتثال الكامل لكلّ تكليفٍ من التكاليف التي تتوّجه إلى العبد من الربّ تبارك وتعالى، ومِن أصعب التكاليف الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وهو كُرهٌ لكم، ولكنّ المؤمن لا يجدُ أيَّ اعتراضٍ في نفسه على هذا التكليف المُجهِد المُرهِق الذي فيه تَلَف النفوس من جهة، وفيه اصلاحها وحياتها من جهةٍ أخرى.

لا.. وأكثر من ذلك، أنّ نفس المؤمن ليست رَضِيّةً فقط بالجهاد وتكليف الجهاد، إنما هي توّاقةٌ للشهادة في سبيل الله تبارك وتعالى، ذلك إذا تَمَّ الإيمان للنفس، وصَدَقت مع الله، وكانت رؤيتها لله عزّ وجلّ رؤية لا تسمح لها بالتردّد عن الشوق إلى الشهادة، ذلك أنْ رأت من عظمة الله ما رأت، عين القلب رأت من عظمة الله ما رأت، ومن جلاله وجماله وكماله وآمنت بعظيم وعده الذي تتهافت عليه النفوس.

(إِنَّا لِلَّهِ)

ويترتّبُ على هذه الكلمة الصادقة من المؤمن هذا الإقرار الذي يختاره بنفسه بما لا يجد منه لابُّديّة أمام الله تبارك وتعالى، هذا الإقرار يُنتج أن يُيئِس هذا المعترف المُقرّ لله بالمُلك كلّ الخلق أنْ لا شرك لكم فيَّ، ولا نصيب لأحدٍ منكم في أمرٍ يأمُرني به أو نهيٍ ينهاني عنه، أمري كلّ أمري لله وحده، إجلالي كلّ اجلالي لله وحده، خوفي كلّ خوفي من الله وحده، رجائي كلّ رجائي في الله وحده، لا أأتمر لا أنتهي لا أسجد لا أركع لا أصادق لا أعادي لا أتحرّك لا أسكُن إلاّ بإذنٍ من الله وحده.

إنْ يكن لأحد أمرٌ عليَّ أحترمه أو نهيٌ أنتهي به، فهو أمرٌ أو نهيٌ يأتيان ممّن أذِن الله بطاعته، يأتي الأمر والنهي من رسول الله “صلى الله عليه وآله”، من نبي من أنبياء الله، من إمامٍ من أئمة الهدى “عليهم السلام”، فهذا أمرُ الله ونهيُه، وطاعتي لهذا الأمر لا طاعةً لرسول الله بالأصل، ولا لأمير المؤمنين بالأصل، وإنما أصلُ طاعتي بهذا الأمر وانتهائي بهذا النهي إنما هو امتثالاً لأمر الله وانتهاءً لنهي الله الذي أمَرَ بطاعة رسول الله ولم يأذن بمخالفته، وأمَرَ بطاعة عليّ بن أبي طالب ولم يأذن بمخالفته، هذا هو الاعتقاد الصحيح.

نعم، فهذه كلمة يقفُ بها المؤمن أمام أي أمرٍ ونهيٍ يأتي من مخلوق، ويقطع رجاء الطواغيت والجبابرة في طاعته.

وما هو الموقف الشرعي الذي يواجه به المُبتَلَوْن البلاء؟

يأتي الكلام عليه إنْ شاء الله، والحمد لله ربِّ العالمين، والسلام عليكم أوّلاً وآخراً.

12 أبريل 2020م

18 شعبان 1441هـ

زر الذهاب إلى الأعلى