وقفة مع بعض أيات الذكر الحكيم “2”- 04 أبريل 2020

صوت الكلمة :

نص الكلمة :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

السلام عليكم أمّة القرآن والإسلام.

كنّا مع وقفةٍ مع آيات الذكر الحكيم.

كان الحديث يدور حول الآيات الثلاث من سورة البقرة، الخامسة والخمسين بعد المئة إلى السابعة والخمسين بعد المئة.

نقف عند قوله تبارك وتعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) لندخل في ما بقي من نقاط في الآيات الكريمة.

البشارة من شأنها أن تدفع للصبر على الطريق إلى ما يؤدي إلى تحققها.

دفع البشارة يحدِّد حجم البشارة، قيمتها في النفس المخاطبة، يحدِّد درجة الصبر والصمود ومواجهة الصِعاب، إذا كانت البشارة كبيرة فإنّ الطريق وإنْ صعب تصبر النفس عليها، عكس ما إذا كانت البشارة ضئيلة القيمة، فإنّ الصبر هنا لا شك أنّه يقلّ.

ويُمكن أن يكون تأخير ذكرها في الآية الكريمة (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) لإثارة روح التطلّع والتشويق في نفس المُخاطبين خاصّة والتبشير يأتي من مالك الكون كلّه، البشارة تأتي من كبيرٍ غير أن تأتي من صغير، والبشارة من خالق الكون وربِّ العباد جميعاً هي أكبر بشارةٍ يمكن أن يتلّقاها مخلوق.

ولكن ما هو ذلك الصبر الذي يُواجه به المخاطَبون صدمة المصيبة لو حلَّت بهم؟

الآية لا تذكر أكثر من قوله تبارك وتعالى (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

هذا القول كيف يخلق القوّة، ويعطي روح الصمود، ويثبّت القدم على الطريق الصعب، وتناطح به النفس كلّ التحدّيات غير متراجعةٍ ولا متلكئة؟

هو قولٌ ليس بالقول العاديّ، هو قولٌ ليس من قول اللسان من غير أن يلامس القلب، وهو قولٌ ليس ملامساً للقلب ملامسةً خفيفة أو ثقيلة، هو أكبر من ذلك. قولُ (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) عند مَنْ يعرف الله عزّ وجلّ قولٌ ينبع من القلب، ينطق به القلب قبل أن ينطق به اللسان، وفكرٌ متغلغلٌ في نفس المؤمن، هو شعورٌ موغلٌ مستولٍ مسيطر على قلب المؤمن، هو رؤية فسيحة ممتدّة متأصِّلة تملك نفس الإنسان المؤمن، هذا من جهة.

ومن جهةٍ، أنَّكَ إذا قلتَ (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، مرّةً تقولها من غير أن تعرف لوازمها، ومرّة تقول وأنتَ تعرف كلّ مقتضاها، وكلّ ما تستلزمه ويترتّب عليها، وفرقٌ بين القوْلتين، فرقٌ بين قوْلة سطحيةٍ يعيشها القلب بدرجةٍ خفيفة، وبين قوْلةٍ تنبع من صميم القلب، وفرقٌ بين قوْلةٍ يُدرك صاحبها ما تعنيه، ما تستلزمه، ما تُحمِّله قائلها، وبين قولةٍ لها المكنون الكبير والمخزون الضخم والمقتضيات الصعبة لكنَّ قائلها لا يعرف كلّ هذا منها وإنْ عرف الشيء البسيط.

(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) هي الكلمة المتجذّرة في النفس الناطق بها القلب قبل أن ينطق بها اللسان، والكلمة المربيّة الصنَّاعة التي تُعطي الصبر والصمود والقوّة ورباطة الجأش وعدم الميل للوجه عن الطريق لشدّته ولما يتطلبّه من قوّة نفس، هذه الكلمة هي الكلمة التي انطلقت من قلب صاحبها وقلب صاحبها مُدركٌ تمام الإدراك لمعناها ومؤدّاها ومستلزماتها وكُلفتها. الكلمة الصنّاعة هي الكلمة الثانية وليست الكلمة الأولى.

الشيء الثالث، أنّ هذه الكلمة مَنْ وصفها، أو مَنْ وصف ارتباط صاحبها بها، أنّ صاحبها قد وطّن نفسه تمام التوطين على الصبر على كُلفتها، هذا شرطٌ ثالث.

ورابعٌ هو أنّ هذا الإنسان ربّى نفسه التربية الصابرة في سبيل الله تبارك وتعالى، وخاض التجارب، وطال مكثه مع خوض التجارب حتّى انبنت نفسه البناء القويّ على طريق الله عزّ وجلّ وهانَ على نفسه أن يبذل الغالي والرخيص وأنْ يصبر على أشدِّ الشدائد في سبيل الله.

أعرفنا كيف أنّ كلمة (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) تُنجز المعجزة من صبر النفس وقوّتها وصمودها؟ حتّى ليلقى بابراهيم “عليه السلام” في النار وهو مطمئن النفس كلّ الإطمئنان لحظة إلقائه فيها، ويبيت أمير المؤمنين “عليه السلام” في فراش رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” وروحه على كفّه، والتهديد يلاحقه بالموت فلا يأبه بما يستقبله من موت ومن جروح، ذلك لأنّ نفسه النفس التي بَنَتها كلمة (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) بكلّ أبعادها الواعية وأبعادها التربوية الصالحة، وليس فوق صمود رسول الله الأعظم “صلى عليه وآله وسلم” من صمود، صبرت نفس رسول الله أمام أشدِّ الإغراءات التي تلين لها نفوس المتطلِّعين للدنيا وأكبر المتطلِّعين لرغائبها، إلاّ أنّه قال كلمته المشهورة بأنه لو أُعطي الشمس والقمر -لو أعطي الدنيا بكل كنوزها وزخارفها- ما عَدَل عن طريق الحق بما في طريق الحق من عنفٍ يواجهه، من مشكلاتٍ كُثرٍ تحيط به، ومن عداواتٍ ومن قطيعة، ومن حربٍ مُتنوِّعة، ومن جبهاتٍ مُواجِهَة متعدّدة، وصبرٍ على كلّ الصعاب، وخاض الحروب، ومن حوله يلين وهو “صلى الله عليه وآله وسلم” لا يلين، وكان أشجع الشجعان، أمير المؤمنين “عليه السلام” يلوذ به عند الشدّة، يقول “كنّا نلوذ برسول الله صلى الله عليه وآله”، يُدخل فيه نفسه فيمن يلوذ برسول الله عند الشدّة.

وكانت الكلمة الصادقة من قلب رسول الله “صلى الله عليه وآله” لا يقول إلاّ ما يتيّقنه، ولا ينصح أحدٍ إلا بالنصيحة التي هو أخذ بها قبل ذلك، ولا يدلُّ على سلوكٍ جميل وعلى موقف قوّة إلا وأنّ موقفه أجمل وأكمل وأقوى ممّا يوصي به.

رسول الله “صلى الله عليه وآله” كان قدوة أهل القوّة كلّ أهل القوّة، أقوى من أهل القوّة من أهل الإيمان، وأقوى وأقوى وأقوى من كلّ المتظاهرين بالقوّة من جبابرة الأرض وأهل غطرستها، ماذا وراء ذلك؟ وراء ذلك إيمان عميق يملأ عليه كلّ نفسه بأنّه لله وأنّ لله رجوعه.

هذه الكلمة دواء النفس، دواء ضعفها، دواء تردّدها، دواء خوفها، دواء طمعها، دواء كلّ عيوبها، هي سرّ القوّة وسرّ الصمود وسرّ الصلابة وسرّ الكبرياء والعنفوان أمام كلّ باطلٍ وضلال، وأمام كلّ موقفٍ من مواقف الضعف التي تبتلي بها نفس الإنسان المخلوق الضعيف.

وكيف أنّ هذا الإنسان الذي خُلِق من ضعف يكون بمثل هذه القوّة وبهذه الدرجة من القوّة؟

تلك هي صناعة الإيمان، تلك هي صناعة منهج الله عزّ وجلّ، تلك هي صناعة قرآننا الذي أهملناه، صناعة الرسالة الإلهية التي جاءت لترتفع بالإنسان من الأرض إلى أُفق السماء.

والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين. يتواصلُ الحديث إنْ شاء الله.

٤ أبريل ٢٠٢٠م

١٠ شعبان ١٤٤١هـ

زر الذهاب إلى الأعلى