البلاء والدين “٣”

بسم الله الرحمن الرحيم

سُنّة الحياة والموت والبلاء

سنن إلهيَّة ثلاث لا يملك أحد إنكاراً لها، وأبعدُ من إنكارها أن يملك أحد من نفسه، ومن دون ما أعطاه الله من وسيلة دفعها. تلك هي سنة الحياة والموت والبلاء.
ولا سنّة لله عزّ وجلّ إلاّ عن قدرة، وعلم، وحكمة، ولطف، ورحمة، وسنن الله جارية على من رضي أو لم يرض.
وإيجادنا من العدم، وبعث الحياة فينا وكنّا مادة جامدة أوّل النعم، وبداية الوصول إلى قمتها.

واستمرار الحياة على الأرض للنوع الإنساني إلى أجل يعلمه الله خالقُ الكون والإنسان والحياة، وقد جعل الأرض محدودة في مساحتها وقدرتها على العطاء من أجل الحياة وقدّر ذلك تقديراً بعلمه وحكمته، وعلمه لا يخطئ، وحكمته لا تضل، وهو تقديراً يتناسب في علمه مع ما أراد لهذه الحياة على الأرض تدوم.

ولكون الأرض بما هي عليه من محدودية في المساحة وإمكانات العطاء لابد كي تتسع لحياة كل الأجيال البشرية المُقدّر لها أن تشهد حياة الأرض أن تجري في الأجيال المتعاقبة سنّة الممات، والانتقال إلى دار الحساب.
والإنسان ينتظر بعد هذه الحياة وبقدرٍ من الله حياة روحية من نوع جديد، حياة يتخلّص فيها من قفص المادة وضروراتها وجواذبها، ويشهد فيها الحق والحقيقة رأي عين.
وللموت غاية لا تؤدّيها الحياة على الأرض، وللحياة الدّنيا غاية لا تتأدَّى بالممات. فأولاً حياة دنيا للتكليف والعمل والاختبار، ثم حياةٌ في الآخرة للحساب والجزاء بالثواب أو العقاب، وتكون النقلة إليها بالممات.

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) – سورة الملك، الآية 2، (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) – سورة الزلزلة، الآيات 6-8.

وسنّة الحياة والموت مترابطتان متكاملتان كما تبيّن الآيات، وهما مترابطتان في حاجة الأرض المحدودة مساحة وقدرة في العطاء لاستيعاب الأجيال المتدفقة من البشر عليها، وحتى تعيش كل هذه الأجيال بما تمدّها به الأرض من مقوّمات الحياة إلى أن تجري سنّة الموت في الناس ممن عليها فيرحل منها الراحلون من بعد استيفاء من يرحل لأجله المعلوم عند الله على ظهرها، واستيفاء رزقه منها.

ويموت فيمن يموت الطغاة الجبابرة الجزّارون السفّاحون والذين تصعب الحياة ما بقي واحد منهم في ظل بطشه وبغيه المقيت، فكيف لو اجتمع منهم العدد الكبير في هذه الحياة. فعندئذ تتحول الأرض إلى عذاب وجحيم شامل لا تُطاق معه حياة، وما هذه الحياة إلا النار التي يفرّ منها الفارّون، فكان لابد من سنّة اجتماع سنّة الموت والحياة.

ومما يفرض هذه القضية أن الأجساد مادة، والمادة متغيّرة ومن تغيّرها أنّ الشباب لا يبقى وأنّه لابد من شيخوخة وهرم إلى حدٍّ تفقده حياة الجسد كل قيمتها، وعذاب، وتحوّل إلى صاحبها كَلاًّ ً على من حوله، وثقلاً لا يحمل.

ثم أنّ الموت حتّى لا يُعبَد الطغاة، فمن لا يصدق بأن الطاغية لا يستحق العبادة لا يبقي له موت الطاغية توهّماً في هذا الاستحقاق إذا لم يضع عقله وقلبه في مبنى من الضلال من صنع آثامه يعزلهما بعازل سميك جدَّاً لم يعد يملك أن يخترقه منه عقل ولا قلب ليرى بصيصاً من الهدى والنور.

إذ كيف يكون إلهٌ من يموت، ومن يغلب على أمره، ومن يُسلب أغلى شيء عليه وهي روحه وتُنهى حياته فلا يملك أن يدفع ولا أحد من جنده وجلاوزته ما أجبره عليه القدر، وجرى عليه به القضاء؟!!
القضية لا تحتاج إلى تفكير، أعني قضية أن هذا الطاغوت ليس بإله.

والموت لينكر غرور الإنسان، فالإنسان مبتلى بالغرور خاصة إذا أُنعم عليه، ومن ذا يخلو تماماً من روح الغرور، وتوّثبها عند النعم. إنها الصفة التي لا تكاد نفس حاكم أو محكوم، غنيّ أو فقير، عالم أو جاهل، وكثيراً ما أنسى الإنسان توّهم عظمته عظمة الله التي خضع لها كلّ شيء، وحسب نفسه الحرّ المطلقة يدُ إرادته التكوينية فضلاً عن التشريعية، وهذا ما يظهر بقوة من حال بعض الطغاة والفراعنة من النّاس النسناس.
يجري هذا من الطغاة وهم يرون الموت يحيط بهم، ويشهدون في القريب كما يشهدونه في البعيد، وفي القوي وفي الضعيف، والصحيح كما في المريض، وفي الحاكمين كما في المحكومين. فكيف لو أمِن الناس من الموت، ولم يكن لهم تهديد منه أبداً، واطمأنوا أنهم خالدون في الأرض.

إنّه حينئذ لا إيمان ولا إنسانية ولا ضمير ولا خلق ولا شيء من الصلاح. وهل هذه حياة؟! وهل هذا الوضع إلا طريق شقاء وهلاك وفناء؟! إنّه الطريق الذي لا يبقي اعتماداً لحقّ من حقوق إنسان، ولا فرصة لضعيف أن يعيش، ولا فسحة أمن لأحد.

إنّ الموت لآية كبرى من آيات الله لا تدع مجالاً للشك في هيمنته وقهره وقدرته لا يقف أمامها شيء، ولا يمتنع منها ذو قوّة، وأنّ سلطانه فوق كل سلطان. آية تعلّم ألاّ شريك مع الله، وألاّ عبادة إلا له، وكذلك لا طاعة في الأصل إلاّ له، وهو آية تربي الإنسان على الخير، وتردعه عن الشرّ، وتتيح للضمير الإنساني أن ينتبه وأن يقاوم باطل النفس، ويثير في وجهها عاصفة من الاحتجاج القاسي خاصة عندما تبدأ في انحدارة التردّي والسقوط.

الموت قضية ضرورية وضرورية لاستمرار حياة النوع البشري على الأرض وقضى الله أمره، وقضية ضرورية وضرورية لبقاء امكان استقامة الإنسان في غالبه الكثير الأكثر الأكثر إلاّ من شذّ في سموّه وندر، وتفرّد فيمن تفرّد في صدق الإيمان وصفاء الرؤية الإيمانية وقوّة فاعليتها. نعم الاستقامة الروحية عند الكثير الأكثر من الناس محتاجة إلى درس البلاء، وللبلاء القوي العام بين حين وآخر.

وماذا عن ارتباط البلاء بالموت والحياة وهو السنة الثالثة التي يدور حولها هنا الكلام؟

البلاء له ارتباطه بالموت، والبلاء خاصة ما عظم منه يكسر غرور الإنسان، والبلاء يحارب الطاغوتية، ويفسد على الطواغيت أن تتسع عبادتهم في الناس، ويقيم الحجة على من تذهب نفسه الأمّارة لعبادتهم، ويُربّي البلاء العام على التعاون في الخير، ويثير روح الصبر والمقاومة للصعاب، ويكسب النفوس الصلابة في ظل التربية السليمة، ويفتح الباب لمزيد من الخبرة والابداع، والقفزات في المستوى العلمي لمواجهة التحدّيات المتوقعة.

إنّه هو الآخر سنّة لم توجد عبثاً، ولا تعني شرّاً محضاً، وتمثّل إنذاراً يقي البشرية مما هو أعظم لو خلّى لانحرافها عن الله عزّ وجلّ وهدرها للقيم الخلُقيّة، وأصول الإنسانية الفطرية أن يستمر.

البلاء ومنه العام الشديد العنيف يقول للناس باللغة القاسية أن توقّفوا عن كفركم وفِسقكم واستكباركم وظلمكم ومحاربتكم لله ودينه وإلاّ كنتم في سيل من عذاب جارف لا يُبقي ولا يذر.

وهنا قد يفيق غافلون، وقد يستيقظ نائمون، وقد يتواضع مستكبرون لتتحسن أوضاع الحياة في أبعاد وأبعاد، وتتصحح سيرة الحياة.
البلاء آية تذكير من الدرجة العالية بعجز الإنسان وقدرة الله، وضآلته وعظمة ربّه، ورقيّته ومالكية خالقه ومدبّره، ومطلٍّ بالناس على بوابة الموت عسى أن يعتبروا.

وهذا البلاء القائم في الناس -وهو بلاء كورونا- لا يرى الواحد من الناس وحده عجزه أمام قدر ربّه، وإنما يريه عجز العالم كلّه عن انقاذه من الموت الذي يتهدده، فيتعلم عملاً بأن كل من عدا الله لا قدرة له أمام قدرته.
وكيف تكون للعالم كلّه قدرة في مواجهة الله وردّ قضائه ولا قدرة للعالم إلاّ بالعطاء من قدرته، ولا علم لأحد إلاّ بتعليمه؟!!

والبلاء لأن يُطئطئ الناس برؤسهم لبارئهم ومالكهم الحقّ، وتخضع منهم له الرقاب، وتذل الجباه، وليس للاستسلام للبلاء نفسه، وترك مجاهدته ومطاردته والتوّقي منه ما أمكن. فلا البلاء ولا أسبابه تملك أن يفعل شيئاً من غير إذن الله والإمداد من فاعليته، وإذنه وفاعليته سبحانه وتعالى لا تكون إلا عن عدل وعلم وحكمة، ومن ذلك تأديب مستحق التأديب من العباد، وتذكير من لزم في الحكمة تذكيره، وتنبيه من لزم تنبيهه، واختبار من كان أمره من الغرور بما هو عليه من الطاعة لله مقتضياً لاختباره ليكتشف نفسه، وللاعتبار من القابل للاعتبار بفعل الله المنتقم من طغاة خلقه، ولمضاعفة الأجر على الصابرين على بلائه، وزيادة إيمان المؤمنين به، وصدق اللجأ إليه وشدته من الصالحين من عباده.

والبلاء لترتفع الجباه أمام كل الطواغيت ولا تخرّ إلاّ لله، ولا يكون ركوع ولا سجود إلاّ إليه وحده.

لهذا كلّه هو البلاء، وهو شرّ في باطنه الرحمة، على تقدير الموقف المتدبّر الحكيم المستفاد من الدين الحقّ، من حدوثه وآثاره وكيفية مواجهته وردّ الفعل العقلي والنفسي والعملي منه.

والدين يقول للناس، البلاء عدوٌّ مبين، وأسد شرس مهاجم سلّط عليكم بما كسبت أيديكم، وأنتم بانحرافكم عن منهج الله الذي نزّله إليكم الذين فتحتم عليكم أبواب البلاء العظيم، أنتم الذين جئتم وعجّلتم على أنفسكم العذاب.

والموقف أن ترضوا بقضاء الله وقدره العادل والحكيم وإن أتعبكم، ونال منكم ما نال، وربما كان رحمة سترّ وجهها العذاب، وظهرت لكم بعد حين. أما البلاء أن تدخلوا في معركة ضارية وتجمعوا لمواجهته كلّ الأسباب، وأول هذه الأسباب وأقواها أن تؤبوا لمسبّب الأسباب، وتتعلقوا بقدرته ومغفرته ورحمته، وتتوكلوا عليه، وتقروا في نفوسكم وفعلكم وترككم بعبوديتكم له، وبربوبيته وحده لا شريك له.

البلاء يُري الناس أنّ الطواغيت ليسوا أرباباً، فالطاغوت يصاب بالبلاء في الناس، ويصاب بالبلاء وحده، فلا يملك أن يَردَّ عنه البلاء من نفسه، ولا يملك ردّه عنه غيره من جنده، وأهل طاعته والشفقة عليه، فيبقى ما يبقى تحت وطأة العذاب الذي يتمنى أن يفر منه للحظته، حتى يأذن الله عزّ وجلّ برفعه عنه، أو يأتيَه يومُه الذي كتب له، ليحق بالحجة بعد الحجة، وقد كان مُستَحقّاً دائماً على من كانوا يعبدونه أن يقولوا من الأعماق لا إلهَ إلاّ الله وحده لا شريك له، ولا عبادة إلاّ له، ولا نجاة إلاّ به.

البلاء باب لأن تنفتح النفوس على الهدى وتقوى الله، والعودة إليه بعد ادبارها. وهذا هو رد الفعل الصحيح، وليس لأن تيأس، وتكفر، وتزداد ادباراً عن الله عزّ وجلّ، فتضاعف من شقائها، وتزداد عليها الظلمات.

ومن البلاء العام ما يحدث في الأرض ثورة علميّة وتطويريّة إيجابيّة للأوضاع، ويدفع للتعاون الصالح النافع للناس في المجتمعات المحليّة والمجتمع العالمي العام، ويُعلِّم الجميع الحاجة إلى العدل والرحمة والإحسان والتعاون على الخير وأنْ لا استقامة لحياة الناس من غير هذه القيم.

والبلاء عند التعامل النفسي الصحيح معه والذي يدعو إليه الدين النّاس، يُخرِّج أمة جديدة أنضج وأوعى وأصبر وأهدى وأنشط، وأبعد نظراً، وأعمق حكمة، وأوسع أفقاً، وأزكى عملاً، وأنشط في الخير، وأبعد عن السوء.
كلّ ذلك يفعله البلاء إذا أحسن رد فعل الناس من صدمته وقوته ودرسه كما علّم منهج الله عزّ وجلّ ذلك.

البلاءُ من الناس للناس، ولتربية وصلاح وتأديب، وامتحان وتعليم وتطوير الناس.
وفرق بين بلاء من نوع الحرب الداخلية، أو الحرب بين بلدين أو الحرب العالمية، وبين بلاء “كورونا” القائم، وما هو من البلاءات الطبيعية، فالأول ممزق للمجتمع والبلدان والعالم، مثير ومبقٍ لأشدّ حالات العداء إلى أمدٍ طويل، بينما “كورونا” وأمثاله من طبيعته أن يجمع وأن يدفع إلى التعاون والتناصر والتراحم داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعات، ويوحّد الجبهة الداخلية لكل مجتمع والجبهة الاقليمية والعالمية في مواجهته والعمل على رفعه وردّه وهزيمته إلاّ أن يشذ شاذ هنا وهناك فتشغله روح الشماتة على الغير، وتسدّ عليه منافذ عقله، وتعطّل ضميره، وتنسيه دينه وإن كان من وصلهم البلاء قبل أن يصله اخوة له في الدين والوطن، أعاذنا الله من هذا المسخ الشديد.

وبلاء من نوع “كورونا” ينبغي أن يحدث سباقاً جادَّاً، وتنافساً عظيماً كريماً بين المجتمعات وداخل المجتمع الواحد على حلّ أزمتها بهذا البلاء.
وهو سباق تكشف نتائجه العمليّة، ومبارياته على مستوى الكلمة والفعل عن المستويات المتفاوتة دينياً، وعقليّاً، وروحاً إنسانية، وقوّة نفسية، وصلابة في الإرادة، وسرعة المبادرة في الخير، والاستفادة من الدرس، والقدرة على الانضباط، والأخذ بالنظام، والابتكار في الأسلوب والوسيلة.

ففرق هائل بين مجتمع يواجه الأزمة بروح شجاعة، وموقف عقليّ وعلمي وانضباطي رائع، ونفسيّة عالية، وتعاون رصين، ورعاية لمقتضى الحال ورضا بالله وقضائه وقدره وكفاح جاد ومتواصل ضد البلاء، وبين مجتمع على النقيض من ذلك كلّه.

فلتكن الأمّة الإسلامية ومجتمعاتها أكثر من على الأرض نجاحاً ممن ينجح في الامتحان.
والحمد لله ربّ العالمين.

عيسى أحمد قاسم
٢٢ مارس ٢٠٢٠

زر الذهاب إلى الأعلى