الحديث القرآني الإسبوعي – 23 مارس 2007م

حديث ليلة السبت (6) 04 ربيع الاول 1428هـ _ 23 مارس 2007م “جامع مدينة عيسى”

 

” معرفة النفس 2 “

 

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين والطاهرين.

 

أنتقل إلى الموضوع الذي كنت أتحدث فيه وهو النفس، نفسنا، النفس التي تمثلني، والنفس التي تمثلك، هل لها خطوط عريضة؟ يعني هل هي بسيطة أو مركبة؟ واضح جدا بلا حاجة إلى تعمق ولا فلسفة، الواحد منا يجد من نفسه فرقا عن الحيوان، يشترك مع الحيوان في المظاهر، في الممارسات الجسدية، الحيوانات تأكل نحن نأكل، تجوع وتأكل ونحن نجوع ونأكل، الحيوانات تتأثر بالطبيعة فتحتمي منها بملبس ومسكن، ونحن أيضا نتأثر بالطبيعة ونحتمي منها بملبس ومسكن، ملبسها يكون طبيعيا من ريش أو صوف أو وبر أو جلد سميك أو مادة واقية إلى آخره.

 

الحيوانات تخضع لقانون معين في التناسل، وتمتلك دافعا يخدم هذا القانون، نحن أيضا نخضع في التناسل لقانون معين، ونملك دافعا يضعنا على طريق هذا القانون، يساعد أو يعمل على تفعيل هذا القانون، نملك حواسا تلتقي بالصورة الحسية الخارجية، الحيوانات أيضا تمتلك حواسا تصل عن طريقها إلى الصورة الحسية الخارجية الجزئية. صورة المسجد عندي أداة أنقلها إلى ذهني، إلى نفسي. الحيوان أيضا عنده أداة تنقل له صورة المسجد إلى نفسه، طبعا هذه الأداة بعض الحيوانات، بعض الطيور تفوقنا فيها درجات ودرجات، الطير يرى الحب البسيطة، الدودة الصغيرة من مسافة كيلومترات.

 

أتذكر في كلام إذاعي أو كلام مكتوب في مجلة، أن البعوضة على بعد كيلومترات كبيرة لا أتذكرها تحديدا، أكثر من خمسين كيلومتر تشخص الدم الذي يناسبها، الفريسة التي تناسبها من الناس ولا تقصد أي أحد، على كل حال السمع، من الحيوانات من يسمع بدرجة أجود منا نحن، فالصورة الخارجية، التعامل مع العالم الخارجي عن طريق الحس موجود عند الحيوان وعندنا.

 

هذا خط من خطوط وجودنا، هذا معلم من معالم الذات الإنسانية، الذات البشرية أنها تعيش إدراكا حسيا، تعيش حبا حسيا، كرها حسيا، أنت تشتهي هذا المنظر، لا تشتهي ذلك النظر، ترتاح لذلك الصوت، لا ترتاح لهذا الصوت، فنعيش الإدراك الحسي، ونعيش المشاعر الحسية، وتقوم حياتنا على التعامل مع الحس، ونحمل في داخلنا دوافع حسية معروفة، مثلا دافع الأكل والشرب والجنس إلى آخره، هذه كلها دوافع حسية دافع التملك مثلا.

 

هل نحن هذا فقط؟ أأحد منا يرى نفسه هذا الشيء فقط؟ وأنه مجموعة مدارك وأحاسيس ومشاعر وحاجات ودوافع وضرورات حسية، ولا شيء آخر فوق ذلك، لا أظن أن أحد منا يخطأ نفسه فيلخصها في هذا الشيء فقط، نحن نفكر بإدراكات بعيدة، نرى إدراكات بعيدة عن إدراكات الحيوانات، نحن نفكر تفكيرا في أول الزمن، وقبل أول الزمن، نفكر في أول الكون، وقبل أول الكون، ونفكر على مدى هذه الحياة، وما بعد الحياة، هذا تفكير من نوع آخر لا يفكر الحيوان به بل تفكير غيبي، إلى جانب قدرتنا على الاستنباط، والانتقال من الجزئي إلى الكلي، ومن المقدمات للمعلومات، ثلاث معلومات، بتفكيري أضيف عليها أزيدها معلومة،عندي ثلاث معلومات، عندي قدرة تفكير توظف ثلاث المعلومات توظيفا خاصا، وتنظمها تنظيما خاصا، وتنتقل من ثلاث المعلومات إلى معلومة جديدة، معلومة رابعة، هذا البناء الفكري الفوقي، أن تبني طوابق من الفكر، هذه ملكة عند الإنسان وليست عند الحيوان.

 

أصبح لدي بعد الثاني هو البعد الفكري، الحيوان تنتقل له الصورة للذهن ولكن لا يعرف يتصرف فيها كثير، ولكن أنا أستفيد منها في بناء معرفة جديدة، فأنا عندي بعد حسي وعندي بعد فكري، بعد فكري غيبي في الحقيقة وبنائي، يعني يبني معرفة.

 

في مقابل الدوافع الحسية كدافع الأكل والشرب، ودافع الجنس مثلا، دافع التملك، موجود دوافع أخرى، موجود دوافع معنوية تتلخص في دافع الكمال، الحيوان يعيش في دائرة الاستجابة لضغط الضرورات، ذاته تضغط عليه من الداخل عن طريق الجوع، فيطلب المأكل، دوافعه المادية تضغط عليه من ناحية العطش، فيطلب الماء، تثور الغريزة الجنسية عنده فتضغط عليه فيطلب هذا الشيء.

 

أما الإنسان لو عاش هذا المستوى من الحياة، يعني هل ترى أن يفقد أساست إنسانيته، إلا في حالة العته الشديد، تجعله في شبه مستوى الحيوان أو لعلة أخرى، أما الإنسان السوي يتطلب أن يحترم، نفسه تطلب منه ألا يكون موضع اللوم والذم، وإنما موضع الثناء والمدح، نفسه لا ترضى له أن يكون مهانا في وسطه وإنما يكون كريما مقدرا، هذه دوافع غير ممكن أن تكون في الحيوان، هذه دوافع أخرى معنوية ترجع إلى حب الكمال، حب السمو، حب الرفعة. والإنسان مفطور على حب الكمال، الطفل الصغير لما يرى من أبيه الإعجاب بموقف معين، ترتاح نفسه، ويتنشط وينطلق في اتجاه تكرار هذا الفعل، لأنه حس بأن هذا الفعل مقدر عند الآخرين، إن هذا الفعل يعني رفعة، يعني كمالا، هذا التشجيع من الأب له يعني ثناء، يعني استحسانا، وهو مع ما هو يستحسن، مع ما هو جميل، مع ما هو كمال، فتجده ينطلق في طريق تكرار الأفعال التي تعجب الكبار وينتبهها الكبار.

 

نحن كم نعجب بالشجاع؟، أحبا في الموت؟ أم لأننا نرى الشجاعة كمالا؟ حب الشجاعة حب لشيء مادي، أو حب لشيء معنوي؟ نوع يقول أنه: قد لا أستطيع أن أكون كريما، نفسي أقل من ذلك، لكنها تمتدح الكرم، وتعجب بالكريم.

 

العلم، طلب العلم، حب الإطلاع، هذا دافع معنوي وليس دافعا ماديا، إعجابنا بالعلم والعلماء، إعجابنا بالناس، بالروحانيين، بالذين يتوفرون على شفافية عالية وضمير طاهر، وروح إيثار، شخصية أبي ذر فضلا عن المعصومين عليهم السلام تأسر الكثيرين، تشتاقها النفوس، هذه الجرأة في الحق، تمتلك نفس الإنسان وتنال إعجابه، هذه أمور معنوية، إذن أنا لست ماديا محضا، أنا وجود من مادة ومعنى داخلي، وقبل أن تتداخل التربية في شأني، هذا الكلام الذي نتكلمه عن الإنسان، لا نتحدث به عن إنسان عصر معين، أو إنسان بيئة معينة، أو إنسان مستوى ثقافي معين، الإنسان منذ ولد إلى حد الآن، وفي كل بقاع الأرض، وبمختلف مستوياته، يعيش حاجة المادة، حاجة الحس، ويعيش حاجة الروح والمعنى.

 

هذا التطلع في الإنسان إلى أن ينشد إلى المثال الأعلى، كل إنسان له مثل أعلى، الصغير يحاول أن يصل إلى مستوى والده، ما يعجبه من والده يحاول أن يصل إليه، وأنت تلميذ في الابتدائي ربما تمثلت شخصية من الشخصيات تحاول أن تلحق بها، وقد كبرت أيضا بدأ لديك شخصيات أخرى تراها نموذجا لك، وكبار الناس لهم قدواتهم، الخميني الكبير والسيد الصدر الكبير، الشيخ زين الدين مشايخنا فقهاؤنا رحمهم الله كلهم عمالقة، من ذكر ومن لم يذكر، من اشتهر ومن لم يشتهر، كثيرون هم العمالقة في هؤلاء، يعيشون الحاجة في داخلهم إلى القدوة، وينشدون إلى القدوة، يروون ظمأهم من خلال الإنشداد إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، إلى الحسين عليه السلام، إلى النبي صلى الله عليه وآله، يشعرون بالحاجة إلى التتلمذ على أولئك، النبي الأعظم صلى الله عليه وآله على كماله يشعر بأنه محتاج إلى التعلق بالكامل المطلق، و الإنشداد إليه، جوع في داخله، يعني ليس شيئا يأتي من الخارج، يشعر كما نشعر نحن، هذا يحتاج إلى يقظة روح، هذا يعتمد على مقدار يقظة الروح.

 

صاحب الدوافع الجنسية المتلملضة الشديدة، يختلف عن شخص في التسعينات من عمره في التفاعل مع هذا الدافع، في الشعور بالحاجة إلى هذا الأمر، خذ هذا المثال في الجانب الروحي، الذين استيقظت أرواحهم، وانبنت أرواحهم وتربوا تربية روحية عالية، يشعرون بجوع روحي لا يسده إلا الإنشداد إلى المثل الأعلى تبارك وتعالى، أحرمه من الأكل ولا تحرمه من الصلة بالله، لذلك يضحون، يسترخصون التضحية في سبيل الله، يضحون بكل ما عز على البشر، ويرونه رخيصا حفاظا على صلتهم بالله عز وجل، تتحول حياتهم إلى شقاء لحظة أن يحسوا بأنهم جاءت على أيديهم مخالفة لا تعد مخالفة في النظر العام بأمر الله عز وجل.

 

لحظة أن يحس أبو ذر بأنه فارق طريق الله، فأنه يشعر بأنه في جهنم، جهنم الروح، جهنم النقمة على الذات، استحقار الذات، دونية الذات، يرى نفسه حشرة ساقطة، وهذا عذاب، ولا يسترجع شعوره بالكرامة، ولا يستشعر شعوره بالقيمة، إلا من خلال أن يتوب التوبة عن ما لا نعتبره ذنبا، ويشعر بالاطمئنان بأن الله عز وجل رضي عنه.

 

أريد من هذا كله أن أقول، بأن لنا حاجات مادية وحاجات فكرية وحاجات روحية، وأن ذاتنا ليست حسا خالصا ولا معنى خالصا.

 

غفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

زر الذهاب إلى الأعلى