دروس من الفيروس المعلِّم قراءة في فكر آية الله قاسم

إعداد: سماحة الشيخ غازي السماك

المقدمة:

الكون مظهر من مظاهر الصفات الإلهية الجمالية والجلالية في أكبر مجرياته إلى أصغر ذراته.

فكل ذرة تلهج بالقيومية والحياة والعلم والحكمة والقدرة الإلهية، وفي الوقت ذاته تصرخ بضعف كل ما سوى الله عز وجل وعجزه مهما تباهى بملك زائل وسلطنة لا تدوم.

فايروس كورونا كما أنه قد أمات أجساد مئات الألوف، فقدأحيا قلوب الملايين، وأزال عنها غبار الغفلة وصدأ الغرور.

وفيما يلي نحلق في أجواء كلمات سطرتها أنامل عبد من عباده الصالحين الذين انقطعوا إليه بأعلى مراتب الانقطاع، فأنار الله عز وجل أبصار قلوبهم، وأجرى ينابيع الحكمة من قلوبهم على ألسنتهم، هو العبد الصالح آية الله قاسم الذي أبى إلا أن يرسخ التوحيد الإلهي في النفوس حتى تعلو كلمة [لا إله إلا الله ]خفاقة في أرجاء المعمورة.

الدرس الأول:

سرعة انتشار هذا الفايروس [ الذي لا يرى بالحواس المادية المجردة] واختراقه حدود القارات والدول فضلا عن المدن، مع عجز كل الترسانة العسكرية والمختبرات الطبية – بكل امكاناتها وقدراتها- عن إيقاف زحفه.

فالكل يرى آثار هذا الوباء بحواسه وكأنه يلمسه بيده ويراه رأي العين، من دون مجادلة في أصل وجوده على الرغم من أن هذا الفايروس لا يرى بعين البصر بل يدرك بعين البصيرة.

فالموجود لا ينحصر في المرئي والمدرك بالحواس، والعقل الفطن يصل إلى الموجود من خلال آثاره كما وصل المختصون بأن وراء هذا الوباء – بعد ملاحظة الآثار- هو فايروس كورونا.

يقول آية الله قاسم:

( كلُّ العالم يشهد مرضًا ينتشر انتشار النّار في الهشيم، ويشهد أنَّ الموت من هذا المرض يأخذ مأخذه في النَّاس كما يشهد عجزه لحدّ الآن عن إنهائه أو إيقاف زحفه في كلِّ مكان، وكلُّ العالم فرض عليه الوباء حالةً غير عاديّة من الطوارئ، وأربك سير حياة العالم كلِّه، وعطَّل الحركة بمقدارٍ واسعٍ.

هذا كلّه يشهده العالم، ويلمسه لمس اليد، ويراه رأي العين، ويشدّ إليه عقول النَّاس وقلوبهم، ولا يجادل في وجوده أحد.

لكن ما وراء هذا الوباء؟ وراءه فيروس كورونا كما بيَّن العلماء والأطباء المختصُّون اعتمادًا على خبرتهم العلميَّة، والنتائج التي أعطتهم إياها مختبراتهم العلميّة المختصة، وتعاملهم العلميّ مع المصابين وهم معتمَدون في مثل هذا الأمر.).

الدرس الثاني:

بعد توصل المختصين من العلماء بأن وراء هذا الوباء مخلوق ضئيل لا يرى بالعين الباصرة، أذعن كل العالم – صغارا كبارا رجالا نساءا- ولم ينكر ذلك حتى من أنكر وجود خالق لهذا الكون، بل أول من أذعن به [الصينيون] الذين -في مجملهم – لا يقرون برب الأرباب وخالق الأرض والسماء، إلا أنهم أذعنوا وقالوا بوجود هذا الفايروس الضئيل من خلال آثاره.

ومن أنكر [كورونا] رموه بالرجعية والتخلف والتحجر.

فكلمات المختصين تبعث في النفوس الاطمئنان وتقودهم للتسليم حتى فيما هو غيب عندهم.

يقول آية الله قاسم:

(كم هي نسبة هؤلاء العلماء والأطباء على حجمها الكبير من مجموع المليارات التي تسكن العالم اليوم؟ لا شكّ أنّها ضئيلة جدًا.

إذا كيف صدَّق بقية العالم كلّه بأنَّ ما وراء هذا البلاء المنتشر هو مخلوقٌ ضئيلٌ لا تناله حواسهم كلّها حتى لو وُجد من لم يصدِّق بذلك، لرمي بالرجعية، والتخلُّف والتحجُّر، وألف نعتٍ من هذه النعوت؟

‏‎كيف تمّ لبقية العالم من المليارات من النَّاس هذا التصديق؟

السبب الأول والأقوى هو الآثار التي لا تُنكر من انتشار الوباء، وإفرازاته.

‏‎هذا الوباء وآثاره هي التي دلّت الأكثرية العظمى من العالم على أنّ وراء الوباء القائم، وآثاره الكارثية فاعلاً ما، وإن لم يعرفوا له اسمًا ولم يعيِّنوا هم له اسمًا، ولم يحددوا هويته، وكيفية تأثيره.

‏‎وما أضافه العلماء هو وصفهم لهذا الفاعل وكما عرّفهم العلم من صفاته وقدرة فاعليته.).

الدرس الثالث:

المختصون اهتدوا إلى أن سبب هذا الوباء هو فايروس كورونا، من خلال خبرتهم العلمية المتراكمة.

وعامة الناس أذعنوا لهم من خلال الآثار التي يحكم العقل النظيف بأن لها مؤثر.

ولكن هناك من يقف على السبب الجزئي الذي هو مسير من قبل مسبب الأسباب، وهناك من يفتح آفاق العقل ليصل من هذا السبب الجزئي إلى مسبب الأسباب القادر القاهر الجبار العالم الحكيم خالق كل شيء.

حيث إن هذا الفايروس لا يملك لنفسه البقاء و الإستمرار، كما لم يملك لنفسه مرحلة الانتشار في أصل وجوده، فهو فايروس لم يكن فكان من رب الأكوان.

ومن لا يملك لنفسه أصل الوجود كيف يملك لها البقاء؟

يقول آية الله قاسم:

(هنا سؤالان: هل صحيحٌ أنَّ التعليل لهذا الوباء ينتهي إلى فيروس كرونا؟ أو أي سبب آخر مثله؟

أ‎و أنَّ الصحيح أنّ هذا السبب أو أي سبب آخر قبله منتهٍ إلى المسبِّب القادر على الخلق وإعطاء الحياة، وقدرة الفاعلية والتأثير، والعالم بكلِّ ذرّةٍ من ذرات كلّ مخلوق وخاصيّة من خواصِّه وشرط من شروط فاعليته، وهو الله الخالق العظيم؟!

‏‎السؤال: كيف قبِل العالم كلُّه دون العلماء الذين أوقفتهم التجارب ونتائج المختبر العلمي المتراكمة وكلّ الخبرة العلميّة المتجّمعة، والعالم من دون هؤلاء لم يُرِهِ واقع الوباء إلا آثاره أما سببه فلم تصل إليه مليارات البشر عن طريق الحسّ والمشاهدة، وإنما أوصلهم إلى التصديق بوجوده وقدرته الفتّاكة العقل الذي لا يقبل وجود شيء بلا سبب، إلا أن يكون ذلك الشيء موجودًا بذاته. وكلّ ما هو غير الوجود، وماهيته غير الوجود، وإنما هو ماهية متّصفة بالوجود، فهو محتاجٌ في وجوده لشيء يعطيه الوجود، ليكون متّصفًا به، بعد أن لم يكن له.

‏‎والعقلية المادية السطحية وعلى طريقتها الثابتة الغبيّة تقف في التعليل للبلاء القائم عند وجود فيروس كورونا الذي لم يوجد نفسه ابتداءً، ولا يملك وجود نفسه استمرارًا، وليست قدرته من خلقه، ولا أنّ فتكه بقرارٍ من عنده، ولم يضع مخططًا لما يتمّ بتأثيره.

‏‎وهو بواقعه الذاتيّ هذا، يعلن للنَّاس كلّهم أنَّ العقلية المادية التي ترجع المسبَّب الفقير إلى سببٍ فقيرٍ تمامًا مثله، ولا تنتهي بأيِّ سلسلة من المخلوقات ومنها سلسلة الكون كلّه بكلّ أسبابه ومسبباته مما كان بعد أن لم يكن، والتي فرض الفقر الذاتي لكلّ حلقاتها أن تنتظر لكي تخرج من عدمها إلى الوجود أن يأتيها الخلق من الغني بالوجود ذاتًا، والحياة ذاتًا، العلم ذاتًا، والقدرة ذاتاً، والفعّال لما يريد..

‏‎يعلن فيروس كورونا أنَّ هذه العقلية كافرة وجاحدة ومعاندة، أكثر منها قاصرة وغبيّة وفاقدة للرؤية البعيدة، ومضللة.

‏‎وهل يملك فيروس كورونا أن يتّخذ قرارًا بعدم الاستمرار في نشر الوباء الذي يسبِّبه، وهل يملك أن يرحم أو أن يخفف آثاره المدمِّرة؟

‏‎لا شيء من ذلك؛ لأنّه خاضعٌ للقوّة القاهرة، كما نحن مقهورون له، ولا يملك من نفسه أن ينفع أو يضرّ، وذلك على حدِّ ما نحن عليه.).

الدرس الرابع:

فايروس كورونا هو مجرد نداء من السماء لأهل الأرض، أن لا تتكبروا ولا تتجبروا، وأخضعوا لنظامي التكوين والتشريع الإلهيين، وادفعوا هذا البلاء برفع يد الضراعة والدعاء.

واعلموا أنه { لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ }•

يقول آية الله قاسم:

(إنَّ فيروس كورونا يلقي على العالم كلّه درسًا عملياً بليغًا بأن يذعنوا لجبروت الله، ويتعلَّقوا برحمته، ويخضعوا لما كتب عليهم من نظام التكوين، ومن نظام التشريع، ويقيموا كلّ حياتهم على ذلك، وينهي كلّ ذي طاغوتية طاغوتيته، وتطوى كلّيًّا صفحة العبادة لغير الله.

‏‎وإنَّ كلاً من المؤمن والكافر إنما يقاوم البلاء بما أعطاه الله من قدرة على مقاومته، ولا توسّل له إلى ذلك إلا بالأسباب التي وفّرها الله له.

‏‎ويضيف المؤمن إلى ما أُمر به من الوقاية والعلاج ما أمكن، أن يلجأ إلى مسبِّب الأسباب، ومالك الأسباب، والقاهر لكلِّ سببٍ.

‏‎وعلى صاحب العقلية الماديّة إن رأى أن يتضرّع إلى فيروس كورونا ليرفع الضرّ عن أهل الأرض بقدرته، ومنّه وإحسانه.

‏‎وإن قال قائلٌ بأنّه لا يلجأ إلى الفيروس وإنّما يرجع للعلماء، كان جوابه أنّ العالم فقير كلّ الفقر ذاتًا وصفةً فقر الفيروس، أو لا يرى هذا القائل أنَّ العلماء والأطباء المختصّين الذين يعالجون المرض يفتك بهم الفيروس كما يفتك بغيرهم؟! وإن كان الله لا يضيع أجر المحسنين.

‏‎هدى الله الجميع إلى الصواب والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

زر الذهاب إلى الأعلى