خطبة الجمعة (547) 9 جمادى الأولى 1434 هـ ـ 22 مارس 2013م

مواضيع الخطبة:

الخطبة الأولى: بين السنّة والبدعة

الخطبة الثانية: أحوار أم صراع؟

الخطبة الأولى

الحمد لله القديمِ الذي لم يسبقْه عدم ولا وجود، الباقي الذي لا يلحقه عدم، ولا بقاءَ لشيءٍ إلّا به، المتصرِّف كيف يشاء، ولا شيءَ يُوقف تصرُّفه، الحكيمِ الذي لا يفعل إلّا ما فيه حِكمة، العدلِ الذي لا جورَ أبدًا في فِعله وحُكمه. حيٌّ لا يموت، قدير لا يَعيا، ولا يفوت قدرتُه شيء، عليمٌ لا يَمسّ علمه جهل.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله تبيَّنوا الغايةَ، واستعلِموا الطريقَ، واستوضِحوا النَّهجَ، وتعرَّفوا على الرّاية، وأعطوا حياتكم لما به تحيون، وتَرقَون، وتكملون وتسعَدُون. فلا عقل ينصح بغير هذا، ولا فطرة تسوقُ لخيار سواه، ولا مصلحةَ فيما كان على خلافه.
الغايةُ معرفة الله ونيل رضاه، وفي ذلك كلُّ الأمنِ والطُّمأنينة والسّكينة والرّضا، وكلُّ خير العبد وحمايته من السّوء، والطّريقُ عبادتُه، والنّهجُ دينه، والرَّايةُ راية رسله وأوليائه. والحياة بدون هذا ظُلُمَات وتِيهٌ وضلال، وعاقبتها خسار بلا فلاح.
فلا عُدولَ عن الغاية، ولا انحدارَ ولا تخلُّف عن الطريق، ولا تفيّؤ بغير الراية، ولا هدر للحياة، ولا انتهاء للهاوية.
هذا منطق الحقّ والعدل، ومنطق الإحسان للنفسِ والرَّحمة بها.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرّحيم. اللهم إنّا نعوذ بك من هوى النفس، وضلال الرّأي، وزيغ القلب، ورداءة العمل، وسوء العاقبة، وعذاب الدّنيا وعذاب الآخرة.
أمّا بعد أيّها الإخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات فإلى حديث بعنوان:

بين السّنة والبدعة:

والسنةُ لغة هي الطريقة، والسِّيرةُ حميدةً كانت أو ذميمة. أمّا اصطلاحًا فقولُ المعصوم وفعله وتقريره. ومن باب التوسُّع في الاستعمال يُقصد منها في العنوان كل ما هو من الإسلام عقيدةً أو شريعةً كتابًا أو سنَّةً بالمعنى الاصطلاحي المعروف.
والبدعة في اللغة ما هو جديد لا سابقة له من فكر أو قول أو فعل. واصطلاحًا ما خالف الإسلام في شيء منه عقيدةً أو شريعة، ولم يدخل في شيءٍ من أحكامها الخمسة: الوجوب، والحرمة، والاستحباب، والكراهة، والإباحة بالمعنى الخاص وهو ما كان فعله وتركه على حدٍّ سواء(1).
وحتّى يتحقّق عنوان البدعة للرَّأي والفعل لابُدَّ من مخالفته لما كان منصوصًا عليه بخصوصه في الإسلام أو لعموماته ومطلقاته(2). وكلّ ما لم يتناوله حكمُ الوجوب أو الحرمة أو الاستحباب والكراهة فهو داخل تحت عموم الإباحة بالمعنى الخاص، وكلُّ داخل تحت هذا الحكم بمقتضى القاعدة العامة له خارج عن البِدعة.
نعم لو أُعطي المباح بالمعنى الخاص عنوانَ المستحبّ، أو عُدَّ عبادةً فذلك من التشريع المحرّم والابتداع المنهيّ عنه.
وللإسلام موقف واضح رافض للبدعة وهو ما ينسجم مع حصر الحقّ في وضع منهج الحياة، والتشريع في الله سبحانه، وقصر حقِّ الطاعة عليه في نظر العقل، وحسب النصوص الدينية.
ومن البيِّن جدًّا أنَّ الابتداع بمعناه الاصطلاحي والمتمثل في الزّيادة في الدين أو النقيصة منه مما قد يُقدِم عليه قادم نقضٌ لهذا الحقّ، وتمرُّدٌ عليه، وخروج على الأُلوهية والربوبية والمالكيّة الحقّة مما هو ثابت لله وحده، ولا شريكَ له في شيء من ذلك. وهو عبثٌ بالدّين وهَدْمٌ له، وإسقاط لحرمته، وإفساد لبنائه.
وبالنظر إلى المعنى اللُّغوي للبدعة الداخل فيه كلّ جديد لا سابق له من مثله من قول أو فكر أو فعل يدخل فيها ما هو حَسَنٌ، وما هو قبيح، وتقبل الانقسام إلى هذين القِسمين.
أمّا هي بمعناها الاصطلاحيّ الذي يعني مخالفة الفكر أو القول أو الفعل للإسلام فلا تكون إلّا قبيحة، ولا تقبل الانقسام إلى ما هو حسن وما هو قبيح.
وهناك أمور تختلف عليها المذاهب الإسلامية فتدخل في السنّة وتكون مقبولة في هذا المذهب بينما تدخل في البِدعة وتكون مرفوضة في المذهب الآخر.
والشيء الذي لا يمكن قبوله على كلِّ المستويات أن يُعترف بأنَّ الأمر لم يُشرَّع فعلًا ولا تركًا كتابًا ولا سنّة فيتبرّع مُتبرّع بتشريع إيجابه أو استحبابه أو حرمته، أو أن يكون قد نُصَّ على استحبابه أو إباحته فيأتي التشريع ممن ليس له حقُّ التشريع بتحريمه. وهذا قد يحصل.
وفيما عدا ذلك مما تختلف المذاهب على كونه سُنّة أو بدعة فلا يرد النقاش في عدّه كذلك، وإنما من حقِّ المناقشة العلمية أن تنصبّ على صِحّة العمليّة الاستدلالية على هذا الحكم ومبادئها وحُجَّية هذه المبادئ، وحجّية المصادر التي اعتمدتها، وحقّ التشريع لمن صدرت عنه.
ولا يختلف ذلك في دائرة المذهب الواحد أو الأكثر.
ولا شُبهة ولا تردُّد في تحريم البدعة شرعًا بعد أن يكون فيها تشويه الإسلام، وهدمه، والتعدّي السّافر على حقّ التشريع لله وحده.
والنصوص الإسلامية في هذا التحريم وافرة، وإجماع الأمَّة ثابت.
قرآنًا يقول الكتاب الكريم:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ}(3)، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}(4)، {وَقَالُواْ هَـذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ، وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ، قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}(5).
ومن السنّة في تحريم البدعة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”أيّها النّاس إنّه لا نبيّ بعدي، ولا سنّة بعد سنّتي، فمن ادَّعَي بعد ذلك فدعواه وبدعته في النار فاقتلوه(6)، ومن اتّبعه فإنّهم في النّار”(7).
وعنه صلّى الله عليه وآله:”من مشى إلى صاحب بدعة لِيُوقّره فقد أعان على هدم الإسلام”(8)، “من تبسّم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم الإسلام”(9).
وما أكثر الأحاديث المعصوميّة التي تنذر بالبدع والمبتدعين في الدِّين، والأخرى التي تُمثّل إعدادًا مُلفِتًا للنظر في مواجهة هذه الظاهرة الفتّاكة.
بشأن الإنذار بظهور البدع نقرأ عن الرسول صلّى الله عليه وآله:”يَابنَ مَسعودٍ، إنَّهُ سَيَأتي مِن بَعدي رِجالٌ يُطفِئونَ السُّنَّةَ ويُحيونَ البِدعَةَ”(10).
“سَيَجيءُ في آخِرِ الزَّمانِ أقوامٌ يَكونُ وُجوهُهُم وُجوهَ الآدَمِيّينَ وقُلوبُهُم قُلوبَ الشَّياطينِ… السُّنَّةُ فيهِم بِدعَةٌ وَالبِدعَةٌ فيهِم سُنَّةٌ”(11).
“سَيَكونُ في اُمَّتي دَجّالونَ كَذّابونَ، يُحَدِّثونَكُم بِبِدَعٍ مِنَ الحَديثِ بِما لَم تَسمَعوا أنتُم ولا آباؤُكُم، فَإِيّاكُم وإيّاهُم لا يَفتِنونَكُم”(12).
وجاءت الشكوى من أمير المؤمنين عليه السلام من بروز ظاهرة البِدع في وقت مبكّر من صدر الإسلام في ما يظهر من الخطبة 154 من نهج البلاغة من هذا القول:”قد خاضوا بحار الفتن، وأخذوا بالبدع دون السُّنن وأرز المؤمنون، ونطق الضالون المكذّبون”(13) وأرز المؤمنون: انقبضوا وانزوت كلمتهم.
وجاء الإنذار من الإمام عليه السلام بتوالي البدع بعده.
فعنه عليه السلام:”فوالذي نفس علي بيده لا تزال هذه الأمة بعد قتل الحسين ابني في ضلال وظلم وعسف وجور واختلاف في الدين وتغيير وتبديل لما أنزل الله في كتابه، وإظهار البدع، وإبطال السنن….”(14).
هذا وللحديث تكملة. والحمد لله رب العالمين.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطف محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من الآخذين بالدين غير مبدّلين ولا مغيّرين، ومن أتباع خاتم المرسلين لا عازفين ولا منحرفين، واجعلنا في المنأى البعيد، والمأمن المكين من كلّ بِدعة وغواية وضلالة يا رحمان يا رحيم يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(15). 

الخطبة الثانية

الحمد لله العليم بفقرِ العباد، الخبير بحاجاتهم، المطَّلع على أسرارهم، وما يُصلحهم ويفسدهم، وتقلُّبات أحوالهم، وما تنتهي إليه مصائرهم، وتؤول إليه أمورهم، وتكون عليه عواقبهم، وهو اللطيف الرَّحيم الرؤوف بهم، لا يأمرهم إلّا بما فيه لهم هدى وخير ورشاد، ولا ينهاهم إلا عمّا يُوقعهم في حَيرة وعمى وشرٍّ وضلال
. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله ما جاء الإنسان كاملًا عالمًا لا يجهل، مُهتديًا لا يضل، مصيبًا لا يخطئ. الإنسان يخطئ ويصيب، وكثيرًا ما يرى ما هو خير له شرًّا، وما هو شرّ له خيرًا، وقد يعرف الخيرَ ولكن لا يعرف طريقه، وقد يعرف الشرّ فيوقعه الخطأ في ما يؤدّي إليه.
وتجارب الخطأ والصواب في حياة الأفراد والجماعات والأمم لا تخفى. ومدارس الحياة ومناهجها من وضع الإنسان في القديم والحديث في تساقُطٍ دائم وتعرٍّ عن وهن وخطأ فاضح بصورة ليس عليها ستار.
لا مصونَ من الخطأ، ولا بريء من القصور إلَّا منهجُ حياةٍ من وضع الله، ودينٌ متنزّل من رحمته.
فأقيموا حياتَكم عبادَ الله كلَّها على هُدى دينه، والتزموا أمرَه ونهيَه، ولا تعدِلوا بشريعته شريعة، ولا بِحُكمه حكمًا، واتقوا الله حقّ التقوى تفلحوا، وما دون ذلك فإنّما هو الضلال والخسار.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم عرِّفنا الحقَّ، ولا تجعل لنا عدولًا عنه أبدًا، وعرِّفنا الباطل ولا تجعل لنا اقترابًا منه أبدًا. أقبل بنا ربّنا على الحقّ راضين راغبين مشتاقين، وانأ بنا عن الباطل نافرين منه مبغضين، واجعل حياتنا كلّها في طلب رضاك إنّك الرَّحيم الرؤوف الجواد الكريم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصّديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ وسلِّم على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أمّا بعد أيها الأحبّة في الله فالحديث بعنوان:

أحوار أم صراع؟

ما دعت إليه السلطةُ المعارضةَ كان باسم الحوار، أمَّا ما كشف عنه التخطيطُ والبرمجةُ، وما يعيشه الطرف الرسمي والموالاة من جهة، والمعارضة من جهة أخرى تحت العنوان نفسه فواقعه الصراع.
والفرق جليٌّ بين الإثنين. التفاوض وهو عنوانٌ ترفضه السُّلطةُ لعدم أهليةٍ في الشعب -كما ترى- أو الحوار تبادلٌ في الرأي، وتعاطٍ على مستوى الكلمة في جوٍّ من الاحترام بحثًا عمّا هو أقرب إلى الحقّ والعدل والصلاح، وأقدر على تحقيق الحلّ الناجح للمشكل الفكريّ أو العمليّ، والخروج من الحيرة والتردُّد والاضطراب إلى الوضوح والاستقرار في الرؤية والموقف، ومن الخطأ إلى الصّواب.
أمّا أن تكون مجالدة ومنازلة شرسة على مستوى الكلمة والرّأي بين حقٍّ وباطل، وخطأ وصواب ويقف كلُّ طرف عند رأيه وموقفه، وحقِّه أو باطله ليكون هو المنتصر وهو الظّاهر فذلك هو الصِّراع البعيدُ كلَّ البُعد عن حقيقة التفاوض والحوار.
أمّا أن يكون عنوانان متقابلان عناد لحقٍّ وعناد لباطل، مكابرة لخطأ ومكابرة لصواب، تخندق شديد لضارٍّ، وتخندق شديد لنافع فهي حربٌ وإن كانت من حرب الكلام، ولكن كثيرًا ما تتسبّب حروب الكلام في كوارث لا طاقة للأوطان والشعوب والأمم بها.
وهنا خشيةٌ جديَّة مما يجري من صراع بين الجهتين تحت قبّة ما يُسمّى بالحوار من أن يسيء إلى الوطن إساءة بالغة، ويزيد في درجة الالتهاب، ويُفاقم من الأزمة بدل أن يؤدي إلى إنهائها أو تخفيفها بما يؤدي إليه من مستوى الإثارة والشَّحن والاحتقان، ويُفعِّله من تأجيج روح الفرقة والتمزُّق والبغضاء والعداوة.
المواقف داخل ما يُسمّى بالحوار تزداد في درجة التشنُّج، اللغة تشتدّ قساوة، تباعُد الثِّقة في توسّع، الاتهامات تتصاعد، التخندق يقوى. وكلُّ ذلك يُغذِّي الساحة العامة للوطن بما يُلهب أجواءها ويقضي على فرص اللقاء والحلّ، ويُباعد بين الوطن وبين شاطئ الأمان الذي يحتاجه كلُّه وكلّ من فيه، وما فيه من شيء يجب الحفاظ عليه.
وهل أُريد لدعوة الحوار غير ظاهرها، وأن يتحوّل واقعها إلى صراع مدمّر مرير؟ حتى لو لم يُرَدْ ذلك إلَّا أن تخطيط الحوار، وهندسة الحوار، وبرمجة الحوار لا تملك إلّا أن تُؤديَ إلى ذلك، ولا كفاءة لها، ولا قدرة على الحل.
ثم إنّه أين الخطأ، وأين الصَّواب، أين النفع وأين الضّرر، أين ما يُفضي إلى الحل وأين ما يُعطّله، ويقطع الطريق عليه؟ عند هذا الطّرف أو ذاك؟
عند من يقول بأنَّ الشعب مصدر السُّلطات ثم لا يعترف له بحقِّ الاستفتاء؟
عند من يعلم أنَّ الحكم هو الطرف الثاني الأصل في الحوار، وهو الذي يملك أن يُنفّذ مخرجاته ثم يرفض رفضًا نهائيًا قاطعًا أن يكون الحكم طرفا فيه ويلتزم صريحًا بالتوقيع على مخرجاته مقدِّمة لتنفيذها؟
من يُمثّل الحكم في الحوار من ناحية عمليّة بكلِّ شدّةٍ وصرامة وينكر تمام الإنكار أنَّ الحكم مُمثّل في الحوار حتى لا تلزمه نتائجُه؟
عند من يعرف أنَّ الأزمة سياسية وأنها منبع الأزمات الأُخرى، وأنها هي التي حرّكت الشارع ولا زالت تُحرّكه رغم ما تُكلّفه من أثمان مرهقة ثم يختصر مطالب الشّعب بكلِّ بساطة في تحسين الرواتب، ومسألة الإسكان وربما على الطريقة التي لا تبتعد كثيرًا عما عليه واقعها من تمييز سيء، وتسويف وتيئيس؟
لئن كان هذا هو الحقّ، وهو النافع، وهو الصّواب فما أشدّ تبدُّل الموازين، وانقلابها، وقد صحّ للحقِّ بهذا أن يُسمّى بالباطل، وللباطل أن يُسمّى بالحقِّ بكلِّ صدق ويقين.
من الظُّلم البيِّن الفاحش للوطن وأهله أن يسعى ساعٍ لتخريب الحوار، ووضع العصا في عجلته تبعيدًا للحلّ، وإضرارًا بالوطن، وأشدّ ظلمًا لهذه الأرض وإنسانها وحاضرها ومستقبلها أن يُستهدف للحوار أن يكون لإقرار الظلم وتكريسه، وإضفاء الشّرعية عليه، وإبقاء الوضع السياسيّ على فساده وإفرازاته القاتلة على ما هي من سوء وقتامة.
ننادي بالإبقاء على الحوار، ولكن بأن يكون للإصلاح وإنقاذ الوضع، والخروج بالوطن من الأزمة، وإنصاف الشعب، والاعتراف بحقوقه.
ولا يُرى وجه لعرقلة الحوار عند المقدِّمة الأولى من مقدِّماته بسبب الاختلاف على قضيتين من المفترض أن تكونا من أوضح القضايا وأقربها إلى الاتفاق، هما أن يُمثَّل الحكم في الحوار، وأن تكون الموافقة على نتائجه النهائية عن طريق الاستفتاء الشعبي لأن الطرفين هما المعنيان أصلًا بالحوار، ولأن الشعب هو المرجع الأول والمصدرُ الأساس لكل السلطات.

ولماذا رفض الاستفتاء؟
ألأنّه ليس من حقّ الشعب؟ كيف لا يكون من حقّه وهو الأصل ومصدر السلطات كما يقول الميثاق؟
ألأنّه لا يُراد إعطاؤه أصل حقّه؟ في هذا خروج على كلِّ مقاييس الحق والعدل. وفي ذلك تأصيل لأن يُمنع كلِّ ذي حقّ حقّه.
ألأنَّ التخطيط أن يخرج الحوارُ بنتائج لا تتواءم مع المرحلة فيُعلمَ بعدم رضا الشعب؟(16) الحل على هذا سيكون بصفته القاصرة حلًّا مفروضًا على الشعب مرفوضًا منه استُفتي أم لم يُستفتَ. ثم إنَّ الجمعيات المعارضة والتي تشترك في الحوار لن تسمح لنفسها أن تُعطيَ موافقتها على نتائج تعرف مُسبّقًا أنها مرفوضة من الشّعب.
فما جدوى الحوار عند ذلك؟
الصّحيح لخير الوطن، وخير أهله أن يأخذ الحوار مجراه بلا عرقلات متعمَّدة كالوقوف في وجه تمثيل الحكم، والاستفتاء الشعبيّ، وأن ينتهيَ إلى النتائج المرضية شعبيًّا وعلى حدِّ استحقاقات المرحلة لتُريح كلَّ الأطراف من حالة الاستنزاف والخسائر المستمرّة المتصاعدة على أكثر من صعيد، وتَكْفَلَ للوطن أمنه واستقراره وتقدّمه.
والجميع يعلم أنّه إذا صَعُب على السّلطة أن تعترفَ للشعب بحقوقه، وتستجيب لمطالبه لما اعتادت عليه من أَثَرَةٍ وتفرّدٍ وفرض رأيٍ فإنّه لأصعب على الشعب من ذلك في ظلّ وعيه، وبعد جسيم عطائه وبذله وتضحياته، وما تكبّده من خسائر فادحة أن يرجع بلا تحقيق مطالبه، وأن يقتنعَ بما لا يرى فيه الخروج من مأساته، وحلَّ مشكلته، وإنهاء معاناته، وبما لا يؤمِّن مستقبله، ويحفظ مكانته.
من يرضى بالحلول الشكلية، والترضيات الزهيدة؟ العلماء، الرّموز السياسيّة، الأطبّاء، المربّون، العمّال، الطلّاب، الرّجال، النّساء، الشّارع بمختلف فئاته، أو فئة من فئاته؟! الكلُّ يصرّ على الحلّ الجدّي المنقِذ من الأزمة بحقّ، وعلى استرداد الحقوق، والتمتُّع بالحرية والعزّة والكرامة، والكل يستذوق المحنة على مرارتها من أجل هذا الهدف(17).
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنّا نسألك خير ما نرجو وخير ما لا نرجو، ونعوذ بك من شرّ ما نحذر ومن شرّ ما لا نحذر.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرنا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزّ وكرامة وأمن برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (18).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الإباحة بالمعنى الخاص في مقابل الإباحة بالمعنى العام التي هي مقابل للإلزام: الاستحباب، الكراهة، الإباحة بالمعنى الخاص. وإنما ذُكر هنا الإباحة بإضافة المعنى الخاص للتفريق بينها وبين الإباحة بالمعنى العام. (اللجنة الفنية).
2 – فما دخل تحت عامٍّ من عمومات الإسلام أو مطلق من مطلقاته فلا يصدق عليه عنوان البدعة.
3 – 32/ الزمر.
4 – 21/ الأنعام.
5 – 138-140/ الأنعام.
6 – وقتله راجع إلى الحاكم الشرعي. 7 – من لا يحضره الفقيه ج4 ص163 ط2.
8 – كنز العمال ج1 ص222.
9 – مستدرك الوسائل ج12 ص322 ط2.
10 – موسوعة معارف الكتاب والسنة ج7 ص245 ط1.
11 – المصدر نفسه.
12 – المصدر نفسه ص246.
13 – نهج البلاعة ج2 ص43 ط1.
14 – فضائل أمير المؤمنين (ع) لابن عقدة الكوفي ص68.
15 – سورة العصر.
16 – هذا الذي يريد أن لا يُستفتى الشعب في أمر نفسه هل لأنه عنده تصميم على أن تأتي نتائج الحوار غير مرضية للشعب، وبذلك يخاف من تصويت الشعب واستفتائه؟
17 – هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
18 – 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى