خطبة الجمعة (530) 8 محرم 1434هـ ـ 23 نوفمبر 2012م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: الإخاء في الدين

الخطبة الثانية: يوم كربلاء…حقيقة المواجهة

الخطبة الأولى

الحمد لله الأوّل غير المسبوق بعدم ولا وجود، الآخر الذي تمتنع عليه النهايات والحدود، القدير الذي لا مُنقطَعَ لقدرته، العليم الذي لا غايةَ لعلمه، العظيم الذي لا مُنتهى لعظمته، الجليل الذي يفوق تصوُّرَ أيَّ مخلوق جلاله.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله إنَّ خيرَ الدُّنيا لا يبقى، وشرَّها لا يدوم، فلا ينبغي لعاقل أن يشغلَه خيرُها عن خير دارٍ لا ينقطع منها خير، أو أن يصرفه شرّها عن شرّ دار يطول، وقد يبقى شرّها أبدًا.
وما خير الدّنيا بجنب خير الآخرة بشيء، وما شرّها بجنب شرّ الآخرة إلاّ قليل.
فَليرخصْ عندنا خيرُ الدُّنيا من أجل الآخرة، ولنصبر على شرّها إذا كان لابُدَّ من الصبر توقّيًا لشرِّ الآخرة.
ولا يكون ذلك إلا بملازمة تقوى الله وطاعته، والطّاعةُ والتقوى إنما هما بمقدار معرفته.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتُب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهم ارزقنا ألبابًا ذكيَّةً، وقلوبًا زكيّةً، ونفوسًا مهديَّةً، وأرواحًا عليّةً، واجعل لنا من تقواك ما يُقرِّبنا إليك، ويُدنينا من رحمتك، ويرفع منزلتنا عندك، وتُبوّئنا به المقامَ السَّنيَّ مع أوليائك يا كريم، يا رحمان، يا رحيم.
أمّا بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى متابعة للحديث في موضوع:

الإخاء في الدين:

تشتدُّ الأُخوّة الإيمانيّة كلّما علا وتقاربَ مستوى الإيمان بين المشتركين في علاقة الإيمان. وكلّما تعمّقت هذه الأُخوّة، وترسّخت واشتدّت كلّما ظَهَرَ أثرُها في مدى المحبّة والتعاطف والانسجام بين أطرافها.
ويزداد حقُّ المؤمن على إخوانه المؤمنين بزيادة إيمانه وصِدْقه وخلوصه ونزاهته.
ويكفي في ترتُّب عددٍ من الحقوق والآثار الكريمة الاتّصاف الظّاهري ولو بأوّل درجة من الدرجات في سُلّم الإيمان الصاعد. وذلك بأن يشهد الشّخص بالشهادتين من دون أن يقوم دليل على ارتداده.
من هو المعنيُّ بالأخوّة في قوله سبحانه:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(1). 1. المخاطَبون بالقيام بالإصلاح في الآية مخاطَبون حسب علمهم الظاهري بإيمان المقتتلين، وما هم عليه من إيمانٍ ظاهر.
2. وهؤلاء المقتتلون مؤمنون حسبما يصفهم قوله سبحانه الذي قبل هذه الآية:{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا…}(2).
وهؤلاء قد يكون منهم من هو ضعيف الإيمان وقويّ الإيمان، وصادق الإيمان في داخله، وكاذب الإيمان، وحديث الإيمان، وقديم الإيمان، والمتّقي والفاسق، والظّالم والمظلوم، ومن هو على إيمان صافٍ، ومن كان إيمانُه دون ذلك بدرجات(3).
ورغم كلِّ ذلك فَهُمْ حسب ظاهرهم محكوم عليهم بأنّهم مؤمنون.
والطائفتان معًا بحسب ما عليه ظاهرهم الإيمانيّ بمستوياته المختلفة حتّى في ما يدلّ عليه الظّاهر، وبواقع ما هم عليه في الباطن الذي لا يعلمه إلاّ الله، ومن أَعْلَمه الله بغيب ذلك إخوة للمأمورين بالصُّلح بينهما. وذلك يعني أُخوّةَ الأطراف الثلاثة بالأُخوّة الإيمانيّة التي يترتب عليها واجب الصُّلح وإنهاء القتال.
وبهذا تثبت أُخوّة إيمانيّة عامّة تشمل كلَّ هذه المستويات ما دام الإسلام الظاهريّ محفوظًا.
وهذه الأُخوّة تترتّب عليها حرمة النفس والمال، والنّصيحة، والنُّصرة بمعنى دفع الظُّلم عن المظلوم، ونهي الظالم عن ظلمه، وردّ السلام، وغير ذلك من الحقوق، وقد تقدّمت في الخطبة السابقة أحاديث بهذا الشأن.
ولا أدري عن الوجه الشرعي، ومن أين يُؤتى به على يد من يُخرج السّنيّ أو الشّيعيّ من هذه الأُخوّة، ليستبيح من أحدهما دمًا أو عِرضًا أو مالاً، ويسعى مصرًّا ليقسم المجتمع المسلم إلى قسمين عليهِما أن يدخلا في حرب استنزافية دائمة تُضعِف الطّرفين، وتُسيء للإسلام وتُشوِّهه، وتُمكّن منه ومن أمّته كلّ أعدائهما؟!
السنّة والشيعة تجمعها مساحة كبيرة من الفهم للإسلام وأحكامه وأخلاقه ورؤاه، وبينهما اختلاف. ورغم اختلافِهما فإنّ ظلّ الأُخوّة الإسلاميّة والإيمانيّة العامّة يظلّلهما معًا، ويُثبت لكلّ منهما حقوقًا على الآخر وحرُمات لا يجوز من أحدهما مسُّها وفي مقدّمتها حرمة النفس والعرض والمال دون أن تقتصر على ذلك.
مَنْ حاول أن يجد دليلًا واحدًا من الإسلام على أن يُخرج سنيّاً أو شيعيًّا من دائرة الإسلام الظاهريّ العاصم لدم المسلم وماله وعِرضه فإنما يحاول المستحيل.
واستباحتُه منه لذلك، وإسقاطه لحقوق الأُخوّة الإسلامية العامّة عنه إنّما هو تنكُّرٌ لمقتضى الإسلام.
ويأتي سؤال في سياق الحديث عن الأُخوّة الإيمانيّة مفاده ما مقام هذه الأُخوّة من الأُخوَّات الأخرى كالأُخوّة النسبية التي هي أقواها؟
قد لا يُرضي الأخَ النسبيّ إلاّ أن يَخرُجَ أخوه على مصلحة الإسلام والمسلمين فما المقدّم؟
وقد يخرج الأخُ في حربٍ ضدَّ الإسلام، ويكون أخوه في الجبهة الأخرى ويلتقيان وجهًا لوجه حال المحاربة فما هو الموقف؟
حُكْمُ الإسلام هنا واضح وهو تقديم أُخوّة الإيمان على أخوّة النسب. فلا مسَّ بمصلحة الإسلام والمسلمين لرضا الأخ، ولابُدَّ من الانتصار للإسلام في المواجهة الحربية المذكورة ولو اقتضى ذلك قتل الأخ أخاه.
اللهم صلّ وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نعوذ بك من كلّ فتنة مضِلّة، وما يُزِلّ القدم عن صراطك، ويستوجب غضبك، ويحرم من رحمتك.
اللهم اهدِنا هُدى المتّقين، وخُذْ بيدنا للتي هي أقوم، وجنِّبنا من كلّ سوء يا رحمان، يا رحيم، يا كريم، يا ذا المنّ العظيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}(4). 

الخطبة الثانية

الحمد لله ملاذ اللائذين، ومعاذ العائذين، وجار المستجيرين، مفرّج همّ المهمومين، وكرب المكروبين، منقذ الهالكين، ناصر المستضعفين. غالبٌ لا يُغلب، قاهرٌ لا يُقهر، قديرٌ لا قدرة إلاّ من قدرته، قويٌّ لا قوّة لأحدٍ إلا من عطاء قوّته. ليس لقدرته حدّ، ولا لقوّته مُنتهى، فعّالٌ لما يشاء، ولا يفعل ما يشاء غيرُه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله لا أحقَّ من دين الله، ولا أوضح من منهجه، ولا آنس من طريقه، ولا أربحَ من طاعته.
ومن عَرَفَ الحقّ أخذ به، وكفاه أُنسًا عن كثرة السَّالكين، ولم يجدْ وحشةً من قلّة مَنْ يجمعهم معه الصّراط، وما أحدث له ذلك تردّدًا في أمره.
فلنطلب زيادةَ المعرفة بقدر الدين، وقيمة ما نحن عليه من الحقِّ، وما هدانا الله إليه من منهج، ودلّنا عليه من ملّة فإنَّ في ذلك ما يُثبّت الأقدام، ويُعطي الطُمأنينة، ويورث السّكينة، ويُهوّن الصعاب، ويُقوّي التقوى، ويُكسِب الرّضا.
وما أربح حياةً تقوم على التّقوى، وما أهنأ نفسًا ملؤها الطمأنينة والرّضا.
ربَّنا إليك المفرّ، وعليك المعوّل، ومنك الفرج، ومن عندك المخرج، ففرّّج لنا ربّنا وللمؤمنين والمسلمين، وأخرجنا جميعًا من كلِّ سيّئاتنا وآثامنا وضيقنا وشدّتنا، وكلّ ما ألمّ بنا من سوء، واجعل نصرك لهذه الأمّة قريبًا، وإعزازك لها ظاهرًا بيّنًا يا من هو على كلّ شيء قدير، وبالإجابة حقيق جدير.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصَّادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصِّدّيقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن عليّ الزّكي، والحسين بن عليّ الشّهيد، وعليّ بن الحسين زين العابدين، ومحمّد بن عليٍّ الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعليّ بن موسى الرِّضا، ومحمد بن عليّ الجواد، وعليّ بن محمد الهادي، والحسن بن عليّ العسكري، ومحمّد بن الحسن المهديّ المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا قريبًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيّها الإخوة والأخوات في الله فإلى هذا العنوان:

يوم كربلاء… حقيقةُ المواجهة:

كانت يومَ كربلاء مواجهة… كانت جبهتان… كانت قيادتان… كان جيشان لكن ما هي روحُ المواجهة… ما حقيقتها؟!
الجبهتان… الجيشان منضويان تحت اسم الإسلام، ولو انتصر الحسين عليه السلام ما اختلف تعامله مع هذا الجيش عن تعامل أبيه عليه السلام مع مَنْ حاربه من الخارجين على خلافته من مسلمين، فلا غنائمَ ولا استرقاق(5).
فأين روحُ المواجهة بين الجبهتين في كربلاء، وحقيقتها؟
لا شكَّ في أنّ الإسلام العامَّ الظاهريّ الذي يستوجب حرمةَ النفس والمال والعِرض، وتترتّب عليه الحقوق الثابتة لكلّ مسلم على أخيه المسلم تكفي فيه الشهادتان مع عدم ما يُوجب الحكم بالارتداد لكن مع هذا القَدَر المشترك بين المسلمين قد يكون الفارق بين مسلم ومسلم آخر كبيرًا جدًّا، والمسافة واسعة إلى حدٍّ بعيد بعيد بين مسلم وآخر فيما هما عليه من إيمانِ الداخل، والمستوى الفكري والشعوري والسلوكي في قضية الالتزام بالإسلام، فقد يكون ما بين مسلم وآخر في هذا كلّه مسافةَ ما بين السّماء والأرض(6).
وفي كربلاء تواجه جيشان أحدهما بقيادة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله صلّى الله عليه وآله وأحد المعنيّين بآية التطهير، وآية المباهلة، وآية المودّة، وحديث السّفينة، وحديث الثقلين، وسيّدَي شباب أهل الجنّة(7)، والآخر بقيادة عمر بن سعد الذي عاش حيرة نفسية كما يقول الشّعر المنقول عنه أو المعبِّر عن حاله بين قتل الحسين عليه السلام والتوفُّر على الولاية على بلاد الرّيّ، أو عدم التورُّط بدمه الزكي فِرارًا من النّار لكن مع خسارة تلك الولاية(8).
وعمر بن سعد هو مأمور يزيد في هذه الحرب… يزيد الذي لم تُبقِ سيرته العملية سُتْرَةً تُواري فِسقه وتحلُّله ولم يتوانَ التاريخ وأقلام الكتّاب والعلماء من أهل المذاهب الإسلامية المختلفة عن بيان ذلك(9)، وإن كانت سياسة هذه الأيام قد تذهب إلى وجوب الاقتداء به وتقديسه.
والمواجهة بين هذين الجيشين مواجهة بين إسلامٍ سماويّ وإسلام من صناعة الأرض باسم السّماء… بين إسلامٍ إلاهيٍّ وإسلامٍ يغلب عليه هوى البشر… بين عبادة الله عزّ وجلّ وعبادة الطّاغوت…. بين حاكميّة الخالق وحاكمية المخلوق… بين الدّخول في طاعة الله تبارك وتعالى، والدّخول في طاعة سلاطين الأرض دون الله… بين الإرادة الإنسانية المنشدّة إلى الله العليِّ العظيم والشّهوة الحيوانيّة الحبيسة في الطّين… بين أجمل ما يحمِلُه المضمون الإنساني من فِكرٍ نيّر، وشعور طاهر، وسموّ هدف، وغاية بعيدة نبيلة، وقِيَمٍ رفيعة، وخلق كريم، وروح عطاء وإيثار، وعِشق عميق للجمال الحقّ الأبديّ، وخُلُقٍ عال، وبين أقبح ما في إنسان من شُحّ وضيق وأثرة وجهل وانغلاق وغرور وسَفَهٍ وظلم وسقوط وانكبابٍ على شهوات الأرض، وحقد وتعطّش للدّماء وتلذّذ بعذابات المستضعفين، وروح تسلُّق وانتهاز وسرقة لمتاعب الآخرين وشهية ونَهَمٍ في الأكل من لحوم الناس وامتصاص دمائهم(10).
وهذه المواجهة قائمةٌ في كلّ نفسٍ(11) ما لم يعصِمْها عاصم من الله سبحانه، وفي كلِّ مجتمع، وكلِّ زمان، ومكان. وهي منطلق كلِّ مواجهة من مواجهات الخارج في صورها ومستوياتها المختلفة، وفي كلّ ميدان من ميادينها.
وقد جسَّد كلٌّ من الجبهتين في كربلاء نوع رؤاه وأهدافِه، وقِيَمه وأخلاقه، ومنهجه وأطروحته في الحياة، والصّورةِ الإسلامية الأصيلة أو المكذوبة على الإسلام، وموقفه من قيمة الإنسان، والأُمّة، وحاكمية الله وحاكمية الطاغوت، وغايةِ الوجود والحياة، والنّظر إلى حقّانية الدين وحرمته تجسيدًا تامًّا كأكمل ما يكون في الجانب المشرق الوضّاء اللئلاء الكريم من المشهد، وأقبح ما يكون في الجانب الأسود الكالح الكئيب الخسيس السّاقط منه(12).
وهو تجسيد شارك فيه نوعُ الرّموز من الطرفين، ونوع الكلمة، ونوع الموقف، ونوع الهدف، ونصوص القرآن والسنّة، ومستوى التضحية، والتطلُّعات القريبة أو البعيدة للمقاتلين(13).
هذه المواجهة بما هي مجسَّدة تجسيدًا نموذجيًّا جدًّا في طرفيها
ولأن قائد جبهة الحقّ فيها هو من لا يشكُّ مسلم في شرعية موقفه وحرصه على الإسلام والمسلمين، واحترامه لإنسانيّة الإنسان، وعدم استخفافه بدم مسلم، وأنّه لا تُحرّكه الأهواء، ولا تملكه الانفعالات، ولا يُفرّط في جنب الله لابد أن تحيا(14).
ولأن الأمّة محتاجة دائمًا إلى وعيها لابد أن تحيا. ولأن محاولات طمسها بدواعي تجهيل الأمّة مستمرّة لابد أن تحيا.
ولأنّ الأمرَ الشرعيَّ بإحيائها ثابت لابد أن تُحيا.
ولأنّها تُقدّم وعيًا في صالح الإسلام والأمّة كلّها لابد أن تُحيا.
ولأنّها في جانبها الحقّ نقيةٌ كلَّ النقاء، خالصة لله سبحانه، لابد أن تُحيا.
ثورته عليه السَّلام متعالية كلَّ التعالي عن الأَشَر والبَطَر والفساد وروح الغوغاء والطيش والانفعال. كلُّها نُبْلٌ ورشاد وإصلاح وبناء وهداية وإعمار في عبودية خالصة لله سبحانه، وترفُّعٍ عن الأهداف الدنيوية الرَّخيصة، وتنافسات الصغار. وكلّ تنافس يقف بأصحابه دون مرضاة الله هو من تنافس الصغار، وتنافس السّاقطين.
وما استُشهد الإمام الحسين عليه السلام ليموت، ويُنسى، ويُهمل وينتهي أو يُهمّش. إنما استُشهد ليبقى، ويُذكر، ويكون محلَّ نظر الأجيال(15)، ومحطّ أملها، ويدوم، ويأخذ موقعه في الصَّدارة…
يقود هذه الأمّة على طريق ربّها، ويأخُذُ بها إلى هدايات السماء، ومنهجها المنقذ، ويُصحِّحُ إرادتها، ويُنقذُها من محاولات الوئد، ويُثيرُ في داخلها شوقَ الحرية، والاعتزاز بالكرامة، ويُخلِّصها من الصّبر السّلبيّ على الظلم والتخلّف وأسر الذل، ومن هزيمة النفس في طريق الحق، ومن استحواذها على ما للغير بالباطل، ويحميها من الاستجابة للمغالطة في الفهم، والتّضليل، ومن تسلُّل أيَّ فهمٍ مزوّر للإسلام إلى عقليّتها أو نفسيّتها وواقعها العمليّ.
ولقد جرّبت دول وممالك أن تُميت ذكر الحسين عليه السلام، واستعملت في سبيل ذلك أسبابَ القمع المختلفة، وباءت كلُّ محاولاتها بالفشل.
وكما أنَّ كل المحاولات لإخفاء صوت الإسلام، وإطفاء نور الله في الأرض فاشلة فكذلك هي المحاولات التي تستهدف ذِكْرَ الحسين عليه السلام، وقضية الحسين، ونور وهدى الحسين، وثورة الحسين، وصرخة الحسين عليه السلام(16).
أبدًا أبدًا أبدًا لن يُنسى الحسين، لن يُنسى الحسين عليه السلام.
يمكن أن يُنسى الحسين عليه السلام في فرضٍ واحد، في حالة واحدة حالة أن يكون الإسلام نسيًّا منسيًّا وهذا مستحيل بحكم الفطرة وبحكم وعد الله سبحانه.
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(17).
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(18).
والشيء المؤسف الذي لابُدَّ من شجبه واستنكاره من جميع المسلمين وأهل الضّمائر والعقلاء في هذا الوطن ما جرى من استهدافٍ واضح وإساءةٍ صارخة لإحياء هذا الموسم العاشورائيّ في البحرين، وتضييقٍ فوق ما كان للحريّة الدينيّة، واستفزازٍ لمشاعر الضمير المسلم، ومعاداةٍ من قِبَل الجهة الرسميَّة للمراسم الحسينية وكلمات منقولة عن الحسين عليه السلام وشعاراته وما يذكّر بمأساته، أو يمثّل مظهرًا من مظاهر التحزّن على مصرعه الشريف ومصرع الكرام من أهل بيته وأنصاره كَعَلَمٍ أسود يُنصب هنا أو هناك ولو في واجهة مأتم.
استُدعي خطباء، ونادبون، ومنشدون، ورؤساء مآتم، وجرى التحقيق والمحاسبة لشعارٍ من شعارات الإمام الحسين عليه السلام المنقولة عنه، لآيةٍ قرآنية تلاها خطيب، لعلم أسود تكفّل شخص بنصبه ووصل الأمر إلى حدّ الاعتقال كما في حالة سماحة السيد كامل الهاشمي.
هذه لغةٌ عملية أصرحُ من اللغة اللفظية في الحَجْر على الحقّ الديني، على الحرية الدينية، على حقٍّ مقرّر على مستوى الميثاق، وحتى على مستوى الدستور المختلف عليه، على حقّ أثبته التاريخ العملي الطويل الشاخص على هذه الأرض.
هذه مواجهة صريحة لشعيرة إحياء عاشوراء التي هي محلّ اعتقادٍ مذهبيٍّ ثابت لمكوِّن رئيس من أبناء هذا الشعب.
بدأت المواجهة الشّرسة لإحياء هذا الموسم قبل أن تظهر مواكب العزاء إلى الشّارع، وفي بدايات الموسم. وكل هذه المواجهة ولا جديد هذا العام في إحياء عاشوراء، ولا خروج فيه على المألوف في الموضوع، ولا استفزاز من قِبَل الشعب.
أهذا عنف أو ليس بعنف؟! أهذا إرهاب أو ليس بإرهاب؟! ثمَّ هو عنف دولة أو شعب؟ إرهاب دولة أو شعب؟!
ألا يحتاج هذا الإرهاب والعنف إلى الاستنكار والشّجب والإدانة من كلِّ مواطن غيور، ومنصف يُؤمن بالحقّ والعدل، ومن كلّ دولة تُنادي بحقّ الحرية الدينية واحترام الإنسان؟! ثمَّ ألا يُقنع هذا التعسُّف في التعامل مع مسألة الحقوق والحرية الدينية كلَّ دولة من الدول التي تنادي بالحرية، وتنادي بحق الشعوب، وبكل مؤسسة من هذه المؤسسات بضرورة الإصلاح الجدّي والعاجل للوضع السياسي في البحرين؟!
وعن الإحياء مرة ثانية صار على الشّعب في نظر الناحية الرسميّة أن لابُدَّ من التفكير في إحياء مقبول غير مزعج لها، وحتّى يكون كذلك حسبما تُشير إليه الموضوعات التي ذُكِر أنَّ التحقيق جرى بشأنها أن يُتحدّث عن حسين آخر غير الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام في إيمانه بالله وحاكميّته وأُلوهيته وحده، وفي إبائه وعزّته وفدائيّته وتضحيته، وعن شعارات على خلاف شعارات ثورته، ولابُدَّ أن يبحث عن قرآن آخر كذلك غير هذا القرآن المعروف عند كلِّ المسلمين والذي لا قرآنَ لنا غيره… عن قرآن خالٍ من مثل قوله تبارك وتعالى:{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ…}(19) ومن كلِّ آية أخرى يُمكن أن يُتهم فيها الخطيب أو غيره بأنه يقصد بها التعريض بالسّياسة القائمة، ويسقطها عليها.
فكيف يجوز للمؤمنين أن يكذبوا على الحسين عليه السلام، وأن يستبدلوا عن الحسين العظيم السبط بحسين مكذوب، وأن يستبدلوا عن القرآن قرآنًا آخر من عند أنفسهم، أو يتخلّوا عن تلاوة كتاب ربِّهم العزيز الحكيم؟!
وعليَّ أنْ أُؤكّد هنا أنّ كلّ هذه الأمور المستفِزّة لا رَبْطَ لها مطلقًا بالعلاقة بين الطائفتين الكريمتين في هذا البلد وما يجبُ أن تكونَ عليه من احترام متبادل، ورعاية لحقِّ المسلم على أخيه المسلم، وتعاون بينهما في سبيل الله، وصالح المجتمع والإنسانيّة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم أحينا ما أحييتنا على دينك، وطريق أنبيائك ورسلك وأئمّة الهدى من أوصياء خاتم رسلك، واجعلنا من صفِّ أوليائك والصالحين من عبادك، ولا تُزلّ لنا قدمًا عن الطريق.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (20).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 10/ الحجرات.
2 – 9/ الحجرات.
فالطائفتان المقتتلتان وصفتهما الآية بأنّهم مؤمنون. 3 – ولو دخل الإسلام قبل ساعتين أو ساعة واحدة وبفهمه الأوّلي للإسلام فقد أطلقت عليه الآية الكريمة بأنّه مؤمن.
4 – سورة الكوثر.
5 – لو انتصر الحسين عليه السلام لما استرقّ أحدًا من جيش يزيد، ولما أخذ غنائم.
6 – هذا مسلم وهذا مسلم، هذا يجب حفظ دمه، وهذا يجب حفظ دمه، لكن مسلم في مستوى الأرض، ومسلم آخر في إيمانه وفي سلوكه الملتزم بالإسلام في مستوى السماء.
7 – وأحاديث كُثْر جاءت في أهل البيت عليهم السلام.
8 – ثمّ مالت به النفس إلى أن يقتل الحسين عليه السلام ليربح ولاية الري، مقبلا على النار، ذاك قائد جيش إلى الجنة وهذا قائد جيش إلى النار.
9 – مستوى شخصية يزيد وتردّي هذا المستوى لم يُكتب بأقلام أهل مذهب دون آخر.
10 – هنا حقيقة المواجهة.
11 – في نفسي ونفسك.
12 – هنا تجسيد كامل للخِسّة، وهناك تجسيد كامل للرِّفعة، للمبدئية.
13 – هذا يقول: إملأ ركابي فضة أو ذهبا. وذاك يرتمي في أحضان الموت من أجل الله سبحانه.
14 – هتاف جموع المصلين (لبيك يا حسين).
15 – ذلك لحاجة الحياة إلى أن يبقى الحسين وأن يُذكر.
16 – هتاف جموع المصلين (أبد والله ما ننسى حسيناه).
إن ننسى الحسين فقد نسينا الإسلام، إن نسينا الحسين فقد نسينا عزّتنا، إن نسينا الحسين عليه السلام فقد نسينا قيمة حريتنا.. لا ننسى الحسين أبدًا.
هتاف جموع المصلين (بالروح بالدم نفديك يا حسين).
17 – 32/ التوبة.
18 – 8، 9/ الصف.
19 – 113/ هود.
20 – 90/ النحل.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى