خطبة الجمعة (451) 9 جمادى الثاني 1432هـ – 13 مايو 2011م

مواضيع الخطبة:

الخطبة الأولى: ختم النبوة والرسالة

الخطبة الثانية: لا استكبار ولا استضعاف – فروض تلاثة: العلاقة بين الشعوب وحكوماتها.

الخطبة الأولى

الحمد لله ذي الكرم الذي لا ينقضي، والعطاءِ الذي لا ينتهي، والجودِ الذي لا يُحدُّ. لا كَرَمَ إلا بكرمه، ولا عطاءَ إلا من عطائه، ولا جودَ إلاَّ من جهته، ولا خيرَ على الإطلاق إلا من فيضه. بعطائه تقوم الكائنات ما كَبُر منها وما صغر، وعليه يعتمد العباد من أطاع ومن عصى، ومن آمن وأنكر، إذ لا معطي سواه، ولا يملك أحد شيئاً غيره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالقُ السموات والأرض، ربّ العالمين، له الملك والملكوت، وهو العلي العظيم. وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله بلّغ رسالاته، وأوضح منهجه، ودعا إليه، وكان القدوة الصادقة على طريقه.
علينا عباد الله بتقوى الله بموجب حقِّ ربوبيّته. ومن أراد لنفسه صلاحاً، وعاقبةَ خير، فلا طريقَ له لما أراد إلاّ التقوى؛ إذ لا مردّ لأحدٍ من دون الله، ولا مفرّ من الرّجوع إليه، ولا بديل لجوده وكرمه، ولا مهرب من ملكه، ولا حول ولا قوّة إلا به، ولا منقذ من أخذه، وتقوى كلِّ امرئ عائدُها عليه فلا حاجةَ لله عزّ وجلّ في تقوى المتّقين، ولا ينقصه شيء لو فَجَرَ من على الأرض جميعاً، ولا يذهب جزاء أحد لغير صاحبه في عدل الله.
اللهم صلّ وسلّم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اغفر لوالدينا وأولادنا وأرحامنا وأزواجنا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
اللهم اجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات، ومن نحبّ، ومن يعنينا أمره من عارفيك وأهل تقواك ومحبّتك وخشيتك، والمشتغلين بطاعتك وذكرك وحمدك وشكرك، والمخلصين في عبادتك، والفائزين برضوانك فإنك أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فإلى عنوان:
ختم النبوّة والرسالة:
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ…}(1).
النبي محمد صلَّى الله عليه وآله خاتم النبيين والمرسلين، والإسلام في الصورة التي جاء بها الرسول صلّى الله عليه وآله خاتم الأديان والرسالات الإلهية، ولا نبيَّ بعد نبي الإسلام صلَّى الله عليه وآله، ولا رسالةَ بعد رسالته، ولا وحيَ بعد وفاته.
وهذه العقيدة ضرورة من ضرورات الإسلام التي لا تردّد فيها ولا غموض.
وبعد أن ثبتت نبوة الرسول صلَّى الله عليه وآله، وسماويّة القرآن الكريم يكون إخبارهما القاطع بختم النبوّة مُبطِلاً لأيّ دعوى بتجدّد النبوّة والرسالة، ونافياً عقلاً لمجيء أيّ رسول جديد، ومُلزِماً بتكذيب دعواه، ولو أقام الدليل لأنَّ ما عن الله حقّاً لا يمكن تناقضه، ولا يجوز عليه التهافت.
ولكن قد يُطرح هذا السؤال: لماذا ختم النبوة والرسالة؟
والجواب يتطلب طرح سؤال سابق على هذا السؤال: وهو لماذا تعدُّد الرسالة وتجددها أصلاً؟
قد يُحمل ما يتطلب تعدُّد الرُّسل وتجدّد الرسالة على أكثر من أمر:
1. عدم تلاؤم وسائل الاتصال مع وصول دعوة الرسول الواحد إلى كلّ المستهدفين للرّسالة، وبلوغهم مؤدَّاها(2).
وعدم توفُّر العنصر البشري المؤهّل لحمل الرسالة إلى الآفاق المختلفة بصورة دقيقة بدرجة كافية.
وقد ساعد بناء الدولة الإسلامية المبكّرة على التغلب على هذه المشكلة بدرجة ملحوظة، وبلغ الإسلام إلى آفاق بعيدة حتّى في حياة الرسول صلّى الله عليه وآله، وما اعترى عملية التبليغ من عيوب بعد ذلك ليس راجعاً إلى نقص في تخطيط الإسلام، وإنما لما حدث من انحرافات عن خطّه.
ومن جهة أخرى قد انتهى أمر المواصلات والاتصالات في حياة أهل الأرض اليوم إلى حدّ أن يعبر عن المجتمع البشري بالقرية الكونية الواحدة.
2. الداعي الثاني لتعدد الرسل والرسالات هو ما يحصل من تحريف للرسالة السابقة، وتغيير في الكتاب السماوي الذي يعد مصدرها الأمين، وضمانة الاستمرار لصدقها ونقاوتها، وهو تحريف ينال النص والمفهوم معاً.
والقرآن محفوظ عن التحريف {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}( ). وكما هو محفوظ نصّاً، قد ضمن الله عز وجل حفظه مضموناً ومفهوماً ومُراداً كذلك عن طريق الثِّقْل الأصغر كما يفيده حديث الثقلين المتواتر والذي يفيد بأنَّ الأئمة المعصومين عليهم السلام لا يأتي منهم فَهْمٌ يخالف ما عليه مراد الكتاب، ولا موقفٌ مباين لما يدلّ عليه. فلا تقصير من جهة الرِّسالة وضمانات حفظها، وبقاء نقائها وأصالتها(4).
3.الداعي الثالث لتعدد الرسل والرسالات التطور الذي تشهده الحياة البشرية، وتعقُّد مشكلاتها، والتجدّد النوعي لهذه المشكلات، وتزايدها مما يتطلب تلبية تشريعية علمية عادلة لا تتوفّر عليها الأرض بإمكاناتها.
ويتوفر الإسلام على قواعد عامّةٍ في كلّ مجالات التشريع، ومنها قواعد استثنائية لمواجهة الحوادث المستجدّة في تكثّرها وتنوّعها بالصّورة التي لا زال الإسلام يُقدِّم لهذه الحوادث على تنوّعها وتعقّدِها حلولاً قادرة على يد مجتهديه من خلال النظريات الفقهية العامة، والتطبيقات الجزئية للفِقه الموروث.
فكيف لو كان المعصوم عليه السلام هو الذي يقود حركة الحياة، ويُقدِّم لها الحلول الفقهية فعلاً أو أُتيح لسلسلة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أن تستمر إلى المدّة الطبيعية التي تكفي لترشيد الأمة في كل مجالاتها، وإثرائها في كلّ الحقول التي تحتاجها حركة الحياة؟!
والمعصوم يمتاز بأمرين: أولهما أنه يحيط بالإسلام الذي تنزّل على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وعلمه بصورة تامّة، والآخر الإلهامات الخاصّة المفاضة عليه من قِبَل الله تبارك وتعالى(5).
على أننا لكي نتيقّن بأن ختم النبوة في محلِّه، وأنه مقتضى الحكمة، وإنما جاء لانتفاء الحاجة إلى تجدّد الأنبياء والرسل والرسالات يكفينا بأن يقوم الدليل القطعي على هذا الختم فعلاً(6)، وقد قام الدليل الذي لا ريب فيه على ذلك، وليس فوق كون ذلك من الضّرورة الواضحة لدى المسلمين كلّهم من دليل(7)، والآية الكريمة المتقدّمة دالّة على ذلك بوضوح.
وبعد أن يثبت بأنَّ الله سبحانه خَتَمَ مسيرة الأنبياء والنبوات والرسل والرسالات بنبيّه محمد صلّى الله عليه وآله والإسلام المتنزّل عليه يُستكشف حقّاً أنَّ البشرية لم تعد محتاجة إلاَّ إلى الإبقاء على الوحي الواصل إليها واحتفاظه بأصالته ونقاوته، وتسليمها الأمرَ إلى من ائتمنه الله عزّ وجلّ على وحيه، وكلّفه إقامةَ الأمر في عباده، والأخذَ بهم على طريق منهجه(8).
وليس القول بختم النبوّة والرسالة يعني شيئاً من الاستغناء عن هدى السماء، وصحّة الانفصال عن مسيرة الوحي، وكون الإنسان قد وصل إلى حدّ من النضج وسعة العلم والإحاطة بالأمور بحيث يمكنه أن يقود حركة الحياة بنجاح تامّ مستقِلاً عن عطاء الدين(9).
ختم النبوة إنما يعني أن لو استقام النّاس على طريق الدين الكامل الذي وصلهم ، وتوفّروا على الفهم الصحيح الواقعي لمراداته وأحكامه، بمتابعة من أوكل الله إليه أمر قيادة العباد، وهم الأئمة الذين ارتضاهم الله أمناءَ على وحيه وعباده، ولو انتهج الناس نهجهم، وأخذوا بأمرهم ونهيهم، ومكّنوا لهم لكفاهم ذلك، ولم يعانوا من نقص ولا خلل في عقيدة ولا شريعة.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم جنّبنا وكلّ المؤمنين والمؤمنات التلف، والسرف، والسفه، والوهن في الخير، والزهد في الدين، والولع بالدنيا، وخذلان الحقّ، ومتابعة الباطل، وقِنا ربّنا من سوء الحال، وقبح المصير. اللهم ارحم شهداءنا وشهداء الإسلام في كلّ مكان ومن مات على الإيمان، واشف مرضانا، وفك قيد الأسرى والمسجونين من المؤمنين والمؤمنات.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(10). 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي علا كلَّ شيء، ولا شيء يعلو علوَّه، ولا يدنُوْ منه، وكلُّ الأشياء محتاجة إليه، ولا حاجةَ منه في شيء، وخيرها وشرّها بيده، ولا يملك منها شيءٌ لشيء خيراً ولا شرّا، فلا رجاءَ إلا فيه، ولا خوفَ إلاّ منه، ولا استغاثة إلاّ به، ولا منقِذ إلا هو، وإليه تصير الأمور.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا عديل، ولا خلف لقوله ولا تبديل، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، أيّده ببيِّناته، وختم برسالته رسالاته، وجَعَله رحمةً للعالمين، وهدى للمتّقين، وقدوة للسّالكين، ونجاةً للمطيعين، صلَّى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين.
أوصيكم عباد الله ونفسي المتقاعِسة عن الخير بتقوى الله، والجِدّ في طاعته، والسعي الحثيث في سبيل مرضاته، ونيل مثوبته وكرامته، والتنائي عن غضبه وعقوبته، فلا مثوبةَ كمثوبة الله، ولا فضلَ كفضله، ولا عُقوبةَ كعقوبة الله، ولا أليمَ عذابٍ كأليم عذابه. وما وعد الله به المحسنين فلا خُلْف لوعده، وما توعّد به المسيئين فلا مؤخِّر له من دونه.
اللهم لا مستمسك لنا غيرُ رحمتك فارحمنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين يا أرحم الرّاحمين، ولا حامي ولا دافع ولا مانع لنا من دونك فاحمنا وكلّ أوليائك يا وليّ المؤمنين، اللهم امنع أيّ سوء أن يصل إلى المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات يا عزيز يا حكيم.
اللهم يا هادي من لا هادي له اهدنا طريقك القويم، وصراطك المستقيم، يا مُكرم أكرمنا بطاعتك، ومتابعة الحقِّ المبين، ومناصرة الدّين وعبادك الصالحين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم. اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقربين، وأيّده بروح القدس ياربَّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماءَ الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً مقيما.
أما بعد أيها الأعزاء فإلى عنوانين:br> لا استكبار ولا استضعاف:
{… فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ}(11)، {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً، إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}(12).
تنتشر في المجتمع العالمي حالة الاستكبار، والاستضعاف، وهي ليست ظاهرةً وليدةً في وقت قريب. إنها ظاهرةٌ مرضية صاحبت تاريخ الإنسان في كلِّ عصوره، وبقيت ملازمةً له(13).
وما يدفع لها أساساً هو حبُّ الظهور والسّيطرة، وما يغري بها اختلاف ميزان القوى في الناس، وما تعمل عليه روح السّيطرة من أجل التمكين لحالة التفوّق الخارجي والاستعباد والإذلال للآخر هو المزيد من الاستضعاف للمستهدَف، وتجفيف منابع قوّته وممانعته حتى يتم إحكام السيطرة، وضمانُ استمرارها.
يعمل طالب السّيطرة على الغير واستعباده على أن يزيد من مستوى قوّة نفسه، وتجميع كلِّ ما استطاع من أسبابها بيده، وأن يسدَّ كلّ منابع القوّة التي تصبّ في صالح مستهدفِه، ومنع مناشئها. وتتجه عملية استضعافه له في كلِّ الأبعاد من سياسيٍّ، واقتصاديٍّ، واجتماعيٍّ، وثقافيّ، وأمنيّ، ونفسيّ، ودينيّ، وصحيّ وأيّ بُعْدٍ آخر يمكن أن يكون سبباً للنهوض والقوّة، والقدرة على الممانعة.
وفي هذا عمل تخريبيّ لأكبر مشروع لتقدُّم الحياة والإصلاح، وأعظم موجودٍ على ظهر الأرض وهو الإنسان. وهو عمل سيء خبيث بالغ الخطورة، ومضادّ لإرادة الله عزّ وجلّ، ودورِ الخلافة والإصلاح والإعمار الذي كُلّف به هذا المخلوق المعدّ لذلك.
ولا تنشأ ظاهرة الاستكبار والاستضعاف في ظلّ عقيدة التوحيد وحضورها في نفس الإنسان لأنَّ في استكبار العبد تنكّراً واضحاً لعبوديته، وتمرُّداً على حقّ الله في الخضوع له، وإرادته في المساواة بين عبيده في واقع العبوديّة، وإذعانهم لها.
والاستسلام للاستضعاف مُنافٍ هو كذلك لقضيّة التوحيد لأنَّ فيه تشجيعاً على دعوى الربوبيّة الكاذبة من المستكبِر واستجابةً لرغبة الإشراك بالله سبحانه، ومنافاةً لإخلاص العبوديّة له، وعدم الذُّلّ إلا بين يديه(14).
فالإسلام وهو عقيدة التوحيد الشّامل الخالص يُحرّم الاستكبار، والاستضعاف من أجله، والقبول بحالة الاستضعاف والبقاءَ في موقع الذُّل عن اختيار، ويفرض على المسلم أن يعمل جاهداً على التخلُّص من موقع الضعف الذي يسبب له الذّلَ وفقدَ الإرادة، وتعطيلها، وسلبَ الخيار الحرّ في الحياة، والوقوعَ في قهر الغير، وتحت إرادته، والاضطرارَ إلى التنازل عن شيءٍ من دينه. كما يدفع الإسلام أبناءَه إلى طلب القوّة للإصلاح، وخير النّاس والحياة والمجتمعات، وصلاح الدنيا والآخرة، ودفع الشرّ، ودرء العدوان.
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ…}(15).
فالقوّة المأمور به في الآية الكريمة ليست استكبارية ولا عدوانية، وإنما هي قوّة رادعة لعدوِّ الله، وبطشه الظّالم( )، وعدوانيّته الغاشمة. وعدو الله لا يعرف معروفاً، ولا يتوقّف عن منكر، ولا دينَ له، ولا ضمير، ولا حدود، ولا قيم، ولا أخلاق ولا رحمة، فإرهابه إرهابٌ للشرّ، وقطعٌ للطريق على الظلم والبغي والعدوان.
قوّةٌ للخير لا للشر، والإصلاح لا الإفساد، والأمن لا الخوف، والعدل لا الظلم، وللفضيلة لا الرذيلة. إنها لصالح كلّ الشعوب والأمم، ولقطع دابر الطّغاة والمستكبرين في الأرض.
إنها ليست بديلاً عن العدل والرأفة والرحمة والإحسان والحقّ، وإنما هي لدعم ذلك كلّه.
والإرهاب الذي تتحدّث عنه الآية الكريمة ليس إرهاباً على الأرض(17)، ولا تبنّياً لسياسة العنف أصلاً مكان الحوار، وإنما هو بناءٌ للذات، وتملكٌ لأسباب القوة، وإقامة واقع متين على الأرض يهابه المعتدون، والطامعون في النيل من الدين والحق وعزّة الأمة وكرامتها، ويمنع مغامراتهم في مواجهتها، ويُعطّل عندهم لغة الحرب.
فروض ثلاثة:
كثيراً ما تتعرّض علاقة الحكومات بشعوبها إلى الاهتزاز والمشاكل المعقّدة، وذلك ليس من فراغ، وإنما في الأكثر لأسباب موضوعية موجبة تتمثل في الأغلب في التوجُّهات السياسية غير العادلة، والتعملُق والتمدد في الثروة والقوّة على حساب الشعوب، وامتصاص جهودها، وسوء التعامل والقوانين الجائرة التي تنتصر للقوي على الضعيف، وعلى المظلوم للظالم.
والعلاقة بين الشعوب وحكوماتها لها فروض ثلاثة:-
1) سياسة القمع والشدّة والعصا الغليظة، وما يدعمها من قوانين تعسفية جائرة، وهي سياسة لابد لها من توليد ردود فعل ساخطة مبكِّرة أو متأخِّرة وقد تنتهي إلى تفجّرات خطيرة كما شهده أو يشهده عددٌ من الساحات العربية هذه الأيام إذ الشّعور بالذّات لا يموت، وصوت الحرية في الكثيرين لا يقهر.
2) سياسة المراوغة والوعود الحالمة الكاذبة والتسويفات المستمرة، والتسويقات الزائفة، وهذه سياسة إن خدعت بعض الوقت فإنها تسحب الثِّقة في الأخير، وتنتهي إلى نفس النتيجة التي تنتهي إليها السياسة الأولى.
3) سياسة الإصلاح والصِّدْق والإخلاص للشعب ومصالحه، واحترام رأيه ووجهة نظره، والعمل على رفع مستواه، وتوحيد صفوفه وتلاحمه. وهي سياسةٌ تُعطي تلاحماً بين الشّعب، وتلاحماً بينه وبين حكومته، وتوفّر كلّ الجهود لتصبّ في صالح الوطن كلّه وإثرائه وارتقائه، وتقدُّمه، وتخلق حالةً من الأمن المتبادل، وأن يكون كلّ واحد من الطرفين حارساً للآخر، محافِظاً على أمنه الذي هو من أمن نفسه، وعلى مصلحتِه التي لا تنفصل عن مصلحته.
والحكومات في الأغلب لا يقع اختيارها على هذا الفرض، وتضيّعُ الطريق، وتُدخل الأوطانَ في المتاعب والمتاهات، وتُذلّ نفسها بالحاجة إلى الاستقواء بالخارج، وطلب الأمن والدّعم منه ضدّ شعوبها. وبذلك ترتكب ظُلماً للشعوب، وخطأ في حقّ نفسها، ولكنّ المعتبر قليل.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تترك نفوسنا لهواها، ولا قلوبنا لزيغها، ولا للشّيطان أن يعبث بنا، ويملك علينا أمرنا، فنضلّ عن طريقك وننخدع بتزيينه، ونتبع وساوسه، ونستجيب لهواجسه، ونصير عندئذ إلى أكبر خسارة، وننقلب إلى أسوأ مصير.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(18).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- 40/ الأحزاب.
2- الرسول واحد في ظل المواصلات والاتصالات المتخلّفة لا يمكن أن تبلغ دعوته كل أقطار .
3- 9/ الحجر.
4- وهذا مما ينفي الحاجة إلى رسول جديد، ورسالة جديدة.
5- مما يُغني عن تنزّل كتاب جدي، ومجيء رسالة جديدة، وبعث رسول جديد.
6- فإذا قام الدليل القطعيّ على أن رسالة الإسلام هي الخاتمة، وكان هذا الدليل يدلّ على أن هذا الختم بإرادة الله سبحانه وتعالى، فلا يبقى مجال للشك في الحكمة، وليس لأي عقل قدرة أن يعترض على حكمة الله سبحانه وتعالى، وعلمه بارتفاع الحاجة في الأرض إلى رسالة جديدة بعد الإسلام الذي قالت عنه الآية الكريمة {… الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً…}(3/ المائدة).
7- لا يوجد دليل أقوى من أن تقوم الضرورة القطعية عند المسلمين جميعا على أن الإسلام هو خاتم الرسالات. فلا نحتاج إلى دليل آخر لنثبت أن الإسلام هو الخاتم.
8- تحتاج البشرية بعد الإسلام إلى أن يبقى الإسلام على نقاوته، على أصالته، وإلى أن يكون هناك قيِّم على الإسلام قادر على تقديم الحلول الإسلامية الحقيقية للحياة، وليس هذا إلا المعصوم عليه السلام.
9- ختم الإسلام لا يعني هذه الأمور، لا يعني أن الإنسان وصل إلى حدٍّ من النُّضج يستغني به عن الله وعن هداه وعن دينه والوحي المتنزّل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
10- سورة التوحيد.
11- 20/ الأحقاف.
12- 97، 98/ النساء.
13- وهذه ظاهرة ذات شقّين متلازمين ما كان استكبار إلا وكان معه استضعاف.
14- هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منّا الذلّة).
15- 60/ الأنفال.
16- – وإذا كان هناك عدوّ لله فهو ظالم بطّاش مفسد. هذه القوّة ليست في مواجهة الإصلاح، ليست في مواجهة الخير، إنها قوّة من أجل الخير، وضد الشر.
17- ليس إرهاباً بالمفهوم المطروح الآن وهو أن تكون هناك قوة فتّاكة تفتك بغير حساب، وتقتل الأبرياء، وتفجّر في الأسواق وفي دور العبادة. الإرهاب الذي تتحدث عنه الآية الكريمة هو من نوع آخر.
18- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى