خطبة الجمعة (449) 25 جمادى الأول 1432هـ – 29 أبريل 2011م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: …يتبع موضوع العصمة

الخطبة الثانية: جولة قصيرة – إذا أردت أن تتعب – كرامة المرأة – أحكام بالإعدام!

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي ارتدّت العقول حسيرةً دون الوصول إليه، وقَصَرت الأوهامُ عن أن تنالَ من حقيقته شيئاً، وليس من محاولةٍ لإدراك كنهه إلاّ وهي خاسئة، أو أُمنِية لمعرفة ذاته إلا وهي متراجعة، ولا سبيلَ للإحاطة بصفته، ولا ساحلَ لقدرته، ولا حدَّ لعظمته، ليس فوق كماله كمال، وليس مثل جماله جمال، ولا يُشبه جلاله جلال.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أُوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله، وأن نتذكَّر أننا لم نكن ثُمّ كنَّا، وأننا رَاحلون، ومُلاقون يومَ حسابٍ وثوابٍ وعقاب، وأنْ لم نكن بإرادتنا، وسنخرج من هذه الحياة رغم الأُنوف، وأنْ لا مالك لشيء من أمر أحد إلا الله، ولا شفيعَ له من دونه. ففِّروا إلى الله عبادَ الله لعلّكم ترحمون.
يا من لا مفرَّ إلاَّ إليه اجعل مفَّرنا إليك، ولا تعويل إلاَّ عليه اجعل تعويلنا عليك، ولا حول ولا قوة إلا به اجعل استقواءنا بك، واستنصارنا بعزِّك وقدرتك، واحمِنا من شرّ أنفسنا، وشرّ كلِّ ذي شرّ، وشرّ الشيطان الرجيم يا علي يا قدير، يا أرحم الراحمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربَّنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وأرحامنا وأزواجنا وكل من أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
أما بعد أيها الملأ الطيّب المبارك فإلى حديث في 
العصمة:
العصمة والاختيار:
العصمة من حيث المتعلَّق مرةً تكون عن الخطأ والسّهو العلمي أو العملي، وأُخرى تكون عن المقارفة العمدية للذّنب والتقصير.
وعِصمة النبيّ عن الخطأ والسهو في تلقّي الوحي وتبليغه وتطبيقه ما لم يكن ذلك بمقدّمة عمدية ليس بيده كسائر النّاس، فَعَدَم تَعرّضه للشبهة في الوحي والخطأ والنسيان في كلّ موارد التبليغ والتطبيق والتشخيص لموضوعات الأحكام لا دورَ له فيها، وهو محتاج إلى عصمة كاملة من الله سبحانه تحميه من كلِّ ذلك بلا فعل من إرادته الشّخصية دون التّهيؤِ لهذه العناية الإلهية الخاصًّة(1).
أما العصمة عن المعصية والتقصير، و إتيان القبيح عن عمد فشأنها غيرُ ذلك، ولا جبر فيها، ولا تعني سلب الإرادة وتعطيلها.
وعندما يقال عصمة النبي واجبة لا يعني أن لا يملك أن يفعل القبيح ولكن بمعنى أنّه بعد أن اختاره الله تبارك وتعالى للنبوة ينكشف عقلاً أنه ما اختاره إلا لعلمه بعصمته إذ يستحيل على حكمة الله ولطفه وعلمه وقدرته أن يختار لرسالته من يدخلُ عليها الخللُ يسبب نقصه أو سوء فعله.
وإذا قيل بأن الله عز وجل عَصَمَ نبيّه فليس بمعنى أنه أوجد فيه العصمة الكاملة جبراً وقهراً، وإنما قد هيّأ له أسبابا، ووفر له من المقدّمات الخاصة ما يسهّلها عليه دون أن يُعطِّل قدرته على التقصير وفعل المعصية.
ولو كان الأنبياء مجبورين على الطّاعة وترك المعصية، وأن لا إرادة لهم على الإطلاق فيما يفعلون ويتركون لما كان لهم فضل طاعة على غيرهم، ولكان غيرهم من أهل الطّاعة ممن يمتلكون إرادة الفعل والترك أحقّ بالمثوبة لفارق الامتحان وعدمه.
كيف يكون الأنبياء معصومين؟
إذا لم يكن الأنبياء مجبورين على الطاعة، والتخلّي عن المعصية، ولم توجَد فيهم العصمة قهراً فمن أين جاءتهم العصمة، وكيف توفّروا عليها؟
أولاً: إنَّ تحدُّر الأنبياء من وراثات كريمة، وأصول نَسَبِيّة طاهرة، وإنَّ لهم مواهبهم الإلهية العالية من عقليّة وروحيّة ونفسيّة، وتحوطهم حراسة الله منذ الصِّغر عن إفساد البيئة وعقدها، وعن تلويثهم بأدرانها.
ولكن لا يأتي ذلك بحيث يسلب أولئك الصَّفوة إرادتهم ويسبّب لها الشَّلل.
وكلُّ النّاس لهم مواهب إلاهية سخية تتفاوت فيها بينهم(2)، ولهم بيئاتُهم الخاصّة الطبيعية والتربوية المفترقة من غير أن يسلب هذا التفاوت والافتراق إرادة الخير والشّر من أحدهم(3).
ثانياً: الناس من غير المعصومين عليهم السلام مع إرادتهم لهم عصمة نسبية محدودة مما يكشف عن عدم التلازم بين العصمة وانتفاء الإرادة(4)؛ فالممتنع عن تناول السَّم أو القذارة(5)، والذي لا يجد أيّ ميلٍ لتناولهما، ولا يدخل في تفكيره أن بفعل ذلك غير فاقد للإرادة، ولا يعاني من تعّطلها.
وكذلك العشَّاق منهم لالتزام الصِّدْق أو أداء الصّلاة وفِعل الخير لا يجد نفسه مجبوراً على ذلك(6).
ثالثاً: لا إرادة كإرادة الله قوّةً وطلاقة وكمالاً، ولا تنزّه كتنزهه عزّ وجل عن كلّ ظلم وكلّ قبيح، والله عز وجل يستحيل على عدله أن يُدخل عَبده المطيع النّار لطاعته، مع كون إرادته أكمل إرادة، فلا تنافي إطلاقا بين التنزّه عن القبيح، وبين الاحتفاظ بالإرادة(7).
رابعاً: الأسباب التي تعصم غير الأنبياء والأئمة عليهم السلام بصورة جزئية محدودة، وعن بعض الأفعال الضَّارة والقبيحة هي نفسها التي تعصمهم عصمة شاملة ثابتة دائمة حيث إنّهم يتوفّرون على تلك الأسباب بصورة مركَّزة وثابتة وكاملة شاملة.
ومن أسباب العصمة ما يأتي:
1. العلمُ بضرر الفعل وخطورته البالغة وأثره الأليم، وانكشاف قبحه للنفس وحضور هذا العلم والانكشاف (8).
2. حصولُ الحكمة للنفس في عدم تقديم الضَّار على النافع.
3. يقظةُ الروح، وشرف النفس التي يأبى لها الانحدار إلى ما انكشف قبحه لديها.
4. الخوفُ من الهلاك والخسارة.
5. الرجاءُ في ما هو أعظم مما يعطيه الفعل الذي قد تتحدّث به النفس.
6. الحبُّ لمن نهى عن القبيح وإجلاله.
7. سلامةُ الإرادة وقوتها.
وهذه الأمور كلها حاصلة للأنبياء والأئمة عليهم السلام في أكمل صورة وأرقاها في مورد أمر الله ونهيه، فليس مثلَهم أحدٌ في التوفُّر الكامل الشَّامل على الحكمة، ويقظة الروح، وشرف النفس، والخوف من مخالفة الله، والرّجاء في ثوابه، والحب لله ومعرفته وإجلاله، وسلامة الإرادة وقوتها، وعلوّ الهمة وشدتها، مع دوام هذه الملكات، وعدم غيابها.
وبهذا لا تنصرف الإرادة عندهم إلى غير الطاعة، ولا تتردَّدُ فيها، ولا تهِن عنها، ولا تتجه إلى المعصية ولا تُستهوى منها، ولا تميل إليها. وهذه هي العصمة التي لا تحتاج كما تبيَّن للقهر والإجبار.
اللهم صلّ وسلم على محمد وآل محمد، وارحمنا بمحمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربَّنا ارزقنا فهماً نافعاً، وعلماً هاديا، وحكمة عالية، وخوفاً منك، ورغبة في ثوابك، ورجاءاً فيك، وحبَّاً لك يُجنِّبنا المعصية، ويعصمنا من الزلل، ويُنقذنا من الهلاك، اللهم ولا تُخَلّ بيننا وبين أنفسنا وما اشتهت، أو بين أحد من خلقك طرفة عين فنكون من الهالكين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}(9).

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أَمَرَ بحمده وهو الغنيُّ عن حمد الحامدين، وبشكره ولا نفع له في شكر الشاكرين، وإنما أمرُه بالحمد لِيَكرُم بحمده الحامدون، وبالشّكر ليزكوَ به الشّاكرون، وهو المجازي على الحمد بما لا يوازيه حمد، والمثيب على الشُّكر بما لا يعدله شكر، وكلّ ذلك مَنٌّ منه، وتفضّل على عباده بكرمه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله التي ما صلحت نفس وما سمت إلاَّ بها، وأن نُربّيَ النفس والأهل والولد على هدى الله، والأخذ بتعاليم شريعته؛ فلا استنارة إلا بهدى الله، ولا صلاح في تربية بعيدة عن دينه. وما جاء دين الله إلاّ لحاجة الإنسان، ولأنَّه لا صلاح له ولا سعادة من دونه. وما ظُلْم العباد بعضهم لبعض إلا لغياب الدين، وما جفّت القلوب من الرَّحمة، وما صارت أشدَّ قسوة من الحجارة إلا بما نسيت من ذكر الله.
ولا علاج لقلب الإنسان وحياته، ولا حاجز له عن الشرِّ من دون زاد التقوى، ومن لم يتّق الله فأوّل ضرره على نفسه. {… رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}( )، {… رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}( ). اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزّهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقربين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ظاهراً ثابتاً مقيماً.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى هذه العناوين:br> جولة قصيرة:
للإنسان في الدّنيا جولة قصيرة، وفي الآخرة بقاءٌ في امتداد. الدنيا جولة لا تطول فيها مُتَعٌ أو كُرَب، وانتصاراتٌ أو هزائم، وغنى أو فقر، وصحّة أو مرض، وهي منتهية بكلّ ما فيها، وبكلّ أفرادها وجماعاتها ودولها، ومظاهرها وزينتها، وأفراحها ومآسيها(12).
وخيرها قليل عند خير الآخرة، وشرّها ضئيل عند شرّ الآخرة، وما خيرٌ بخيرٍ إذا كان عاقبته النّار، وما شرّ بشرّ إذا كان عاقبته الجنّة. والانتصار في الدّنيا بالباطل هزيمة لأن ثمنه خسارة النفس وسقوطها ونأيُها عن الله، وضريبته النّار، وغِناها به(13) فقر، وسلامتها به عطب كذلك لأنْ ليس أغلى على العاقل من مضمون ذاته الإنسانيّ الذي لا يُبقي منه الباطل شيئاً، ولا يَسلَم له منه معنى. وأمّا البدن فهو ليس الإنسان وإلاَّ لانثلمت إنسانيّة الإنسان كُلَّما فقد أصبعاً أو حتى ظُفراً واحداً إلاّ أن يظهر له جديد(14). فهل تجد من نفسك أنك تنقص إنسانيّاً يوم تُقلّم كل أظفارك؟! لا أراك كذلك، ولا أراني أبداً أبداً.
هذا الفرق الكبير في الوزن والقِيمة بين الدّنيا والآخرة، وبين الإنسان في جانبه البدنيّ وجانبه الرّوحي يتّخذ منه العاقل قاعدةً ومنطلقاً لعدد من الأمور(15):
1. قاعدة ومنطلقاً لأنْ يبني انتماءه وانحيازه ومواقفه وخياراته على أساس من موازين الحقّ والعدل، دون النّظر إلى ما عليه الخارج من وزن مادّي؛ فلو كانت القوّة الماديّة البشريّة كلّ القوّة، والغِنى كلّ الغنى، والأمن كلّ الأمن، والشهرة كلّ الشهرة في جانب، وما عليه خلاف ذلك في جانب آخر ما غيَّر هذا من أخذ العاقل بما يمليه عليه الحقّ، وتركه ما يشتهيه منه الباطل(16).
2. قاعدة ومنطلقاً لعدم الغرور بما يكون له من قوَّة الدّنيا وغناها وصحّتها وشهرتها وكلّ ما يعدّ خيراً من خيرها لعلمه بأنّه خير مفارق، وإن لم يفارق فصاحبه منه إلى فراق، ولعلمه بأن الرّكون إلى الدنيا والغرور بها خسارة نفس، وخسارة آخرة.
3. قاعدةً ومنطلقاً لعدم انكسار النفس أمام شرّ الدّنيا ومحنها، وعدم فقد شيء من الوزن المعنوي، والشّعور بالكرامة والقيمة الإنسانية، وقيمة الانتماء للحقّ في أيِّ مأزقٍ من مآزقها وعند أيّ شدّة مما تأتي به الأيام.
4. قاعدةً ومنطلقاً لعدم الفتور عن العمل للآخرة، والإعداد ليومها في أيّ شدَّة ومحنة من مِحِن هذه الحياة بسلوك طريق الطاعة لله، والصّبر عليه، وصِناعة النفس على ضوء هدى الله.
إذا أردت أن تتعب:
إذا أردت أن تتعب، وتَقْلَق حياتُك، وتدخلَ في مشكلات لا تُحصى فانشر روح العداوة في أجواء بيتك، وإذا أردت أن تُحطِّم أعصابك وتسيء إلى نفسك وإلى من معك فبُثّ هذه الروح بين أعضاء مؤسستك، وإذا أردت أن تُصبَّ عليك المشاكل صبّاً، وأن تفقِد كلّ راحتك، وتنتقض عليك الأمور، وتفسُدَ الأحوال، ويعسر الإصلاح، ويمتنع التّدارك فاسمح لروح العداوة أن تأخذ مكانها وتتمدّد في بلدك، وبين أبناء أمّتك أو شعبك.
هذه نارٌ بدايتها قد تكون محكومة ولكن نهاياتها خارجة عن الحكم، والتقدير، وعواقبها دائماً وخيمة وفوق حسابات ذوي الحكمة والنظر البعيد فضلاً عن حسابات المبتلَين بقِصَر النّظرة.
نشرُ العداوة بين أهل البيت الواحد، المؤسسة الواحدة، الأمة الواحدة، القطر الواحد فيه تضييع جهود، تقويض أمن، نشر فوضى، لَعِب بالنّار، حرق أعصاب، تعطيل حياة.
وكلّ ذلك يمنع منه العقل والدّين والإخلاص والحِكمة، وتُلحّ على الدرء منه المصلحة العامة المشتركة.
والتعب والشّقاء داخل البيت الواحد، والمؤسسة الواحدة، والبلد الواحد يستحدثه أيُّ طرف لآخر لابد أن يعمَّ ويشمل الجميع.
وهذا الكلام ليس إنشاءاً إنما هو حقيقة يُحدّث بها كلُّ التاريخ، وكل الحياة، والواقعُ في كلِّ مكان عاش تجربة العداوات الداخلية.
فهل من معتبر، وهل من عِبرة واتّعاظ؟!
كرامة المرأة:
كرامة المرأة شعار من شعارات الدنيا اليوم. وكرامة المرأة من كرامة الرّجل، وكرامة الرجل من كرامة المرأة، لأنّهما معاً إنسان، ولا كرامة للمرأة بعد هذا والرّجل مهان، ولا كرامة للرجل في ظلّ هذا الوعي والمرأة مهانة. فمن كان يراعي كرامة المرأة لابد أن يراعي كرامة الرجل، ومن كان يراعي كرامة الرجل فلا بد أن يراعي كرامة المرأة.
وفي هذا البلد نشِطت المؤسسة الرسمية وشبه الرسمية بكلّ تشكيلاتهما في الترويج لشعار كرامة المرأة وحرمة المرأة وحقّ المرأة بقوّة، واليوم جاء التطبيق العملي لهذه الشّعارات في الصّورة التي تعيش المرأة في هذا البلد مرارتها ومأساتها وألمها، وما تُثيره من شعور بالمهانة والاحتقار والإذلال عند المرأة، وما تمثّله من تعدٍّ على الكرامة، ومصادرة للحرية، وتضييع للحقّ، وشراسة في المعاملة.
فأين كلّ تلك الشعارات، وأين تلك المؤسسات التي كانت تُنادي بتقليم أظافر الآباء والأخوان والأزواج، وإنزال أشدّ العقوبة بهم لعدم احترامهم حقَّ المرأة، ورعاية كرامتها بما فيه الكفاية؟!
أحكام بالإعدام؟!:
صدر الحكم بالإعدام لأربعة من المتّهمين الذين يخضعون للمحاكمات هذه الأيام. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ويُذكر هنا أنّه قُتل في الاعتصام من قُتل من أبناء الشّعب، ومنهم من عُثِر عليه مقتولاً في طريق أو زاوية هنا أو هناك، ومنهم من قُتِل داخل السّجون. وجرى القتل في سنوات سابقة للعديد من أبناء الشّعب على يد الجهة الرّسمية في ظروف مكشوفة وأُخرى غامضة. والآن يُحكم بإعدام الأربعة بحجّة الاعتراف بالجُرم في ظروف السّجن الغامضة التي لا يمكن أن تُعدّ من حالات الاختيار.
والملاحَظ أنّه لم يحدث ولا لمرّة واحدة أن حُوكم شخصٌ من الجهة الرّسمية من أيّ مستوى من المستويات ولا اتُّهم في حادث من حوادث القتل لأبناء الشعب الذي حدث كثيراً في ظروف مكشوفة وبالرَّصاص الحيّ، أو ما يقوم مقامه في الأداء إلى القتل، وفي حالات التوقيف والتحقيق، أو في ظروف غير مكشوفة، وفي كلّ مرة تحدث التبرئة المسبَّقة حتى من قتل الخطأ.
وفي العادة لا تحقيق وإذا شُكِّلت لجنة تحقيق بصورة نادرة شُكّلت من طرف واحد، والنتيجة أن لا يُعثر على الجاني، فتُطوى القضية وتُنسى وتموت. كما أنّ العادة أن لا يضيع دم رسمي، وأنّ التحريات لا تفشل ولا لمرة واحدة في وضع يدها على من تُنسب إليه الجناية.
فهل هذا لكثرة الأشرار في أبناء الشّعب، وعصمة كلّ من انتسب إلى الجهة الأمنية؟!
هل هذا للمصادفة الدائمة بتوفيق الجهة الرسمية للتعرُّف على الجاني إذا كانت الدعوى في صالحها، والفشل الثابت في العثور عليه إذا كانت الجريمة في حقّ واحدٍ أو أكثر من أبناء الشّعب الآخرين؟
هل هذا لأنَّ هناك دماً غالياً زكيّاً ودماً رخيصاً قذراً؟(17)
هل هذا لاختلال الموازين؟ تُترك الإجابة للجهة الرسميَّة لكن مع التفسير المقنِع لكلّ من يطالب بالإنصاف في العالم.
إذا كان المرجع في التحقيق في أمر دم أي مواطن يُسفح، وفي الحكم بإعدام الجاني هو الدّين؛ فالدين لا يُفرّق بين دم شخص التحق بجهازٍ أمني أو لم يلتحق، وكذلك هو القانون إذ لا تفريق فيه نظرياً في هذا الشأن.
وإنه لمعروف أن أحكام الإعدام ذات طبيعة قاسية مستفِزّة، ولا يُقدم عليها المسلم إلاّ عن طريق شرعي واضح لا لبس فيه، وأن لها آثاراً في النفوس لا تُمحى إلاّ أن تكون صادرة وفق ما أنزل الله، وتدقيق موضوعي شرعي بدرجة كافية فعند ذلك يُسلّم المؤمنون.
ولعدم إحراز هذا الأمر فنحن نطالب برفع اليد عن هذه الأحكام القاسية الصاعدة، وعدم الدفع بالأمور إلى مزيد من التأجيج والإلهاب والتوتر(18).
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم الطف بنا في أمر ديننا ودنيانا، واكفنا ما أهمّنا منهما، ولقِّنا فيهما خيراً فوق ما نؤمل يا أكرم الأكرمين. اللهم انصر الحقّ وأهله، وأذلّ الباطل وأهله، واجعلنا للحق أهلا، وللباطل خصما.
اللهم ارحم شهداءنا وشهداء الحقّ في كل مكان، واشف الجرحى والمرضى، وفكَّ قيد الأسرى من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أينما كانوا، وارحم موتى أهل الإسلام والإيمان برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(14).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ما على الرّسول صلّى الله عليه وآله هو أن لا يفرّط بحيث يمنع الفيض الإلهي من التنزّل عليه، أمّا أن يتدخّل في عصمة نفسه من السهو والخطأ فلا يملك. العاصم على المستوي العلمي وعن الجهل وعن الغفلة والسهو للنبي هو الله سبحانه وتعالى من غير تحمّل مسؤولية من قبل النبي في المسألة.
2- ليس منّا إلا وهو مغرق بالمواهب الإلهية.
3- لا صاحب البيئة الفاسدة مسلوب الإرادة عن الخير، ومجبور على الشرّ، ولا صاحب البيئة الخيّرة والمواهب الكبيرة مسلوب الإرادة عن الشرّ ومجبور على الخير.
4- أنا وأنت وكلّ الناس معصومون نسبيّاً. هل نحن مريدون أم غير مريدين؟ نحن مريدون، ولكن ونحن في مورد عصمتنا النسبية معصومون، أنت معصوم ومريد، أنت معصوم في مورد معيّن ومريد في الوقت نفسه، ولا تنافي بين العصمة وبين الإرادة.
5- مَنْ منكم ليس معصوماً عمليّاً وليس عقليّا عن تناول القذارة؟ كل الناس الأسوياء معصومون عن تناول القذارة، وعن تناول السمّ مثلاً.
6- هناك أناس شديدو الشوق للصلاة، ويُعانون جدّاً لو تأخّروا على الصلاة بعد أول الوقت، لكنّهم لا يجدون أنفسهم مجبورين على الصلاة.
7- الله عزّ وجلّ مريد، وهو بمقتضى كماله لا يصدر منه القبيح أبداً، وبمقتضى كماله مريد إرادة مطلقة. فتجتمع في الله عز وجل الإرادة والتنزّه الكامل عن القبيح.
8- أن علم علماً يقيناً بضرر الشيء وكان هذا العلم حاضراً في نفسه كان في ذلك عاصماً عن الارتكاب لما علم بضرورة.
9- سورة الحجر.
10- 4/ الممتحنة.
11- 8/ التحريم.
12- حقيقةٌ لا تُنكر ولا مفرّ منها.
13- أي بالباطل
14- هل تشعر بنقص إنسانيتك، هل تفقد الشعور بكرامتك، هل تشعر بالصغار في ذاتك لو انقطعت لا سمح الله إصبع من أصابعك؟ و لو كنت أنت الجسد لشعرت بالنقص، لشعرت بالدونية، لشعرت بالهوان، بالصغار عند نقص أي جزء من أجزاء جسمك.
15- بعد أن يتبيّن لك أن الآخرة أهمّ من الدنيا، وأن إنسانيتك أعزّ عليك من بدنك، وأنّك من حيث أنك إنسان إنما أنت روح وعقل وقلب لا جسد، هذه الحقيقة إذا قامت بين يديك، إذا اتّضحت لك ترتّب عليها عدد من الأمور.
16- القوّة كلّ القوّة في جانب، والضعف في جانب، جانب القوّة فيه باطل، جانب الضعف فيه حقّ، أين يكون العاقل؟ بعد تبيّن أن إنسانيته في روحه وعقله وانتمائه لله سبحانه وتعالى، وبعد تبيّن أهمية الآخرة له بالنسبة للدنيا لا يمكن أن يرجّح الإنسان العاقل في ضوء هذه الحقيقة الماثلة دنيا عريضة يخسر فيها قضية الحق، قضية الانتماء إلى الله، قضية الاحتفاظ بالإنسانية.
17- هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
18- هتاف جموع المصلين بـ(كلا كلا للإعدام).
19- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى