خطبة الجمعة (437) 9 صفر 1432هـ – 14 يناير 2011م

مواضيع الخطبة:


الخطبة الأولى: متابعة حديث النبوّة.

الخطبة الثانية: ذكرى وفاة السبط الشهيد/ لماذا المسلمون لا؟/ إشادة نظرية وقمع عملي/ ما كان ممكناً وصحيحاً/ وعلى هذا فقس ما سواها/ أوضاع لا ينقصها التوتر.

 لا يزال الحل الأمني عند الحكومة هو الخيار حتى لا يُبقي زرعاً ولا ضرعاً إلا يبّسه، ولا خيراً في هذا البلد إلا قضى عليه، ولا أمناً إلاّ أذهبه، ولا إنساناً إلا أقلقه، ولا ثروةً إلاّ وظَّفها للهلاك، ولا حقداً إلا بعثه، ولا بغضاء إلا نشرها، ولا شرّاً إلا مكّن له.

 

الخطبة الأولى

الحمد لله العليم بوزن كلّ شيء من عالم مادة وروح، وحاجة كلِّ نفس، وخصوصيّة كلِّ علاقة، وصلة كلّ مقدِّمة بنتيجة، وسبب كلّ ذي سبب، ومؤدَّى كلّ طريق، وما يتعاور الأشياء من أحوال، ويعرضها من تقلبات، وما تسعه البصائر، وما تطيقه المواهب، وما تتشوّف له النفوس، وما فيه صلاحُ الأشياء وفسادُها، واستقامةُ الضمائر وانحرافها، وسعادةُ الأمم وشقاؤها، وهو بكلِّ شيءٍ من حيثُ كلّ شيء فيه محيط.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أُوصيكم عباد الله ونفسي القاصرةَ الغافلةَ بتقوى الله، والاستعانةِ به في السّرّاء والضّراء، والشّدّة والرّخاء؛ فالإنسان ليس أفقر في ضرائه منه في سرائه إلى الله، ولا أحوج في شدّته منه في رخائه إلى رحمته؛ فهو في كلّ أحواله إلى ربِّه فقير، وفي كلِّ شؤونه إليه منقطع. وَمَنْ ذَكَرَ اللهَ في سرّائه ورخائه ذَكَرَه الله في شدّته وضرائه. ومن نَسِيَ الله في النّعمة استحقّ منه النِّقمَة. ولكلّ نعمة من نعم الله عند عباده وظيفة يرضاها فلا انحراف بمقتضى الإيمان بشيءٍ من النِّعم عن مواضعها التي شرّعها الله سبحانه، ووظائفها التي يرضاها.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم اجعلنا من الشّاكرين لنعمك، المستعينين بها على طاعتك، الباذِلين لها في سبيلك، وإعزازِ دينك، ونُصرة أوليائك، وزِدْنا من فضلك يا كريم يا رحيم.
أما بعد فالحديث في أهداف
 النّبوَّة والرّسالة.
وقد تقدّم أنَّ الهدفَ الأساس لكلّ الرّسالات الإلهيّة هو التوحيد الذي لا سبيل لسعادة الإنسان دونه، وأنَّ هناك عدداً من الأهداف المنبثقة منه، والمتحرِّكة في إطاره، والمؤدّية إليه.
وذُكِر من هذه الأهداف اثنان سابقاً، ويذكر هنا عدد منها:
3. تزكية الأخلاق:
وتزكية الأخلاق التي قدَّمها القرآنُ الكريم في الذِّكر في معرض الحديث عن الرسول صلَّى الله عليه وآله على تعليم الكتاب والحكمة مرَّة، وجاء بذكرها بعده أخرى تعني جُهداً ضخماً، وهدفاً عالياً يجعل النّفسَ البشرية مهيئة بعد قصورها بسبب التردّي الخلقي لاحتضان فكرة التوحيد، والاندماج بها، والسّير في خطِّها(1)، ويعطيها القدرة العملية على تحمّل تكاليفها، وهي تكاليف التقدّم في معراج الكمال الذي تدعو إليه، وتأخذ بالبشريَّة كلّها في اتجاهه.
4. رفع الاختلاف:
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ….}(2).
الاختلافات الجذريَّة، والتمزّقات الخطيرة، والتباينات الشاسعة، والانفصام الخطير داخل جسم البشرية قَدَرٌ لابد منه حين يكون التخلّف عن هدى الله، والانفصال عن نور السماء.
وهذا الواقع مُلهٍ وشاغلٌ وصارفٌ للإنسانيّة عن وظيفتها المشتركة في الخلافة في الأرض وحركة الإعمار، ومعرفة الله وعبادته، والسّير إليه، وكم يصدّ الاشتغال بالخلافات إجمالاً عن ذكر الله، وكم يَميل بخطى الإنسان إليه عن خطِّه؟!!
وبهذا كان إنهاء الخلافات الرئيسة الضخمة خاصّة ما مسّ العقيدة، وما يترشّح عنها، وما اتّصل بسلامة منهج التفكير عند الإنسان وعدمها، وسبَّب سفك الدماء، وهَدر ثروات الأرض، وسبّب إفسادها هدفاً مطلوباً لرسالة الرسل، ودور الأنبياء والمرسلين في النّاس(3).
وكُلَّما تصحّح جوّ هذه الخلافات، وخفّت حدّتها، وتخلَّص عقل الإنسان ونفسه من تأثيراتها وسلبياتها كلما وجدت قضية التوحيد نفوساً منفتحة، وعقولاً مستقبلة، وقلوباً متلقّية، وكانت الأرواح أكثر استعداداً للعروج، وأقدر على استذواق الجمال، وأسرعَ للكمال.
وإنهاء الخلاف الذي يساعد على تصحيح أوضاع الإنسان، واستقامته، ويهيء الأجواء المناسبة لنضجه وزكاته وكماله إنّما هو بالرجوع إلى الحقّ، والأخذ به، والتمحور حوله.
5. قيام النَّاس بالقسط:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ….}(4).
قيام المرسلين بالقِسط لا جدل فيه، ولا شكَّ يعتريه، ولكنَّ هدف الرسالات يتجاوز ذلك بأن يقوم النّاس أنفسهم بالقسط(5)، ويكونَ الأخذ بالعدل سيرةَ المجتمع البشري العام.
وكلٌّ من العدل والظلم يمكن أن يغطّي كلّ مساحات الفكر والشعور والعلاقة والعمل. والظلم مُفرِّق، معطّل، مضعف، منهك، شاغل، مثير للخلافات والحروب، متلفٌ للطاقات والثروات، قاضٍ على روعة الحياة وحلاوتها، مُنسٍ لله، مثيرٌ للشكِّ في عدله(6)، خارجٌ على إرادته، مخالف لشرعه، يخلق طاغوتية واستضعافاً في الأرض، وآلهة مزيَّفة، وعبيداً بُلْهاً حقراء.
فكان على الرُّسل أن يسعوا جاهدين للقضاء على الظلم، والإخلال بالموازين المعنويَّة والماديّة معاً، وحالات الجور والميل عن الحقّ، وأن يقيموا القِسط، ويثبّتوا العدل، ويحملوا النّاس على الأخذ بموازين الحقّ.
ولا يكون هذا إلاّ بالرجوع إلى الله، والسير في طريق توحيده، وتحكيم أحكام شرعه، وصِدْق العبودية والطاعة له(7).
على أن حياة القِسط، وقيامَ العدل في النّاس وعلى أيديهم يأخذ بيدهم إلى الله، وينفتح بهم على توحيده، ويؤهِّلهم بدرجة عالية لاستقبال أنوار قُدْسه، وطلب القرب إليه.
ونتيجةً للتوحيد وتحقّق الأهداف السابقة للرسالات الإلهية في حياة النّاس يتم الهدف الغاية بأن يأمنوا بأمن الأبد بهدايتهم سُبُلَ السلام المؤدية إلى الصراط المستقيم في السعي إلى الله، وأن يحيوا الحياة الطيّبة الدائمة دنيا وآخرة بكل أبعاد ذاتهم الإنسانية ما كان ظاهراً منها وباطناً، وما يرجع إلى بدن أو روح، وأن يخرجوا من الظّلمات إلى النّور، ومن النّقص إلى الكمال(8).
وبانتهاء السعي إلى رضوان الله، وبحياةِ إنسانية الإنسان بأعلى وأعمق أبعادها حياة كريمة طيبة دائمة، وخروج النّفس من كلِّ ظلماتها، ومن النّقص إلى الكمال تتم السّعادة، وتتحقّق الغاية من الخلق، ويكمل الفلاح والنّجاح المنشود للفِطرة.
تقول الآيات القرآنية الكريمة في ذلك:
1. {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(9). إنّ كل ما في المنهج الإلهي الذي ارتضاه الله عزّ وجل للإنسان والحياة سبل سلام لا يضِلّ عن شيء منها الآخذ بمنهج الله، المتَّبع لمواطن رضاه، المتجنِّب لموارد سخطه، وهي سُبُل تصبّ جميعاً في صراط مستقيم إليه، وتأخذ بالإنسان في اتّجاه ذلك الصِّراط، وفي ذلك كمال الناس وسعادتهم، وهو ما يريده ويرضاه لهم خالقهم، ومن أجله قد خلقهم. وسبل السلام المؤدّي سلوكها إلى صراط الربّ المستقيم منتهية في النتيجة إلى دار السلام والأمن العام الشامل الكامل الدائم الذي لا يمسّه شيء من خوف أو فزع أو قلق أو ترقّب سوء، أو انثلام أو عدم لأنه بضمان من الله، وفي عنايته، وحراسته، وتدبيره، وهو الذي يتولّى أهله ويحفظهم من كلّ تهديد {وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(10).
2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ….}(11).
كلّ دعوة الله، ودعوة رسله لما لا تقوم ولا تحيا الأبدان والعقول والنفوس والأرواح إلا به؛ وما يمكن أن يحيا شيء من ذلك في انتهاج منهج غير منهج الله، وما دعا إليه، وأمر به، أو هدى، أو أذن فيه.
وما يموت بُعْدٌ من أبعاد إنسانية الإنسان، ولا يتعطّل، أو يُصاب بالشّلل، والانحراف ما التزم خطّ ما دعا الله إليه عبادَه ورسولُه، وارتضاه من منهج.
والحياة التي تُعطيها هذه الدّعوة والمنهج عند الاستجابة لهما والتقيُّد بهما حياةٌ راقية كريمة هنيئة في مساحة الدّنيا المحدودة، والآخرة الممتدّة معاً.
3. {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(12)، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}(13).
هداية الكتاب والرسول، وحيُ السماء وتربيةُ النّاس في ضوئه، والأخذ بأخلاقيات الدّين الحقّ، اتباع أحكام الله عزّ وجلّ وتشريعاته يخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ أيّ ظلمة تُفسِد على العقل تفكيره، وعلى القلب اهتداءه، وعلى الرُّوح رؤيتها، وعلى النّفس استعدادها للاستجابة للحقّ والإذعان له، وشوقه والتعلّق به، ويخرجهم من ظلمة النّقْص وفقد الكمال، وتعطُّل حالة النموّ في القابليّات الكريمة في كيان الإنسان إلى نور فعليَّاتها التّام الذي به كمال هذا المخلوق وسعادته.
والآيات الأربع الأخيرة تتحدّث عن أقصى غاية لخلق الإنسان، والهدف الأخير لوجوده، والذي لا يتحقّق إلا بدور الرسل والرسالات والاستجابة من النّاس، وأخذهم بما دعا إليه رسل الله وجاهدوا في سبيله. والغاية القصوى من خلق الإنسان ومن إعطائه العقل والإرادة هي كماله وسعادته.
وفي قبال منهج الله، ودعوة رسله، ودورهم، ودينه وتشريعه والوصول إلى الغاية المطلوبة لوجود الإنسان التي يُحقّقها هذا الطريق يوجد اتجاه معاكس يجمع كلّ ما فارق هذا الطريق من جاهلياتٍ وطاغوتية وطواغيت، ونتيجته إخراج النّاس من النور إلى الظُّلمات كل أنواع الظلمات؛ من ظلمة للعقل والقلب والنفس والروح، وحتى الظلمات التي تسيطر على جنبات حياة الإنسان الماديَّة من أمنٍ وغذاء وصحّة، وتفسد الأرض والبيئة، وتنشر الخراب.
{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(14).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم اجعلنا ممن وفى بعهدك ولم ينقض ميثاقك، ولم يستبدل عن دينك، ولم يتخذ في شيء أبداً ربّاً سواك. اللهم اجعلنا من المرحومين برحمتك، المختارين لجنتك، ومن أهل الكرامة لديك، والمنزلة الرفيعة عندك، والمقام الحميد بمنّك ولطفك وتفضّلك يا كريم يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(15).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي وهب العقول رُشدَها، والقلوب هداها، وحذّر النفوس من وسوستها وهواها بعد أن ألهمها فجورها وتقواها. وهو الذي يزيح من الصدور غِلَّها، ويفرّج من الكرب، ويدفع الهمَّ، ويَشفي السّقيم، وينقذ من السّوء، ويعزّ من يشاء كيف يشاء وهو أرحم الرّاحمين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتّق الله؛ فمن أراد الله به سوءاً فلا مردّ له منه، ومن كفاه فلا سبيل لأحد إليه، وهو وليُّ الإحسان كلِّه، ولا نعمة لأحد من دونه، والتعرّض لمعصيته تعرّضٌ لنقمته وحرمانه وعقابه، ومن طَلَبَ الرَّحمة طلبها منه، ولا تُطلب رحمته إلا بطاعته، وتجنُّب معصيته، وإلاّ كان هذا الطّالب للرّحمة طالباً للشّيء، وساعياً على خلافه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
يا من لا مؤمَّل بالحقّ غيرُه لا تجعل لنا أملاً في غيرك، وحقّق لنا خير ما نؤمّله في كرمك، وجد علينا بجودك، وابتدئنا دائما بإحسانك، وأكرم وجوهنا عن مسألة من سواك يا مبتدئاً بالإحسان، يا متفضّل، يا أكرم من كل كريم، ويا أجود من كل جواد.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن القائم المنتظر المهدي.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن، عبديك الموالي له، الممهدّ لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا قائما.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات من المؤمنين والمؤمنات فإلى هذه العناوين:
ذكرى وفاة السبط الشهيد:
مرّت قريباً ذكرى شهادة الإمام الحسن بن علي سبط رسول الله صلَّى الله عليه وآله أجمعين، وكم استُشهِد من أهل البيت عليهم السلام على يدِ الأمّة العاقّة لهم؟!
والصّراع بين أعداء أهل هذا البيت الكريم الذي وجبت في الإسلام مودّته وطاعته وبينهم إنما هو صراعُ دنيا ودين؛ دنياً دفعت بعبيدها لمواجهة هذا البيت الذي يُمثّل توحيد الإسلام وعدله وصدقه وصفاءه، ودين حتّم على أهل هذا البيت أن يتولّوا أمرَ الأمَّة والإنسانية ما أمكنهم ليأخذوا بالناس على طريق سعادتهم، وأن يذودوا عنه بكُلِّ ما يملكون بلا تراجع.
ولكلّ قيادة أنصار، ولكلّ دولة رجال؛ وأنصار الحقّ، ورجالُ دولته من النُّخبة قليلون لأنّ الدّنيا عادة أمكنُ من الآخرة في نفوس المؤهّلين للمواقع، وأهل الثّروة والجاه والحياة الترفيَّة.
وصالح عامّة الناس في دولة الحقّ والعدل، وهم المستثمَرون والمحرومون في دولة الباطل، ولكنّ العامّة أحياناً تقبل المغالطةَ والاستغفال، وكثيراً ما يستخدمها الطُّغاة ضدّ مصلحتها، وتحاربُ من أجل سلطانهم، ويؤثّر ميزان القوى على ما تصير إليه العامَّة من خيارٍ في مواقع الصراع.
وقد أدّى هذا إلى صلح الإمام الحسن المظلوم عليه السلام.
لماذا المسلمون لا؟
اليابانيون يتقدّمون علميّاً، صناعيّاً، اقتصاديّاً، في الصِّناعة الحربية وغيرها، الصين تتقدّم، الهند تتقدم، كلّ الدُّنيا تتقدم من كان متقدّماً قبل، ومن تأخّر، والمسلمون في بلادهم الإسلامية، وفي ظلّ حكوماتٍ منهم وحتى في بلدانهم الغنيَّة المتخمة غنى لماذا لا يتقدّمون؟!
والدّنيا كلّها إذا تقدّمت لماذا لا يبلغ قلق المسلمين من تقدّمها قلقهم من تقدّم يبدؤه هذا البلد المسلم أو ذاك؟ ولماذا الخوف المضاعَف، والاحتياط المبالغ فيه من أيّ شبهة تقدّمٍ في السلاح يملكه بلد مسلم بما لا يعدله خوف ولا احتياط من سلاح بلد آخر مدمِّر جاهز كسلاح إسرائل العدو الأول فيما كان؟ وهل تبدَّل وأصبح العدوُّ الأوّل الصديق الحميم؟!
عدم تقدّمنا أمة وشعوباً لأننا وُلِدنا جميعاً أغبياء؟ لأنّ الإسلام أكسبنا الغباء؟ ألأنّ الإسلام يسدّ أمامنا أبواب العلم؟ ألأنه يُعطّل حركتنا المثمرة؟ يدعونا إلى الشلل، يسمح لنا بالضعف؟ أمن قلّة عدد، شحّ موارد، خلفية تاريخيّة وضيعة ومتخلفة لا زالت تفرض سلبياتها النّفسيّةَ على الأمة بكل شعوبها؟ ألشيء من ذلك نحن نتأخّر؟!
لا شيء من ذلك يملك شيئاً من المنطقيّة والوجاهة والمصداقية أمام ما ينطق به واقع الإنسان، واقع الإسلام، واقع تاريخنا، عظمةُ حضارتنا.
الأمّة مبتلاة بداء الأنظمة المتخلّفة القمعيَّة، المستسلمة لإرادة الأجنبيّ، المتوجِّسة من شعوبها، المعادية لتقدّم هذه الشعوب وقوّتها. أنظمةٌ تشتري الولاء الذي يُبقي سوء الكرسي، واليدَ الباطشة التي تحمي ظلمه، والضميرَ الميّت الذي يُبارك بغيه، واللسان السليط الذي يشتم معارضيه بأعلى وأغلى الأثمان، ويُهْمِل شأن كل العقول المفكّرة، والعبقريات الكبيرة، والفِطن الحادّة، ما لم تُبرهن على تبعيّتها واستسلامها لِمنكره، وتدخل في معاونته عليه، ويقمعُ ويقبُرُ منها ما بدا منه شيء من معارضته.
وخطير كلّ الخطر أن يقلق بعضُ أنظمة الأمة من تقدّم بعضٍ أكثرَ من قلقه من تقدّم أيّ نظام آخر في الدّنيا وإن كان عدوّاً تاريخياً للأمّة، ومعلناً لعدائه، ويمارس العِداء فعلاً بكل شراسة وقوّة، وأن يُسرع في الكيد والتحريض على وأد أيّ بادرة تقدّم في إطار أمّته(16).
هذا يعني أن الأمة صارت على طريق ألف أمة متعادية ومتناحرة، وأنّ يد بعضها على بعض مع الآخرين.
إشادة نظرية وقمع عمليّ:
الإذاعات العربية والصحافة العربية تُشيد بالديموقراطية، وتتغنّى بها، وترى فيها الحلّ، وتُعزي ما آل إليه أمر السودان إلى غياب الديموقراطية، أو تخلّفها، وعدم صدقها، وكذلك ما يحدث في مِصْر.
والكلّ من هذه الأنظمة لا يألو جُهداً في دعوى الديموقراطية والثّناء عليها، والإعلاء من قيمتها. هذا والسّجون ملأى من طلاّب الديموقراطية، وحريّة الكلمة السياسية مكبوتة، ومختومٌ عليها بالأختام، والشّمع الأحمر والقاني، والمظاهراتُ المطالبة بتحسين الأوضاع مقموعة، ومعاقب عليها، والأحرار مطاردون، ومراكز الوعي ملاحقة، والولاء للسّياسة القائمة هو الميزان، والدساتير لا يكاد يعتريها إلا تغيير واحد يساعد على تركيز السّلطة وتثبيتها وإدارتها بيد الشخص أو العائلة أو الحزب المتلخِّص في الشخص وعائلته، وينصُّ على التوريث أو التمديد لشخص الحاكم بعد التمديد حتّى مغادرة الحياة.
أليست هذه المفارقة من الضحك على الأمة، والهزؤ بها، والاستخفاف بعقليّة الجماهير؟!
بلى إنه ضحك، وهزؤ، واستخفاف بالأمة بكلّ جماهيرها، ولكنه يكشف عن مأزق صارت تعيشه الأنظمة الرسمية القديمة ذلك أنّ الوضع العالمي كله لا يترك لها مجالاً إلا أن ترفع شعار الديموقراطية وتُبشِّر به، وإن كانت في داخلها تعاديه.
وينتهي الإعلام العالمي، والإعلام العربي حتّى الرسميّ المشارك في تمجيد الديموقراطية والتبشير بها إلى خلق حالة انشداد وتعلّق جاد ومطالبة عامة جماهيرية على مستوى كلِّ شعوب الأمة تسترخص التضحيات من أجل حُلُم الديموقراطية التي تتناقض عند صدقها مناقضة تامّة مع واقع الأنظمة الفردية والعائلية والرئاسيّة المتوارثة.
ما كان ممكناً وصحيحاً:
كان ممكناً أن تنطلق بداية الإصلاح في البحرين انطلاقة جادَّة، بإرادة سياسية قويّة، ونفس طويل، وأن تعتزم بكلِّ صرامة تسويةَ الأوضاع المختلَف عليها تسوية أقربَ إلى العدل، وكسبِ حالة التوافق ورضا الشّعب، وأن تستمرّ على هذا الطريق متغلبة على كل النتوءات والتعثّرات، وكل دعوات التثبيط، وتحذيرات الانتهازيين، والنفعيين، والمتملّقين.
وهذا هو الصّحيح إذ لو كان لتقدّمنا لحدّ الآن في كل الأوضاع الإيجابية النافعة من أمنٍ وغيره أشواطاً بعيدة، وحقّقنا على خطِّ التقدّم قفزات كبيرة.
وما حصل هو عدول كبير عن خطّ الإصلاح، وتمسُّك شديد بالحلّ الأمني الذي أفسد الأمن، وأضرَّ بكلِّ الأوضاع، وخلّف ما خلّف من كوارث وتخلّفات وتمزّقات، وتوترات، وصارت الناحية الأمنية هي الشُّغلَ الشاغل على مدار الأيام والساعات لكلِّ الأطراف، ووجد البلد نفسه في خط التراجع من جديد إلى أسوء المستويات.
ولا يزال الحل الأمني عند الحكومة هو الخيار حتى لا يُبقي زرعاً ولا ضرعاً إلا يبّسه، ولا خيراً في هذا البلد إلا قضى عليه، ولا أمناً إلاّ أذهبه، ولا إنساناً إلا أقلقه، ولا ثروةً إلاّ وظفها للهلاك، ولا حقداً إلا بعثه، ولا بغضاء إلا نشرها، ولا شرّاً إلا مكّن له(17).
وعلى هذه فقس ما سواها:
قرأ الشعب ما في الوسط عن النائب عبدالجليل خليل من تعذيب مواطِنَين أمامه في مركز شرطة المعارض، ومن الإهانة غير اللائقة التي وجهها ضابط قوّات سافرة في المركز له، والألفاظ الاستعلائية والمهينة للشعب كلّه التي أسمعها إياه. إنضاف إلى ذلك توقيف المواطِنَين، ثم نقلهم إلى النيابة العامّة ليتمّ توقيفهم أسبوعاً على ذمّة التحقيق.
ومن كلمات الضابط التي ملؤها الاحترام والتقدير للشّعب التي نقلها النائب “لا يهمني من أنت ولا من تُمثّل”.
والخبر ذو دلالات واضحة مؤلمة وخطيرة:
1. إذا كان هذا ما يجري في العلن في قاعة اسقبال في أحد مراكز الشرطة وأمام نائب وبلدي فكيف بما يجري من أجل انتزاع إجابات مطلوبة من الموقوفين للمعذّبين في الغرف المظلمة المغلقة؟! وما قيمة تلك الإجابات التي يَعُدُّونها اعترافات ملزمة تقوم عليها أحكام قاسية لِمُدد طويلة؟!
2. إنَّ رجالاً في الأمن لا يرون أحداً من الشّعب شيئاً، ولا قيمة لشعب، ولا لانتخابات، ولا لمجلس نيابي، ويشعرون بالحماية الرّسمية برغم كل ما يصدر منهم من أخطاء وإساءات لهذا الشعب.
3. إن الحل الأمني يخلق نفسيات ملؤها التبجُّح والاستعلاء من غير حقّ على كل طبقات الشعب ورجاله.
4. شدّة المعاناة، والظلم الفاحش، والتغييب الظّالم في السجون لكثير من أبناء الشعب بسبب الأخطاء وروح الانتقام وعدم المبالاة في مصائر الناس من قِبَل عدد من المشتغلين بالناحية الأمنية من تحفيز أجواء الحلّ الأمني، وأثر من آثاره.
ثم إنّ الشّعب الذي قرأ عن الحادثة، ووقف على صورة من صور الظلم الذي يتعرّض له المواطنون، والإهانة التي يتكرّر توجيهها إليه هل يؤمّل كثيراً أن تنصفه الجهة الرسميّة المسؤولة؟ كلُّ سجلّ الأحداث من هذا النوع لا يعطيه هذا الأمل، وهل يأتي شيءٌ على خلاف المرتقب، وهل يُجرّم المظلوم بدل الظالم؟التجارب لا تبشّر بخير، ونرجو أن يكون غيرُ هذا المتوقّع.
أوضاع لا ينقصها التوتّر:
أوضاع البلاد لا ينقصها التوتر، والجو الأمني ملبّد بالغيوم، والحالة القائمة لا تبعث إلاّ على التشاؤم، فلماذا المزيد يا وزارة التربية والتعليم؟ لِمَ الإصرار على أن يكون يوم أربعين الإمام الحسين عليه السلام، وذكرى وفاة الرسول صلّى عليه وآله يوم امتحان عامٍّ للابتدائية والإعدادية والثانوية تجفيفاً لموكب العزاء العام في المناسبتين، وإمعانا في أذى طائفة معيّنة لم تتحول ولن تتحول إلى صفر على الشمال؟
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اكشف هذه الغمّة عن هذه الأمة، وأصلح أحوالنا كلّها للدنيا والآخرة، وباعد بيننا وبين كل سوء، وأعزّ المؤمنين والمؤمنات بعزّك، وأيّدهم بتأييدك، وانصرهم بنصرك يا ناصر المستضعفين، ويا غالب كلّ غالب، يا قويّ يا عليّ يا عزيز.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(18).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- السير في خط فكرة التوحيد ليس سهلاً يحتاج إلى رفع مستوى، ورفع مستوى الأخلاق فيه إعداد لأن أسير وتسير في خطّ التوحيد.
2- 213/ البقرة.
3- فكان دأبهم صلوات الله وسلامهم عليهم أجمعين ردُّ النّاس في هذه الأمور الكبرى وغيرها إلى الصحيح.
4- 25/ الحديد.
5- وليس ليقوم الأنبياء بالقسط.
6- سياسة الظلم في الأرض تُنسي كثيرا من الناس عدل الله. ظلمُ الحاكم، ظلم الإنسان للإنسان كثيرا ما يأخذ بأفكار الناس إلى أن الله سبحانه وتعالى ظالم.
7- مستحيل أن تقوم حياة العدل في الناس من غير ارتباط الفكر البشري والضمير البشري والوجدان البشري بالله والعبودية له.
8- ومعنى الإخراج من الظلمات إلى النور هو الإخراج من النقص إلى الكمال.
9- 16/ المائدة.
10- 126، 127/ الأنعام.
11- 24/ الأنفال.
12- 1/ إبراهيم.
13- 5/ إبراهيم.
14- 257/ البقرة.
15- 90/ النحل.
16- وهذا ما نفعله.
17- هذه هي النتائج للاستمرار في الحل الأمني.
18- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى