خطبة الجمعة (431) 26 ذو الحجة 1431هـ – 3 ديسمبر 2010م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: متابعة موضوع العبادة 
الخطبة الثانية: لماذا يسجنون؟/ الدعوة إلى انفصال الأمة عن علماء الدين

جرَّبت البحرين القيادة الدينية في ظلِّ شيخنا الجمريّ الذي ما كان يستهدف إلاّ الإصلاح، وكلُّ دعواته إنما كانت للعدل والمساواة والإخوّة الإسلامية والإنسانية والتقدّم الكريم في هذا المجتمع، وقد شهدت سيرته بكل ذلك.

 

الخطبة الأولى

الحمد لله ملاذِ اللائذين، ولا ملاذ غيره، ومعاذِ العائذين، ولا معاذ سواه، وهو جارِ المستجيرين، ولا مُجير دونه، العاصم من الزلل، المنقذِ من الخطر، الدافع للضرر، راحم المسترحمين، وغياث المستغيثين، وحبيب قلوب الصادقين، وناصر المستضعفين، ومذلِّ المستكبرين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله وإماءه ونفسي وأهلي بتقوى الله، والرغبة إليه، والطمع في ما عنده، والزهد في ما في أيدي النّاس، والاستغناء به عمَّن سواه فلا مُغنيَ لمن لم يغنه، ولا مفقر لمن أغناه، ولا مُهلِك لمن أنقذه، ولا منقذ لمن أراد به سوءاً، ولا صارف لأمره، ولا مُعطِّل لقضائه، ولا مُبْطِل لقدره، ولا قوّة إلا من قوّته، ولا حول إلا من حوله، ولا حيلةَ إلا بإذنه، ولا مفرّ إلاَّ إليه.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل توكّلنا عليك، ولجأنا إليك، وانتصارنا بك، وثقتنا فيك، واجعل آمالنا إليك متّجهة، وقلوبنا بك مطمئنة، وهمّتنا إليك مصروفة، وأعمالنا عندك مقبولة، وطاعتنا مرضيّة يا أرحم من كلّ رحيم، ويا أكرم من كلِّ كريم.
أما بعد أيّها الأحبة في الله فهذه متابعة للحديث في موضوع
 العبادة:
معبودٌ لا يغيب:
لا معبودَ حاضراً دائماً إلا الله، فكل معبود من دونه يغيب وهو لا يغيب. ولو أفاق العقل، واستيفظ القلب، وصحَّت البصيرة لما عَبَدَ عابد غائباً، ومن يُحتمل فيه السهوُ والنسيانُ والانشغال والغفلة. وما أهونَ معبوداً لا يرى من يعبدُه، ومن يكونُ مغشوشاً لعابده!!(1) وما أخسر عابداً يَعْبُدُ من يُسيء فيه الظنَّ فيجازيه شرّاً وهو يعبده، ويُخلِصُ له.
والعابد لله قد يَغْفُل عن علم الله فيسيءُ العبادة، ويخرج على أدبها، ويأتي فيها بما لا يليق، وكلّ ذلك بعلم الله، وتحت رقابته.
أما الذَّاكر لله فيسود الخشوع عبادته، وتملكه المسكنة والضّراعة وهو بين يديه، ويملأ الأمل والاطمئنان قلبه وهو يرفع كفَّه إليه. والفقه يُحسن العبادة، ويمكّن من مراعاة حقّها، والأخذ بأدبها، وأن تأتي بالصورة المرضيّة عند الله عزّ وجل.
والله عالمٌ بمن يراه، ومن لا يراه، ومطّلع على كلّ ذاكر وغافل.
والعبادة لا تلذّ إلا من ذاكر، ولا تطيب كما ينبغي إلا من نفس ترى الله وهي تعبده.
ويقول القرآن الكريم عن الله الشاهد الذي لا يغيب:{…. وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }(2) فالحضور دائم، والإحاطة شاملة، والشهادة مستوعِبة ومحفوظة لا تنسى ولا تغيب.
وما أوجبها للخجل، وأدعاها للأسف، والشعور بالذنب والخسارة من عبادة تصحبها الغفلة، ويطبعُها انصراف القلب، ولهوُ الخاطر، وانشغال النفس عن الله!!
وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”أعبُدِ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك”(3).
وهل يُطيق من رأى الله عزّ وجل إلا أن يصعق، وهل تملك نفسه أن تثبت أمام عظمته؟! وإذا كنّا دائماً بمرأى الله عز وجل فلنخش، ولنستح، ولنتأدب، ولنحذر.
ولكل معبود في نفس عابده مهابة، والحقيق بالمهابة في القلب الوعيِّ هو الله وحده. وما أكثر ما تملكنا مهابةُ غير الله حين ننسى مهابته. في الرواية عندما أرادت زليخا من يوسف عليه السلام فعل القبيح غطّت صنمها، وعن الإمام الباقر عليه السلام:”… فقال لها يوسف: ما صنعت؟ قالت: طرحت عليه ثوباً أستحي أن يرانا، قال: فقال يوسف: فأنت تستحين من صنمك وهو لا يسمع ولا يبصر ولا أستحي من ربي؟”(4).
ومن يسمع ومن يبصر من كل معبود من دون الله عزَّ وجل(5) يمكن أن يغفُل، ويمكن أن يُستغفل، ويمكن أن ينشغل، وتصرفه الصوارف، ويمكن أن يغيب، ويمكن أن يكون في سكرات الموت وعابده يعبُده.
والمعبودون من غير الله يمكن أن تُحيل بينهم وبين علمهم الحوائل، والله وحده لا يحول بينه وبين علمه أي حائل.
لا تعبد غير الله:
روح العبادة الطاعةُ للغير لذاته، وإظهارُ الذلّ بين يديه استجابةً له لنفسه. والله وحده هو المستحق لأن يطاع لذاته، ويستجاب لأمره لنفسه، ويخضع لجلاله وجماله وكماله دون توسّط شيء غيره.
والطاعة لغير الله لو كانت لأمر الله ومن أجله(6) كانت عبادة له سبحانه، أمّا لو كانت على خلاف أمر الله وفي معصيته فهي عبادة لذلك الغير.
ونقرأ في هذا المعنى:
ما عن الإمام الصادق عليه السلام:”ليس العبادة هي السجود ولا الركوع، إنما هي طاعة الرجال، ومن أطاع المخلوق في معصية الخالق فقد عبده”(7).
السجود والركوع إنما هما لله وحده، والنّاس لا يعبد بعضهم بعضاً في العادة عبادة سجود وركوع حسّيَّين، ولكن تكثر عندهم عبادة الرجال بطاعتهم في معصية الله. والحديث ينبّه على هذا الأمر.
وما عن الإمام الباقر عليه السلام:”من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدِّي عن الله عزّ وجلّ فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان”(8).
الاهتمام بالحديث المسموع أو المقروء بما فيه من هدى أو ضلال، وخير أو شر للأخذ به وتطبيقه وتجسيده وصوغ الحياة في ضوئه عبادة لقائله وكاتبه.
وهذا الناطق والكاتب إمّا أن يكون مؤدّياً عن الله فيكون الأخذ بما يقول أخذاً عن الله وطاعة له، واستجابة لأمره ونهيه فتكون العبادة له. وإما أن يكون مؤدياً عن الشيطان وحزبه فتكون الاستجابة استجابة للشيطان، والطاعة له.
وما عن الإمام الصادق عليه السلام وقد سأله أبو بصير عن قوله تعالى {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ…}(9) “أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم،(10) ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم(11). ولكن أحلّوا لهم حراماً، وحرّموا عليهم حلالاً، فعبدوهم من حيث لا يشعرون”(12).
فهناك عبادة مكشوفة كعبادة الركوع والسجود، ولا يُسرع النّاس للدخول فيها بالنسبة لبعضهم البعض، وكثيراً ما يمنع من الاستجابة لها لو طلبها المستكبرون الإيمان.
وهناك عبادة غير مكشوفة، وهي عبادة الامتثال لما يحرّمه المبتدعون مما أحلَّ الله، ويُحلّلونه مما حرَّم، ومن أولئك أحبار ورهبان. وهذه العبادة يقع فيها الكثيرون، ولا يستوحشون منها، وفيها قضاء على الدّين الحق، وإشادة للباطل، واختلاق لأرباب من دون الله.
وهذه العبادة سارية اليوم، وتحوّلت عُرفاً مقبولاً، ومن أنكرها انصبَّ عليه غضبت المستكبرين.
فكم تُسنّ اليوم من قوانين من جهات غير شرعية وعلى خلاف إذن الله وشرعه، ويستجابُ لها من كثير من المسلمين عن قناعة ورضا. وهذه هي العبادة التي أنكرها القرآن الكريم حسب الرواية مِنَ الَّذِين {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ…}.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وأزواجنا وكل من أحسن من أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا جميعاً إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أصدق توحيدنا لك، وجنِّبنا أن نعبد سواك، أو نشرك بك شيئا، ونتخذ من دونك أرباباً، ونقبل على خلاف تشريعك تشريعا، ودون دينك دينا، وأن ندخل طاعة على خلاف طاعتك، وولايةً لا تنتهي إلى ولايتك، واكفنا شرّ الدنيا والآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(13).

الخطبة الثانية

الحمدلله الذي أوجدَ الكون ونظَّمَه، والإنسانَ وأحكمَ وجوده، وأحيا الأحياء وهداها، وخلق البحار والأنهار وأجراها، وجعلَ الليلَ مظلماً، والنّهار مبصراً، والنّور دليلاً.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله وأن لا ندخل في معصيته فإنَّه عليم خبير، وعلى كلّ شيء قدير، ولا نقصِدَ لمضادّته فإنه أقوى قويّ، وأعظمُ عظيم، وأشدّ شديد، ولا يقوم لقهره شيء، ولا نتساهل في طاعته فإنه أكرم كريم، وأجود جواد، ولا يجزي جزاء أحدٌ، ولا مثوبةَ تعدل مثوبتَه، وهو المُنعِم ابتداءاً، المفيض إحساناً.
ولنحذرْ التعالي في الأرض، والتكبُّر على الناس، فإن الله لا يحبُّ المستكبرين، وهو قاصم الجبَّارين، مبير الظالمين، والمستكبر ظالم لنفسه، ظالم للنّاس.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم ارزقنا دوام التذلّل بين يديك، والخشوع لعظمتك، وأعذنا من الاستكبار على عبادك، وأرنا في عافية ذلّتنا إليك، وحاجتنا لرحمتك، وضعفنا أمام قهرك، وارفعنا بالعبودية لجلالك وجمالك، وقدسك وكمالك عن العبودية لمن سواك يا حنّان يا منّان، يا محسن، يا جواد يا كريم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله الصادق الأمين خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفَّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا دائما ثابتا مقيما.
أما بعد فهنا موضوعان:
لماذا يسجنون؟
في المقدّمة: الكلام أو السكوت لمجرد إرضاء النّاس عبادةٌ لهم، والمؤمن يسأل الله عزّ وجلّ أن يعصمه من عبادة غيره والذين لو عبدهم لما أنقذوه من سوء، وكان عند الله من الهالكين.
وكلٌّ من الكلام والسكوت له تفسيراتُه المختلفة عند النّاس على اختلافهم، وكثيراً ما تخطئ التفسيراتُ واقعَ الأمور، وكثيراًَ ما تختلف التقديراتُ عن التقدير الذي انطلق منه التقديم أو التأخير لموقف الكلام أو السكوت، ومقدارُ هذا أو ذاك واختيارُ ظرفه وتوقيته.
ولا يملك المرءُ أن يمنع تفسيرات وتقديرات الآخرين أصابت أو أخطأت، ومن أيِّ منطلق انطلقت، وليس عليه أن يكون واضحاً دائماً للجميع وفي كل الموارد، فالوضوح قد يطلب بكل ثمن، وقد لا يُطلب.
هذه مقدّمة، ومقدّمة أخرى: إننا نتطلّع لبلدٍ تسوده سياسة عدل بلا ظلم، ومساواة بلا تمييز إلاَّ على أساس الكفاءة والأمانة، ولا يسلك مسلك الانحدار الخلقي، والبُعد عن الله سبحانه، ولا يعرف إرهاباً ولا عنفاً، ولا يعيش حالات من الغليان والتفتت.
أمّا العنوان الذي صُدِّر به هذا الحديث فيعني الإخوة الأعزاء الذين لا يُنسون، ولا يمكن أن يُنسوا من مشايخ وأساتذة قد سُجنوا وأُدخلوا في محاكمات على أساس أنهم مجموعة إرهابية ولها مخطّطات خطيرة؛ منها كما جاء في الحملة الإعلامية والرسمية الواسعة في الأيام الأولى لإيقاف الإخوة محاولةُ قلب النظام وهي دعوى حدث التراجع عنها بعد ذلك لزيفها وانفضاحها، ومثلها دعاوى لا زالت قائمة.
وسجن الإخوة ومحاكمتهم إما أن يكون لأن لهم رأياً سياسيّاً يصرّحون به كما يصرّح به الكثيرون وإن شهد التعبير اختلافاً بدرجة وأخرى مما لا يخرج به إلى حدّ الثورة والانقلاب والفتنة العامّة، ولا يطبعه بطابع التمرّد على أساس الحكم، وثابت الميثاق والدستور. وقد تشذّ كلمةٌ هنا أو هناك عن المألوف، وما ينبغي أن يقال مما لا يُمثّل رأياً ثابتاً يُعوّل عليه صاحب الكلمة. وهو ما قد يحصل عند كل الأطراف.
وعلى هذا الفرض وتأكيد الدستور والميثاق على حريّة الرأي السياسي يكون سجنهم ابتداء، واستمرارهم في السجن ومحاكمتهم لا مبرر لها على الإطلاق، وأمراً داخلاً في الظلم، وانتهاك حق المواطن، ووئد الحريَّة السياسية، والمعاقبة على الرأي والكلمة السياسيتين المُجازَين ميثاقاً ودستوراً.
وإمّا أن يكون سجنهم ومحاكمتهم على أكثر من ذلك، فموضوع هذا السجن والمحاكمة يحتاج إلى إثبات، والمثبت لأي شيء من ذلك لا يصحّ أن يكون في غرف العذيب شرعاً وقانوناً وعقلائياً وعلى مستوى كل العالم.
وفي أول فُرصة أمكن الأعزّاء أن يعطوا رأياً حرّاً في ما نسب إليهم وذلك في قاعة المحكمة نفوا هذه النسبة جزماً وإجماعاً وبوضوح، وصرّحوا بأن أي اعتراف من أحدهم بأي أمر يعاقب عليه القانون إنما كان تحت الإكراه. وكشف من كشف منهم عن آثار تعذيبه.
القضية حسب طبيعتها وإفرازاتها السيئة على العلاقة بين الشعب والحكم، وبموازين الشرع والميثاق والدستور والعدل العام، وللمصلحة الأمنيَّة التي تهم الجميع يجب أن تتوقف، وأن لا يستمر السجن، ولا تطول المحاكمات، وأن يفرج عن كل السجناء، وأن تعاد للإخوة حريتهم، وأنت تأخذ العلاقة بين الحكومة والمعارضة منحى آخر يسهم فيه الطرفان، ويكفُل للبلد أمنها واستقرارها، وتبادلَ الاحترام بين مكوّناتها؛ الشيء الذي لا يؤسس له التصلُّب في المواقف، ولا يفتح بابه، وينتجُه مثل الإفراج، ورفع حالة التشنّج، والتفاهم على أوضاع علاقة سليمة قانونية تُراعى فيها كل الحقوق، ويتم التوافق عليها.
أما ما استمرّ طويلاً مما يجري عند مداخل القرى وفي طرقها وبين بيوت أهلها من مضايقات وإزعاج، وإرهاب، وإرعاب، وإذلال، وضرب مبرِّح لبعض الصِّبية والشباب فهو أمر شاذّ كلّ الشذوذ عمّا قد يُدَّعى بأنه فرضٌ للأمن، والضبط والانضباط، وعن التمدُّن والتحضّر، والدّين والقيم، والدستور والقانون.
ومواصلة الاستمرار عليه استمرار على إيذاء الشعب وإهانته وإذلاله، وهو أمر لا تمارسه حكومة تريد الإصلاح، وتحرص على تبادل الاحترام بينها وبين شعبها كما هو مقتضى الواجب والحكمة، ورعاية مصلحة الأمن والوطن.
الدعوة إلى انفصال الأمة عن علماء الدين:
هذا موضوع تقدّم الكلام فيه، وقد ذكروا لهذه الدعوة مبررات قد سبق الحديث فيها، وبقي منها أن بقاء المرجعية الدينية للفقهاء والعلماء يؤدي إلى قيادتهم السياسيَّة، وهي قيادة مربكة، وقاصرة، ورجعية، ومعطِّلة لطاقات الأمَّة، وتصادم روح الانفتاح، والعصرنة، والتقدُّم.
ويجري مناقشة هذا التبرير مرّة مع استبعاد البعد السياسي من هذه القيادة، ومرة مع إدخاله.
مع فرض الاستبعاد وقصر هذه القيادة على رعاية الشّأن الدّيني البحت للأمَّة، والتصدّي للإجابة على الأسئلة من هذا النّوع، وتبيين مسائل الدّين، ومواجهة الشّبهات، والحفاظ والتنمية للحوزات العلميَّة فإن الدَّعوة لإسقاط هذه القيادة إما أن تكون مع تعطيل هذا الجانب نهائياً، أو مع إسناد هذه المهمَّة إلى شريحة أخرى غير دينيّة، أو دينية بعيدة عن جوِّ العلماء وفهمهم وثقافتهم.
وهذا الطَّرح يعني إلغاءَ الدّين من وجود الأمة، والقضاء على ما تبقَّى منه، ولا يتقدّم به إلا من كان هدفه ذلك، وإلاّ فكيف تُسند رعاية الدين إلى البعيدين عنه؟! وكيف تُتلقَّى أجوبة مسائله، وآراؤه من غير حملته وعلمائه؟!
وإذا كانت قيادة العلماء التي يُراد تجنيب المجتمع إياها حذراً من أخطارها العظيمة لما تشمله من بُعد سياسي فإن المرجعية الدينية لم يلازمها دائماً وفي كل تاريخها ما تحذره السياسية الدنيوية منها من سحب البساط من تحت قدمها، ولا تحمل هذا الاهتمام عمليّاً في كثير من تجاربها.
والقيادة الدينيَّة ذات البُعد السياسي لها تجربتان في هذا المقطع الزمنيّ الخاص تجربة على مستوى القيادة الشعبيَّة المسهمة في الوضع السّياسي، وأخرى على مستوى القيادة من خلال الموقع الرسمي وإدارة شؤون الدّولة، وكلٍّ منهما جسّد مثلاً رائعاً في مجال القيادة ولم يحدث على يده إلا الانتصار للأمة والعدل والأمن والاستقلال والتقدم العلمي الشامل. إن تجربة الدولة الدينية قدَّمت كل ذلك، وانفتحت على كل طيب من طيبات الدنيا، وإيجابيٍّ من إيجابيات الحضارات، وصلاحٍ من صلاح الإنسان، وأحدثت نقلة كريمة في حياة الأمة.
وتجسّدت تجربة القيادة من خلال الموقع الشعبي في مثل حسن البنّا وسيّد قطب وسيد محمد باقر الصدر، والسيد الخميني الذي تمثّلت فيه القيادة الدينية في كلٍّ من الموقعين، والسيد موسى الصدر، والسيد فضل الله والسيد نصر الله. وكل هذه القيادات لم تتأخر بالأمَّة عِلماً ولا عَمَلاً بل أعطتها التقدم والنباهة واليقظة، وأثارت فيها روح العزّة والكرامة، وساهمت في إصلاح الأوضاع، وأنارت الطريق، ودعت إلى كل تقدّم نافع.
وقد حقَّقت قيادة السيد حسن نصر الله نصراً كبيراً للأمَّة على إسرائيل التي ركَّعت كثيراً من الأنظمة الرسميَّة الدنيويَّة.
وقد جرَّبت البحرين القيادة الدينية في ظلِّ شيخنا الجمريّ الذي ما كان يستهدف إلاّ الإصلاح، وكلُّ دعواته إنما كانت للعدل والمساواة والإخوّة الإسلامية والإنسانية والتقدّم الكريم في هذا المجتمع، وقد شهدت سيرته بكل ذلك.
هذه تجارب القيادة الدينية ولتُقارَن بالتجارب الأخرى في هذا المضمار.
وعدد من الأقلام الدّاعية للانفصال عن المرجعيَّة الدينيَّة(14) خوفاً من أن تكون لها قيادة سياسيّة يبارك أيّ مرجعية دينية موالية لما تواليه هذه الأقلام من أنظمة رسميّة دنيويّة، ويؤكد على صلاحها(15). فالغرض لكل هذه الكتابات معروف مكشوف، والمنطلق إما سياسي ضيق الأفق، أو حضاري معاد لكل ما هو إسلامي.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم أصلح لنا شأن ديننا ودنيانا، واكفنا ما أهمَّنا من أمرهما معاً، وارزقنا الثبات على دينك، والجدّ في سبيلك، والتوفيق من عندك لما تحب وترضى ياربّ يا كريم يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(16).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- وكم من معبود لا يرى عابده، ويغشه عابده؟
2- 61/ يونس.
3- كنز العمال ج16 ص128.
4- بحار الأنوار ج12 ص301.
الربّ العليم الخبير القدير الذي لا يرد قضاءه أحد، ولا يملك أحد لأحد أن يخلصه من أخذه.
5- هناك من يسمع وهناك من يبصر وهو غير الله، لكن يمكن أن يغفل، الصنم لا يسمع ولا يرى، ومعبودون يسمعون ويرون، ولكن ما أكثر ما يغفلون. وسمعهم ورؤيتهم ضيقة محدودة.
6- وفي الحدود التي أمر الله بها.
7- بحار الأنوار ج69 ص94.
أنا موظف ماذا أفعل؟ أنا مأمور ماذا أفعل؟ وظيفتك تنقلك من العبودية لله للعبودية لمن وظّفك؟
8- الكافي للشيخ الكليني ج6 ص434.
9- 31/ التوبة.
10- الرهبان والأحبار لم يدعوا الناس إلى عبادة أنفسهم، لم يقولوا للناس تعالوا اركعوا واسجدوا لنا، ما كان منهم شيء من ذلك.
11- الناس غير مستعدين في الكثير أن يركعوا لي أو يسجدوا لي لو طلبت منهم أو طلب منهم غيري ذلك.
12- الكافي ج2 ص398.
كانت عبادتهم لهم طاعة في الأمر والنهي اللَّذَيْنِ يأتيان على غير وفق أمر الله ونهيه.
13- سورة التوحيد.
14- يريدون للأمة الانفصال عن الدين بالكامل حتى في المسائل الدينية كما تقدّم، وهناك كتابات وفي البحرين بهذا.
15- المعاداة ليس للمرجعية. لمرجعية تدعو للاستقلالية، لمرجعية تدعو للأخذ بالدين. المرجعية الموالية لأي نظام من الأنظمة الرسمية مرجعية مدعومة ومؤيدة ومنتصر لها.
16- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى