خطبة الجمعة (430) 19 ذو الحجة 1431هـ – 26 نوفمبر 2010م

مواضيع الخطبة:

الخطبة الأولى: متابعة موضوع العبادة
الخطبة الثانية: متابعة موضوع الدعوة إلى الانفصال عن علماء الدين/ ذكرى الغدير

علماءُ الدين الحقّ على خلاف عبيد الدنيا والطواغيت الذين يسرّهم أن يتضعضع أمامهم النّاس، ويؤلَّهوا فيهم، وأن لا يعلو صوتهم وإن كان صوت منكر وباطل صوت

الخطبة الأولى

الحمدلله خالق الخلائق ومليكِها، وهاديها ومدبِّرها والمتصرِّف فيها، والمشرِّع لمن كان مَحَلاًّ للتشريع من بينها. لا مُعينَ له في خلق، ولا مُنازع له في مُلك، ولا شريك له في هداية أو تدبير، ولا مُزاحِم له في تصرُّف، ولا حقَّ لأحدٍ غيرِه في تشريع.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون. اللهم صلّ على محمد وآل محمد.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله التي لا يصلح أحد إلا بها، ولا فسد من فسد إلا بالتنكّر لها ومفارقتها، وما طهُرت نفسٌ بدونها، وما نجا من غضب الله من استخفَّ بها، وما أفلحت أمّةٌ أخذت بخلافها، وما ظهر الفساد في البرّ والبحر، وما ساءت أحوالُ الحياة إلا بالتخلّي عنها.
فلنلزمْ عباد الله جانبَ التقوى طلباً لمرضاة الله، وحتّى لا تتعسّر الحياة، ويشُقَّ الممات، وتسوءَ الآخرة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم خُذْ بيدنا برحمتك إلى طاعتك، وألزمنا بلطفك جانبَ التّقوى، وانأَ بنا عن معصيتك، ولا تتركنا لما يستوجِبُ نَقِمَتَك، واجعلنا من أتقى أهل تقواك، وأسعدِ من سَعد بِقُربك ورضاك وطاعتك.
أما بعد فالموضوع موضوع 
العبادة:
هدف العبادة:
القرآن الكريم يجعل العبادة هدفاً للخلق في قوله تبارك وتعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(1). وفي آية أخرى يقول عزّ من قائل {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(2). فالعبادة التي جُعِلتْ هدفاً للخلق بدلالة الآية الأولى لا تُمثّل الهدفَ النهائي له حيث تجعل لها الآية الثانية هدفاً وهو تقوى الله.
وفي تقوى الله يجد الإنسانُ رحمتَه، وراحتَه، وكمالَه، وصلاحه، وفلاحه ونجاحه، وسعادته.
وما خَلَقَ الله النّاسَ إلا لرحمتهم وكمالهم، وصلاحهم، وفلاحهم، ونجاحهم، وسعادتهم. وذلك ما يفيده قول الخالق العظيم {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ…}(3). وأكبر الرَّحمة أن تخلُصَ النَّفسُ لله عزّ وجلّ، ويكون كلّ توجّهها إليه، وانشدادِها به، واشتغالِها بذكره، وتخلُوَ من الشوائب التي قد تحجبُها عنه، وتنفصلُ بها عن معرفته والتعلّق به. يقول ربُّنا الكريم ممتنّاً على أهل البيت عليهم السلام {…. إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(4).
فكُلَّما انشغلت النّفس بغير الله منصرفةً عنه سبحانه، وكُلَّما انفصلت عنه، واعتمدت على سواه من نفسِها أو من غيرِها انفصلتْ عن المصدر الحقِّ الذي لا ثانيَ له للغنى والرحمة والعطاء والهُدى والكمال، وفي ذلك النّقصُ والشّقاء والضلال، والتّيه والضّياع.
ومن الكلمات عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام:”في الانفراد لعبادة الله كنوز الأرباح”(5)، “دوام العبادة برهان الظّفر بالسّعادة”(6).
وعن الإمام الرِّضا عليه السلام في بيان علّة العبادة:”لئلا يكونوا ناسين لذكره، ولا تاركين لأدبه، ولا لاهين عن أمره ونهيه، إذ كان فيه صلاحهم وقوامهم، فلو تُرِكوا بغير تعبّد لطال عليهم الأمد، فَقَسَت قلوبهم”(7).
ولو نَسِيَ النّاس ذكرَ الله لكان نسيانهم للمَثَل الأعلى والكمال المطلق، والحيّ الذي لا يموت، والقدرة التي لا تتناهى، والعلم الذي لا يُحدّ فتسِفُّ حياتُهم، وتتميَّعُ، وتَنْفَلِتُ، وتضيع، وتنزلق، وتنحدر، وتهوي إلى بعيد.
ولو تركوا أدب ربّهم لقبحت ذواتهم وحياتهم، وكان خَطُّهم السقوط، ومكانُهم المستنقع، وكانوا إخوة للبهائم، وأبعد من ذلك عن الاستقامة.
ولو لَهَوا عن أمره ونهيه، وانصرفوا عن تشريعه لم يكن لهم دليل كافٍ على كمال ولا سعادة، ولا آخذٌ بيدهم إلى الغاية.
والنتيجة لهذا النسيان والتّرك واللهو الفاصل عن مصدر الحياة والهدى والنّور أن تقسوَ القلوب قسوةً لا تسمح لها بنموٍّ ولا حياة، ولا استفادة من هُدى ونور، فتستسلمَ للظُّلمة والموت والجفاف.
العبادة والمعرفة:
للعبادة عطاءٌ من مستوى المعبود، ومعرفته، ودقّة العبادة، وإخلاصها.
فعبادةُ الأصنام مردودها لا يتجاوز مستواها؛ ومن مردودها الانغلاق والهمود والجمود والتحجّر، وعبادة الجاهل أو الظالم تترك أثراً من جِنسه على من اتّخذه معبوداً، ورأى فيه مثلاً.
وعبادة الكامل المطلق لا يتناهى عطاؤها من الكمال من ناحية المعبود، ولا يتحدّد إلا بمقدار طاقةِ العابد، ومدى صِدْق عبادته، وجهده، وسعيه في اتجاه معبوده.
ومن أساءَ معرفة الكامل أو حدَّه لم يعبُدِ الله، وانعكست آثارُ سُوء معرفته، وتحديده على مردود عبادته.
وآثار عبادة الله تبارك وتعالى بمقدار معرفته؛ فمن عَظُمَتْ معرفته بالله جلّت آثار عبادته له في نفسه وحياته، ومن قلَّت معرفته بربّه الكريم قلّت الآثار الكريمة لعبادته.
العبادة الحقيقيَّة مبدؤها المعرفة الحقيقيَّة. تقول الكلمة عن الإمام الرِّضا عليه السلام:”أول عبادة الله معرفتُه”(8)، وعن الإمام عليٍّ عليه السلام:”سكّنوا في أنفسكم معرفة ما تعبدون(9)؛ حتى ينفعكم ما تحركّون من الجوارح بعبادة من تعرفون”(10).
فمن صلَّى الصلاةَ الشّرعيَّة بكلّ حدودها لمعبودٍ يظنُّ جهلَه أو عجزَه، أو ظلمه، أو يجسِّمُه، ويرى محدوديته، لم ترتفع به صلاته الارتفاع الذي تعطيه الصلاة للجليل الجميل الكامل المطلق تنزَّه وتقدَّس، وتبارك وتعالى. والصلاةُ للظّالم لا تصنع عدلاً، والصّلاة للجاهل لا تخلقُ في النفس حالة رقابة، ولا اطمئناناً ولا سكينة.
وهل لو صلَّى امرؤ صلاة الإسلام لحجر رفعته؟ لا، ولكنَّها تضعه.
والعبادة التي تبني العابدَ للمعبود الحقِّ بعد معرفته هي العبادة التي تأتي وِفْق تشريع المعبود وإرادته. ولذا جاء عن الإمام عليٍّ عليه السلام:”لا خير في عبادة ليس فيها تفقُّه”(11).
فالعبادات الشرعية ذات تصميم خاصّ محكم دقيق من وضع العليم الخبير الذي لا يقوم مقامه تصميم، ولا يعدله معادِل، ولا يجوز عليه تعديل، ولا تُنتج نتيجته البدائل.
والجهل بمقوِّمات العبادات الشرعية وما اعتُبر فيها لا يؤهِّل العبد لعبادة الله العبادةَ المثمرة، وقد تبتعد به عن ربِّه كثيراً.
ومن استخفّ بفقه العبادة فقد استخفّ بالعبادة نفسها، والمستخفُّ بالعبادة مستخفٌّ بالله العظيم، وهو مُهلِك لنفسه، وما أغنى اللهَ عن طاعة العباد وعبادتهم؟! ولو شاء جَبْرَهم على ذلك لفعل؛ ولكنّه الغنيُّ الحميد.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا ومن علَّمنا علماً نافعاً في دينٍ ودنيا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، ولجميع من أحسن إلينا منهم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم هب لنا لطفاً من لطفك يُدنينا من معرفتك، ورحمةً من رحمتك تقرّ بها عيوننا بطاعتك. ربنا ارزقنا حبَّ طاعتك وعبادتك، ويَسِّر لنا أمرهما، واجعلهما عن معرفةٍ ويقين، وفقِّهنا في دينك، واسلك بنا السّبيل إليك، ولا تعدل بنا عن صراطك يا حنَّان يا منّان يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(12).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا حاجةَ له في جزاء، ولا يضيق غِناه عن العطاء، ولا يُكافئ عبده على السّواء، ومِننه ابتداء. إنْ يعفُ فعفوه تفضّل، وإنْ يعاقب فعقابه عدل، وإن يشكر فشكره امتنان، وعادته التفضُّل والإحسان.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
عباد الله علينا بتقوى الله فما تزوَّد أحدٌ بزادٍ خير من التقوى، ولا استتر بستر أوقى منها، ولا اتّخذ ما يُزينه من شيء كما اتّخذ منها، وهي الواقية من النّار، المُدخِلة للجنّة، المانعةُ من سخط الله، المستوجبة لرحمته، الدافعة لنقِمته، المحقِّقة للمزيد من إنعامه وإكرامه وإحسانه.
ولنقتلْ عباد الله الطمعَ بالاعتبار، ولن يغلبَ طمعٌ معتبراً، بل الطمع مغلوب للاعتبار فعن الإمام علي عليه السلام:”من اعتبر بغِيَر الدُّنيا قلّت منه الأطماع”(13) فلماذا يطمع الطّامع والدّنيا لا تبقى على حال، وهي فتّاكة بأهلها، آتيةٌ عليهم، وإن هادَنَت فمهادنتها قصيرة، وإن سالمت فمسالمتها قليلة؟!
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، وتب علينا جميعاً إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا ممن لا تجدُه على معصية، ولا يتخلَّف عن طاعة، ولا ينصر ظلماً، ولا يخذل عدلاً، ولا يرضى بقبيح. اللهم اجعلنا من السبَّاقين لا المسبوقين في سبيلك، ومن المستقيمين لا المنحرفين عن صراطك. ربنا افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتّقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفَّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً مقيماً.
أما بعد أيها الكرام من الإخوة والأخوات فالحديث فيه عودة لموضوع (الدعوة إلى الانفصال عن علماء الدين) ويتناول بعد ذلك ذكرى عيد الغدير.
الدعوة إلى الانفصال عن علماء الدّين:
تعتمد هذه الدّعوة على عدد من الدعاوى وقد تقدّم الكلام في الخِطبة السابقة بشأن ما قالوه من أنّ مرجعية علماء الدين بلا موجِب حيث أن الكلّ يملك القدرة على التفكير، وفرصة الرّجوع إلى المصادر الإسلامية لو أراد ذلك، والتعامل معها التعامل الناجح.
ويتناول الحديث هنا عدداً من النقاط الأخرى المثارة بهذا الشأن.
وتقدَّم أولاً، وهذا ثانياً:
يُشمُّ من أقوالهم بأنَّ مرجعية الفقهاء والعلماء موضوعها الحلال والحرام، وما يجب وما لا يجب، وهذه مسائل قد تجاوزها الزّمن، ولا ينبغي أن تأخذَ من اهتمام الشعوب والمجتمعات.
وهذا كلام لا يقوله مسلم على الإطلاق لأنّ الدّين ما هو إلا عقيدة وشريعة، وموضوع الشريعة ما يجوز وما لا يجوز، وما يجب وما لا يجب، وما هو حلال وحرام. والنقاش مع المُنكِر للشريعة موضوعه أصل الإسلام وعدمه، لا مرجعية العلماء وعدمها(14).
والحلال والحرام غير قابلين للتّقادم والإلغاء لأن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة. وهذا أمرٌ بديهي من بديهيات الإسلام.
ثالثاً: قالوا بأن علماء الدين لا تقف فتاواهم عند حدّ، وليس لها سقف، وتتدخّل في كلّ علم، وتتلصّص على كلّ اختصاص.
وعلماء الدين الحقيقيون من أخشى من يخشى الله، ومن أبعد النّاس عن الكذب، فلا يقولون على الله افتراء، ولا يستحلون الكذب على خلقه، ويحترمون العلمَ كلّ الاحترام، ولا يستخفّون بقدره. ومن تقواهم أنّهم إذا استُفتوا في أمر من الدين مما يجهلونه اعتذروا عن الجواب، أو أرجأوه إلى المراجعة، ومنْ خالطهم يعرف منهم هذه السيرة.
وأيُّ عالم دين حقيقي أعطى آراء من عنده في الهندسة، أو الطب، أو الرياضيات، أو الفلك، أو غيرها؟! بل أيّ منهم استغنى بعلمٍ يدّعيه في هندسة أو طبٍّ أو بخبرة ينسبها إلى نفسه في طيران أو غير ذلك مما ليس له، ولم يرجع إلى المختصّين في اختصاصهم(15).
وأظنُّ أن ما يريده هؤلاء من تجاوز علماء الدين لاختصاصهم، وتدخّلهم في شؤون الغير من أهل الاختصاص هو كلامهم عن مسألة الظلم والعدل، وسلب حقّ الشعوب، والمتاجرة بقضايا الأمّة، والتلاعب في مصيرها من قِبَل كثير من الساسة، وهذا هو ما يستكثر على علماء الدّين، وعلى كلّ مواطن آخر ينتقد واقع السياسات المنحرفة.
ويجب أن يُميّز بين علم السياسة والمذهب السّياسي، وكذلك بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي، وعلم الاجتماع والمذهب الاجتماعي. فالعلم الخاصّ مجموعة من القوانين، والروابط العليّة والمعلوليّة الواقعيّة التي تُوصل إلى نتائج معيّنة مما لا ربط له بقيم ولا معاييرَ خُلُقيَّة، ولا كلام للدِّين فيها(16)، أمّا مثل المذهب السياسي فيرتبط بقضية العدل والظلم، وما ينبغي وما لا ينبغي، وما يقرّه الضّمير وما لا يقرّه، وما أَذِن الله به وما لم يأذن، وما يحقّ للفرد والمجتمع وما لا يحقّ، وما يمكن أن يُتصرّف فيه من شأن الغير وما لا يُمكن أن يُتصرف فيه.
وإذا كان للدين مذهبه السياسي، ومذهبه الاقتصادي، والاجتماعي فمن هو الأحقُّ بالتحدّث عنه وبيانه من علماء الدّين المتوغّلين في دراسته؟
عالم الدين كغيره من أهل الاختصاصات الأخرى لا يتحدث في مجال غير مجاله إلاّ أن يكون له أكثرُ من اختصاص، ويتناول ذلك المجالَ اختصاصُه.
وإذا وُجد عالمُ دين شاذٌّ لا يقدِّر الأمور حقَّ تقديرها وخاض في علم بغير علم فموقفه مرفوضٌ ديناً. على أنّ أكثر النّاس فضولاً، وأبعدَهم عن الموضوعية واحترام الذّات، وتوقير العلم، والتأدُّب بأدبه هؤلاء النّاس الذين يُكثرون القولَ في الدين، ويبتُّون بآرائهم في القضايا الدينية، وهم بعيدون عن شأن الدين ودراسته، ويُفتون في أمره وهم أبعد النّاس عن درايته.
ثالثاً: القداسة الكاذبة:
قالوا بأنَّ مرجعية الفقهاء والعلماء تستتبع إضفاء قداسة كاذبة عليهم، وترتفع بهم في نظر العامَّة فوق مقامهم، وتجعلهم في النَّظر العادي في مقام الأنبياء والملائكة.
وعلماء الدِّين شأنهم شأن غيرهم من كان منهم مُحسِناً قُدِّر له إحسانه، ومن كان مسيئاً أُدين بإساءته(17)، ومن كان صادقاً مخلِصاً متواضعاً أقبل عليه النّاس، ومن كان دون ذلك وجد منهم ابتعاداً ونفوراً.
ولذلك نجد العلماء أقداراً متفاوتة عند الناس المتّهمين في هذا القول بالسّذاجة(18)، فالناس ليس كما يظنُّ هذا القائل، وليسوا مُصابين بالغباء كما يرميهم ولذلك لا يُساوون يبن كلّ العلماء كفاءة ولا تقوى ولا عدالة.
والعلماء الصّادقون ممن يخشى اللهَ عزّ وجلّ لا يظنّون بأنفسهم خيراً برغم ما قد يكونون عليه من الخير، ولا يعطونها فرصة لأن تستكثر طاعة، أو تستقلّ معصية، أو أن تزكّيَ عملها ونفسها، وتعيش حالة التبجّح بعلمٍ أو تقوى.
ولا أرى عالماً من علماء الدّين الحقِّ يرى نفسه فوق الخطأ في علم أو عمل، وأنّه نبيٌّ أو ملك ممن لا تجوز عليه معصية، ولا يعرضه خطأ.
علماءُ الدين الحقّ على خلاف عبيد الدنيا والطواغيت الذين يسرّهم أن يتضعضع أمامهم النّاس، ويؤلَّهوا فيهم، وأن لا يعلوا صوتهم وإن كان صوت منكر وباطل صوت(19).
نعم علماء الدين الحقيقون بهذا العنوان ليسوا جماعة من الأشرار، وسفلة الناس الذين يصحُّ أن تنالهم الألسن لِتُسقِط شأنهم درءاً لما يمثّل السكوت عليهم من خطر انتشار الشرِّ، وشيوع التسافل.
على أنّهم ليسوا فوق النّقد مع الاحتفاظ بحرمة العلم والإيمان والكرامة الإنسانية، ومراعاة جانب الأدب كما في كلّ الآخرين(20).
ويبقى من الاعتراضات على مرجعية الفقهاء والعلماء الخوف من قيادتهم.
ذكرى الغدير:
ترتبط ذكرى غدير خمّ بقضية الإمامة.
والإمامة قيادة إنسان لحركة الإنسانية في اتجاه صاعدٍ لله عزَّ وجلّ عبر تبليغ دين الله، وإفهامه، وتنفيذه في حياة النّاس بتعاون من إرادتهم، وبكل نُظمه من نظام عبادي، واجتماعي، واقتصادي، وسياسي، وإداري وعلى مستوى نواحي الحياة كلِّها إيصالاً للنّاس لغاية نُضجهم وكمالهم(21).
وهذا الإمام بهذه الوظيفة الكبرى بالغة الدّقة والخطورة، وما تتطلبه من إحاطة شاملة بالدين، وفهم لا يخطئه، وتفسير لا ينحرف عنه أو به، وأمانة لا تفرّط فيه، ولا تزيد عليه، ولا تنقص منه، وهمَّة عالية لا تقصر عنه، وإرادة حاسمة لا تشكو من ثقل مجاراة أمره ونهيه، وحَمْلِ ما خصَّ وما عمَّ من تكاليفه، ونظرٍ لا يغيب عنه(22)، واهتمام لا يسهو عن مصلحته، ومتابعة مستمرة لكل شأنه، وما يعترضه ويتهدّده، ويتحدّاه، وما يستجدُّ على أيّ يد عابثة على أمره، وحراسة لا تغفُل عن كيد أعدائه، وعلم لا يعجز عن الردّ على أيّ شبهة تثار في وجهه، وعزم لا يتراجع أمام أي صعوبة تقف في طريقه… هذا الإمام بهذه الوظيفة وكل متطلباتها لا يمكن لأفهام النّاس تشخيصه، ولا يمكن أن يقِلّ عن مستوى العصمة في علمه ونفسيته وعمله، والعصمة ابتداءً واستمراراً لا يعلمها إلا علاّم الغيوب(23).
وكثيراً ما عاندت الأمم المعصوم وإن تجلَّت لهم آثار عصمته(24)، وجاء من الآيات أو الكرامات ما يكفي لتأييده. فكيف يُترك تعيينه للناس على ما هم عليه من الجهل والعناد؟! لذلك لم يتُرك أمر الإمامة للنّاس، وإنما كان الاصطفاء للإمام من الله، وتعيينه من قبله.
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }(25).
ومَنْ غَير الله يعلم بأنهم صبروا حقّاً الصبر الذي يريده الله، وأنهم كانوا بآيات الله يوقِنون حتّى يتأتى له أن يختارهم للإمامة؟!
وكم هم الذين يتغلّبون على هواهم وطموحهم من النُّخب فلا يزاحمون من علموا بعصمته، ويسلّمون إليه؟!
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}(26).
ومن يعلم من دون الله أنهم كانوا عابدين حقّاً وصدقاً له سبحانه(27)، وموحِّدين له، ولم يشركوا في عبادته طاغوتاً ولا هوى حتّى يختارهم أدلاء على الله وقادة الناس إليه، ويبقيهم على ما اختارهم له؟!
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً…}(28).
ومن الذي يعلم مدى ابتلاء إبراهيم عليه السلام بتلك الكلمات(29)، والمواقف الصعبة، والمحن الشداد، وأنه الابتلاء الذي يعني تجاوزه بنجاح التأهُّل الحقّ للإمامة؟!(30) ومن يعلم إتمام إبراهيم عليه السلام لتلك الكلمات كما يرضى الله سبحانه غير ربّه العليم بما يُكنُّه صدره، وتُسرِّه نفسه، وتختزن جوانحه؟!
والإمامة لا تكون لمن عدل بعد ظلمه كما يفهم من سؤال إبراهيم عليه السلام وهو المعصوم الذي لا يمكن أن يسأل الإمامة لمن بقي ظالماً، أو استبدل عن العدل بالظلم. ولا يتَّجه السؤال منه إلا لإمامة من كان عدلاً على الإطلاق، أو عدل عن الظلم للعدل وبقي عليه. والجواب في الآية الكريمة ينفي الإمامة عن الثاني فلا يبقى لها إلا الأول وهو العدل النقيُّ من الظلم على الإطلاق(31).
ثم إن الشرك من أكبر الظلم، والنفس البريئة من كل شائبة شرك ليست إلاّ نفس المعصوم على المعصومين كلهم السلام.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ثبتنا على ولايتك، وولاية محمد وآل عليه وعليهم الصلاة والسلام، ولا تفرّق بيننا وبين هذه الولاية العزيزة الغالية طرفة عين، وأحينا محيا محمد وآل محد، وأمتنا على ملتهم، وابعثنا مبعثهم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم يا قويّ يا عزيز انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، وأحلل غضبك بالقوم الظالمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(32).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- 56/ الذاريات.
2- 21/ البقرة.
3- 119/ هود.
4- 33/ الأحزاب.
5- ميزان الحكمة ج6 ص: 2368.
6- المصدر السابق.
7- الفصول المهمة في أصول الأمة ج1 ص: 297.
8- الأمالي للشيخ المفيد ص: 253.
9- حقيقة المعبود.
10- تحف العقول ص223.
11- بحار الأنوار ج2 ص: 49.
12- سورة التوحيد (الإخلاص).
13- ميزان الحكمة ج3 ص: 1812.
14- علينا أن نعود مع صاحب هذا الإشكال إلى النقاش في أصل الإسلام وهل يستحق الإيمان به كاملا أو لا يستحق. وهذا ليس مورد هذا النقاش.
15- عالم الدين يرجع إلى الفلاح، يرجع إلى البنّاء، يرجع إلى أي عالم من علماء اختصاصه، فكيف من حاله هذه يدّعي أنَّ له الإحاطة والقدرة على كل شيء؟!
16- هذه الروابط من خلق الله عزّ وجلّ، ولكنّ الدين بما هو دين لا يتحدث عن روابط العليّة بين كذا ذرة من الأكسجين وكذا ذرة من الهيدروجين لإنتاج الماء، لا يتحدث عن ظاهرة التمدد وعلة الحرارة.
17- هذا ما نقوله.
18- هذا القول يتّهم الناس بالسذاجة، وأنهم يتبعون علماء الدين اتباعا بلا مقياس، ويعطونهم أقدارا فوق مقدارهم بمسافات.
19- هذه شيمة الطغاة، والدين لا يعلّم علماءه الطغيان. من التصق بالثقافة الإسلامية، ومن تربَّى على خوف الله استوحش من الطاغوتية والطغاة.
20- وأي مسلم من المسلمين يجوز لك أن تنتقده بلا حساب؟! أي مسلم لا يجوز لنا أن ننتقده بلا حساب، وأن نرميه ببهتان.
21- الإمام وظيفته تربية العالم على خط الله، السموّ بكل من في العالم بوضعه على خطّ الله سبحانه وتعالى. والإمام كما يدخل في مسؤوليته تربية أصغر صغير، يدخل في مسؤولية تربيته أكبر كبير علما وتقوى، ونضجا وفهما.
22- لا يغيب عن الدين.
23- أعرف منك حسن ظاهر، وتعرف من أخيك حسن ظاهر، تستدل به على حسن واقع إن شاء الله، ولكن ليس لك أن تحلف بأن فلانا معصوم، لا تملك ذلك، لا تملك أن تحلف على عصمته فعلا، فضلا عن أن تملك الحلف على عصمته استمرارا ومستقبلا.
24- هكذا كان شأن الأمم مع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهم معصومون.
25- 24/ السجدة.
26- 73/ الأنبياء.
27- ليست عبادة حركات الجوارح، عبادة الداخل، عبادة القلب، عبادة الجوانح، من يعلمها؟ تراني أصلي، تراني أصوم، وأنّي أعبد الله بهذه الصلاة عبادة ظاهرية، أما أن تتيقن داخليا أنّي أعبد الله بهذه الصلاة فمن أين لك؟
28- 124/ البقرة.
29- ووزن ذلك الابتلاء.
30- نجح إبراهيم عليه السلام في ذلك الامتحان، لكن ذلك الامتحان مؤهّل بالكامل للإمامة أو لا، من يعلم ذلك؟ من يعرف وزن الإمامة ووزن ذلك الامتحان ليعرف أن تحقق النجاح في ذلك الامتحان بوزنه الخاص يؤهل لتحمّل مسؤولية الإمامة بوزنها الكبير؟
31- ومن يعلم ذلك النقي العدل على الإطلاق في كل حياته ووجوده غير الله سبحانه؟
32- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى