خطبة الجمعة (427) 27 ذو القعدة 1431هـ – 5 نوفمبر 2010م

مواضيع الخطبة:


الخطبة الأولى: صلاة الجماعة

الخطبة الثانية: مع القرآن/ الحج هوية الأمة


“مع القرآن” شعارٌ يطرحه المجلس العلمائي لهذا العام تحريكا لعقل هذا الشعب، والأمة وضميرهما، وتذكيرا بالواجب الإلهي في احترام كلمة الوحي، وتوقير القرآن، والتعامل معه التعامل الذي يستحقه من الجدِّ في استكشاف كنوزه وأسراره، وتربية النفس على هداه، والأخذ بقيمه، وتطبيق تعالميه،والتزام منهجه، والتسليم لمرجعيته وقيادته، واقتفاء أثره، والدعوة إليه، ونشر ثقافته، وتعزيز مكانته، والذوذ عنه، وإحياء ما أحياه، وإماتة ما أماته، والإشادة بما أشاد به، والإهمال لما أهمله.

الخطبة الأولى

الحمد لله باعث الرسل مبشرين ومنذرين، ومنزل الدين القويم، والهادي إلى الصراط المستقيم، مجزي المحسنين، ومعاقب المسيئين. شرّعَ من الدين ما يصلح به العباد والبلاد، ويصحُ به المعاش والمعاد، وترشد به العقول، وتطمئن النفوس، وتأمن السبل، ويظهر العدل، ويُقهر الظلم، وتُدبرُ الحروب، وتسود المحبة. إن ربنا هو الحكيم العليم، الروؤف الرحيم، الجواد الكريم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة المقصرة بتقوى الله الذي لا يستوى عنده خير وشر، ولا محسن ومسيء، ولا يضيع عنده إحسان محسن، ولا مهرب لمسيئ من عدله بإساءته، ولا يجزي مجزٍ بمثل ما جزى، ولا شديدَ عقاب كعقابه.
ليطمع طامع في الخير في جنة أعدها الله وهو أكرم الأكرمين، وأقدر القادرين للمتقين من عباده، وليحذر خائفٌ من أشد العذاب من نار سجرها الجبار للعصاة من أشقياء خلقه. فلنرحم أنفسنا بلزوم الطاعة لله عز وجل، والفرار من معصيته وإلا فلا تلومن نفس إلا نفسها فإن عذاب الله لشديد، وإن عذابا من عذاب الله في الدنيا لمهول، وإن عذاب الآخرة لأشد هولا، وأشد ألما، وهو عذاب مقيم. إن لنا في ألوان من عذاب الدنيا لعبرة، فإن من عذاب الدنيا ما لا يحتمل. ولا يساوي شيء من عذاب الدنيا شيئا من عذاب الآخرة.
اللهم اجعلنا وإخوننا المؤمنين والمؤمنات جميعا أجمعين مطعين لك، خاشعين، عابدين، وأحملنا على عفوك، ولا تحملنا على عدلك يا كريم.
اللهم اغفر لنا جميعا ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا ولأزواجنا ومن علمنا علما نافعا مفيدا من مؤمن ومؤمنة وجميع من أحسن إلينا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين اللهم أغفر لنا جمعيا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت الغفور الرحيم، التواب الكريم، وصل على محمد وآل محمد عبادك الصالحين، الهادين المهديين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد أيها الكرام الأعزاء فالحديث عن 
صلاة الجماعة:
تحتل صلاة الجماعة المرتبة الأولى في الأهمية في الإسلام بعد العقيدة فـ”عن زرعة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: أي الأعمال هو أفضل بعد المعرفة؟ قال: ما من شيء بعد المعرفة يعدل هذه الصلاة…”(1).
وهي عمود الدين “قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): مثل الصلاة مثل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود نفعت الأطناب والأوتاد والغشاء وإذا انكسر العمود لم ينفع طنب ولا وتد ولا غشاء”(2).
والأصل أن تصلى الفريضة جماعة، وصلاتها فرادى استثناء، والاستخفاف بالجماعة ضعف في الدين، وجارح للعدالة.
وقد بلغ التشديد على الجماعة في الشريعة مبلغا عظيما، وجاء من أخبار ثوابها ما يغري الطامعين في الثواب.
وإذا عرفنا أن الإسلام كما جاء لصناعة الفرد المسلم، والأسرة المسلمة فإنه قد جاء لصناعة المجتمع المسلم تبيَّن لنا السرُ في حرص الإسلام على صلاة الجماعة لما تؤديه من دورر كبير في إظهار الإسلام، وتقوية وجوده الاجتماعي، وإعزازه، وإعطاء واقعه الخارجي الاحترام والهيبة في النفوس، وتحصينه من طمع الطامعين، وتطاول المتطاولين.
هذا إلى ما تخلقه صلاة الجماعة بتلاقياتها المتكررة في اليوم الواحد بين أبناء المحلة الواحدة والقرية الواحدة، من تعارف وتآلف، وبما لها من أجواء إيمانية كريمة، ودروس حية راقية، وآداب رفيعة، وبما توجده من روابط اجتماعية قوية نقية صالحة بينهم ليكونوا مثالا للمجتمع الصالح، ونواة للمجتمع الإسلامي الكبير المتماسك المتعاون الناهض بمسؤلياته الرسالية والإنسانية المتعددة.
وتتوسع صلاة الجمعة في صناعة المجتمع المسلم في إطار بشري أكبر، وتتناول مختلف القضايا التي تهم الأمة بالتبين والبلورة والتأكيد والمعالجة حراسة للوعي العام النظري والعملي، وتوحيدا للأمة في مبادراتها وردود فعلها على خط الإسلام في المواقف المختلفة، والقضايا المتعددة.
وإن الإسلام ليصاب بنكسة كبيرة إذا تدخل الهوى الدنيوي في أمر الجماعة والجمعة، وأنحرف برسالتهما عن خط الشريعة. وهما تشريعان لإيجاد الشخصية الموحِّدة على مستوى الفرد والجماعة والأمة، والحفاظ على مصلحة الإسلام العليا والأمة المؤمنة في الموارد التي تلتقيها مصلحة عبيد الدنيا، أو تتصادم معها.
ولنسمع ما تقوله النصوص في صلاة الجماعة:
أهمية صلاة الجماعة:
“عن ابن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام قال سمعته يقول: إن أناسا كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله أبطئوا عن الصلاة في المسجد فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم”(3).
التخلف عن الصلاة وراء رسول الله صلى الله عليه وآله لا يمكن أن يُعتذر له بشك في عدالة أو قراءة أو شيء آخر بما يتصل بالإمام، أو يلتمسَ منه مخرج مقبول بنحو من ذلك. وإذا كان التخلف عن استخاف بالرسول الله صلى الله عليه وآله، وكيدٍ بالإسلام، ولإحداث ظاهرة تضعف من هيبته، وتضر به صح أن يواجه بهذا التهديد الشديد، واللغة العنيفة من قبل الرسول الله صلى الله عليه وآله على حلمه وعدله ونزاهته.
وهذا التهديد كاشف بدرجة واضحة عن أهمية هذه الشعيرة من شعائر الدين، ومدى حيويتها في الحفاظ على كيان الأمة المسلمة، وعزّةَ الإسلام وقوّته.
وعن الإمام عليٍّ عليه السلام “ليحضرن معنا صلاتنا جماعة، أو ليتحولُنَّ عنّا، ولا يجاوِرُونا ولا نجاورهم”(4).
وشخصية علي عليه السلام هي الأقرب لشخصية الرسول الله صلى الله عليه وآله، ونزاهته من نزاهته، ولا يمكن أن تحوم حول إمامته العامة فضلا عن إمامته للجماعة شبهة؛ فالتأخر عن جماعته لا لعذر شرعي لا يمكن أن يتصل به إنما يشكِّلُ مع استمراره ظاهرة مقاومة للإسلام وقيادته المعصومة الرشيدة، ولابد أن يقف الإمام عليه السلام الموقف الصارم ضد هذا التعدي حماية للمصلحة الإسلامية العليا بالإعلان عن هذه الدرجة من المفاصلة الغاضبة.
والكلمة بيان سافر في القيمة العالية لصلاة الجماعة، وما لها من خدمة جليلة للإسلام، ودورٍ كبير في تأكيده وتثبيته، والخروج به من حدود الدائرة الفردية الضيّقة إلى الدائرة الواسعة على صعيد المجتمع والأمة لصوغهما صوغا إسلاميا تاما مباركا متكاملا.
فضل الجماعة:
في الصحيح “عن أبي عبدالله عليه السلام قال: الصلاة في جماعة تفضل على كل صلاة الفرد بأربعة وعشرين درجة تكون خمسة وعشرين صلاة”(5).
وفي الصحيح كذلك “عن أبي عبدالله عليه السلام قال: سمعته يقول صلى رسول الله صلى الله عليه وآله الفجر فأقبل بوجهه على أصحابه فسأل عن أناس يسمِّيهم بأسمائهم(6) فقال: هل حضروا الصلاة فقالوا: لا يا رسول الله فقال: أغُيَّب هم؟ فقالوا لا، فقال أما إنه ليس من صلاة أشدَ على المنافقين من هذه الصلاة(7)، والعشاء ولو علموا أيّ فضل فيهما لأتوهما ولو حبوا”(8). من لم يستطع أن يمشي لصلاة الجماعة أغرَتْهُ بالحبو إليها لما لها من أجر لو انكشف له.
وعليك أن تضيف إلى ثواب الجماعة ثواب الصلاة في المسجد، وهو أضعافٌ متصاعدة من ثواب المنزل بحسب المراتب المختلفة للمساجد في الأخبار.
وفي حديث “محمد بن عمارة قال: أرسلت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام أسأله عن الرجل يصلي المكتوبة وحده في مسجد الكوفة أفضل أو صلاته في جماعة أفضل؟(9) فقال: الصلاة في جماعة أفضل”(10) والصلاة في مسجد الكوفة بألف صلاة كما في رواية خالد بن ماد القلانس عن الصادق عليه السلام. فلو كان يتأتى لأحد أن يصلي في مسجد الكوفة ولكنه عدل عن الصلاة في مسجد الكوفة إلى صلاة الجماعة في مكان آخر ليس له فضل مسجد الكوفة فإنه ستضاعف صلاته عن الألف.
لماذا صلاة الجماعة؟
“عن الرضا عليه السلام: إنما جعلت الجماعة لئلا يكون الإخلاص والتوحيد والإسلام والعبادة لله إلا ظاهرا مكشوفا مشهورا، لأن في إظهاره حجة على أهل الشرق والغرب لله وحده، وليكون المنافق والمستخف مؤديا لما أقر به يظهر الإسلام والمراقبة، وليكون شهادات الناس بالإسلام بعضهم لبعض جائزة ممكنة، مع ما فيه من المساعدة على البر والتقوى، والزجر عن كثير من معاصي الله عز وجل”(11).
والحديث يذكر عددا من حِكم هذه الشعيرة المباركة.
الإسلام ظاهرة اجتماعية بارزة، وواقعا كبيرا شاخصا في حياة المجتمعات، لا أن يكون ظاهرة فردية مختبئة متواية هزيلة.
ومنه أن يتم إشهار الإسلام من خلال واقعه الاجتماعي المشهود لنواحي العالم للتعرف عليه وتسجيل الحجة بمعرفته.
وأن تكون له هيمنة عملية عامَّة تفرض نفسها حتّى على المنافق والمستخف من أجل أن لا يجد الباطل والانحراف فرصة للظهور والنمو والاستفحال.
وصلاة الجماعة شاهد عملي على الإسلام الظاهري تتيح للناس الشهادة لبعضهم البعض بهذا الدين الكريم.
وانتشار صلاة الجماعة وتعاليمها وقيمها ودروسها وتعاطي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في أجوائها يقرب بحياة المجتمع إلى البر والتقوى، وينأى بها عن الفسق والفجور والمعاصي.
وهذه الصلاة علامة من علامات العدالة، ولا عدالة لمتخلٍ عنها من دون عذر تقبله الشريعة فـ”عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إنما جعل الجماعة والاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلي ممن لا يصلي، ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيّع، ولولا ذلك لم يمكن أن يشهد على أحد بصلاح، لأن من لم يصلِّ في جماعة فلا صلاة له بين المسلمين، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لا صلاة لمن لم يصلِّ في المسجد مع المسلمين إلا من علة”(12).
فالمصلي في بيته وفي غير جماعة من غير علة ترضاها الشريعة لا صلاح له، ولا شهادة له بالصلاح.
إتقان وتخفيف:
يتحمل إمام الجماعة مسؤولية الخيانة في صلاته بالمؤمنين، فما كان فيها أو في مقدماتها الواجبة وشروطها اللازمة من خلل وتقصير يخفى على المصلين فإن عليه وزره، ولا وزر على جاهل بالحال ممن خلفه فلابد من إتقان الإمام صلاته واستيفائه لما اعتبر فيها شرعا، خروجا من عهدة صلاته وصلاة الآخرين التي يتحمل مسؤليتها. فعن الإمام علي عليه السلام في وصيَّته لمحمد بن أبي بكر حين ولاَّه مصر:”….. وانظر إلى صلاتك كيف هي، فإنك إمام لقومك (ينبغي لك) أن تتمها ولا تخفّفَها، فليس من إمام يصلي بقوم يكون في صلاتهم نقصان إلاّ كان عليه، لا ينقص من صلاتهم شيء، وتمِّمها وتحفّظ عليها، يكن لك مثل أجورهم، ولا يُنقص ذلك من أجرهم شيئا”(13).
والنهي في الحديث إنما هو عن التخفيف المخلّ المفوّت لواجب من واجبات الصلاة من اطمئنان معتبر أو غيره، دون التخفيف الذي يراعي أحوال المصلين من دون أن يخالف حكما من أحكام الصلاة.
وهذا ما يفيده الحديث عنه عليه السلام من كتابه للأشتر “وإذا قمت في صلاتك للنّاس فلا تكونن منفرا ولا مضيّعا، فإن في النّاس من به العلة وله الحاجة. وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وآله حين وجّهني إلى اليمن: كيف أصلي بهم؟ فقال: صلِّ بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيما”(14).
فصلاة أضعف الجماعة المستجمعةُ لكل ما يعتبر في صحة الصلاة وتمامها، وغير المضيعة لاطمئنان أو غيره هي مقياس إمام الجماعة في صلاته بمن وراءه.
وختاما فإن من همّه أمر الإسلام، وتطلّع إلى عزّته وظهوره، وأن تكون له كلمة في حياة الناس ووزن ومهابة في المجتمع فليحافظ على صلاة الجماعة.
إن امتلاء المساجد بالجماعات الغفيرة لغة ظاهرة في اهتمام النّاس بالإسلام، والتفافهم به، وحرصهم عليه، ووقوفهم معه، وتشكيلهم وجودا قويا للدفاع عنه، وحفظ مصالحه.
أمّا ظاهرة الانحسار عن صلوات الجماعة والتضاؤلُ في أعداد المصلين في المساجد فشاهدٌ كاف على التخلي عن الإسلام، وعدم الاهتمام به، ومطمعٌ جدا للمتربصين به للانقضاض عليه، والنيل منه، ومطارته.
يضعف الإسلامُ ضعفا يطمع فيه أعداءه والمريدين به سوءاً عند التخلي عن المساجد والجماعات، ويقوى ويُهاب، ويحترم جانبه، ويخشى من غضبته عند ما تمتلئ مساجده، وتعمر جماعاته، ويحيى أمره.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الأطياب الأطهار وسلّم تسليماً كثيراً، اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم اجعلنا من مقيمي الصلاة، ومؤدي الزكاة، والآمرين بالمعروف ، والناهين عن المنكر، الذين لا يفارقون طاعتك، ولا يدنون من معصيتك، ولا يرغبون عن دينك القويم أبدا يا رحمن يا رحيم، يا جواد يا كريم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

الخطبة الثانية

الحمد لله ولي كل نعمة، ولا ولي لنعمة غيره، دافع كل نقمة، ولا دافع لنقمة سواه، مالك كل شيء ولا مالك لشيء عداه. قهار، جبار، فعَّال لما يريد، واسع الرحمة، كثير الإحسان، غفور رحيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتق الله، ونتوسل إليه بطاعته والتضرع بين يديه، فمن طغى واستكبر كان أهلا لغضبه وطرده وعذابه، وويل لمن غضِب الله عليه وطرده من رحمته، واستحق منه العذاب، وحلت عيه العقوبه، فإنه لا منقذ له من بعد ذلك من أرض ولا سماء، ولا كاشف لكربه، ولا مخفف لعذابه.
عباد الله لئن كانت الدنيا تُنسى فإن فيها ما يذكّر، وإن كانت تغرُ فإن فيها ما يعظ، وإن كان شقي بها قوم سعد بها آخرون، فلنعقل ونكن ممن كانت الدنيا له ذكرا، وله فيها عظة، واتخذ منها سبب سعادة، وفرصة سموّ وكمال بلا مخالط.
فلنعبد الله ولا نشرك به أحدا، وليكن دينه لنا دينا، وشريعته لنا شريعة بلا مزاحم، وصراطه لنا الصراط، ورضاه لنا المطلب.
عباد الله كل خسارةٍ يمكن أن يكون لها عوض إلا خسارة العمر حيث يُنفَق في معصية الله فيشقى صاحبه بما أنفق منه في المعصية ويخلدُ في العذاب.
فحذار يا نفس من غرور الدنيا وزيفها وخداعها وغفلتها، ومما يزيِّنه المضلون، ويدعو إليه الظالمون. فإن قوة الإنسان تعود ضعفا، وصحته توؤل مرضا، وطربه ينتهي إلى كرب، وغناه إلى فقر، فليس للغرور موقع، ولا للملهاة مكان.
اللهم اجعلنا وإخوننا المؤمنين والمؤمنات، ومن يهمُّنا أمره ممن ينتفع بدنياه لآخرته، ويتخذها معبرا لسعادته، ولقِّنا خيرها، وجنبنا أذاها، ولا تجعلنا فيها من الخاسرين، واغفر لنا جمعيا وتب علينا إنك أرحم الراحمين، وخير الغافرين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وآله الطيبين الطاهرين، وصيّرنا إلى محبوبك من التقوى، ووفّقنا لما تقِرُّ به عيوننا من الزُّلفى، وانتهِ بنا إلى خير عاقبة، وأكرم مأوى يا أكرم من سُئل وأجود من أعطى.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على عبدك ورسولك خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبدالله الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا قائما.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين فإلى هذين العنوانين:
مع القرآن:
ليس بعد القرآن الكريم من كتاب سماوي منزل، وليس من بين كتب السماء ما هو أجمع منه، وإذا اختلف التشريع بينها مراعاة لتطور الحركة الإنسانية في الأرض، وما تطلبته من جديد فهو المرجع في مورد الاختلاف مع قداسة الجميع.
ولقد جاء القرآن الكريم مستوعبا ما تفرضه حركة التطور البشري بجميع أبعادها من حاجات ومقتضيات. فما تحتاجه البشرية اليوم من هدايات واضاءات ونظم وتشريعات لا يقتضي تنزل رسالة الهية جديدة، وكتاب سماوي جديد، وإنما يتطلب فهماً مستوعبا ومعصوما للقرآن الكريم، وبالدرجة الثانية، وبلحاظ الظروف الاستثنائية إلى استنطاق علمي موضوعي شامل من المختصين للكنوز الثرّة التي يغنى بها القرآن، ويمكن لها أن تمدّ الحياة في كل درجات تطورها وتعقّدها بما يصلحها من فكر، ويلبي حاجتها من ثقافة، ويضع مسيرتها على الصراط، ويكفي لسد كل حجاتها التشريعية.
والأمة الشاهدة الوسط التي أنقذت الأرض بالأمس ثم تراجعت، وتغيَّب دورها، وخفت منها الصوت، فعادت الأرض يحكمها الهوى والضلال تحتاج عودتها، وعودة دورها وصوتها إلى عودة جادّة للقرآن إيمانا وفهما وعملا، وأن تتربى الأمة تربية قرآنية شاملة، وتأخذ به عقيدة ومفاهيم ورؤى، ومشاعر، وأخلاقا، وتشريعا في كل مناحي حياتها، وأن تتخلص من كل فكر مضادٍّ، وشعور معادٍ، وأخلاقية مناهضة، ومفهوم وتشريع مخالف.
إن أي شعب من شعوب الأمة، وأي مجتمع من مجتمعاتها تكون له هذه العودة الجادة سيتقدم الركب، وسيكون منطلق حركة الإنقاذ لا للأمة وحدها، وإنما للعالم أجمع، وسيعم النور الدنيا بعد أن أغرقها الظلام.
أي شعب وأن صغُر حجمه يحقق عودة صادقة شاملة للقرآن الكريم سيعظُم بها، ويكون مصدر إلهام لغيره من الشعوب، ويفتح باب الهداية والصلاح والاستقامة والتحرر والتقدم والرقي لكل الأمم، وهو يحقق بذلك أكبر سبق، وأغنى سبق، وأجلّ سبق.
“مع القرآن” شعارٌ يطرحه المجلس العلمائي لهذا العام تحريكا لعقل هذا الشعب، والأمة وضميرهما، وتذكيرا بالواجب الإلهي في احترام كلمة الوحي، وتوقير القرآن، والتعامل معه التعامل الذي يستحقه من الجدِّ في استكشاف كنوزه وأسراره، وتربية النفس على هداه، والأخذ بقيمه، وتطبيق تعالميه، والتزام منهجه، والتسليم لمرجعيته وقيادته، واقتفاء أثره، والدعوة إليه، ونشر ثقافته، وتعزيز مكانته، والذوذ عنه، وإحياء ما أحياه، وإماتة ما أماته، والإشادة بما أشاد به، والإهمال لما أهمله.
إن المعيّة مع القرآن تنطلق في بعد منها من نور الفطرة الذي يلتقي معه، ولسانِها الذي يتحدث بلغته. ولغتُهما الواحدة هي لغة التوحيد والحق والعدل والهدى والاستقامة والرقيّ والصلاح. وتنطلق هذه المعيّة في بعدها الآخر من متابعة القرآن في مفاهيمه ورؤاه وعقيديته وأخلاقه وتشريعاته، وتقديم ما قدّم ومن قدَّم، وتأخير ما أخّر ومن آخر، والأخذ بإرادته، وتطبيق منهجه، وتعميم ثقافته، ونشر تعالميه، وإنشاء المؤسسات العلمية المتخصصة لدراسته، وتأكيد ريادته ومرجعيته وقيادته، وتنطلق كذلك من مناصرته، والدفاع عن شأنه العظيم وحمايته.
إن شعار “مع القرآن” لا ينبغي لأي مسلم أن يتغافل عن أهميته، أو يتخلف عن التفاعل معه، أو يقصّر في الاعتناء به وخدمته.
وطرح هذا الشعار فرصة لأن نحاول الوفاء لحقّ القرآن، والاعترافَ الجادّ بمكانته، والتحرّكَ بكل حياتنا على خطِّه، والاقتراب منه، والارتفاع بارادتنا إلى الصبر على إرادته، وأن نستقي ثقافتنا وهدانا منه، ونربي أنفسنا وأهلينا وأجيالنا بتربيته، ونصوغ أوضاعنا على هداه، ووفق طريقته.
هذا الشعار فيه تجربة للإرادة الإيمانية في هذا البلد، وهمّة النهضة والإصلاح والتقدّم عند هذا الشعب، وجديَّة الحركة الإيجابية فيه، ومدى شوقه وإخلاصه ووفائه للإسلام.
شعار من مسؤولية كل الأفراد والمؤسسات الصالحة أن تسانده وتُفعِّله وتخلص له، وتبذل في سبيله، وتنفق من جهدها وإمكاناتها من أجله.
شعار من شأنه أن يحدث نقلة كبيرة في مستوى فكرنا، وإرادتنا، وتقديرنا للإسلام، وارتباطنا به، وانشدادانا القوي به، وتفعيلنا له، ونفانينا في سبيله.
شعار لا تنقصه القدسية والكفاءة، ولا الصدق والجديّة، ولا القدرة على التغيير، ولا إمكان الدفع القوي إلى الأمام، والنهوض بالمستوى المتعثر.
شعار يضعنا أمام امتحان لإرادة النهوض، والقدرة على الاستجابة لهذه الإرادة، وحالة الاستنهاض.
وأفُقُنا في كل أبعاد شخصيتنا الفردية والاجتماعية، وحياة مجتمعنا، وكل أفق آخر وأن سما بعيد كلّ البعد عن السماء العالية للقرآن، وحتى نقطع بعض المسافة بيننا وبينها عليها أن نتعلم كثيرا ونجهد كثيرا، ونبذل كثيرا، ونصبر كثيرا، ونزيد في تعاوننا، ونجدَّ في السير بلا فتور.
الحج هوية الأمة:
أكبر ما يميز أمة الإسلام كونها أمَّة التوحيد، وكل مميزاتها الأخرى منبثقة من هذا الأصل. وكل العبادات في الإسلام توحيدية تنأى بعقل الإنسان وقلبه وحركته وعلاقته عن الشرك، وتنفصل به عن خطه وخلطه.
والحج حشد من الشعائر والمناسك التوحيدية التي تجمع حشدا هائلا من مختلف شرائح الأمة، ومستوياتها، وأقطارها على صعيد واحد في ممارَسَتِها، تمثيلا للأمة بكاملها في مكان واحد، وزمن واحد، وزي واحد متواضع في عبادة مشتركة خالصة لله وحده تأكيدا لهويتها التوحيدية التي لا تقبل لها معبودا آخر غيرَ الله، ولا تجعل لأحد عليها طاعة من غير إذنه، ولا تسمح لها أن تتلقى منهجَ حياتها من غير دينه، وأن تخضعَ لتشريع غير تشريعه، أو تستجيب لأرادة على خلاف إرادته، أو تدخلَ في علاقة تغضبه.
إنه كلما أريد لهذه الأمة أن تتفرق، وتكون مِزقا، وكلما كثرت دعوات الفُرقة، ومحاولات التجزئة، وكلما كاد الكفر والمغرضون بوحدة الأمة جاء الحجُ ليبطل هذا الكيد، ويسقط فاعليةَ تلك الدعوات والمحاولات، ويقوم شاهدا شاخصا على مرأى العالم كله على هذه الوحدة المفترى عليها، والمستهدفةِ من أعداء الأمة من الداخل والخارج، ومن السياسات المنحرفة.
وكلما تكثفت الجهود الجاهلية المضللة لاستغفال وعي الأمة وحسها التوحيدي جاء الحجُ ليثير هذا الوعي، ويلهب هذا الحس، وينشطهما، ويركزهما، ويعطيهما مزيدا من القوة والظهور.
وحتى تشعر الأمة كل الأمةِ بهويتها المشتركة ووحدتها، وحتى تفشل محاولات التفريق، ودعوات التبعثر، وحتى تسقط كل الأصنام في وعي المسلم وشعوره كان لابد أن تقام فريضة الحج كل عام، ويتكثفَ عددُ الحجاج، وتشارك في موسمه أغلب أقطار الأمة وشرائحمهما، وأن يظهر ذل العبودية والمسكنة بين يدي الله عز وجل على كل الجموع، وكل ذكر وأنثى، وملك وسوقه، وغني وفقير.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الأطياب الأطهار، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا خالص توحيدك، وصادق طاعتك، ولذيذ مناجاتك، والجد في طلب رضوانك، والطمع في القرب إليك، وأنلنا من لدنك رحمة تغنينا وتكفينا وتحمينا، ونثبت بها على طاعتك، وننال بها رضاك، وندخل جنتك يا جواد يا كريم، يا حنان يا منان يا رحمن، يا رحيم، {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(22).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الأمالي للشيخ الطوسي ص694.
2- الكافي ج3 ص766.
3 – تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج3 ص25.
4- الأمالي للشيخ الطوسي ص696.
5 – وقد يكون التعبير بأربع وعشرين وخمس وعشرين.
تهذيب الأحكام ج3 ص25.
6 – يسأل عن فلان بعينه وفلان الآخر بشخصه.
7- صلاة الصبح.
8- المصدر السابق.
9 – وهذا على ما هو معروف من ثواب الصلاة في مسجد الكوفة.
10- المصدر السابق.
11- وسائل الشيعة ج8 ص287.
12 – علل الشرائع للشيخ الصدوق ج2 ص325.
13 – الأمالي للشيخ الطوسي ص29.
14 – نهج البلاغة ج3 ص103.

 

زر الذهاب إلى الأعلى