خطبة الجمعة (422) 21 شوال 1431هـ – 1 أكتوبر 2010م

مواضيع الخطبة:
*الحسرة والندامة *حاجة متبادلة
إنَّ الذين يدفعون في اتجاه الاسلوب الأمني، ويرون فيه بديلاً عن الإصلاح ليدفعون بأوطانهم إلى استمرار الأزمات، وإلى الهاوية.
الخطبة الأولى

الحمد لله خالق كلّ نفس، العالم بها وما تصير إليه من هدى أو ضلال، وجنّة أو نار، الخبير بما يصلحها وما يفسدها، وهو الذي آتى كل نفس هداها، وألهمها فجورها وتقواها، ودلّها على ما فيه خيرها، وحذّرها مما فيه شقاها، وهو المثيب كثيراً، والمعذِّب شديدا، ولا يبخس عبداً حقّاً، ولا يعاقب إلا عدلا.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسّوء بتقوى الله {… فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى…}(1) فما أطيب التّقوى زاداً تحيى به الرّوح، ويزكو به القلب، وتأنس النفس، وتنتعش الحياة، فتستقيم الأمور. وما أضرَّ زاد الفجور بكلّ ذلك، وما أقبح مصير الفجّار.
اللهم اسلك بنا طريق التّقوى، وأذقنا حلاوتها، واجعلنا من أهلها، ولا تعدل بنا عقوبةً إلى طريق الفجّار، وسبيل أهلِ النّار.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وأزواجنا، ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصلّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين وزدهم من فضلك يا كريم يا رحيم.
الحسرة والندامة:
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فإن الإنسان في الحياة قد يعرف طعم الحسرة، ويذوق مُرَّ الندامة لساعة فراغ تمرّ عليه لا يستثمرها، أو لأخرى يملأها بعمل تعقبه خسارة، أو يُدخل عليه الضّرر في ماله أو صحته، أو شرفه، وفي ما يهمّه.
وقد يعقب النّدامةَ الدخولُ في رفقة واختيار طريق، وتقديم انتماء أكسب أرباحاً ماديّة هائلة، وكان انفتاح بابه يُمثِّل فرصة مغرية، ولحظة سعادة كبيرة غامرة.
وكثيراً ما يبحث الإنسان عن أمانيّ فيها هلاكه، وسُبل فيها مشقّته، وعلاقات فيها شقاؤه، وكثيراً ما يفرّ مما فيه خيره، ويولّي عمّا فيه صلاحه.
وقد يُصرّ على اختيار ما فيه خسارة ماله، أو ضياع شرفه، أو تلف نفسه رغم النُّصح والتبصير، وحسن المشورة.
وقد يقعُد عمّا فيه كلّ نجاحه وإن نُصِح وبُصِّر واستُنهض.
والندامات تتفاوت، والحسرات تختلف إيلاماً ومرارة وعُمقاً ومكثاً وإقامة. وقد يستولي بعضها على الشّعور ساعة، وبعضها يوماً، وبعضها أياماً، وقد يُقيم بعضها في النفس عُمُر المرء كلّه.
ولكن ليس من ندامة ولا حسرة كالتي تترتب على خسارة الحياة، ويعقُبُها دخول النار وفوات الجنّة. ذلك لأنّ الخسارة أكبر خسارة، والتفريط أعظم تفريط، والعاقبة أسوأ عاقبة. إنّها الخسارة التي لا قيمة لأيِّ ربح معها(2)، والفرصة التي لا تتكرّر، والعاقبة التي مرارتها أشدّ مرارة، وأعمق أثراً، وأطول إقامة، وأشدّ حضوراً، وأعظم استيلاءاً على وجدان صاحبها من كل ما يفترض من مرارة.
وقد نبّه الإسلام على عظيم حسرة يوم القيامة، وأنذر وحذّر، ووعظ ونصح وبصّر ولكن أكثر النّاس لا يعقلون.
ومما جاء في ذلك:
1. قوله تعالى {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(3).
فيوم يُقضى الأمر، وتحقّ الحقائق، وتظهر النتائج، وتُقرّر المصائر تكبُر المصيبة على نفوس استغرقتها الغفلة في الحياة عن الله والذّات والمصير، وفقدت نورَ الإيمان، وباعت العُمر رخيصاً في الظلم والشهوات ذلك لِمَا أيقنت من فوات السّعادة، وإقامة الشقاء، فالفائت لا يعدل وزنه شيء، ولا يقوم شيء مقامه، ولا تجد النّفس غِنىً عنه، ولا استقراراً بدونه، ولا قيمة لها بخسارته. والشّقاء المكتوب عليها والذي جنته بيدها وسعت إليه سعياً ليس مما تسعه نفسٌ أو تطيقه. فالحسرة إذاً ليس مثلها حسرة، والندامة فوق كل ندامة.
2. {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}(4).
يومٌ لا يحسب الإنسانُ أيَّ حساب له، ولا يُعيره أيَّ اهتمام يفاجئه فيه عذاب إهمالِه وتضييعه لفرصة الحياة وهو عذابٌ لا تقوم له قُواه، ولا تحمُّل لطاقته به فيملكه الندم، وتأكل نفسه الحسرة، ويضيق بالعذاب ذرعاً، ويدخل في لوم النفس حيث لا ينفع لوم، ولا يشفع ندم، وقد يجاهر بالتحسُّر الذي يملأ داخله أن لماذا فرّط في جنب الله، وفارق دينه، واستخفّ بشأن ربّه، وسَخِرَ من شريعته، فضلّ عن الطريق، وضيّع الغاية، وانتهى به الأمر إلى الهلكة، وإلى عذب شديد، وشقاء مقيم.
وما الندم إلا لون من العذاب، وما الحسرة يوم القيامة إلا عقوبة فوق العقوبة.
3. {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً}(5).
ذلك اليوم يوم عسير على الكافرين، شاقٌّ على المعاندين المكابرين، سيٌّء على العاصين المذنبين. إنه يوم هول وفزع ورعب وعذاب شديد فماذا تملك نفسُ ظالمٍ قد جمع على نفسه أوزاراً، واكتسب إثماً كبيراً، وضيّع حقّ مالكه الحقّ، وخالقِه المنعم، ورازقه المتفضّل، وعاث في الأرض الفساد وقد ولّى يوم العمل، وذهبت كلُ فرصة للتدارك، وقام يوم الحساب، ولا سبيل لعودة دنيا، وقد سُدَّ كل باب؛ ماذا تملك هذه النفس البائسة اليائسة التي ليس أمامها إلا العذاب غير أن تقولَ يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا وإن كان سبيل تكاليف، وبذلٍ، وتضيحة، وصبر، ومصابرة، وجهاد وأخطار.(6) فكل ذلك قليل عند فوز الفائزين ممن أطاع الله، وكلّ الدّنيا، وزينتها، وما تعرفه من لذائذ زهيدةٌ عند خسارة الخاسرين، وعذاب أهل النار ممن عصاه.
أن تقول {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً} أيّ فلان كان ظالما، وأيّ فلان كان مضِلاً، وأيّ قائد قاد إلى النار، ومزيّناً للباطل، ومزهّداً في الحق، ومبعِّداً عن الدّين والطاعة، ومقرّباً من الانحراف والمعصية وإن أعطى وأكرم، وبذل وأنعم، وأعزّ وقرّب، ووقى وحمى ودافع ونافح(7).
فإنَّ كلّ ذلك لا يساوي شيئاً من جريمة المصير الأسود الذي قادني إليه، والحرمان الهائل الذي سبّبه لي، والعذاب الأليم الذي أوقعني فيه.
وما قيمة ليت يوم القيامة وقد طويت الصحف، وجفّ القلم، وأدبرت الفرصة، وفات الأوان، وقام الحساب، ونُصِبت الموازين، وأحضرت النّاس لجنّة أو نار؟!
إن الظالم ليعضّ يوم القيامة على كلتا يديه وليس على أصبع ندامة واحد(8) لأن مأساته أكبر مأساة، وكارثته أعظم كارثة، وندمه لا ندم مثله في الدنيا، وحسرته لا تعدلها كل الحسرات.
وكلُّ حسرات يوم القيامة قاسية على النَّفس وفوق ما تطيق، ولكنّ من الحسرة ما هو أكثر قسوة كما تفيده طائفة من الأحاديث والكلمات عن المعصومين عليهم السلام.
فعن علي عليه السلام:”إن أعظم الحسرات يوم القيامة حسرةُ رجل كسب مالاً في غير طاعة الله، فورثه رجل فأنفقه في طاعة الله سبحانه فدخل به الجنّة، ودخل الأول به النار”(9).
إنه رجل طلب المال من غير حِلِّه فاجتمع له ما اجتمع منه حتى خَلَّفه فورثه رجل لا يعلم بحرمته، فوضعه في المواضع التي تُقرِّبه إلى الله فكانت النتيجة أن الأول اشترى للثاني جنّة بما سبّب لنفسه من نار، وجعل حياته جسراً لناره وشقائه، وطريقاً لجنّة الآخر، وما يلقاه من موفور النعيم.
وعن الإمام الصادق عليه السلام:”إنَّ أعظم النّاس يوم القيامة (حسرة) من وصف عدلاً، ثم خالفه إلى غيره”(10).
هذا الإنسان اهتدى طريق الجنَّة، وتوفَّر له تشخيصه إلاّ أنه خالفه إلى غيره على علم وعمد فقدَّم النار على الجنة مختاراً عالماً قاصداً. فالعدل الذي وصفه طريق قاصد إلى الجنّة، ولكنّه خان نفسه وأهلكها حين اختار الظُّلم على العدل، والجور في النّاس فحينما يواجه العاقبة الأليمة المخزية، ويتذكر سوء اختياره، وقبح ما فعل بنفسه عن علم وعمد، وما نصح به الآخرين من طريق نجاة وفوز وانحدر عنها ليكون أكبر غاشٍّ لنفسه تتقطع نفسه حسرات، ويعظم ندمه، وتكبر فاجعته.
وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”إن أشدّ النّاس ندامة يوم القيامة رجل باع آخرته بدنيا غيره”(11).
غباءٌ كبير، وندامة عظيمة تصغر أمامها سائر الندامات بأن يرتكب الشخصُ المحرَّمَ، ويدخل في الإثم، ويعين على الباطل، ويشترك في الظلم وهو في ذلك كلّه يُشيد دنيا الغير، ويذود عنها، ويحافظ عليها وإن يكن له منها شيء فهو الفُتات والفضلة، فيكون قد أعطى آخرته: خيرها ونعيمها ونجاتها وفوزها ليحظى غيره بدنيا عريضة، وحياة تبذُّخ وسرف وفساد.
ومثلُه ليس مثلَه حسرة من أحد يوم القيامة كما في الحديث. وقد حقّ له أن يقتله الندم لو ضيّع الآخرة بدنياه، فكيف وقد ضيّعها بدنيا غيره؟!
جعلنا الله من المتّعظين، وكفانا مثل هذا السّفه، ووقانا من مثل هذا الجنون، وجنبنا حسرات يوم القيامة.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اجعلنا جميعا في الدنيا من أهل طاعتك، وفي الآخرة من أهل جنّتك، واكتب لنا منزلة رفيعة عندك يا جواد يا كريم برحمتك يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.

الخطبة الثانية

الحمدلله ذي المنّ والعطاء، والفصل والقضاء، والعزِّ والبقاء، والجود والسّخاء، والآلاء والنّعماء، ولا شيء من ذلك لأحدٍ إلاّ من عنده، وبإذنه، وتحت أمره وإليه مرجعه ومنتهاه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله الذي لا عظمة كعظمته، ولا جلال كجلاله، ولا جمال كجماله، ولا مثوبة كمثوبته، ولا عقوبة كعقوبته، ولا يُرجى الخير إلا منه، ولا يكفي الشرّ سواه، ولا نافع ولا ضارَّ إلا هو.
وما أحوج المؤمن إلى التّقوى حِفاظاً على الإيمان، وكلّما اشتدَّ البلاء عظمت الحاجة للتقوى حتى لا تزِلّ القدم، ولا يتزلزل الفؤاد.
ثبّتنا الله وإخواننا المؤمنين والمؤمنات على دينه، وسلك بنا طريق مرضاته، وكفانا مضلات الفتن، ووقانا من زلّة القدم، وغفر لنا جميعاً ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأصحابنا ومشايخنا وأساتذنا ممن علّمنا علماً نافعاً في دين أو دنيا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتاب علينا إنه غفور رحيم تواب كريم.
اللهم صلّ على محمد خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، والممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفّقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا مقيما.
أما أيها الأخوة المؤمنين والمؤمنات فمع هذا العنوان :
حاجة متبادلة:
إنَّ استقرار حياة أيّ شعب يحتاج إلى حكومة؛ وحياةُ شعبٍ بلا حكومة لابُدّ أن تسودها الفوضى. وإذا كانت الحكومة من مقتضى حياة الشّعب فإن صدق الحكومة أصلاً متوقف على الشعب، ومن دون فرضه لا صدق لهذا العنوان على الإطلاق.
وحياة الأوطان لا تزدهر إلا في ظل حكومة قويَّة، وشعب قوي. وقوّة الحكومة ليس باستئسادها على الشعب، وقوة الشعب ليس بالاستئساد عليها. قوّة أي حكومة في قدرتها الكفوءة على إدارة شؤون المجتمع إدارة صحيحة ومخلصة خالية من الفساد الإداري والمالي والخُلُقي. قوّتها أن تتقدّم بأوضاع المجتمع إلى الأمام، وتدفع بكل الطاقات على طريق بناء الإنسان والأرض. وقوة الشّعب في أن يعمل جادّاً بالنهوض بمستواه، والتقدّم بإمكاناته، وأن يدعم الخُطط التنموية الصالحة التي تتبناها سياسة الحكومة(12)، وأن يشارك في رسم السّياسة العامّة الناجحة ويعمل على نجاح تطبيقها. وأيّ أوضاع تستنزف جهد الشعب والحكومة خارج دائرة البناء الإيجابي والتخطيط له وتداركه هدر للطّاقات، وإهمالٌ لمصلحة الوطن.
وسلامة العلاقة بين الشعب والحكومة أمرٌ لابد منه لمصلحة الوطن وأمن الجميع. وهو أمرٌ لا يُضمن إلا بالقانون العادل(13) والتطبيق العادل لهذا القانون.
والاختلاف على القانون، والتمييز في تطبيقه يخرج بالعلاقة عن إطار الثِّقة، ويجعل اعتمادها على لغة التغالب والقوَّة وهي أخطر ما يكون على مصالح الأوطان وسلامتها، وأتعب ما يكون لحياة الطرفين، وأبعد ما يكون عن الاستقرار والأمن.
لغة التغالب والقوّة هي لغة بطش وعنف وأضرار بالغة تحرق ما بناه العقل والحكمة والخبرة والجهد والعرق على كل المستويات، وفيه نسفٌ لكثير من حرمات الدّين، وثوابت القانون، ومكانة القيم، ومقتضيات الأعراف العُقلائية والاجتماعية الصالحة.
والأسلوب الأمني داخل في هذه اللغة(14)، وهو أبلغ لسان لها، وكثيراً ما يَقْفِز على كل الحواجز، ويكسر الضوابط، ويلغي الحدود، ويتنكّر للدّين والقيم، ولا نريد أن نذكر أموراً مُشينة قبيحة وظالمة تُرتكب عمليّاً ضمن هذا الأسلوب.
ولو جئت النّاس فإن جلّهم لا يبحثون لأنفسهم عن المشاكل، ولا يطلبون المتاعب لها، ولا يريدون أن يدخلوا مع الحكومات في مواجهات مكلفة مرهقة؛ وإنما تأتيهم المشاكل من حيث لا يُريدون، وتفرض عليهم الأوضاع الضيّقة أن يقولوا كلمة، ويبثّوا الشّكوى مما قد يُشكّل بداية مشكلة في المواجهة(15).
والأسلوب الأمني قد يجبر على الكبت، ويخنق الكلمة إلى حين، وقد لا ينجح في ذلك أساساً، ومع نجاحه تعود الكلمة في أول فرصة للانطلاق. وهكذا تستمر المشكلة.
إنَّ الذين يدفعون في اتجاه الاسلوب الأمني، ويرون فيه بديلاً عن الإصلاح ليدفعون بأوطانهم إلى استمرار الأزمات، وإلى الهاوية.
وإذا تُبُودل العنف، وصار الاحتكام من الطرفين إلى لغة اليد، والقوَّة والبطش كان ذلك أسرع في أن تأكل النارُ ما تأكل من أنفس وبناء، وأخضر ويابس. وكثيراً ما تتوارى في أجواء الصراع من هذا النوع لغة الدين والعقل والقيم والوطن والمصالح الحقيقية المشتركة، وتحلّ محلها لغة أخرى جائرة مدمّرة.
ومن أمكنه أن يرجع إلى الدين وقت عصبيته وجد أن لا ظرف يُسقط أحكاماً من أحكام الدّين، وحقوقاً من حقوق الإنسان، ومن رجع إلى الحكمة وجد أن احترام القانون إنما يختبر وقت ثورة النفس والقدرة(16).
وللحكومات فشل ونجاح في سياستها الداخليّة، واستعمالُ القوة والبطش للإسكات لا يمثل حالة النجاح. وإنما نجاح هذه السياسة بالقدرة على كسب الاحترام والثِّقة من النّاس من خلال واقع عملي يبرهن على الإخلاص والتواضع والتفاني في خدمة مصالحهم بعيداً عن مشاكل الفساد المالي والإداري والخلقي وكل أنواع الفساد.
والتوصّل إلى هذا الاحترام والثقة يجعل أمن الحكومة أمناً للشَّعب، وأمن الشعب أمناً للحكومة، ولا ينقسم الأمن في حسّ أيّ طرف منهما في هذه الحال إلى أمنين متنافيين متنهاضين. وفي هذا ما يسدُّ أبواب شرور كثيرة تدخل على الأوطان.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد، وارحم محمداً وآل محمد أفضل ما صلّيت وباركت وترحّمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن، ومن شرّ ما تأتي به الأقدار، ومن كل كيد سوء من كيد الليل والنهار، ومن سوء المنقلب، وخسارة المصير. اللهم احمنا، واكفنا، وادرأ عنا، واجعلنا في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(17).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- 197/ البقرة.
2- خسارة الحياة، الخسارة التي يقف عليها الإنسان يوم القيامة على آثارها ومرها وعذابها.
3- 39/ مريم.
4- 55، 56/ الزمر.
5- 27، 28/ الفرقان.
6- صحيح أن السبيل مع الرسول ليس سبيلا سهلا، ولكن من ضيّعه فقد اختار لنفسه العذاب المقيم، والشقاء الذي لا مخرج منه.
7- العاقل لا يتخذ خليلاً من دون الله لا بعيدا ولا قريبا، لا ضعيفا ولا قويّا، فالكل مملوك للمالك تبارك وتعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
8- العادة أن يعض الإنسان على إصبعه من الندم، الآية تقول على يديه.
9- نهج البلاغة ج4 ص 100 ط1.
10- الأمالي للشيخ الطوسي ص663 ط1.
11- كنز العمال للهندي ج6 ص81.
12- كلامي عن أيّ حكومة، وعن أيّ شعب.
13- يجب أن يكون القانون عادلاً حتى يكون ضمانة لسلامة العلاقة بين الحكومة والمجتمع.
14- لغة التغالب والقوّة وهي لغة مدمّرة.
15- المشكلة تبدأ من الظّلم، المشكلة تبدأ ، من التمييز في تطبيق القانون، المشكلة تبدأ من قانون غير عادل، المشكلة تبدأ في الغالب ممن بيده القوّة.
16- ونحن نقرأ ونسمع كثيرا مما يخالف أحكام الدّين وحقوق الإنسان واحترام القانون هذه الأيام.
17- 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى