خطبة الجمعة (416) 3 شعبان 1431هـ – 16 يوليو 2010م

موضوع الخطبة:

*الأشهاد في يوم القيام *حيارة الروح
*المبدئية والانفتاح

لا يوجد بيتٌ في الأرض على الإطلاق حمى الإسلام كما حماه أهلُ بيت النبوّة عليهم
السلام، أو ضحَّى من أجله كما ضحوا، أو أصابه في سبيله كما أصابَهم، ولا مَنْ يملك
من عِلْمِ الإسلام ما يملكون، ومن الإحاطة بأسراره ما كان لهم من إحاطة، ولا من
الحِرْص على سلامته ما يبلغ حرصهم عليه.

 

الخطبة الأولى

الحمد لله الأظهر من كلِّ ظاهر، ولا ظاهرَ يبلغُ ظهورَه، ومن ظهوره ظهورُ كلِّ ظاهر، الأبعدِ بُطوناً من كلّ باطن، ولا يشبه باطنٌ بطونَه، ومن بطونه بطونُ كلّ باطن. هو الظَّاهر لكلّ شيء بإظهاره له، ولكلّ من عداه وما عداه، والخَفيُّ عن كلّ شيء بجماله غير المحدود، وجلاله المتعالي، وكماله المطلق فلا يُحيط به سواه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله أرسله بالحقِّ بشيراً ونذيرا بين يدي الساعة صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلةَ بتقوى الله، والدخولِ في ولايته، والخروجِ من ولاية الشيطان. وما خَرَج خارج عن ولاية الله إلاّ وكان الشَّيطان وليَّه، ومن كانت ولايته لله كان للشَّيطان عدوّاً. ولا يجتمع ضلال وهدى، ولا ظُلمة ونور، والخيرُ يطرد الشّرّ، والشّرُّ يُفسد القلوب، ومَنْ عَرَفَ الجمالَ عشِقه، ونَفَرَ من القبيح، ومن استولى عليه القبيحُ حجبه عن الجمال.
وإنَّ للإيمان لرجالاً يُفزعهم ذِكْر الكفر، وإنّ للكفر رجالاً يسيئهم ذكر الإيمان.
وليس من نيّة سليمة، أو قول مصلح لا عن نفاق وخداع، أو فعل جميل لا عن رياء وتزلُّف لباطل إلا وهو من التَّقوى، وليس من قصدٍ سيء، أو قول أُريد به الإفساد، أو فعل شرٍّ إلا وهو خارج عن حريم التَّقوى، ومجافٍ لها.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واجعلنا من أهل تقواك، ومِمن رزقته صِدْق النيّة، وسلامة القول، وحسنَ العمل، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرَّحيم.
أما بعد فالحديث عن الأشهاد في يوم القيام:
وهو قضيَّة محوريَّة من قضايا الآخرة، والحساب والجزاء. ويواجه عمل الإنسان في خيره وشرِّه، وحَسَنه وقبيحه في الدّنيا رَصْداً دقيقاً شاملاً، وإثباتاً وتوثيقاً أميناً كاملاً، وتحمُّلاً مستوعباً حافظاً بقدرة الله، وفي الآخرة شهادات متعدِّدة عادلةً رصينة مُتْقَنة، لا يخالط حفظها نسيان، ولا أداءها خلل، ولا عدلها ظُلْم، ولا قِيامَها بالقِسْط نقصٌ إحقاقاً للحقّ، وإزهاقاً للباطل، وتتميماً للحجّة، وقطعاً للعذر.
وقد جاءت الآيات القرآنية كثيرة في هذا الإشهاد ودرجاته العالية، وأنواع الشّهود ومستوياتهم الرّفيعة حتّى يصل الأمر إلى شهادة الله الذي يُسبِّح له ما في السَّموات والأرض، وعلمه ليس مثله علم، وهو أعدل العادلين.
وهذه نماذج من آيات الكتاب الكريم في هذا الموضوع:
يوم الأشهاد:
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}(1).
فلأهمية الشَّهادة يوم القيامة، والأخذ بها، وترتُّب الأثر الكبير عليها جاءت تسمية ذلك اليوم بيوم الأشهاد.
والأشهاد جميع شاهد، والشهيد مبالغة من شاهد،وجُمعة شهداء.
الشهادة على الأمم:
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء…}(2).
هناك شهادةٌ على الأفراد بما هم أفراد، وربما كانت هناك شهادة على الأمّة أيِّ أمة بما هي أمة فيما كان لها من مواقف موحَّدة تُمثّل هويتها، وتنطلق من طابعها العام، وتُمثّل سلوكاً اجتماعيّاً لها، وإن كانت لا تتحمّل أيُّ نفس من المسؤولية والجزاء إلا بمقدار ما أُوتيَت، وكسبت يداها، وأسهمت في الموقف الانحرافيّ العام.
شهود يوم القيامة:
1. خيرُ الشاهدين: وهو الله سبحانه {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}(3).
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(4).
{… إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(5). ويوم القيامة ينكشف الغطاء عن القلوب، وترتفع حجبها، وترى علم ربِّها وعدله، وتوقن بإحاطته فلا تُجادل في حقّانيّة كلمته، ونزاهة شهادته، ولا يقبل وجدانُها بشيء من الرّيبة والتّشكيك في ما يشهد به.
2. شهادة الملائكة: { وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}(6)، { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(7).
3. شهادة الأنبياء: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً…}(8).
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً}(9).
{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً}(10).
{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(11).
الأنبياء يُسألون عن أداء الرِّسالة ويشهدون بأدائها، ولا تشكيك عند أحدٍ يومذاك في صدق النبيّين ونزاهتهم لأنَّ النّظرة الزائغة عن الحقّ تذهب يوم القيام، والأمور لا تكون ملتبسة، ولا يشتبه حقٌّ بباطل، ولا مصلح بمفسد، ولا صادق بكذوب.
4. الشّهادة على النّفس(12): {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}(13).
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ}(14).
5. شهادة الأسماع والأبصار والجلود: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ…}(15)، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ…}(16).
6. شهادة الألسُن والأيدي والأرجل: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(17).
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(18).
فكل عضوٍ ناطقٌ بما أتى، وكلّ جارحة مؤدّية شهادتها على ما كسبت.
7. شهادة الأرض: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}(19).
وما أعظمه من سجلِّ أخبار تحتفظ به الأرض من حياة هذا الإنسان وعدله وظلمه وآثار تقواه وفجوره، وإصلاحه وإفساده!!
8. شهادة الأعمال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(20).
{… وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً }(21).
{اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}(22).
{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(23).
إنَّ يوم يقوم النّاس لربّ العالمين لهو يوم محكمة العدل الكبرى التي لا تعمى فيها عينٌ عن عدل الله، ولا ترتاب نفسُ عاصٍ أو مطيع، ولا محسنٍ أو مسيء، ولا ظالمٍ أو مظلوم في إقامة القِسْط، والقضاءِ العدل، وإحقاق الحقّ، ودِقّة الوزن، والإحاطة في الحكم، والإطلاق في العِلْم، وشمول القدرة.
وكفى بعلمِ الله عن كلِّ علم، واطّلاعُه على الأسرار والخفايا عن كلّ اطّلاع، وبشهادته عن كلّ شهادةٍ لإقامة العدل والأخذ بالقسط ولكنْ لتأكيد الحجّة، والزّيادة في قطع العذر، وإظهار الأمر لا تبقى جارحةٌ إلا وتشهد على صاحبها، ولا نفس إلا وتقرّ على نفسها، وتقيم شهادة عادلة على جرمها، وقبيح ما كسبته من سوء، وما أتته من عظيم معصية.
فأين القضاء الظالم في الدنيا الذي يحكم في أعراض النّاس وأموالهم ودمائهم بغير ما أنزل الله سبحانه وبطرق إثبات قِوامها التعذيب والإكراه وشهادات الزور؟!
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وقراباتنا وأصحابنا وأزواجنا وكلّ من أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات أجمعين، وتب علينا ربّنا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم نجِّنا من هول يوم القيام، ولا تُعرِّضنا لشدّة الحساب ، ولا تفضحنا على رؤوس الأشهاد، ولا تجعل منقلبنا إلى النار.
اللهم ارحمنا في كلّ أحوالنا ويوم نصيرُ إليك، ويقوم الأشهاد وتُنصب الموازين، ويظهر النّاس على حقيقتهم من خاسر ورابح، وشقيٍّ وسعيد.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي بيده أمرُ كلّ شيء، وليس لأحد شيء من أمره، ولا تهديدَ لملكه، ولا مزاحم له في سلطانه، ولا خارج على قدرته، ولا مستعصيَ على إرادته، ولا ممتنعَ من مشيئته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيرا كثيرا.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة المقصِّرة بتقوى الله التي أوصى بها عباده حتَّى لا تضلَّ بهم السُّبل، وينحدروا عن الصّراط، وتضيع منهم الغاية، وينتهوا إلى هلاك، وحتى تطمئنّ بِهمُ الحياة، ولا يشقَّ عليهم الممات، وتسعد لهم الآخرة. ومن عاند فإنّما يعاند جبَّار السَّماوات والأرض، ومالك وجوده وحياته وأسبابهما، ومن قصَّر فإنّما يُقصّر في حظّ نفسه، ومن استجاب لله فذلك لنفسه ونجاتها وفوزها فإنَّ الله هو الغنيُّ الحميد.
اللهمَّ خذ بنا في طرق طاعتك، واسلك بنا أقرب السُّبل إليك، وقِنا الميل عن صراطك، واهدنا فيمن هديت، وتولّنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرَّ ما قضيت، وأسبغ علينا النِّعْم، وادفع عنّا النِّقْم، ولا تعدل بنا عن غاية رضوانك، وأوصلنا إليك يا أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين. اللهم افعل بنا ذلك وبمن تحب ومن يعنينا أمره وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، واغفر لنا ولهم قاطبة وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم الكريم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبدالله الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرِّضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحُفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا ثابتا مقيما.
أما بعد فهنا عنوانان:
حياة الروح:
تظهر إنسانيّة الإنسان بحياة روحه ونشاطها لا بحياة بدنه وعنفوانها. وتذبل إنسانيّة الإنسان بذبول حياة الرّوح، وتموت بموتها. وحياة الرّوح في الدّين فمن كان على دين قويم، والتزام بدينه حييت روحُه حياةً طيّبة، وزكت ونمت نماءاً كريماً، وغزُرت إنسانيّته، وتدفّق عنه الخير، وطَفَحَت حياته بالصّلاح. ومن لم يكن كذلك أصاب حياة روحه العطب والخمول، ودخلها الفساد فانتكست إنسانيّته، وسقطت عن مستواها، ورَشَح عنه شرٌّ كثير، وأوبأ جوَّ الحياة.
وإذا كان لحياة الأبدان من ربيع وجوٍّ مناسب فإن حياة الأرواح لها جوٌّ مناسب وربيع.
ورجب وشعبان وشهر رمضان ربيع للأرواح المهيئة للازدهار أو عودة الحياة إليها من جديد؛ فيه فرصةٌ كبيرة لاستعادة الصِّحة بعد الاعتلال(24)، والنَّشاط بعد الكسل، والرّواء بعد الجفاف، والقوّة بعد الضّعف، والحياة الكريمة بعد المشارفة على الهلاك.
هذه أشهرٌ غنيَّة بذكريات عظيمة ومناسبات عزيزة من ذكريات الإسلام ومناسباته. فيها مواليد عدد من الأئمة الهداة وأبطال الإسلام من الإمام الجواد، والإمام الهادي وعلي أمير المؤمنين والإمام الحسين الشهيد، والإمام زين العابدين، والعباس بن علي عليهم السلام، وفيها المبعث النبويّ الشّريف، ويوم بدرٍ الكبرى، وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وتنزُّل القرآن الكريم على روح رسول الله صلّى الله عليه وآله(25).
وهي أشهر غنيَّة بأذكارها وصلواتها وصومها وهداها وجوِّها الإيماني العام، ولطائف نسماته التي تهبُّ على أرواح المؤمنين فتزيد في يقظتها وحيويّتها ورشدها وهداها.
وهذه الأيام من شعبان هي أيّام ذكريات مواليد الأبطال الثّلاثة الذين قامت على أكتافهم إلى جنب الثّلة الطيبة من بني هاشم والأنصار الأخيار وزينب بنت أمير المؤمنين عليهم السلام وذلك بفضل الله ثورة كربلاء وأداء رسالتها، وإعطاؤها البقاء التاريخيّ الممتدّ، والأثر الكبير الهائل الكريم في حياة الإسلام والمسلمين، والحفاظ على أصالة دين الله وصدقه ونقائه.
ولقد كان لكلٍّ من أبطال هذه الذّكريات الثلاث دورٌ شاهدٌ على العظمة والصّدق مع الله عز وجل، والوفاء إليه، والإخلاص في سبيله؛ دورٌ كان فيه درأ الخطر عن الإسلام وحمايته، وتصحيح مساره، وإفشال عمليّة التحريف الواسع والقاتل لرؤاه ومفاهيمه وأُسسه.
ولا يوجد بيتٌ في الأرض على الإطلاق حمى الإسلام كما حماه أهلُ بيت النبوّة عليهم السلام، أو ضحَّى من أجله كما ضحوا، أو أصابه به في سبيله كما أصابَهم، ولا مَنْ يملك من عِلْمِ الإسلام ما يملكون، ومن الإحاطة بأسراره ما كان لهم من إحاطة، ولا من الحِرْص على سلامته ما يبلغ حرصهم عليه.
المبدئيّة والانفتاح:
لأكثر من مرَّة وعندما تُتوفّى بعضُ الشخصيات العلمائية المعروفة بعقلانيتها، وانسجامها مع المرونة الإسلاميّة المعتدلة في التّعامل مع الآخر، والنّظر في الآراء، والدّعوة إلى الله عزَّ وجلّ بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدل بالتي هي أحسن تتصدَّى بعضُ الأقلام غير المخلِصة للتشويش على الفكر الديني، واصطياد العقول عن طريق العاطفة، والتأثير على الرؤية الإسلامية الصّادقة، وعمليّة التضليل والتحريف المتعمّد لفكر الشباب في مادّة من الثناء والتمجيد لشخصية المتوفّى بالصّورة التي تخدم هدفَ التّشويش والتضليل والتشويه للفكر الإسلامي وتوجُّهات الإسلام، وتُسيء إلى شخصية علمائنا الكرام من ناحية إسلامية. (26)
هذه الأقلام تتحدَّث عن انفتاح هذه الشّخصية المتوفاة أو تلك وكأنّه انفتاحٌ بلا حدود ولا ضوابط، ولا يميّز بين إيمان وكفر، واستقامة وانحراف، وعدل وظلم، وتقوى وفجور، وهدى وضلال، تتحدّث عن انفتاحٍ لا ينطلق من هُويّة، ولا يحترم حدود الدّين، ولا يرعى له حرمة.
هذا كيد بالإسلام، وفنٌّ من الفنون الشيطانيّة في هدمه، وينطلق من أغراض سيّئة، وأهداف سياسيّة خبيثة(27).
هذا اللون من المكر يوجّه خطاباً للجمهور المؤمن بأن الشخصية الإسلاميَّة المثال هي التي تعيش هذه الحالة من الانفتاح، وتضحك للفساد، ولا تُفرّق بين واجب العمل على وحدة الأمة وصيانتها وحمايتها والدفاع عن حقوق كلّ أبنائها وبين السّكوت على ظلم الظالم، وعربدة المعربد، وإفساد المفسد(28)، والسّرقات العامة، واغتيال الشعوب ووحدتها.
إنّه خطابٌ يُوحي للجماهير المؤمنة(29) بأن تنفصلَ عن المدافعين عن الحقوق، المناضلين عن عزّة الأمّة، المحامين عن حرمة الدين وقُدسيّته، وسلامة مفاهيمه وأحكامه، والذائدين عن حريم الأخلاق، وحرمة القيم*(30)
وإن هذه الأقلام لتوجّه ضربات موجعة، وترتكب إثماً عظيماً في حقّ شخصياتنا العلمائية التي عُرِفَت بانفتاحها المبدئي(31)، وحرصها على الإسلام، وتمسّكها بقيمه ورساليّته، وحدّيته من الظُّلْم والتمييز والتمييع والإضلال للإنسان، والتي وقفت مواقف صريحة جريئة ممضاءة، وضحّت تضحيات باهظة صابرة، ودفعت ثمناً عالياً غالياً من راحتها وأمنها، وتعرَّضت للأذى القاسي المستمر في سبيل القيم والأخلاق والمبادئ، وكان همُّها الدين والتزمت خطّه رغم كلِّ التحديات.
إنّها محاولة اغتيال خبيثة لشخصياتنا العلمية الدينية تشارك فيها أكثر من جهة ولأكثر من غرض وتتكرَّر مع أكثر من وفاة عالم مجاهد يحتلُّ مكانة في نفوس المؤمنين.
محاولة اغتيال لحالة الوعي الإسلامي عند شبابنا، وإسقاط لقيمة العاملين في سبيل الله بأمانة وإخلاص ومبدئيّة ورساليّة في وضعٍ من الانفتاح الذي يرضاه الله سبحانه، وتسمح به شريعته أرضى هذا الانفتاح المعتدلُ الآخرين أو لم يُرضهم(32).
أصحاب هذه المحاولة المغتالة لشخصياتنا العلمية الدينية العزيزة يعرفون تماماً مبدئيّة تلك الشخصيات وتمسّكها بالإسلام الذي يرسم حدّاً فاصلاً بين الكفر والإيمان، والظلم والعدل، والانحراف والاستقامة، ولا يسمح بخلط الأوراق، ولا التقوّل على الدّين، ولا إدخال ما ليس منه فيه، ولا يأذن بالموافقة على الظّلم، ومباركة البغي، والرِّضى عن الفساد، والتّمييز بين النّاس بغير حقّ. وهم من أعدى الأعداء لمواقف أولئك العلماء الأفذاذ المناهضة لكلّ أشكال الفساد والظلم والتمييز الجاهلي وإذلال الشعوب والأمة.
ولكنّهم يُغمضون عن كل ذلك في كتاباتهم الكاذبة عن شخصيّة هذا العالم المجاهد أو ذاك، ويظهرون بمظهر المحبِّ المعجب الذي لا يبخل بالثّناء والتمجيد والتكريم للشّخصية المستهدفة.
إنَّ الانفتاح الذي يرضاه دين الله سبحانه هو انفتاح ينأى بالشخصية الإسلامية العارفة بالإسلام عن التعصُّب الأعمى، والظّلم للآخر، أو السّكوت عليه(33) والرِّضى به وعدم دفعه مع الإمكان، وعدم الغمط لقيمة كلمة الحق الصادقة، وموقف الحقّ السّليم من أيٍّ كان، وقبول وجهة النّظر من أين جاءت، وعدم الانغلاق عن حوار الآخر، والسّماع لما عنده من رأي وحجّة، وما يُبديه من عذر.
إنه انفتاح لا يضع شرطاً على قبول الحقّ، ولا يستثني منه ما صدر من مكانٍ خاصٍّ أو زمانٍ معين، أو جهةٍ محدّدة(34)، ولا يألُ جهداً في جمع النّاس على الحقّ، وعلى احترام بعضهم بعضاً، ورعاية الحقوق، وتقدير الحرمات، وحفظ كرامة الإنسان، وإعطاء كلِّ ذي حقّ حقه، والإنصاف في الكلمة والموقف(35).
أمّا الانفتاح الذي تدعو إليه الأقلام المنغلقة عن الحقّ، المتعصبة للباطل، المشاركة في ظلم الشعوب، المنطلقة من روح التمييز، المتآمرة في الظّلم على سلامة الدين، وكرامة الإنسان، وحقّ المحرومين وتطالبنا به فهو انفتاح لا يعرفه الإسلام، ولا يمكن أن يقبله الإنسان المسلم وهو يطالبه أن يميع أمام الظلم، وأن يصفّق للباطل، وأن يهرول مع من يهرول على خطّ بيع الأمّة وتغريبها ومسخ هويتها، وأن ينسلخ من هويته ويندمج بجوِّ الفساد والمفسدين.
إنَّ رضى الأقلام الفاسدة المفسدة لا يُنال إلاَّ بالتنازل عن الدّين والشّرف والعزّة والكرامة، والانفصال عن الله عز وجل، وبيع النّفس للشّيطان، وتردّي الذَّات، والخروج من حدّ الإنسانية، فهل يفعل عاقل بنفسه كلّ ذلك حتى ينال رضى الصَّحافة السَّاقطة، والعقول المريضة، والنفوس المسكونة للشيطان؟!
إنَّ المؤمن لا يرى ثمناً لنفسه إلا الجنّة ورضوان الله.
ثمَّ إنّ حملات التّشويه لشخصياّتنا العلمائيّة المخلصة، وإيهام الشّباب بمفاهيم مكذوبة على الإسلام، وفصلهم عن الشّخصيات الإسلاميّة المبدئيةّ لا يسقطها إلا تقدُّم وعي الشّعوب ويقظتها، ومعرفتها بالإسلام ورؤاه وأحكامه، وتنبّهها لدسائس أعداء الإسلام والشعوب.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اهدنا بهدى المهتدين، وبلّغ بإيماننا درجة اليقين، واجعلنا من الآمنين، وانصرنا على القوم الكافرين، واحمنا من بغي الظّالمين، وارحمنا فيمن رحمت، وأيّدنا فيمن أيّدت، وأعزّنا فيمن أعززت، ولا تجعل لظالمٍ علينا منّة، ولا لساناً، ولا يداً وسلطاناً يا أقوى من كلّ قوي، ويا أعزّ من كلّ عزيز، يا غالب كلّ غالب، يا شديد يا متين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(36).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- 51/ غافر.
2- 89/ النحل.
3- 46/ يونس.
4- 61/ يونس.
5- 17/ الحج.
6- 21/ ق.
7- 18/ ق.
8- 143/ البقرة.
9- 41/ النساء.
10- 159/ النساء.
11- 69/ الزمر.
12- إنّه الإقرار، الاعتراف عن رضى واختيار وصدق.
13- 172/ الأعراف.
14- 130/ الأنعام.
15- 22/ فصلت.
16- 21/ فصلت.
17- 24/ النور.
شهود لا تغادرنا في الحياة لحظة، ولا يغيب عنها عمل من أعمالنا.
18- 65/ يس.
19- 4، 5/ الزلزلة.
20- 7، 8/ الزلزلة.
21- 13/ الإسراء.
22- 14/ الإسراء.
كتاب الأعمال.
23- 28، 29/ الجاثية.
ليس كتاباً خبريّاً، ليس تقريرا كتابيا، إنّها الحوادث. هذا الاستنساخ بالكتابة طريقة بدائية، وهناك ااستنساخ من استنساخ البشر أكبر بمرات ومرات؛، فكيف باستنساخ الله عز وجل للحوادث والوقائع؟!
24- إن الأرواح لتعتلّ كما تعتلّ الأبدان.
25- كل هذه الذكريات تحفل بها الأشهر الثلاثة.
26- وهي بهذا تدّس السَمَّ في العسل، والقصد ليس المدح وإنما لإغتيال الشخصية المستهدفة دينياً، ولتضليل الجمهور المؤمن .
27- نتذكر يوم وفاة الجمري رحمه الله وكيف أنّه غيل له أن يجيّر لغير الإسلام، وتتكرر التجربة مع سماحة آية الله السيد محمد حسين فضل الله ووفاته.
28- علماؤنا دعاة وحدة، ومن أجل الحق، وخدمة الحق، ولتقريب الناس إلى الدين، وليس انفتاحهم مساواة بين الحق والباطل، وبين الفساد والصلاح، وما يراد له أن يقدَّم لعقلية شبابنا أن هؤلاء العلماء يقفون الموقف الواحد من الفساد والصلاح، من الكفر والإيمان، فلنحذر.
29- ولكل الجماهير.
30- * لان هؤلاء المناضيلين المدافعين منغلقون ومتعصبون وطائفيون.
31- وليس كل انفتاح.
32- إنّ الدعاة إلى الله لا يركضون وراء إعجاب الصحف، ووراء إعجاب الأقلام المأجورة، إن الدعاة الصادقين لله عزّ وجل إنما يطلبون رضى الله سبحانه ويتقيدون بما أمر ونهى.
33- أن يُظلم أخي المسلم، أن يُظلم أخي المسيحي، أن يُظلم الإنسان أيّ إنسان، وأنا أقدر على دفعه ظلمه فلا أفعل هذا تعصب، هذا عمى. الإنسان المسلم يدفع الظلم كل الظلم على أي إنسان. من تكليف الإنسان المسلم إذا استطاع أن يدفع الظلم عن أي إنسان كان عليه أن يدفعه.
34- بنو إسرائيل كانت مصيبتهم أنهم كانوا مستعدين لقبول رسالة الرسول لو كان منهم، ولكن فليقم مليون دليل على صحة رسالة رسول الله صلّى الله عليه وآله، فلأنّه ليس منهم فهم لا يقبلون رسالته. هذا انغلاق، هذا عمى، وهو ليس من الإسلام على الإطلاق.
35- هذا هو إسلامنا، وهذه هي تعاليمنا التي نتحرّك على ضوئها، وننطلق منها في التعامل مع الآخر.
القوم يريدون أن يتّهموننا بالعصبية… (هنا انقطع الصوت).
36 – 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى