خطبة الجمعة (364) 14 ربيع الثاني 1430هـ – 10 ابريل 2009م

مواضيع الخطبة:

*حفظ النعم *الحكومة والشعب*التماس شخصي

عقلاً وعقلائيّاً لو استوت أو تقاربت نتائج التفاهم المرغوبة عند هذا الطرف أو ذاك، أو كليهما، مع نتائج الاحتراب المهلك، أو الصراع المرهق لتعيّن الأخذ بأسلوب التفاهم لا أسلوب القتال.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا غنى عنه لمن سواه، ولا افتقار لغيره ممن رحمه ورعاه، لا ينفع مع غضبه رضا الراضين، ولا يضرّ من رضي عنه سخط الساخطين. وماذا يملك غيره من نفسه حتّى يضرّ وينفع الآخرين من دون إذنه. الملك ملك الله، والعباد عباده، وكلّ شيء في قبضته، والأمر كلّه له، ومصير كلّ شيء بيده، والمرجع ليس إلا إليه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله الجبّار القهّار الشديد، الفعّال لما يريد، ومن كان يجد من نفسه القدرة على مواجهة قهر الله وبطشه وأخذه فليختر طريق معصيته، وليستكبر على دينه، ولا يأخذ بتقواه، وأنّى لمن يعقل أن يذهب به الوهم إلى مثل هذا، ويعمى عن القدرة المطلقة للخالق العظيم الذي لا خالق معه، وكلّ شيء من خلقه، وأمره بيده؟!!
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين. واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أرنا في عافية ولطف ربوبيتك وعبوديتنا، وغناك وحاجتنا، وقوّتك وضعفنا، وخذ بيدنا إلى طاعتك، وأدم لنا هدايتك، وارفع درجتنا عندك، ولا تستبدل عنّا في دينك يا كريم يا رحيم.

حفظ النعم
أمّا بعد فمن كلمات أمير المؤمنين عليه السلام كما في النهج هذه الكلمة:”إنّ لله في كل نعمة حقّا فمن أدّاه زاده منها، ومن قصّر عنه خاطر بزوال نعمته”(1).
وجاء في النهج:”احذروا نفار النّعم فما كلّ شارد بمردود”(2).
نفار النعم أي نفور النّعم، وانفلاتها من يدِ من كانت بيده من المرزوقين.
النّعمة تحتاج إلى حفظ وصيانة، وإذا شرد منها شارد بقدر الله سبحانه وتعالى فليس يُعلم أبداً أن هذا الشارد يعود برحمة منه وهو الرؤوف الرحيم، وذلك لما قد يكون عليه العبد من إنكارٍ وكفر للنّعمة، واستمرار على هذا الكفر.
لا نعمة عند أحد إلا من الله، وفي كل نعمة لله عند العبد حقّ له، وهذا لا يعني أن النعمة مقسومة بين الله وبين العبد، إذ النّعمة كلّها لله وليس للعبد منها شيء، وإنّما المعنيّ أن كل نعمة جعل الله عزّ وجلّ فيها واجباً على العبد، والوفاء به حقٌّ له سبحانه، وهو حقّ الشكر، وحقّ الشكر مآله لنفع العبد لا الرّب.
والنِّعم معطاةٌ منه لعبيده لحكمة وغاية، وليس من فعل الله عزّ وجلّ ما هو مفصول عن الحكمة، أو بلا غاية، وكلّ ذرّة في هذا الكون موضوعة مكانها، ولغاية، وهي دخيلة في تمام النظام.
وقد حُدِّد في دين الله أسلوب التصرّف في النِّعم، وبيّنت الشريعة مواضع استعمالها، وكلّ استعمال للنِّعمة على يد العبد إذا جاء على طريقة الشريعة فهو في صالح هذا العبد وبنائه وسعادته.
والتعدّي في استعمال أي نعمة عن المواضع التي دلّت عليها الشريعة، وأوضحتها أحكامها عدول بتلك النعمة عن وظيفتها وغايتها.
أنت تستطيع أن تضع النعمة على طريقها المنتج والبنّاء والمثمر في حياتك وحياة الآخرين، وفي صالح ذاتك دنياً وآخرة وذلك بأن يأتي تعاملك مع النّعمة بالطريقة الشرعية تماماً، وأي استعمال للنعمة بعيد عن الحكم الشرعي فإمّا أن يعني إسقاط قيمة هذه النعمة، أو يعني أنها تحوّلت على يد هذا الاستعمال إلى نقمة وشرّ.
وأداء حقّ الله الثابت في النعم وهو استعمالها وإنفاقها في ما أراد سبحانه رعاية لمصلحة عبيده وتربيتهم وتكميلهم طريق للحفاظ على النعمة بيد العبد، ومباركتها، وزيادتها بفضل الله سبحانه.
والإخلال بذلك يفتح الباب لعقوبة سلب النعمة، وتضييعها، ونفورها نفوراً ربما لم تعقبه عودة، ولم يكن بعده استرجاع.
المال مثلاً إذا استعمله أحدنا في غير موضعه ربما كان ذلك سبب نفاره، وقد يكون هذا النفار لا تعقبه عودة لهذا المال، وتبقى اليد صفراً بعد أن كانت مليئة.
وهناك تجميد للنعم، وتعطيل لدورها، ومن الناس من يفعل بما آتاه الله من نعمه ذلك فيكون الفقير وهو الغني، والجاهل وهو القادر على العلم، والفاقد للدور القوي المصلح للحياة وهو المؤهّل بالقابليات الكبيرة لهذا الدور من عطاء الله تبارك وتعالى، ويكون ذلك العبد العالَة على القريب والبعيد وهو يملك القدرة على الإنتاج، وكل ذلك إتلاف للنعم، وتخلّف من المكلَّف عن الدور المطلوب المقدور، والمسؤولية الشرعية الثابتة، وهو معقب للخسارة وللحسرة والندامة..
وإنّ كل النعم التي نؤتاها ومنها المادي والمعنوي الذي تدخل فيه معرفة الحق والاهتداء إليه، وإمكان التوفّر على فهمه وبصيرته وقبول النفس بهِ مما يحق لله أن يحاسبنا على التفريط بها، والإساءة لأنفسنا وللآخرين في كيفية استعمالها، وفي الانحراف بغرضها ووظيفتها حيث كانت في الحكمة الإلهية للإصلاح لا للإفساد، وللنفع لا للضرّ، وللخير لا للشر. كل نعمة من الله هي كذلك: للصلاح لا للفساد، للخير لا للشر، للنفع لا للضر، وما أكثر ما تتحول هذه النعم على يد هذا الإنسان المفرِّط إلى مصائب وكوارث ومفاسد.
ولتستذكر نفس آمنت بربها قوله عزّ من قائل في كتابه المجيد:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(3)
إنها نعم للبناء، للإعمار، لخير الحياة، وخير النفوس، وخير الآخرة، وإذا تحوّل شيء من هذه النعم إلى الخطّ المعاكس تحمّل الإنسان مسؤوليته في ذلك.
وأي عدول عن منهج الله عزّ وجل هو عدول بكل شيء في هذه الحياة من خطّ الإصلاح إلى خطّ الإفساد، ومن خطّ النفع إلى خطّ الضر.
ولنستذكر أن كل لحظة من حياتنا نعمة، وأنّ العقل نعمة، والسمع والبصر نعمتان، وكل جارحة نعمة، ومأكلنا ومشربنا وملبسنا وكل شيء بيدنا من فضل الله نعمة، وعلمنا وشأننا في الناس نعمة، وكل فرصة للخير تُتاح لنا نعمة، ويذكّرنا القرآن بهذه الحقيقة التي كثيرا ما ننساها {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}(4).
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تنسنا شكر النعم، وأعذنا من أن نفرّط بها أو نضعها في غير ما هي له عندك، ووهبتنا إيّاها من أجله، واجعلها طريقا لنا إلى رضوانك، وأدخلنا بها جنّتك، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرّ ما قضيت يا خير من أعطى، وأقدر من كفى، وأمنع من آوى وحمى، يا أعلى عليّ، وأعظم عظيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أرسل رسله ليأخذَ النّاسُ بالحقّ، ويقيموا القسط، ويتبعوا الهدى، ويعملوا بموازين العدل، وهو الذي لا يرضى من أحد ولا لأحد ظلماً ولا جوراً. ولا عدل مثل عدله، ولا هدى كهداه، ولا حقّ بالذّات غيره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله علينا بتقوى الله فهي الطريق لكل مرجوٍّ من الخير، والمهرب من كلّ محذور من الشرّ، فليس يُرجى غير الله للخير، ولا يُهرب إلا إليه من الشر. ومن أولى عند الله بالخير والكفاية والحماية من عبد آمن به، وأطاعه، واتقاه؟!!
ألا فليأخذ الطامعون في أكبر الثواب من الكريم الأكرم، الرب الجليل الأعظم، والفارّون إليه مما يخافون من أمر الدنيا والآخرة بطريق تقواه وخشيته ومحبّته وولايته واللجأ إليه. وما أخسر من قدّم التقوى من العبيد على تقوى ربّه العلي العظيم المجيد.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تفرّق بيننا وبين دينك طرفة عين أبدا، واجعلنا من أهل طاعتك ومحبّتك وولايتك، وارزقنا رحمتك ورأفتك ورضاك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك، والقادة إلى رضوانك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول،والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً مقيماً ثابتاً.
أما بعد فإلى هذه الكلمة:

الحكومة والشعب
الحكومة تريد أمناً والشعب هو الآخر يريد أمناً، والإثنان يطلبان احتراماً، وأمن هذا واحترامه مرتبط بأمن ذاك، وأمن ذاك واحترامه مرتبط بأمن هذا واحترامه.
وهناك حقوق يطالب بها الشعب، وهي ضرورية لتحقيق درجة من العدل، وضرورية للاستقرار، وقد يسلك أي طرف من الطرفين لما يريد طريقَ العنف مع اعتماد إهمال حاجة الآخر، وتهميشه، وعدم الاعتراف به، ونفيُ الآخر في بيت واحد، أو مؤسسة واحدة، أو وطن واحد ليس الشيء الميسور الذي قد يتوهمه متوهّم، ودونه بحر من المتاعب والصعاب والتضحيات والدماء والأهوال لا يكاد يُشقّ عبابه، وكل تجارب الدنيا تتحدّث بأبلغ لغة، وأوضح أسلوب عن ذلك، كما تتحدث عن فشل هذه المحاولة في الأكثر.
وقد يتعقّل الطرفان فيأخذان بأسلوب الحوار والتفاهم ليصلا من المشتركات إلى التوافق على موارد الاختلاف ليخرجا من المأزق الذي يعنيه استمرار النزاع والصراع بين المصالح أو بين الإرادات، وينأيا عن بنفسيهما عن الهاوية المشتركة التي تُنهي إليها الصراعات على تقدير الاستمرار.
وقد ينشأ التعقل عند هذا أو ذاك من ميل للعدل، واحترام الإنسان للإنسان، وتقديره لضروراته وحاجاته وشأنه وكرامته، وقد ينشأ من الإشفاق على الذّات، ورعاية مصالحها واستقرارها التي تعرضه مخاطر الصراع إلى الضياع، وكثيراً ما تحتاج الحكومات إلى التعقّل والرزانة والتأمّل.
والوصول إلى التفاهم، وإلى نتائج متوافق عليها، حتّى لو جاء من منطلق الشعور بتعرّض المصالح الذاتية للخطر هو خير لطرفي الصراع من حالة الاحتراب التي يقدّر أن تعصف بهذا وذاك مصالحَ واستقراراً وذاتاً، وكلَّ مكسب عزيز مقدّر كان من أجله الصراع.
وعقلاً وعقلائيّاً لو استوت أو تقاربت نتائج التفاهم المرغوبةُ عند هذا الطرف أو ذاك، أو كليهما، مع نتائج الاحتراب المهلك، أو الصراع المرهق لتعيّن الأخذ بأسلوب التفاهم لا أسلوب القتال.
هذا حتّى لو لم يكن حساب إلا لمصلحة الذات، وبقي الناس بلا خلق وقيم إنسانية ودين، وما رجعوا لله سبحانه في رعاية الحرمات.
ولابد أن نلتفت جميعاً أن فراشاً يجمع بين زوجين يترصّد كلّ منهما بالآخر، ويخاف أحدهما من الآخر هو فراش شقاء، والاجتماع فيه للعذاب.
ورفقة الطريق إذا كان كل واحد منهم يترصد بأخيه، وله خوف جديّ منه كان هذا الطريق طريق شقاء وعذاب، ولابد أن يفترقوا.
وأهل الوطن الواحد حكومة أو شعبا أو فئات شعبية لو أطّر حياتهم إطار الترصّد لبعضهم البعض، وخوف كل طرف من الآخر لكانت حياتهم للشقاء والعذاب، فلا مفرّ لأهل البيت الواحد، والسفينة الواحدة، والوطن الواحد من التفاهم والعدل والإنصاف، وإلا فهو الأخذ بطريق النصب والشقاء والعذاب والهلاك.
فهل تعقل كل الحكومات هذا وتسعى إليه؟ وهل يتوافق الجميع عليه؟ وكم يضل أهل الأرض عند العصبية أو الغفلة عن الطريق؟ وكم يفوّت الأقوياء في نظرهم من فرص الخير والراحة على أنفسهم وغيرهم الكثير؟
التماس شخصي:
ألتمس من شبابنا الأعزاء المخلصين جزاهم الله خيرا أن لا يعلّقوا لي صورة، أو يرفعوها، أو ينشروها، وإذا استجابوا لهذا الالتماس فإنهم يُسّدوُن بذلك لي نفعا في ديني ودنياي.
وجعلنا الله من الشاكرين لأنعمه أجمعين، وله من الذاكرين الحامدين.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارحم هذه الأمّة، وقرّب يوم فرجها، واجمع كلمتها على التقوى، واجعلها لا تقدّم ظلما على عدل، ولا فسادا على صلاح، ولا شقاقا على وفاق يقرب بها من الحق والعدل، ولا فرقة على وحدة فيها رشاد.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

_________________
1 – نهج البلاغة ج4 ص54.
2 – المصدر نفسه.
3 – 8/ التكاثر.
4 – 18/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى