خطبة الجمعة (361) 22 ربيع الأول 1430هـ – 20 مارس 2009م

مواضيع الخطبة:

*نفحات قرآنية *الديمقراطية والأنظمة السياسية في الأمة *لا يطلبون القمر *العالِم مع من؟

اضطراب الوضع الأمني المؤسف، والأوضاع العامة الأخرى المؤلمة خلفيته التي لا تُنكر فقد هذه الحقوق وتخلّفها والتنكر لها، وعدم الاستجابة لكل نداءات المطالبة بها، بل واعتماد أسلوب الشدة والقسوة والبطش في مواجهتها، وهو ما كبرت المعاناة منه في كثير من مناطق البحرين هذه الأيام.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي وسع كلّ شيء قدرة وعلماً، وعمّ رزقه الخلائق جميعاً، وبحكمته قدّر الأشياء تقديرا، وجعل البلاء موزونا، والفتنة في الأرض محتملة، وثواب الصبر عظيما، وجزاءه جسيما.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، والصبر على الحق وإن وُجِد مُرّ المذاق، ومفارقة الباطل وإن حلا طعمه. ولا يثقل الحقّ على النفس إلا لإهمالها وسقوط قدرها، ولا يخفّ الباطل عليها إلا لما صارت إليه من قبح ودونية وهوان. ومرارة الحقّ عابرة، وأثره عبق طيب نافع مقيم، وحلاوة الباطل لا تمكث، وإنّما الباقي منه ثمرته النتنة المهلكة، والحق يقوم في النفس نورا، والباطل يقطن فيها ظلمة.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اكتب لنا هدى لا نضلّ بعده أبدا، وذكراً لا تتبعه غفلة، واستقامة لا يتخللها انحراف، وتوفيقا لا يخالفه خذلان، وحسّن خلقنا، واصرف وجوهنا إليك، وأخلص نيّاتنا في طاعتك يا رحمن يا رحيم.
نفحات قرآنية

أما بعد فيقول سبحانه في كتابه الكريم:{ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضّة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون، وزخرفا وإن كان ذلك لمّا متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين}(1).
والزخرف هو الزينة المزوّقة ومنه قيل للذهب أنَّهُ زخرف. وبيت من زخرف أي من ذهب مزوّق.
للدنيا لحاظان: لحاظ كونها طريقا للآخرة، ومزرعة لها، ومن هنا وبهذا اللحاظ تكون الدنيا كبيرة، وأهميتها بالغة، والمفرِّط فيها فرَّط في حاضره ومصيره، وضيّع الفرصة الوحيدة التي يُتاح له فيها أن يبني حياة أبدية سعيدة. وحسرة المفرِّط في الدنيا بهذا اللحاظ حسرة حقّ للنفس أن تذوب لها.
وقد تُلحظ الدنيا في نفسها، وبما هي مأكل ومشرب وشهوات محدودة مؤقّتة يتبعها رحيل، تُلحظ بما هي مسرح للعب واللهو والتمرد على طاعة الله عزّ وجلّ، ويسودها الفسق والفجور والكفر، وهي بذلك هيّنة على الله عزّ وجلّ، وضيعة في نظر دينه.
ووفرة الشهوات وأسبابها ابتلاء وليس فيه شيء من الشرف والكرامة.
ولو كان لعرض الدنيا دخلٌ في شرف الذوات الإنسانية لكان رسل الله وأنبياؤه من أدون الناس، ولكنهم أعلاهم، ويدهم في الغالب صفراء من المادة التي يُباهى بها، ويُدخل بها السباق بين الأغنياء، ما فيهم من مادة إنما هو على مستوى الكفاف، إلامن جاء استثناء لحكمة.
وإنما الكرامة في الإيمان والعقل الراجح والروح النقية والقلب الطاهر والعمل الصالح. والاستمساكُ بنور الإيمان، والتزام خطّ العقل، والتوفّر على نقاء الروح، وطهر القلب، وصلاح العمل أمامه تحدٍّ هائل من ضغط الشهوات، وسحر المادّة، وإغراءات الحياة.
والآية الكريمة تطرح هذه الأفكار:-
1. لا ضيق في القدرة الإلهية، فكل ما يتمناه الناس من بذخ مادّي في هذه الحياة، وحياة مترفة ليس على الله بعسير أن يُوفّر لهم ذلك، ومن كان حظّه الدنيا كلّ الدنيا فإنّ حظّه قليل، ومن خرج من هذه الدنيا من غير أن يعرف ترفها، وملمسها الناعم، وبذخها، وكان على صلاح في نفسه فقد ربح الحياة، وقد أحرز كأس السبق في تنافساتها، وفي سباقاتها الواعية الرشيدة.
2. إن لأوضاع الغنى والفقر والتفاوت الطبقي، وسائر أوضاع البيئة البشرية في أبعادها الاجتماعية والسياسية وغيرها تأثيرا كبيرا إيجابا وسلبا على قضية الإيمان والصبر على الدين.
فللفقر ضغط، وللمرض ضغط، وللخوف ضغط، ولعداوة الأعداء ضغط، ولمقابلاتها ضغط كذلك؛ ضغط على قضية الالتزام بالدين، والاستقامة على الخطّ.
3. إنّ هناك درجة من ضغط الأوضاع يَخْسَرُ معها الناس دينهم، ويفقدون صبرهم، ويخرجون من دين الله للكفر أفواجا منها أوضاع اقتصاد، أوضاع سياسة، وأوضاع اجتماع، أوضاع من مختلف الأنماط. ومن هذا الامتحان القاسي الذي يفوق التحمّل النفسي عند الإنسان أن يكون الغنى والحياة الترفية القياسية لازمة الكفر، وأن يكون الفقر معه، لازمة الإيمان، فكلما وجد إيمان في أرض، في قلب كان الفقر، وكلما وجد كفر في أرض، في قلب وجد الغنى كذلك، هذه الحالة تذكر الآية الكريمة أنها فتنة كبرى لا يتحمّلها الناس.
4. إن الكثير من متع الدنيا، ومالها وزينتها وزخرفها وشهواتها ولذائذها وبهجتها وشهرتها ومناصبها وما يمكن أن يستقطب جميع الناس لسحره وسطوته على النفس البشرية لو أُعطيه طالبه مع خسارة الآخرة لظلم نفسه بما سعى إليه، ولما كان الذي أعطية بشيء أمام نعيم الآخرة.
أما الصابر على فتنة الدنيا، المقيم على دينه رغم المحنة وشدّة الامتحان لتقواه ربّه فوعده من الله نعيمُها الخالص الشامل، وكرامتها الرفيعة، وسعادتها الأبدية التي لا يعرضها انقضاء، ولا يخلف الله وعده.
5. إن الله عز وجل لا يرفع سقف المحنة في الأرض، ولا يبلغ بمستوى التحديات فيها إلى الحد الذي يسقط إرادة الإيمان في النفس، وقدرة الصمود على خطّه. ضُمّ هذا إلى ما شرّعه الله عزّ وجل من مثل أحكام الضرورة والاضطرار والإكراه التي تتعامل مع الظروف الاستثنائية والطارئة في أبعاد من أبعاد الحياة بما يتناسب والحالة الخارجية القائمة، وينفي صفة العسر عن الدين،.
ونتعلم من الآيات الكريمة هذه أنه كلما سمحنا مختارين لحياة أهل الإيمان أن تتردّى أوضاعها وتضعف، وأن يسبقها الكفر ثقافيّاً، واجتماعيا، وسياسيا، وفي كل الميادين النافعة وقفنا موقفا صعبا أمام الله عزّ وجلّ لأن هذا التفاوت يُغري كثيرا بالالتحاق بمعسكر الكفر، والتخلي عن جبهة الإيمان؛ فنحن بالتواني عن بناء أنفسنا، ومجتمعاتنا الإسلامية البناء القويّ في كل نافع من دين أو دنيا نُعطي الفرصة للكفر والنفاق، ونفتح لهما الطريق لاستضعافنا بدرجة أكبر، ولاستقطاب الإنسان المسلم تحت تأثير عامل الفرق الهائل بين الضعف والقوّة.
وكم انجذب الكثيرون من المسلمين أمام سلطان القوّة للحضارة الغربية، وجمالها المادّي، وعطاءاتها الماديّة الباذخة؟! لقد تمّ انحسارُ كثيرين من أبناء الأمة بدرجات متفاوتة عن الإسلام بسبب ما كان من فرق ملحوظ واضح بين البناء الماديّ لحضارة الغرب، والبناء المادي لحضارة الإسلام بسبب إهمال المسلمين.
علينا أن نتعلم من الآيات الكريمة أن لا نقترب من مستنقعات الرذيلة، والأجواء الموبوءة بأخلاقياتها الساقطة لما يمثّل ذلك من ضغط استثنائي على الدوافع الغريزية المادية المرتبطة بهذه الأجواء مما يعني طغيان الفتنة، وقدرتها الهائلة على التحدّي الذي يمكن أن تسقط أمامه النفس، وتخسر وزنها ودينها.
إن فرصة السقوط أمام الإغراء والشهوة تكبر، وتتضاعف وتعظم كلّما كان الإغراء في الخارج أشدّ، وكلما اقتربت من أجواء الفتنة الطاغية.
لا شك أن الإنسان أمام الجمال الصارخ، وأمام الترف الباذخ، وأمام تحديات أخرى طاغية من أنواع مختلفة غيرهُ في التماسك فيما لو كان في أجواء خالية من التحديات، أو أن تحدياتها مقدورة. هناك درجات من التحدي لا تُقدر كما تقول الآية الكريمة.
نحن محدودون، ولنا درجة تحمّل محدودة، أليس السمع فينا محدودا؟! والبصر محدودا؟! وكل قوة من قوة البدن محدودة؟! ألسنا ننهار تحت الثقل المادي الشديد؟! وكذلك نحن محدودون في درجة تحمّلنا النفسي والعقلي، لنا قدرة محدودة على الثبات على الطريق، فإن طغت التحديات أمامنا وتجاوزت مقدورنا سقطنا. نسقط تحت الخوف الشديد، تحت الفرح الشديد، تحت الغنى الشديد، تحت الإغراء الشديد، تحت الحبّ الشديد، تحت الجمال الشديد، تحت كلّ الظروف التي تكبر تحمّلنا.
ومع محدوديتنا إلا أننا متفاوتون، والتحمل لإغراء الفتن وإغرائها بمقدار العقل والدين والإرادة، وكل ذلك محتاج إلى عناية ورفع مستوى، وحماية، وتوكّل على الله الواحد الأحد.
وكلّما أهملنا قدرة العقل، وأغفلنا الالتصاق الشديد بقيم الدين، وترويض النفس على مماشاة الخط الصاعد لدين الله، وكلما استرخينا إرادة كلّما كان تحمّلنا للامتحان اضعف، وسقوطنا أمام الفتنة أسرع.
وكل واحد أمامه امتحان مطاق، وامتحان غير مطاق، وما من بشر يطيق كل الامتحانات، وربما لو تجاوزت امتحانات إبراهيم عليه السلام وهي امتحانات عالية الوزن شديدة الضغط مستواها لسجّل بعض الإخفاق، والله هو العليم الحكيم. ويوسف عليه السلام وكل نبي ورسول وإمام يطلب العصمة من الله عند الامتحان. واختبار النفس بارتياد موارد السقوط والرذيلة سفهٌ لا رشد فيه على الإطلاق.
نتعلم من الآيات الكريمة أن لا غرور ممن وجد في نفسه نجاحاً في بعض الامتحانات، فإنه إن ينجح في امتحان فإنه مهدد بأن يسقط في امتحان آخر، وتتوافر فرصة السقوط أكبر وأكبر عندما يمسّه الغرور.
ونتعلم أن لا شماتة ممن ابتُلي بمعصية لأنني معرض للمعصية كما هو معرّض.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارحم جهلنا وغفلتنا وسهونا وعمدنا وخطأنا، واغفر لنا ما سلف من إسرافنا على أنفسنا، واعصمنا فيما بقي من عمرنا، وهب لنا من رحمتك ما يقينا ويكفينا ويحمينا ويغنينا وينصرنا ويعزنا يا أكرم من دُعي، وأجود من أعطى، يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}

الخطبة الثانية

الحمد لله القوي المتين، العزيز الحكيم، القاهر الذي ليس من دونه قاهر، والمالك الذي ليس معه مالك.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
عباد الله علينا بتقوى الله، وأن لا نتعدى حدّاً من حدوده، ولا نتجاوز حرمة من حرماته، وأن نأخذ بما عرّفنا من دينه، ونطلب ما لا نعرف للعلم والعمل، ولن يدخل أحد في تجارة رابحة مثل التجارة الصادقة مع الله، ولن يخسر أحد خسارة يخسرها في التخلّي عن طاعة الله، ومن أراد اللهُ له خيراً فلا مانع له، ومن أراد به شرّاً فلا دافع عنه، والله هو الولي الحميد.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
نسألك اللهم تمام نعمك للدنيا والآخرة، والاعتصام بحبلك المتين، والإقامة على دينك القويم، وأن تجعلنا في أمنك ورحمتك وكرامتك في الحياة والممات ويوم الدين.
اللهم صل على محمد خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا مقيما.
أما بعد فهذه بعض كلمات:
الديمقراطية والأنظمة السياسية في الأمة:
وجدت أنظمة سياسية كثيرة داخل الأمة الإسلامية والعربية نفسها تنفصل في ظل الصحوة الإسلامية، وانتشار النظام الديمقراطي في الحكم في عدد من بلدان العالم، ورفع الشعار الديمقراطي من الدول الغربية والترويج له على مستوى كونه شعارا لأغراض سياسية وحضارية تلتقي وما يخططون له لعالمنا العربي والإسلامي، وجدت نفسها تنفصل بسرعة عن شعوبها، وتنفصل شعوبها بسرعة عنها.
وأنها غير قادرة على الاستمرار، وإقناع الشعوب ولو بالسكوت عليها فضلا عن الرضا بها، مع بقاء الصيغة القديمة لها من مثل الصيغة الوراثية بلا تحسينات شكلية.
فمنها ما رفع راية الإسلام، ومنها ما رفع راية الديموقرطية على مستوى الشكل وبعض سطحيات المضمون. ولكنها أدخلت نفسها بهذه الخطوة في واقع محرج مع شعوبها، وصارت تُطالَب بالكثير على أساس الشعار الجديد الذي اتخذت منه منقذا لها من دون أن تؤمن به، وتتبناه على نحو الحقيقة والجدّ.
وهنا انفتح باب خطير للخلاف بين حكومات تصرّ على التمسّك بالشكل، وأن ترضى الشعوب به، وبين شعوب تصرّ على أن يكون الإسلام الشعار حقيقة، وأن تكون الديمقراطية الشعار واقعا.
المشكلة هي أن الأنظمة السياسية ذات التوجه والعقلية والهدف والأرضية غير الإسلامية في البعد السياسي، وغير الديمومقراطية والتي تلبس لباس الإسلام أو لباس الديمقراطية حمّلت نفسها أمام شعوبها والعالم ما لا يمكن أن تتحمّله، وتلتزم به بحسب طبيعتها، ووجدت من لباس الديمقراطية لباسا أطول وأعرض منها بكثير، فضلا عن لباس الإسلام، وهو الأطول والأعرض والأرفع من كل الأطروحات، والإسلام الذي له من خصائص الرقي والامتياز ما لا يمكن أن يسابق من أي طرح أرضي، الإسلام الذي يفرض على من رفع شعاره مستوى عاليا جدا من العقل والروح وكل الأبعاد الإنسانية الكريمة، ويفرض عليه مسؤوليات ضخمة لا يحتملها في الناس إلا القليل.
عقلية الأنا والتسلّط والمغالاة في الاعتزاز بالذات، والاستخفاف بالآخر واحتقاره عند حكومة وغير حكومة تتصادم جدا مع واقع الديموقراطية، وهي أكثر تصادما مع حقائق الإسلام.
الإسلام يريد نفسا تعيش العبودية الخالصة لله عز وجل، يريد نفسا لا تستكبر على حقّ يراه الدين.
لا يطلبون القمر:
أبناء هذا الشعب لهم مطالب واقعية فعلية، وهم لا يطلبون من الحكومة القمر ولا المستحيل، وغير مبالغين في مطالبهم، ولا يتمنون من الحكومة دلال الأمهات للبنين والبنات، وهم ليسوا في موقع استجداء ما ليس لهم، ومطالبهم عادلة ومتوازنة، وليست فوق الواقع، وهي من منطلق الحق والكرامة، ومعهم في حقّهم الدين والعقل والعرف العقلائي العام، والتوجه الحقوقي العالمي، والدساتير الدولية الحديثة، والمواثيق العامة، والميثاق الوطني، والدستور المحلي السابق ذو الصفة الشرعية الوضعية، والمطالبات الشعبية في الدول المتحضّرة التي لم تُستكمل مسيرة الحقوق فيها بعد.
واضطراب الوضع الأمني المؤسف، والأوضاع العامة الأخرى المؤلمة خلفيته التي لا تُنكر فقد هذه الحقوق وتخلّفها والتنكر لها، وعدم الاستجابة لكل نداءات المطالبة بها، بل واعتماد أسلوب الشدة والقسوة والبطش في مواجهتها، وهو ما كبرت المعاناة منه في كثير من مناطق البحرين هذه الأيام.
نعم، هناك فعاليات شعبية نحن مع ما كان احتجاجاً سلميّاً معها لا يتجاوز الحكم الشرعي، ويحسب للمصلحة حسابها الذي تستحقّه، وهذه الفعاليات تواجه بشدّة كما لو كانت هناك فعالية شاذّة تخرج عن هذا الخط السلمي مثلا وتمثل خطر هائلا.
الشعب يطالب بالعدل، ومن فكّر وجد أن العدل في مصلحة الجميع، وأن استمرار الظلم لا بد أن يأخذ بالجميع إلى الجحيم.
ومن العدل المطلوب:
1. دستورٌ نابع من إرادة الشعب الذي أقرّ له الميثاق بهذا الحق لكون الشعب في الميثاق مصدر السلطات. ولكون النظام كما صرّح الميثاق من النوع الملكي الدستوري، وأنّه في مسار الديمقراطيات العريقة كما عُبّر.
2. أن لا يُغزى الوطن باسم التجنيس بما بنفي حق هذا الشعب في الأمن والاستقرار، والعيش الكريم، ويفرض عليه واقعا مقلقا ومرهقا من منطلق سياسي لا يراعي مصلحة الوطن والمواطن، بل يكيد بهما.
3. أن يُعمل بمبدأ التساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ويُعتمد في توزيع المواقع والصلاحيات والمكاسب والخدمات مقياس الكفاءة والأمانة والحاجة لا العائلة والطائفة والطبقة والمنطقة، وقبل ذلك درجة التملّق والتزلف الضار مم اتخذ عملاً مقياسا للتقديم والتأخير، والتمييز بين هذا وذاك.
4. احترام الحق المذهبي والخصوصية المذهبية، وأخلاق الدين وحرماته، وعدم المساس بشيء من ذلك كلّه.
5. أن يُعترف عملاً بأن مالك الأرض والثروة بالحق هو الله سبحانه وحده، ثم إن صاحب الحق الأول في الانتفاع بهما هو الشعب، والحكومة جزء منه في هذا الأمر قبل وبعد أن تكون حكومة.
وما تزيد به على الآخرين من المواطنين إنما هو مسؤولية الحفظ والإدارة الكفوءة والأمينة والاستثمار العلمي النافع لموارد الثروة ولمصالح الشعب. وهي مسؤوليات مدفوعة الأجر، ودفع الأجر لهذه الصلاحيات لابد أن يكون بالقانون.
نعم، ليس للحكومة من الثروة الخام، والثروة المطوّرة، وكل الناتج إلا ما نصّ عليه قانون عادل.
6. أن لا تفرض على الشعب أي تشكيلة حكومية غير متوازنة، وبأي رئاسة عن طريق القهر والحديد والنار، ومن غير إعطاء أي اعتبار للشعب، ولدور المجلس النيابي في هذه المسألة المهمّة المركزية.
7. أن يعبّر التوجه الديموقراطي الذي ترفع شعاره الدولة عن نفسه في مسألة الانتخابات عن طريق قانون انتخابي عادل، وتوزيع منصف للدوائر، وعملية انتخابية نزيهة تعطي الشعب فرصة حقيقية للتعبير عن رأيه الانتخابي.
مثل هذه المطالب لا تقتضي أن تقوم الدنيا على يد الحكومة ولا تقعد إذا طالب بها مطالب أو سيّرت من أجلها مسيرة.
وأذكر هنا مشددا أن رأينا وصوتنا كان ولا زال مع الحفاظ على حرمة الدم والمال العامّ والخاص والأعراض، وهو من مسؤولية الكلّ وفي المقدمة الحكومة، وهذا لا يقلّل من مسؤولية الشعب على الإطلاق.
ونحن لا نستوحي هذا التأكيد من كلمة رخيصة لهذا النائب أو ذاك إذا كان ممن يبارك كل ظلم تمارسه الحكومة في حقّ أبناء الشعب، ويدفع في اتجاه الغلو والإسراف في حرمان الشعب وتهميشه، والتنكيل به لأي غاية من الغايات غير الحميدة.
العالِم مع من؟
أعني من العالم هنا عالم الدين الذي يحاول الانسجام مع دينه في حياته وواقعه.
كثيراً ما تنقسم مجتمعات الناس إلى فئة المواقع السلطوية الكبيرة الجائرة، وفئة المواقع الشعبية المظلومة المنهكة، وأنت تجد من خلال هذا الواقع ظلما هناك ومظلومية هنا، علما ماديا هناك، وجهلا ماديا هنا، قوة هناك وضعفا هنا، أمنا هناك وخوفا هنا، بذخا هناك ومسكنة هنا، صحّة هناك ومرضا هنا، شوارع هناك وأتربة هنا، تجدك في عالمين، وتجدك وأنت في وطن صغير واحد في بيئة راقية مترفة فمع من وفي بيئة مسحوقة وملوّثة، وبيئة مرض، بيئة فقر، بيئة جهل. يكون عالم الدين، وأين يجب أن يجد نفسه، وأن يجده الناس من هذا الانقسام؟! وقبل ذلك أن يجده ربّه؟!
أيكون حياديا؟ لا حيادية مع الرسالية في مثل هذا الانقسام. مع الترف والانحراف والظلم والبغي؟ هذا خروج عن الخطّ، وانقلاب في الذات. في خندق المحرومين والمظلومين؟ هذا هو المتعيّن.
هذا الانحياز وبصورة إيجابيَّة يدفع إليه حبّ الله، الطمع في الله، خوف الله، وذلك هو الذي يصبّر عليه رغم ثقله وكلفته. وكلفة التخندق مع المستضعفين المحرومين كلفة مضاعفة، هي كلفة عداوة من القويّ، واستهداف منه لمن انحاز للمستضعفين.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن المستضعفين والمحرومين الذين طحنتهم الحياة أعصابهم متوتّرة، ودمهم يغلي، وقد يقلّ صبرهم، بل قد يخسرون صبرهم تحت وطأة الظروف، والمنحاز لهذا الصفّ يتعب، وقد تأتيه السهام الكثيرة وكأنّه العدو، والظروف والصعوبات والإرهاق وطغيان المحنة، وتعاظم الفتنة يثير الأعصاب، وقد يُنسى، وقد يسبب الغلط، والخطأ الكثير، لكنّها المسؤولية التي فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده وخاصّة من وضع نفسه على خطّ العلم والدين بصورة علنية.
وهنا تكون النفس أمام امتحان كبير، هل تعادي المستضعف؟ هل تنتقم لنفسها؟ هل تتراخى في إخلاصها، في جهدها على خط خدمة المستضعفين؟ إن كانت تتعامل مع الإنسان فستفعل، وإن كانت تتعامل مع الله فستصبر وتتعالى.
وتدخل هنا أمور تزيد من حالة توتّر المستضعفين، منها ألاعيب المستكبرين التي تستهدف الفصل بين المستضعفين ومن يخلص لهم. ويدخل على الخط كلمة غير واعية أو غير مسؤولة هنا أو هناك تصب في التحريض للنيل ممن قد يكون عاملاً بصدق وكفاءة وما خان أمانته، وما توانى عن المسؤولية التي آمن بها. (2)
إنه بمقدار ما صدق علم العالم وفهمه، وإيمانه وإحساسه بمسؤوليته ستجده مرابطا مع المستضعفين المؤمنين، وفي خندق واحد رغم كل اساءة وكل تحدِّ وتنكرّ وظلم فهو ما قامت عليه الحجّة من الله عزّ وجلّ بالحركة تمنعه خشيته من التخلف.
وماذا يعني تخنق العالم مع المستضعفين؟ لا يعني دغدغة مشاعر، ولا يعني كلمات رنّانة، ولا يعني وعوداً كبيرة، إنما يعني أن يكون بعقله، وقلبه، وإمكاناته مع همّهم وقضاياهم العادلة، ومحنتهم التي تكوي حياتهم وقلوبهم.
ب- أن يأخذهم لله لا لنفسه فيقف بهم عند طاعته، وإنما يعلّمهم دائماً أن الطاعة لله، وعليهم أن ينفصلوا عنه حال خالفت خطواته طاعة ربّه(3).
جـ- أن يربّيهم تربية الأنبياء لأممهم وأقوامهم ما استطاع حسب وزنه وفرصه وكيف كانت تربية الأنبياء والمرسلين للأمم والأقوام؟ تقويم داخلي، وكفاح خارجي، أهمّ أمانة يتحمّلها رسول أو إمام أو فقيه أو عالم هو أن لا يهمل إنسانية انسان يأخذ منه ولا يبيعها بثمن، وأن يتعلم على يده أن دينه أكبر شيء عليه، وأنّ إنسانيته أنفس شيء في وجوده، ومن هذا المنطلق لا يقبل الذلّ والهوان ولا الظلم في الخارج، ويسعى دائماً لوضع حركة الحياة على مسار الصحيح.
أن يطلب الرأي الراجح في الأمور ويقبل به، ويستعين بأهل الخبرة والبصيرة، وأن يكون هو نفسه من أهل القدرة على الترجيح، ولا يُقاد قوداً، ويكون الإمّعه.
هـ – أن ينزل عند رأي أصغر الناس وأبعدهم منه إذا رأى فيه الحق والمصلحة، وأن يردَّ الرأي من أكبر الناس الذين حوله إذا رأى فيه الزيغ والمفسدة، ولا يجامل على الحق الذي أخذ الله العهد من عباده باتباعه.
وـ عليه أن يتبين دائما موضع قدمه من الحقّ والمصلحة حتى إذا أحرز من نفسه أنه على الطريق لم يبال بالقال والقيل.
ز- أن يكون نظره إلى مصلحة أخوانه المستضعفين قبل أن يكون نظره إلى رضاهم. وكم أساء الناس في عليّ عليه السلام الظنّ؟! وليس أحرص من علي عليه السلام على مصالح الناس، وكم انشقّ عن الأئمة عليهم السلام من جماعات لاتهامهم بالتقصير أو عدم الكفاءة وما إلى ذلك؟! وما من مثال أكبر بعد رسول الله (ص) من مثال الأئمة عليهم السلام في الكفاءة والإخلاص والحرص على مصلحة الناس كل الناس.
ح- أن يعرض كل أهدافه ومشاريعه وخطواته ووسائله على الشريعة التي آمن بها، فلا يعتمد شيئا من ذلك إلا ما وافقها، ولا يقدم ضارا على نافع، ولا ما هو أكثر ضرراً على ما هو الأقل، ولا يرتكب ما لا جدوى له، أو يأخذ بما هو أقلّ جدوى، أو ما ضرره أكثر من نفعه، وكل ذلك يحتاج إلى إدراك فقهي جيّد، وإمعان نظر موضوعي، وخبرة ميدانية، وتقليب للأمور، واستعانة بأصحاب النظر والخبرة، بعيدا عن حالات الانفعال والارتجال والتشنج. وإنها لأمانة كبرى من ابتُلي بأمرها كان أمام امتحان ديني عسير وخطير وكبير.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اقطع عنا دابر الشيطان الرجيم، واكفنا مضلات الفتن، واحمنا من غلبة النفس، والسقوط عند المنزلقات، ومن خسارة الإيمان. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، وأحلل غضبك بالقوم الظالمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 33، 34، 35/ الزخرف.
2 – عندكم عالم كبير هنا في الجامع هو سماحة السيد حفظه الله، وهو مثل في هذا المضمار.
3 – هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا علماء).

زر الذهاب إلى الأعلى