خطبة الجمعة (360) 15 ربيع الأول 1430هـ – 13 مارس 2009م

مواضيع الخطبة:

*(الأخوّة الإيمانية) متابعة *كلمتان خفيفتان، ثقيلتان

كلمة التوحيد تحسم مسألة الولاء والطاعة؛ فلا ولاء إلا من ولاء الله، ولا طاعة إلا من طاعة الله، فلا تطالبني بولاء حتى تبرهن لي أن ولائي لك من ولاء الله، ولا تطالبني بطاعة حتى يثبت عندي أن طاعتك من طاعة الله، وإلا فولاؤك صفر، وطاعتك صفر عندي.

الخطبة الأولى

الحمد الله المتفرِّد بالألوهية، المختصِّ بالربوبية، الذي ليس من دونه خالقٌ، ولا معه رازق، وهو منزّه عن النظير، وغنيّ عن الظّهير، ومتعال عن الشبيه، ولا شيء ينفي إرادته، أو يكابر قدرته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي القاصرة المقصِّرة بتقوى الله وهي وصيّة كلّ نبيٍّ مرسل ووليٍّ وعاقل وحكيم، ومن كان له هدى من ربّه كان من المتقين، ومن حقّت عليه الضلالة لا يتّقي ولا يستبين. ومن اقتصر نظره على الدّنيا أعمته، ومَنْ هواها أضلّته، ومن تبع شهواتها أركسته، فليكن النظر بعيداً، والعقل رشيداً، والخيار سديداً، ومن كان له من هذا حظّ وفير لم يعدل عن تعظيم الخالق إلى المخلوقين، ولم يَتَلَهَّ عن طلب الآخرة العالية الباقية بطلب الدنيا الهابطة الفانية، ولم ينسَ روحه الكريمة الراقية لبدنه المنتهي إلى تراب وضيع.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم اسلك بنا طريقاً رَشَدَاً، ولا تُزلّ لنا قدماً أبداً، وافعل بنا ما أنت أهله، ولا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى شيء من خلقك، يا كريم يا رحيم.
أما بعد فلا زال الحديث في موضوع الأخوَّة الإيمانية:
“سمعت أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيما مسلم خدم قوماً من المسلمين إلا أعطاه الله مثل عددهم خدّاماً في الجنّة”(1).
ربما كان بتقدير إلا أعطاه الله ما فعل ذلك مثل عددهم خدّاماً في الجنّة.
إنّها خدمة فيها نفع دنيا أو دين، وخدمة الأخ للأخ في الله. وهي خدمة شرف لا وضاعة حيث تكون قربة إلى الله تعالى. المبادرة لقضاء حوائج الإخوان، وإتمام مشاريعهم الشخصية النافعة، المعاونة في علاج، في مكسب، في أي شيء يرضاه الله تبارك وتعالى، في خدمات وليمة عند مؤمن، تقديم ماء في سفر، تقديم طعام، إلخ، كل ذلك وأمثاله محسوب الأجر لصاحبه عند الله سبحانه.
وما الجزاء؟ الجزاء “إلا أعطاه الله مثل عددهم خدّاماً في الجنّة” وينطوي هذا على ضمان الجنّة. كل ذلك في ظل الإيمان، والقربة إلى الله تبارك وتعالى.
“عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: يجب للمؤمن على المؤمن أن يناصحه”(2).
وهذا باب عظيم.
المناصحة: العمل على حفظ المصلحة، وحفظ الكرامة والعرض والسمعة، المناصحة: السعي في المحضر، وفي المغيب لمصلحة المؤمن، ودفع الظلم عنه، ومنه ظلم الكلمة، الذي يأكل شرف الإنسان، وسمعته، ويحرم المؤمنين من دور كبير ربما جرى على يديه فيه نفعهم وإنقاذهم.
المناصحة بأن تكون كأنك أخوك المؤمن تدير الأمر وتدبّره من أجل مصلحته سواء كان ذلك في محضره أم في مغيبه، كما تراعي مصلحتك، وتراعي شخصيتك، وعرضك، وشأنك، تراعي كل ذلك من شأن أخيك.
ومناصحة إمام المسلمين كعلي أمير المؤمنين عليه السلام، العمل على تركيز وضعه في الناس، وتثبيت موقعيته خدمة للبشرية بكاملها، وأن تذود عنه، وأن تقف منه؛ من قضاياه، من دوره، من حقّانيته موقفك من مصلحة نفسك، وعلي بن أبي طالب هو الدين، والحسن بن علي عليه السلام هو الدين، والأئمة عليهم السلام كلّهم هم الدين، وكل مخلص في الأمّة صادق الكلمة، قادر على خدمتها، مدافع بحقٍّ عنها، سالك طريق ربّه تبارك وتعالى في الحفاظ على مصالحها، على الأمة بكاملها أن تذود عنه، وتحفظ شخصيته، وتعينه على أمره، وذلك لله ثم للأمة وله. وهذا يحتاج إلى كثير من عقل، وكثير من حكمة، وكثير من إخلاص.
والنصح واجب، ولكن قد يمنع منه مانع، وما استطاع الشخص أن يتوسّل بكل وسيلة صالحة لإيصال نصحه خاصّة لمن يتولّون شؤون الأمة من موقع رسمي، أو من موقع شعبي وجب عليه أن يفعل ذلك، ما أمكن أن تقبل النصيحة وينتفع بها، أو تقام الحجة من غير آثار أكبر ضرراً.
“عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب”(3) وقد تنصحني بما أكره، وقد أنصحك بما تكره، ولكنّ كثيرا مما أكره فيه مصلحتي، وكثيرا مما تكره فيه مصلحتك، وقد يكون أنَّ ما يتراءى لي هو النفع كلّه إنما هو في الواقع الضرر كلّه.
“عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة”(4).
“عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه”(5) كلمة وسعيا.
انظر كيف تحمل نفسك على الصواب، وكيف تحدّثها بالخير، وتلومها على الشر، وتحاول أن تصحح لها الطريق فلتفعل ذلك مع أخيك مناصحة له؛ وانظر كيف تستعمل رجلك ويدك وعينك وكلّ طاقة عندك في الدفاع عن نفسك فإنّه يحقّ بحقّ عليك أن تفعل ذلك بالنسبة لأخيك المؤمن مناصحة له.
“عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه”(6).
أمشاهم، يتحرك كثيرا، يهتمّ كثيراً، له همٌّ بالغ يولّد في نفسه حركة مستمرة من أجل تصحيح وضع المؤمنين، نصيحتهم، الدفع عنهم، وضعهم على الطريق، تبصيرهم بالأمور.
“قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: عليكم بالنصح لله في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه”(7) أفضل من هذا النصح فهو عمل في أعالي قائمة الأعمال الصالحة عند الله، وهو أن تكون عين أخيك وسمعه ويده ورجله تحرسه، تنفعه، تسعى في مصلحته والذود عنه.
وفي هذا السياق تأتي الأحاديث في الإصلاح بين الناس:
“سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: صدقة يحبها الله إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا”(8).
أضيف تنبيهاً للمراد: أن يكون ذلك الإصلاح على الحق، ومن أجل الحق {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}(9).
هذا حديث فقهيٌّ وهو صحيح “عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: المصلح ليس بكاذب”(10).
وأنت تحاول الصلح بين مؤمنَين قد تتعذر عليك مسالك الصدق كلّها في تطييب خاطر المؤمن بالنسبة لأخيه المؤمن، لأنك لا تجد من الطرف الآخر إلا كلاماً يُسيء، وذكر كلام السوء يوتّر العلاقة بدرجة أكبر. تريد كلمة طيّبة من المؤمن قالها في غيبة أخيه المؤمن في حقّه، فلا تجد. الاحتياط يقضي أن تذكر كلمة لها معنى ظاهر يمكن أن يُقنع المحدَّث بأنها ثناء عليه، والكلمة لم تكن قيلت بهذا المعنى، أو لم يكن المعنى الظاهر مراداً لك. تفعل ذلك فراراً من الكذب، وإذا اضُطررت كان لك أن تكذب بأن تنقل كلمة خير، كلمة حب ومودّة وإخلاص من المؤمن الآخر وهو لم يتفوه بها… تنقلها عنه لأخيه المؤمن لتصلح العلاقة بينهما.
وهذا مورد من موارد الاستثناء لحرمة الكذب عندهم.
“عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: قول الله عز وجل:{مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}؟(11) قال: من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنما أحياها ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها”(12).
هناك إحياء بدن بحماية أخيك من سيف يكاد يشقّ رأسه، ودفع ثعبان يكاد يقتله، وهذا خير، وفيه ثواب عظيم، والمنقذ لهذه النفس كأنما أحيا الناس جميعا على هذا المستوى، وتدفع عن أخيك كلمة عند ظالم فيها هلاكه، أحييته، فكأنما أحييت الناس جميعا، هذا مستوى من مستويات الحياة، أما الحياة العظمى للإنسان فهي حياة إنسانيته، حياة قلبه، وروحه، حياة يبقى بها سعيدا إلى الأبد، تلك حياة أكبر، ومن أحيى إنساناً بهذه الحياة فقد جسّد المصداق الأكبر للإحياء، وكأنّما أحيا الناس جميعا بهذا المستوى من الحياة العظمى.
“قلت لأبي جعفر (عليه السلام): قول الله عز وجل في كتابه:{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}؟ قال: من حرق أو غرق(13)، قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال: ذاك تأويلها الأعظم”(14).
أنت ارتقيت بمستوى الحياة المعطاة، وهذا المُحيِي بهذا الحياة أحيا نمطاً من الحياة فوق كل حياة، وهذا هو المصداق الأكبر والأوضح في مسألة إحياء النفس.
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا مكارم الأخلاق، وحسن العشرة، وصدق النيَّة، وطهر السريرة، وسلامة القصد، والبُعدَ عن الخيانة، والحفاظَ على الأمانة، والنأيَ عن الشّر، والتوفيقَ إلى الخير، وملازمةَ أهل الصلاح، ومجانبةَ أهل القبيحة والفضيحة.
أمنا ربنا من كل سوء؛ من سوء الدنيا والآخرة، ولقّنا خيرهما يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي يستوي كل غني وفقير عند غناه، وكلُّ عزيز وذليل أمام عزّه، وكل قوي وضعيف قياساً إلى قدرته. وكل واجد بمنعه فاقد، وكلّ فاقد برفده واجد.
وما امتلأ كف أحد إلا بعطائه، وما خوى إلا بقدره، وما علت سوافل إلا بفضله، وما سفلت عوالٍ إلا بعدله ومشيئته وحكمته، ولا خير في سماء ولا أرض إلا بفيضه ورحمته، وهو مصدر الإحسان كلِّه.
أحمده حمداً لا يقبل إحصاءاً من مخلوق ولا عدّاً، ولا أمد له ولا انتهاء حمداً لا يعلمه إلا هو، ويُنال منه به الرضى.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله علينا بتقوى الله، والالتفات إلى عواقب الأمور، ولأكبر عاقبة حقَّ على العاقل أن يولي اهتمامه لها هي عاقبة الحياة، فهي أم العواقب؛ فإن كانت رابحة أنست كل الخسائر، وهوّنت كل الآلام وعوّضت عنها، وإن كانت خاسرة صغّرت كل الأرباح التي أنهت إليها، وحوّلتها فجائع، وصارت لذائذ الحياة بها مكاره ونوازل.
وليس من أحد من مطيع لله ولا عاصٍ إلا وهو موافٍ عاقبته، وما جنته يداه من خير أو شرّ عاقبةً حلوة تسرّ، أو عاقبةً مرّة تسيء، وقد جاء عن الإمام علي عليه السلام:”لكل امرئ عاقبة حلوة أو مرّة”(15)، كأسٌ لابد أن يذوقه الإنسان، بل وقد يقيم عليه، كأس الحلاوة في الآخرة، أو كأس المرارة، فليجدّ الجادّون لعاقبة خير لا ينفد، وليفرّ الفارون من عاقبة أهوال تمتد.
أعاذنا الله وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين من عواقب السوء والهوان، وأحسن لنا الخاتِمة، ورزقنا المقام الكريم في الجنّة. اللهم اغفر لنا ولكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، إنك أنت الغفور الرحيم، التواب الكريم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وصل وسلّم على علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة. وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك، والقادة إليك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ظاهرا مقيما.
أما بعد فإلى هذه الكلمة:
وهي بمناسبة المولد النبويِّ الشريف وعنوانها:
كلمتان خفيفتان، ثقيلتان:
الكلمتان الخفيفتان على اللسان، الثقيلتان في الميزان كلمة: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله. أهم شهادتين.
تُطلق كلمة الشهادتين فيكون انصرافها لهاتين الشهادتين بالخصوص في العرف المسلم.
لكلٍّ من الكلمتين عناصر:
كلمة التوحيد:
هذا ركن من أركانها، وعنصر من عناصرها الرئيسة الكبيرة:
إثبات الإله الحقّ، ولإثبات الإله الحقّ آثار ينصبغ بها الفكر والنفس والحياة.
ونفي الشريك وأن الألوهية للواحد الحق، وليس من إله آخر على الإطلاق.
والتركيز في الكلمة على نفي الشريك، وذلك لشدّة بداهة الثبوت في النفس والفطرة.
والابتلاء إنما يأتي في الأكثر بتوهُّم قضية الشريك على مستوى فكريٍّ ضيّق في الناس، وعلى المستوى النفسي في مقام التحدّيات، في مقام الرغائب والمغريات والمصاعب عند أكثر الناس. فلا يكاد يأتي منّا عمل خالص قائم على التوحيد الخالص، وذلك لحاجب الأسباب.
القضية تقول: لا إله إلا الله، نفي عام يتّصل به استثناء، المعاناة كل المعاناة في المقام العملي إنما هي مع شقّ النفي، وكيف أرتقي شعوريّاً ونفسيّاً وعمليّاً إلى ما عليه فطرتي وفكري من نفي الشريك، وأمامي عمالقة مال، وعمالقة سلطان، وأمامي جمال، وأمامي تحدّيات؟! كيف لا أنسى الله وأنه هو الواحد الأحد؟!
نعم، ما نبتلي به كثيراً من قضية الشريك إنما هو على المستوى النفسي عند التحديات، وكثيراً ما نساوي بين المخلوق والخالق، ولكثيراً ما قدّمنا المخلوق على خالقه.
في الكلمة لازم، وهو كون الكون كلّه محتاجاً ومحكوماً للإرادة الإلهية الواحدة المطلقة. أمامك كون، أمامك إنسان، تسمع عن ملائكة، عن جنّ، تدرس أكثر فأكثر، يتقدم بك العلم فتكتشف فضاءات لا تكاد تُحد، وأجراماً مهولة، ووجودات بديعة ولكن كلّ شيء من ذلك محكوم مقهور، وأنه لا نفع ولا ضرّ لشيء إلا بإذن الله. هذه حقائق تأسيسية، هذه أرضية فكرك، أرضية شعورك، أرضية منهجك، أرضية حياتك، هذا وعي تأسيسي يقوم عليه بناء معنوي لك سامق وعريض، وتواجه به كلّ مغرٍ، وكلّ متحدٍّ في هذه الحياة.
الشهادة بالرسالة ماذا تعني؟
وأشهد أن محمداً رسول الله، لقد حكمت عليه صلّى الله عليه وآله بالعبودية في شهادة أن لا إله إلا الله، وأخرجته وكلّ شيء من دونه سبحانه من قضية الألوهية والربوبية بتلك الكلمة الأساس.
ثم جئت تعلن كلمتك الثانية وأشهد أن محمدا رسول الله، ما هي عناصر هذه الكلمة؟
هذه شهادة بحاجة الإنسان للرسالة والرسول، يعني ذلك أن الإنسان في حياته الروحية والنفسية والعقلية ليس مستغنياً عن الله عز وجل كما هو شأنه تماماً في حياة بدنه، فكما تعيش بعطاء الله في حياة البدن لابد أن تعيش بهدى الله في حياة الروح.
عنصر ثانٍ تحمله الشهادة هو العناية الإلهية بالإنسان، وأنه غير مهمل لحاجات عباده، رحيم بهم لطيف، ولا قصور في الفيض الإلهي على الإطلاق.
عنصر ثالث تقرره الشهادة الثانية وهو أن الإنسان منه مستوى رسول ومستوى مرسل إليه، مستوى رسول يموّن الحياة بفضل الله بما تحتاجه من علم وهدى ونور، يسدّ حاجة التزكية في حياة الإنسان، يرتفع بهذا الإنسان إلى الأفق البعيد، ومستوى مرسل إليه، يأخذ بيده على طريق الله الرسول، ثم يأخذ بيده الإمام، يأخذ بيده الفقيه، يأخذ بيده العالم، يأخذ بيده طالب العلم، يأخذ بيده المؤمن الذي هو على شيء من فهم الإسلام، وعلى شيء من التقوى، والنبع الأول لكل أولئك الهداة هو الرسول الذي ميّزه ربّه عن غيره. وما أبين المسافة وأوسعها بين إنسان وإنسان في الفكر، وشفافية الروح، وهدى القلب، وصلاح العمل والتقوى حتى ينتهي إلى أنور نور، وأكمل نور من عطاء الله للأجيال الإنسانية المتتالية والمتمثل في هدى رسول الله صلى الله عليه وآله.
ثقيلتان:
شهادة التوحيد من ثقلها أنها تحدد الهدف من الحياة، وأنه الوصول إلى الله، الوصول إلى الكامل، إلى مصدر الحياة والهدى والنور والخير كلّه؛ إلى معرفته وخاص رحمته، وجميل إكرامه.
أمن نفسٍ لا تطلب الخير، أمن نفسٍ لا تطلب الهدى، أمن نفس لا تطلب الحياة، أمن نفس لا تطلب الوجود، أمن نفس لا تطلب الكمال؟! أين ذلك كلّه؟ هل من مصدر آخر غير الله حتى يكون له الاتجاه، وحتى يكون الوصول إليه هو الهدف؟! لا إله إلا الله.
فتحدد أنّ هدف الحياة، ليس أن نبني قصورا، ليس أن نتزوج، ليس أن نتبذخ، ليس أن نحقق ظهورا في المجتمع. الهدف أن تقرب النفس من رحمة الله، أن تتعلق بفيضه، أن تتهيأ دائما لاستقبال فيض أكبر من فيض الله، فالنقص ليس في الفيض وإنما الضيق كل الضيق في المُستقبِل.
ومن ثقل كلمة التوحيد أنها تحسم قضية الحرية والعبودية. أنا حر على الإطلاق؟ لا، عبدٌ مقهور، دعواي الحرية المطلقة كذب زيف يهلكني، فيه خسارتي وشقائي. الوهم لا يفيد، وأن أبني حياتي على وهم أنّي حر على الإطلاق، هذا وهم. فلأستغنِ عن الله في قانون من قوانينه الطبيعية، لست حرّاً، حياتي ليست بيدي، موتي ليس بيدي، وضعي هذا الذي جئت عليه ليس بيدي، ليس من تخطيطي، أصل مجيئي ما كنت قد شاركت في قراره، أين الحرية المطلقة؟!
أشهد أن لا إله إلا الله، تعني أنا لست إلهاً لأكون الحرَّ المطلق، تعني أنّي مخلوق وعبد، وأن حريتي مقيّدة ومحكومة للخالق العظيم.
وحسمت كلمة التوحيد قضية العبودية، وأنها لا تكون إلا لله، فكما أنك عبد في التكوين لله وحده، فعليك أن لا تكون عبداً في التشريع إلا له.
أيملك الإنسان حرية أوسع من هذه الحرية؟ الذين ينفصلون عن عبودية الله يقبّلون أقدام من يفوقهم مالاً أو منصبا، أما ذاك العامل الأسمر البشرة والذي أشرت إليه في خطبة هنا فعندما رفع الوزير حذاءه له وقد تلوّث بطين المطر الكثير ليزيل عنه الطين رفع العامل الهاشمي أسمر اللون ومحروق البشرة والذي يشتغل في مزرعة الوزير هنا في البحرين رفع حذاءه للوزير وقال نظّفه لأن له جبهة لا تسجد إلا لله، ويعيش عزة الإيمان، ولا يؤمن بالذّل إلا لله، فلا يعطي بإرادته استجابة لاستكبار مستكبر.
تثبّت الكلمة مسؤولية الإنسان أمام ربّه. أنت عبدٌ أمام مالك، أنت مملوك له ملكاً صرفاً محضاً، ليس منك ذرة إلا وهي مملوكة لله، وليس منك خاطرة ولا فكرة ولا حركة ولا سكون إلا وهو تحت قبضة الله، فماذا عليك؟ إذا قال لك اسجد تسجد، اركع تركع، قم عليك أن تقوم، اقعد عليك أن تقعد. عبودية الحسن بن علي عليه السلام أقعدته، وعبودية الحسين عليه السلام أقامته، والإسلام قيام قبل أن يكون قعودا، بل إن قعود القاعد من الأئمة عليهم السلام هو عين القيام. فعند التدبر لا يكون منهم قعود إلا وهو في روحه وعطائه قيام.
فأنا مسؤول، ولا فكاك لي من مسؤوليتي، ولا تتأدّى مسؤوليتي إلا بأن أطابق بين موقفي وبين الحكم الشرعي بالدقة والضبط.
كلمة التوحيد تحسم مسألة الولاء والطاعة، فلا ولاء إلا من ولاء الله، ولا طاعة إلا من طاعة الله، لا تطالبني بولاء حتى تبرهن لي أن ولائي لك من ولاء الله، لا تطالبني بطاعة حتى يثبت عندي أن طاعتك من طاعة الله، وإلا فولاؤك، طاعتك صفر عندي.
ومما تحتضنه الكلمة أعلى كلمة، أصدق كلمة، أشد كلمة حقّانية وهي كلمة التوحيد قضية وحدة الإنسانية على مستوى المنهج والمصير، هناك كتابات محلية تتحدث عن أن الأمة ليست أمة واحدة بالمعنى العملي السياسي، نحن نرى أنه من المستحيل اليوم أن تجسد الأمة وحدتها العملية على المستوى السياسي، هذا صحيح، لكن أن ننقض الرؤية الإسلامية، ونقرر لأجيالنا الشبابية المتدفقة بأن الأمة على المستوى السياسي لا يصح أن تكون واحدة أو لا يمكن على الإطلاق وإنما هي شعوب وأنظمة متعددة فهذا أمر خطير.
إذا كان الله واحدا كما هو الحق، وكان الإنسان كثيراً في أفراده وشعوبه وقبائله وأزمنته وأمكنته، ولكنه واحد نوعاً، وكان المنهج من الله تبارك وتعالى، فما دام الموضوع واحدا فالمنهج واحد، الموضوع هو الإنسان، ومتغيرات الإنسان وثوابته محسوبة في المنهج الإلهي، وما فات الإله تبارك وتعالى أن يجعل المرونة في منهجه. ومن مرونة المنهج ليست المرونة المفتوحة على كل غثاء وعلى كل المشهيات وإنما هي المرونة القائمة على أصول وقواعد داخلة في نسيج الشريعة، لم يهمل تشريع الله عز وجل المرونة الصالحة المطلوبة المنضبطة، فالمنهج إلهي واحد، للإنسان الواحد في نوعه، والمنهج قد راعى ثوابت هذا الإنسان ومتغيراته.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل أنسنا بك، ووحشتنا من الشيطان، وزهدنا في الدنيا ورغبتنا في الآخرة، ونشّطنا في طاعتك، وثبطنا عن معصيتك، وأنلنا أكثر مما نؤمّل من الخير من عطائك، والمزيد من رحمتك فإنّا الفقراء إليك، ولا غنى لنا إلا بك وأنت أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
اللهم واكتب النصر والعز والسؤدد لعبادك المؤمنين يا من هو على كل شيء قدير، وبالإجابة حقيق جدير.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(16).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الكافي ج2 ص207.
2 – المصدر ص208.
3 – المصدر السابق.
4 – المصدر نفسه.
5 – المصدر نفسه.
6 – المصدر نفسه.
7 – المصدر نفسه.
8 – المصدر ص209.
9 – 2/ المائدة.
10 – المصدر ص210.
11 – 32/ المائدة.
12 – الكافي ج2 ص210.
13 – يعني إنسان يكاد يحترق، يكاد يغرق وأنت تنقذه فقد أحييت نفسا وكأنما أحييت الناس جميعاً.
14 – المصدر ص211.
15 – بحار الأنوار ج68 ص367.
16 – 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى