خطبة الجمعة (352) 19 محرم الحرام 1430هـ 16 – يناير 2009م

مواضيع الخطبة:

*حديث في الأجل *ألف أمّة*قضايا لا تقبل المزاح

هذا المنشور ومليون منشور من نوعه يجب أن لا يُحرِّكَ عند الشيعة ساكناً في الفتنة، وسيبقى الشيعة أخوة للسنة، والسنة أخوة للشيعة رغما على التطرفات، ورغما على السياسات الطائشة.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي كتب على نفسه الرّحمة، ولم يعاجل بالعقوبة، وفتح باب التوبة، ومنّ على عباده العاصين بالمغفرة، وعلى المطيعين بجزيل المثوبة، ومضاعفة الأجر، وكريم المنزلة.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيرا.
عباد الله الذين لا مخرج لهم من العبودية له، ولا غنى لهم عنه، ولا مفرّ لهم منه أوصيكم ونفسي أنا العبد الذليل الحقير إليه، المدبَّر بتدبيره بتقواه، والحذر من التمرّد على أمره ونهيه، والاستكبار عن طاعته، ونسيان نعمته، والغفلة عن أخذه وبطشه وعقوبته. وأن يكون أكبر استعدادنا في الحياة ليوم لقائه بالتذلل بين يديه، وإخلاص العبادة إليه، والجهاد في سبيله، والسعي إلى نيل رضوانه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ما خسر من أطاعك، وما ربح من عصاك، فاجعلنا من أهل طاعتك وولايتك، ولا تدخلنا أبداً في أهل معصيتك وعداوتك، وشرّف قدرنا بالذلّ المقيم بين يديك، والخضوع الدائم لعظمتك، وأنلنا عطفك ورحمتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
حديث في الأجل

أما بعد فإنّ الموت مكتوب على الإنسان ولا مفرّ له منه، فلم يجعله الله لأمرِ غيره وإرادته، ولكلّ أجل كتاب، ولا مؤخّر ولا مقدّم لما كتب الله العلي القدير.
وربما طال العمر بإنسان ليسعد ويتدارك ما فات، ويؤوب إلى الله بعد معصية وجهالة، وربما امتدّ بآخر عمره ليشقى بأن ينقلب على عقبيه، ويدخل باب المعصية، ويوغل فيها بعدما قضاه في طاعة ربّه من سنين حتّى ليتمنّى حين يرى الموت والعذاب أنّه لم يطُل به الأجل، ولم يبق تلك الأيام. وإنّه فإنه وإن كان من طبع الإنسان حبّ هذه الحياة والتعمير فيها إلا أن الربح ليس في البقاء ذاته والذي لو كانت فيه انحدارة دينه وإنسانيته لكان وبالاً عليه، وإنما يحسن البقاء، ويكون خيراً للعبد لو كان في ذلك حسن عاقبته، وزيادة قدره عند الله، ورفعة مكانته.
ومن هنا جاء دعاء الإمام السجّاد عليه السلام الذي يلفت النظر إلى هذه الحقيقة وأنّ طول العمر إذا كان بُذلة في طاعة الشيطان فعلى الإنسان أن يتمنّى الرحيل العاجل إلى الله وهو على إيمانه، وصدق عبوديته له.
ويحدث أن يتهدد الناس بعضهم بعضاً بالموت، ولا يدري من يتهدد الآخر بأنّ أي الأجلين عند الله أسرع، وأن موت المهدَّد سابق على موت المهدِّد أم العكس. قد يتأخر هذا عن ذاك بقليل أو بكثير، وقد يعاجل الموت هذا أو يعاجل ذاك، لا يدري المهدِّد والمهدَّد بأي سبب يكون موته، وقد تسبق يد القدر إلى المهدَّد قبل موعد يحدِّده المهدِّد، وقد يكون الموت أسبق إلى من يطلق التهديد.
وهل للموت أسباب محصورة بيد الناس؟! ربّما سبق مكروه إلى المهدَّد قبل أن تمتد له يد المهدِّد، وربما سبق هذا المكروه إلى المهدِّد قبل المهدَّد.
وقد يحدث ما يريد هذا الإنسان بأخيه من سوء، وقد لا يحدث، وإذا حدث فهو ليس بخارج عن تقدير مالك الأمور وهو الله الذي لا إله غيره، ولا مالك سواه، ولا تقدير لأحد إلا من تقديره، ولا مضاء لأمر إلا بأمره، فإذا خفت فخفِ الله، وإذا رجوت فارجُ الله.
وقد يخطئ أحدنا مثلما يخطئ المتهدِّد بوضع نهاية لحياة نملة واهنة بتصور أن الأمر بيده، وأن له الاستقلال عن قضاء الله وقدره في ذلك عندما يقدّر أنه يستطيع أن يسقط فلاناً ويلغيه، ويلغي وزنه، واحترامه، وكرامته، أو يفقره مثلا، على أنه الفاعل في ذلك، الخارج بفعله عما يريده الله تبارك وتعالى. هيهات، هيهات أن تنفذ إرادة على خلاف إرادة الله.
وما أكثر التصوّرات الشركية والفرعونية التي تدخل مخيّلة الناس بأن يرى أحدهم بأن حياته ورزقه وخيره مرهون بعطف فلان ورضاه وإرادته، أو أن حياة فلان ورزقه وخيره إنما هي بيده يزيده وينقصه، يبقيه ويفنيه، يعجّل به أو يؤجّله.
ولنذهب لكتاب الله وسنة المعصومين عليهم السلام نتعلّم منهما هذه القضية:
هذا كتاب الله:
{وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً}(1).
إنّه الأجل الذي لا يعتريه شكّ، هناك أجل لا تقديم فيه ولا تأخير، كلّ المحاولات حتّى الدعاء، وحتّى الصدقة لا يكون لهما تأثير فيه.
{وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(2).
{….لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}(3).
ومن الآيات في الأعمار والأرزاق:
{وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(4).
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ…. فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}(5).
لا يمنعنك من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبأن تلزم سبيل الله، وتسلك طريقه تهديد هذا أو تهديد ذاك. اطلب رضا الله، وصانع وجهاً واحدا يغنك عن بقيّة الوجوه.
الحديث:
عن الإمام علي عليه السلام:”إن مع كلّ إنسان ملكين يحفظانه، فإذا جاء القدر خلّيا بينه وبينه(6)، وإنّ الأجل جُنّة حصينة”(7).
هناك أجل لا يُخترق، لا من صاروخ ولا مكروب ولا يدِ ظالم، ولو اجتمعت الإنسان والجنّ على أن يغيّروا منه شيئاً لم يتغيّر الأجل جُنّة من الله، يعني وقاية، حصن، فهل يُخترق حصن من صنع الله عزّ وجلّ؟!
إذا جاء القدر خلّيا بينه وبينه فهناك تأتي التأثيرات، هناك تأتي فاعلية الأسباب، هناك يأتي تنفيذ التهديد، ولا فرق بين أن يموت هذا الإنسان بتهديد مهدِّد أو بتأثير مكروب أو جرثومة.
“ملكين يحفظانه” ملكان موكّلان من الله لحفظك ما دامت لك ثانية من العمر، فمن يغلب هذين الملكين؟!
“جعل الله لكل شيء قدرا، ولكل قدر أجلا”(8).
“كفى بالأجل حارساً”(9).
يقيك الأجل الذي يكون لك فيه يوم واحد عن كل جند الأرض، حارس شديد أمين لا يخونك ولا يضعف ولا يُغلب. إنه قدر الله.
سبق أن هناك أجلاً لا تُجدي معه الأسباب، لكن في الحديث:”بالصدقة تفسح الآجال”(10) كان الأجل أربعين سنة، والصدقة قد ترتفع به إلى خمسين، هذا أجل معلّق، هناك أجل معلّق مشروط، إن تدفع الصدقة يكون العمر خمسين، إن لم تدفعها يكون العمر أقل، وهناك أجل محتوم تفشل معه الأسباب والمحاولات.
هناك أجلٌ معلّق، فشخص يسرع إلى الطبيب عند مرضه، ويأخذ بأسباب العلاج والشفاء، فيبقى، وآخر يهمل نفسه فيموت.
وهناك أعمال تهدم العمر، وأعمال تطيل العمر، معاصي تعجّل بالمرء إلى قبره، طاعات تنسئ في عمر الإنسان.
“لو رأى العبد أجله وسرعته إليه لأبغض الأمل وطلب الدنيا”(11).
يبغض طلب الدنيا، يبغض الأمل حين يرى سرعة الأجل إليه؛ فلم يطلب التزيد من مال الدنيا وزينتها، وكيف يتعلق بأماني المناصب والتَّبذخ فيها وهو يعاين سرعة رحيله عنها؟!
“نَفَسُ المرء خطاه إلى أجله”(12).
قد يكون العمر مليون نَفَس، أو ما ينقص أو يزيد، فيكون كل نفس خطوة نقطعها على طريق الأجل إلى المقر. واللقمات معدودة، والثياب معدودة، وكل شيء في حياتنا معدود محدود كما هي الأنفاس المعدودة. ما نأكل، ما نشرب ما نأتي، ما يأتي علينا في كتاب من الأزل لا يضل ولا ينسى.
يعلم الله عز وجل ما نأتيه وما نأخذه من هذه الحياة، وما يبقى لنا وما يبقى علينا.
عن الصادق عليه السلام:”يعيش الناس بإحسانهم أكثر مما يعيشون بأعمارهم، ويموتون بذنوبهم أكثر مما يموتون بآجالهم”(13).
هذه الذنوب منها قطيعة رحم، ظلم، وحتّى الإهمال الصحي الذي ينهى عنه الله عز وجل ربما يكون من الذنوب التي تعجّل بالفناء. أن يستقيم أحدنا على طريق الله عز وجل في أمور دينه ودنياه له نتيجة في العمر، أن ينحرف عن طريق الله عز وجل له نتيجة أخرى في العمر. تقول لي هناك من يعمّر من الكفّار، فأقول لك لا ندري ماذا وراء هذا التعمير، ربما كان وراء هذا التعمير إحسان، وصاحب هذا الإحسان يستوفي أجره في الحياة، فإن الله لا يضيع أجر عمل عامل كافر أو غير كافر، وربما كان هذا العمر الطويل الذي عاشه الكافر هو ما كان مقدّرا له أساساً بينما كان المقدّر الأساسي لمسلم كثرت إساءته أقل من ذلك.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين. اللهم طهر قلوبنا في عافية ولطف من عندك من رجس الكفر والشرك والشك والريبة والحقد والحسد ومن كل أدواء القلوب وآفاتها، ونوّرها بنور الإيمان بك، ومعرفتك، وذكرك يا ذا الجلال والجمال والإكرام، يا أجلّ من كل جليل، ويا أجمل من كل جميل، ويا أكرم من كل كريم، يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا تعزب ذرة عن علمه، ولا يخرج شيء عن إحاطته، ولا يقصر عن شيء لطفه، ولا تغيب عن شيء رعايته، ولا يشركه أحد في تدبيره، ولا يسلك سالك إرادته، ولا يرد رادّ قدره، ولا يمنع مانع عطاءه، ولا يعطي معطٍ ممنوعع، ولا تقديم ولا تأخير إلا بإذنه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيرا.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله، والتوكل عليه، وبذل الجهد في الخير والطاعة له كما دعا، والتسامي بالنفس عن الشر والمعصية كما هدى، وبتفويض الأمر إليه، وطلب التسديد منه، والاعتصام به، والإخلاص له، وشدّة الرغبة في وعده، وشدّة الحذر من وعيده، والطمع في ما أعده لأهل ولايته، والفرار مما يعاقب به أهل عداوته، فليس من دون الله ناصر، ولا من أخذه مانع، وليس لأحد أن ينفع أحداً لم يرد الله له نفعا، ولم يقدر له خيرا.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل طاعتنا لك، وهروبنا من معصيتك، وتسليمنا إليك، وتوكلنا عليك، وثقتنا بك، وخوفنا من عقوبتك، وطمعنا في ثوابك، وأكبر غايتنا مرضاتك يا سميع ياعليم، يا مجيب يا رحمن يا رحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين، وفاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة. وعلى الأئمة الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن الإمام المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا قريبا ثابتا دائما.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات المؤمنون والمؤمنات فإلى كلمتين:
ألف أمّة:
الأمة العربية فضلاً عن الأمة الإسلامية أمة مزّقتها الزعامات، وإن مئة زعامة يمكن أن تعني مئة أمّة، وألف زعامة يمكن أن يعني ألف أمّة سياسة ومعسكرا ومصلحة ورؤية وهمّاً وولاءا.
وأمة العرب وأمة الإسلام قادتهم الأحداث إلى تعدد الزعامات والكيانات والسياسات والمصالح إلى آخره.
وهناك أمم توحّدها المحن، وأمة واحدة في ظل نوع من الزعامات تبقى أمما وشراذم ووجهات نظر يُناهض بعضها بعضا في المحنة المشتركة الواحدة الحارقة. وأمتنا اليوم من النوع الأخير والأسف لهذا شديد.
ومن الأمم ما هي ضعيفة عند المحنة ولو اجتمعت كلمتها، ومنها كهذه الأمة اليوم والأمس إنما يُضعفها تفرق الرؤى والمصالح والسياسات عند قادتها وولاة الأمر فيها. وهو ما يجعل كيد بعضها على بعض قبل أن يكون لها كيدٌ على العدوّ المشترك، وحرابها موجّهة إلى داخلها، وحربها على بعضها البعض دون أن تكون لها حرب على آخر.
محنة غزّة، ومحرقة غزة، وطوفان غزة، ومآسيها، وكوارثها التي استفزّت ضمير الكثير من أبناء العالم لم يكفِ كلُّه لعقد قمّة متّفق عليها في إطار أمّة العرب فضلا عن أمة المسلمين فألف تحيّة، وألف عزّ، وألف هيبة لهذه الأمة في ظل زعاماتها الحاضرة، وهنيئا لها بأهل هذه الزعامات المنقذة!
مشاعر النفرة والتقزز والاشمئزاز والاستبشاع والاستقذار من جرائم الإسرائيليين في غزة تعذب الضمير الفطري لكثير من أبناء الأمم والشعوب الأخرى خارج دائرة الأمة الإسلامية، وتعبّر عن نفسها متفجّرة في صورة قبضات مرفوعة، وصرخات مدويّة، واستعداد نفسي للتضحية من أجل غزّة والفلسطينيين انتصارا للضمير الإنساني، والقيم الإنسانية المغروسة في نفس الإنسان(14) وضدّ ما يجري في غزّة من مآس ومظالم على يد الجيش الإسرائيلي وآلته الفتّاكة التي تحرّكها العنجهية والغطرسة المجنونة الجاهلية، وغرور القوة والدعم الاستكباري، والضوء الأخضر والتشجيع من بعض مكوّنات النظام العربي الرسمي.
ومن جهة أخرى فإن الضمير العربي الرسمي يحول بين نفاذ صرخات المفجوعين والثكالى واليتامى والمحرومين والجوعى والمعذبين والمرعوبين، واستغاثات النساء والعجائز والشيوخ من أهل القبلة والصلاة والصيام فيه جدار سميكٌ عَازِل من غلظة وقسوة السياسة النفعية الضيّقة، والمصالح المادية الرخيصة، وحرص الإبقاء على مواقع الحكم السلطوي، والتنافس في أمر الدنيا. فكلُّ الصرخات وكل الفجائع لا تنفذ في الضمير الرسمي العربي لهذه الأمور.
يُطرح هذا السؤال عن أمة الإسلام وأمة العرب هل هما فاقدتان لكل الإمكانات والضغط في مثل هذه المحنة الحرجة والأزمة الحادة التي تعاني منها غزة وتضيق بها، ومعها الغالبية العظمى من أبناء المسلمين، وكذلك كثير من أصحاب الضمير الإنساني الحي؟! هل لا وزن سياسيا للأمتين بالمرّة؟! ولا شيء من الموقع الاقتصادي، ولا عبرة لهما نهائيا عند كل الدول، ولا تأثير لهما بشيء على مصالح الآخرين؟! ولا حاجة لهما من أحد في المجتمع الدولي، ولا قيمة لموقعهما الجغرافي؟ هل هما عدم بالمرة أو شبه عدم في كل أسباب القوة والعزة والمنعة من عدد وعدّة وموارد طبيعية ومكانة حضارية ومستوى إنسانٍ وعلاقات وغير ذلك حتى لا تستطيع الأمّتان تحريك ساكن في المحنة الطاحنة؟!
من أجاب على ذلك بنعم فهو مخطئ لا محال بشهادة الواقع الكبير، وأمر الذلة والاستكانة، والسكوت على الضيم، وخمود الإرادة والتخلي عن المسؤولية وما قد يكون من رضا بما يحدث من جرائم في غزّة واشتراك في الجريمة مما يقوله الإعلام نفسه كلّ ذلك ليس له مرجع جدّي من حالة ضعف مميت، وفقد لكل إمكانات التحركِ والموقفِ المؤثر الشجاع، ولا من وهن في الإرادة الشعبية، أو تقاعس، ولا من قصور في نوع إنسان الأمة، وإنما السبب كل السبب، والعلة كل العلّة في طبيعة الأنظمة الرسمية وتركيبتها وفرقتها واهتماماتها وعلاقاتها بقضايا الشعوب والأمة.
وإذا كانت حماس والجهاد وبقية فصائل المقاومة متهوّرة كما يقولون، ولا تعرف حجمها، ولا حجم عدوّها، ولا تملك التقدير الدقيق للمعادلة السياسية والعسكرية وغيرها بينها وبين إسرائيل، وقد ألقت بنفسها في التهلكة كما هي الصورة التي يريد قسم من الإعلام العربي أن يثبّتها في ذهنية الأمة وشعورها عن المقاومة فإن كل ذلك لو كان على فرض المحال لا يبرّر حالة الخذلان التام فضلا عن أي نوع من أنواع الإعانة للعدو الإسرائيلي ولو بكلمة ناهيك عن العون له بالموقف(15).
وصل الموقف العربي في بعض الدول العربية إلى منع الشعوب عن التعبير عن استنكارها وشجبها واحتجاجها ولو على حدّ ما تقوم به الشعوب الأجنبية من إنكار هذا المنكر.
يتجاور جدّاً في مواقع المذياع وفي قنوات التلفاز الرسمي العربي صراخ الصغار والكبار من غزة، والشابات والعجائز، واستغاثاتهم للعرب والمسلمين يتجاور كل هذا مع أصوات المجون والطرب وفرح البلهاء، ولهو الغافلين، والأصوات الصاخبة ببطولات كرة القدم الكبيرة، وانتصاراتها الضخمة وفتوحاتها الظاهرة أخذاً بشباب هذه الأمة وشاباتها بعيدا عن هموم غزة ومأساتها، والشعور بالغيرة أمام هذه الهموم والمآساة، وما فرضه الدين على المسلم في محنة أخيه المسلم، وما يترشح من وجوب النصرة عن وصف مجتمع المؤمنين بأنه كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
الإعلام اللاهي العبثي، الإعلام المستخف بقضايا الأمة ودينها وإنسانها وهمها يحاول أن يبتعد بشباب الأمة ذكورا وأناث عن ساحة المعركة، عن احتراق أمة، عن احتراق دين بما يبثه من لهو ومن شكليات تصرف نظر المؤمنين عن القضية ومركزها.
قضايا لا تقبل المزاح:
انتشر في الأوساط الاجتماعية منشورٌ يكفّر الطائفة الشيعية وهي إحدى الطائفتين الإسلاميتين الكريمتين في البحرين، ويصفهما باليهود والكلاب والملاعين والمجوس واللئام وعبدة النار والخنازير، ويزدري الحسينيات ويحقّرها، ويشمت بعطش الحسين عليه السلام في كربلاء، ويعيّرهُ به، ويتهدد ويتوعد بالقتل عطشا كما استشهد الإمام الحسين عليه السلام(16)، ويتهدد برمي الرؤوس للكلاب، والاقتناص من البيوت، وحرق الأخضر واليابس، وسبي النساء. والمنشور يمزج بين السياسي والديني للتمويه والتعمية.
وهذا بعض تعليق:
أولاً: الظرف هو الإعصار العاتي في غزّة، والزلزال المدمّر، وتضامن الأمة على مستوى الشعوب – وهذا البلد منها – سنّة وشيعة مع غزة الإسلامية الممتحنة، وهذا غريب، ولكن غير مستعصٍ على التفسير.
ثانياً: ما هو المصدر؟ ليس مهمّا أن يخاض في محاولة تشخيصه.
ثالثاً: المنشور بمنزلة إعلان حرب، وإشعال فتنة كبرى في هذا الوطن المتآخي الحبيب.
رابعاً: ماذا تفعل هذه اللغة لو تكررت؟ ماذا تفعل هذه اللغة لو تبودلت؟ ماذا تفعل هذه اللغة لو تصاعدت؟ ماذا تفعل هذه اللغة لو فُعّلت ولو في دائرة صغيرة؟ فليجب كلُّ من يريد لهذه الأرض الخير، ولا يريد بها الشر من عاقل أو حتّى شبه عاقل.
خامساً: أرضنا ضيّقة المساحة، ولا تحتمل فواصل عازلة بين أحيائها الصغيرة والمشتركة، ولا مدارس في كل مكان خاصة بهذا وخاصة بذاك، ولا مستشفيات كذلك، وهناك عوائل متداخلة، ومصاهرات متشابكة.
سادساً: إن كان منطلق المنشور في ما ذهب إليه من مؤدّىً خطير دينيا فهو لا يستقيم مع الدين في شيء لا عقيدة ولا فقهاً ولا أدباً. فبغض النظر عن الأصالة الإسلامية المركّزة للمذهب الجعفري في صورته النقيّة، وشدة توحيده لله سبحانه، وتأكيده على جانب التقوى فإن المذاهب الإسلامية كلّها مجمعة على حرمة دم وعرض ومال من نطق بالشهادتين، وكان من أهل القبلة والصلاة والصوم والحج والزكاة في ظاهره، وأما البواطن فموكولة للعالم الخبير بها تبارك وتعالى.
سابعاً: ودم المسيحي له حرمة، ودم اليهودي له حرمة، ودم الإنسان عموما له حرمة، فليس دم كل مسيحي ولا يهودي ولا غيرهما حلال. لا تحل قطرة دم إنسان إلا بحقّ، وحتى دم الحشرة غير المؤذية لا يعطي الإسلام للمسلم أن يعتدي عليه، فأين فكر المنشور من هذا الفكر؟!
هذا إذا كان منطلق فكر المنشور الفتنة دينيا، وإن كان منطلقه سياسيا فهو فاشل جدا وغبي جدا، والوجه في ذلك غير خاف، ولا يعاني من غموض أصلا، وهو يحاول أن يهز أمن الوطن وأمن المواطن ولا يحافظ عليه ولو في زاوية ضيقة من أرضه، أو في شريحة صغيرة من شرائحه.
أما مسؤولية هذه الفتنة وأمثالها فتقع على الحكومة بحكم مسؤولية الموقع، سواء كان مصدر مثل هذه الأمور حكوميا أو غيرها، وإذا أريد لمثل هذه المغامرات التي لا يمكن ضبط نتائجها المدمّرة أن تكون مدخلا لتقييدات مفروضة على الخطاب الديني البعيد عن هذه المنزلقات والصبيانيات فهو خيار سقيم بعيد عن الفطنة والحكمة وتقدير الأمور.
ثامناً: ثم من آمن بأن كل شيء بقضاء وقدر، وأن الآجال بيد خالقها ووحد الله توحيدا شاملا ومن ذلك التوحيد الإرادي والأفعالي، وعلم أن كل إرادة وفعل مرجعهما إلى الله وبيده أمرهما، ولا نفاذ لهما إلا بإذنه، فإنه لا يضطرب للتهديد والوعيد، ويكفيه أن يفوض أمره إلى الله جاهدا في أن لا يخالف له أمرا ولا نهيا.
رزقنا الله طاعته، والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه.
تاسعاً: وعن حرمة عرض أمهات المؤمنين من زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله كلهن فقولنا الثابت أن من تعدى عليه فقد خالف الله ورسوله، وإذا حرم مس عرض أي مؤمنة بكلمة خادشة من غير حق فكيف بالعرض الطاهر لأزواج رسول الله صلى الله عليه وآله كلهن؟!
ولقد علَّمنا أئمة أهل البيت عليهم السلام أدب الإسلام، وسمو الخلق الإسلامي، ورعاية الأعراض العادية، فكيف بعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!
ومن كانت لغته لغة السب والشتم لصحابة الرسول صلى الله عليه وآله فليذكره ذاكر بشخصه حتى إذا ثبت عنه ذلك ثبت على العلماء الإنكار عليه، وتخطئته، ورده عما هو عليه، وإلا تحمّل المسؤولية عند الإصرار على ذلك بنفسه.
هذا المنشور ومليون منشور من نوعه يجب أن لا يُحرِّك عند الشيعة ساكناً في الفتنة، وسيبقى الشيعة إخوة للسنة، والسنة إخوة للشيعة رغما على التطرفات، ورغما على السياسات الطائشة. وأنا لا أحدد هنا أي مصدر لمنشور الفتنة.
وإلحاقا بهذا الموضوع نعلن رفضنا الكامل للهيمنة الرسمية على المساجد وفرض الوصاية عليها، والتدخل في وظيفتها الشرعية، وأعني بذلك الوظيفة التي يرتضيها الشرع الإلهي، وليس الوضع الأرضي.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم الدين دينك، والبلاد بلادك، والمؤمنون الصادقون أولياؤك، وحماة شريعتك، فاحم دينك من كيد المعتدين، وبلادك من شر المفسدين، وأولياؤك المؤمنين من بأس الظالمين، وشريعتك من عبث العابثين، اللهم اجعل النصر والغلبة لأهل طاعتك على أهل معصيتك، والأشرار من خلقك، والطغاة من معانديك. اللهم لا تجعل لأهل الكفر والفجور والفسوق يداً على غزة وأهلها من المؤمنين والمسلمين، ورد الصهاينة واليهود عنها مقهورين مهزومين يائسين، يا من لا يحتاج إلى ناصر، ولا يقوم لقهره قاهر، يا الله، يا قوي، يا شهيد يا شديد، يا متين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

_______________________________

1 – 99/ الإسراء.
2 – 11/ المنافقون.
3 – 49/ يونس.
4 – 11/ فاطر.
5 – 31/ يونس.
6 – أي بين الإنسان وبين القدر والأجل.
7 – بحار الأنوار ج5 ص140.
8 – ميزان الحكمة ج1 ص29.
9 – بحار الأنوار ج67 ص149.
10 – ميزان الحكمة ج1 ص30.
11 – بحار الأنوار ج10 ص368.
12 – شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج18 ص221.
13 – بحار الأنوار ج5 ص140.
14 – هتاف جموع المصلين بـ(الموت لإسرائيل).
15 – هتاف جموع المصلين بـ(سحقا سحقا للعملاء).
16 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا حسين).

زر الذهاب إلى الأعلى