خطبة الجمعة (339) 20 شعبان 1429هـ – 22 أغسطس 2008م

مواضيع الخطبة:

*حديث في التوبة *الحكومات وحاجة المجتمعات *أنجح طريق وأقصر طريق

أنجح طريق وأقصر طريق لحل مشكلات الأوطان حتّى ما صعب منها هو الأخذ بمبادرات الإصلاح ممن بيدهم القرار لتخفيف حالة الاختناق الضاغط، والأوضاع السيئة، والأزمات المثيرة، وتبريد الأجواء الساخنة.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي دعا عباده تفضّلاً منه ورحمة إلى التوبة، ورضي منهم الأوبة، وإذا استغفره العبد غفر ذنبه وغطّاه، وإذا تاب إليه قبَِله وأرضاه، وأعاد إلى قلبه الطُّهْر بعد الرجس، والنقاء بعد الخبث، والحياة بعد الموت، وأصلح أمره، ورفع قدره، وأعزّ شأنه، وأجزل ثوابه، وأحسن عاقبته، وأكرم مثواه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بالتوبة قبل الموت، وصالح العمل قبل الفوت، والعود إلى الهدى، وتحاشي طريق الرّدى، والحذر من خروج النفس على المعصية، واختتام الحياة بالسيئة، وملاقاة الربِّ بما فيه سخطه، وما يستوجب في عدله عقابه، وإنَّ أحداً منا لا يملك بقاء الفسحة، ولا يضمن عود الفُرصة. وكم عاجلت المنايا من أناس وهم على المعصية، وكانت خاتمة حياتهم مخزية، ولا عود للتوبة بعد ممات، ولا تدارك بعد فوات.
أعذنا ربَّنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين من نسيان الطاعة، والإقامة على المعصية، وتسويف التوبة، وطول الأمل، وسوء العمل، وفتور العَزم، وسقوط الهمَّة، والركون إلى الشيطان، والانخداع بالنفس الأمّارة بالسوء.
اللهم اغفر لنا ولكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، ولا تخرجنا من الدّنيا حتى تغفر لنا ذنوبنا جميعا، وتستر علينا ستراً جميلاً، فإنّه لا يغفر الذنوب جميعاً إلا أنت، ولا ساتر غيرك، وصلِّ على محمد وآله صلاة نامية زاكية كثيرة لا يحصيها أحد سواك يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
أما بعد أيها الملأ المؤمن الطيب فإلى حديث في التوبة، يسبقه حديث في ما نقرأه عن الأنبياء والرسل والأئمة عليهم السلام من نسبة المعصية إلى أنفسهم في معرض الدعاء والمناجاة إلى الله سبحانه إلى الحدّ الذي قد يبدو معه ارتكابهم لأبشع المعاصي والذنوب، وحاشاهم أن يكونوا كذلك. وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.
القسم الأول من الحديث:
هذا نموذج من كلمات الإمام زين العابدين عليه السلام في المورد المذكور “إلهِي أَلْبَسَتْنِي الْخَطايا ثَوْبَ مَذَلَّتِي، وَجَلَّلَنِي التَّباعُدُ مِنْكَ لِباسَ مَسْكَنَتِي، وَأَماتَ قَلْبِي عَظِيمُ جِنايَتِي”(1).
فالإمام زين العابدين عليه السلام يشكو من موت القلب بالخطايا.
“اللَّهُمَّ إِنَّهُ يَحْجُبُنِي عَنْ مَسْأَلَتِكَ خِلَالٌ ثَلَاثٌ ، وَ تَحْدُونِي عَلَيْهَا خَلَّةٌ وَاحِدَةٌ يَحْجُبُنِي أَمْرٌ أَمَرْتَ بِهِ فَأَبْطَأْتُ عَنْهُ ، وَ نَهْيٌ نَهَيْتَنِي عَنْهُ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ…”(2).
“بَلْ أَقُولُ مَقَالَ الْعَبْدِ الذَّلِيلِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ الْمُسْتَخِفِّ بِحُرْمَةِ رَبِّهِ . الَّذِي عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ فَجَلَّتْ ، وَ أَدْبَرَتْ أَيَّامُهُ فَوَلَّتْ”(3).
“هَذا مَقَامُ مَنْ تَدَاوَلَتْهُ أَيْدِي الذُّنُوبِ ، وَقَادَتْهُ أَزِمَّةُ الْخَطَايَا ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ، فَقَصَّرَ عَمَّا أَمَرْتَ بِهِ تَفْرِيطَاً، وَتَعَاطى مَا نَهَيْتَ عَنْهُ تَعْزيراً، “(4).
ومن هذا كثير في كلماتهم عليهم السلام. وإليك هذا التقريب بشأن مثل هذه الكلمات والله العالم.
1. الأنبياء والرسل عليهم السلام معصومون عند كل مسلم، وأئمة أهل البيت عليهم السلام معصومون، ومن لم يرَ لهم من جمهور المسلمين هذا المقام الثابت لهم فهو لا ينزل بهم عن أرفع منازل العدالة التي يمكن أن تثبت لغيرهم والتي لا ينسجم معها الانغماس في الذنوب، والابتلاء الشديد بها كما قد يظهر من بعض النصوص التي جرت على لسانهم عليهم السلام.
وسيرتهم العملية كانت بمنأى واضح جدّاً عن التلوّث بالمحرَّمات وحتّى المكروهات، وإن جاز أن يأتي المكروه على يد المعصوم عليه السلام نادراً لبيان أصل المشروعية للفعل.
وهذا كلّه يُبرهن بصورة قاطعة أن كلماتهم عليهم السلام التي تُسجِّل الاعتراف بالذنب في ظاهرها لا تتحدث أبداً عن الذنوب بمعناها المتداول الذي يمثّل معصية لله عزّ وجلّ.
وعليه فلابد من تفسير مقبول لهذه الكلمات في ظلّ واقع عصمتهم ونزاهتهم العالية.
2. ينبغي أن نتذكر بأن ليس احد من العباد مهما أوغل في طاعة الله، وبالغ في أداء واجب العبودية، وحق الربوبية بقادر على أن يفي بحقّ الله سبحانه، ومن هنا ينفتح باب الحاجة إلى الاستغفار حتى من مثل الرسول وأهل بيته الكرام عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.
3. إن حياة الروح تختلف ضعفاً وقوة كحياة البدن بل تفاوُتها أشدّ وأعظم، وضعف حياة البدن ينعكس على نشاطه وإحساساته ولذائذه، وكذا ضعف حياة الروح بالنسبة لنشاطها ومشاعرها ولذائذها. وإذا قويت حياة البدن أو الروح زاد نشاطها وشعورها وتلذّذها بما يناسبها، وألمها لما تفقده من لذّات.
لذلك تجد من ناحية قضايا الروح من يمارس أقبح القبائح وأفظع الجرائم من دون أن يشعر بأدنى إثم، أو يؤلمه ضمير، أو يستوحش مما هو فيه. وتجد آخر يُحسن الصنع، ويُخلص الطاعة هذا حتى على المستوى العرفي، وعلى مستوى العلاقات بين الناس فيما بينهم. ويكثر الاجتهاد، في الخير وهو يشعر بالتقصير، والحاجة الدائمة إلى الاستغفار من قلّة العمل، ويخاف من شوب النية.
والروح النورانية الشفَّافة عشَّاقة للمزيد، تعيش التطلع الدائم إلى الكمال الذي لا يجد أحد إليه سبيلاً إلا بعبادة الله، وطلب التقرب إليه، وإنه ليشق على النفوس الزكية العالية أن تذهب لحظة من حياة أهلها في حلال الدنيا دون أن تتشبع بروح عبادية مخلَصة لله العظيم حيث يرون أن حياتهم في الدنيا لا لها وإنما للآخرة ولاستتمام كمال الروح والوصول به إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه، ولا كمال إلاّ على طريق الله وفي عبادته والتقرب إليه.
ولو حجَّ المعصوم حجّاً مبروراً مشكوراً مثلاً لكنّه لم يمش إليه حافي القدمين لا لضرورة لشعر بالتقصير، وتعمّق عنده الشعور بذلك، وعدّ ما حدث له ذنباً، وتساهلاً، وتفريطاً.
ولو أعطى الفقيرَ رغيفاً وأبقى لسدّ جوعته ما يزيد عليه بنصف رغيف لحكم على نفسه بأنه لم يبذل في سبيل الله كما ينبغي.
ولو أعطى لنفسه مشتهى طيّباً حلالاً فوق معتاده مما لا تدعو إليه ضرورة، ولا تدفع إليه حاجة صحّية ملحّة، أو طلب قوة في البدن لرأى أن في ذلك ما يُتاب إلى الله منه، وأن لحظة أمضاها في تلك اللذة العابرة – وإن كانت حلالاً طيّباً – هي من الخسار.
فالمعصومون عليهم السلام لا يأتون ذنوباً مما يأتيه النّاس من الذنوب، ولكنّهم يستعظمون الخسارة، وتكبر مصيبتهم، ويفرّون إلى الله سبحانه أن اكتفوا في وقت بدرجة من الطاعة كان يسعهم ولو بمشقة أن يأخذوا بأشدّ منها.
هذه صورة عمّا كان يشكو منه الأئمة عليهم السلام، ويقسون على أنفسهم في دعائهم إلى الله ومناجاتهم بسببه يرونه من أنفسهم تقصيرا وتفريطا.
القسم الثاني: لماذا التوبة؟
هناك عبودية قهرية لا وجود ولا حياة للإنسان بدونها وهي عبوديته التكوينية لله سبحانه، والتي لا خيار له فيها.
وتترشح من أرض هذه العبودية عبودية إرادية هي عبوديّةٌ رحمةٌ، وشرفٌ، ومعراجُ كمال للإنسان، ولا كمال له، ولا سعادة ينالها عن غير هذا الطريق، وإذا استكبر على هذه العبودية خسر معناه وكماله وسعادته.
ومن بعد العبودية لله هل تحب أن تكون حرّاً أو عبداً؟ والحرية ليست في أن تكون إرادة الإنسان ملغاة، وأن يكون محكوماً لشهوته. إن الحمار الهائج وراء أنثاه لا يمارس حريةً لإرادته وإنما هو عبد الغريزة، والذئب الفتّاك بفريسته لا يغنى في هذه الممارسة بحرية الإرادة إنما هو مغلوب لدافعه.
وكل محمول على كفّ عفريت من دوافعه المادية وغرائزه البهيمية لا يُعدّ حرّاً في النظر المُمعن وإنما هو عبد قنّ مسلوب الإرادة معطّل الاختيار بدرجة كبيرة ولو بسوء اختيار سابق.
والآن يأتي دور هذا السؤال: متى نقع في المعصية، ومتى نتوب منها؟
سلْ مُدْمِنَ الخمر، ومن شقَّ جبهته عظمُ جدار في زمن رسول الله صلَّى الله عليه وآله لرؤية حرام أذهلته، ومرتكب الفواحش، والمغتاب والنمام والسبّاب ومن تنطلق منهم كلمة السوء الضّارة لا يستطيعون أن يحبسوها وهي على طرف ألسنتهم. سلهم أيملكون موقفهم أم أن موقفهم عليهم مملوك؟ وسل الجاني بالقتل، وكلّ ذي معصية هل تأتي معصيته من تحكيم عقل، من وحي ضمير، من عرض للممارسة على القيم، عن موازنة دقيقة بين المصالح والمفاسد القريبة منها والبعيدة، من حالة تفكير هادئ، وتأمّل كاف، من تغليب إرادة على هوى، من دراسة لتجارب الآخرين، واستعراض كل النتائج والعواقب للمعصية، من نفس صامدة مقاوِمة، من تذكّر لنصح الله للعباد، لاستحضار ذكر الرب، من استحضار ذكر النفس وشرفها، من تذكرخداع الشيطان وعداوته لها، ومن تنبّه للنفس الأمارة بالسوء؟
إن مرتكب المعصية إذا صدقك القول ستعرف منه أن معصيته جاءت في حالة من الفوران العاطفي، الاندفاعة الجنونية للشهوة، انفلات الدوافع المادية، هيجان الغريزة، غليان الحقد، غياب الحكمة، غيبوبة الوعي، النظرة الآنية، نسيان الله سبحانه، الانفصال الشعوري عن القيم، عدم الالتفات إلى العقوبة الأخروية والدنيويّة من عقوبات جسدية ومعنوية كسقوط السمعة والشرف. والكلام عن مرتكبي المعاصي ممن يدين بالدين الذي يحرمها(5)، ويعترف بالقيم والموازين الأخلاقية، والحلال والحرام في حالته العادية التي لا يعاني فيها من الإثارة العنيفة، واستفزاز الدوافع المادية، والضغط الهائل الذي يقع تحت تأثيره. والواحد من هؤلاء العصاة لا يأتي معصيته بما هي خطوة على طريق الكمال والرقي والسمو والرفعة، وإنما يأتيها استجابة للدافع الشرس، وخضوعا لهيمنته.
ولو جئت للطاعة والتوبة لوجدتها تحتاج إلى قرار من عقل ودين يقدم التعب على الراحة، والهدف على اللذة، وإلى إرادة مقاومة كافية للتغلب على عوامل الاسترخاء والضعف والخمول والشهوة لإنجاح قرار العقل في عالم النفس والواقع. فهو قرار حرٌّ مقاوم هادف، واع، وقابل بالتضحية، قائم على بصيرة. وحتى الذي تكون طاعته في سبيل الله ويصل إلى حدّ العشق في الطاعة فإنه لا يفقد وعيه بقيمة الطاعة، وأن فيها كماله الذي هو أغلى شيء في نيران العقل والفطرة.
وإذا كانت المعصية من منشأ وضع نفسي انهزامي استسلامي، فإن التوبة إنما هي تمرد على هذا الوضع وخروج من حالة العبودية إلى حالة الحرية، ومن واقع الضعف والاستسلام والهزيمة إلى واقع القوة والمقاومة والنصر.
فالتوبة ذات قيمة عالية للتائب من ذنبه لأنها صمود بعد التقهقر، وتماسك بعد الذّوبان، واشتداد بعد الاهتراء، وقوة بعد الضعف، ونصر بعد الهزيمة، وربح بعد الخسارة، وهي عزّ بعد الذّل، وغنى بعد المسكنة كما يراها الإمام زين العابدين عليه السلام.
ومن أجل ذلك لابد من التوبة لمن أراد الحرية والقوة والعزة والنصر والتفوق.
وهذه بعد كلمات قصيرة في المعصية نوعاً، ومصداقاً، وفي التوبة منها:
1) في كل معصية توثيق للعلاقة مع الشيطان، ومفارقة لخط الله سبحانه، وفيها فقد نور، ثلمة في الكرامة، هبوط في المستوى، ضعف مناعة، بُعدٌ عن الجنة، قربٌ من النار.
2) أيام المعصية أيام للجدّ ولكن على طريق النار.
3) الإنسان قبل المعصية وزن من إنسانية، وقوة إرادة، وكرامة، وهدى، وإيمان، ونور، وهو بعدها وزن أقل في ذلك إلا أن يتدارك أمره بالتوبة.
4) كأن المتعدّى على عِرض غيره يقول للناس بأن لا مانع عنده من تعدّي الآخرين على عرضه. المتعدي على عرض غيره يفتح بابا للتعدي على عرضه.
5) من عزّ عليه عرضه عزّت عليه أعراض النّاس، ومن هان عليه عرض غيره هان عليه عرضه.
6) يُطمع مرضى القلوب من المرأة أقلُّ ما يشمّ منه بأنها لا تعتزّ بعفافها.
7) الصِبْيَة والصبايا من أشدّ ما يحتاجون إليه الحمايةُ من ذئاب الجنس الحرام وكلابه.
8) فاحشة الزنا واللواط قبيحتان شنيعتان عند الله سبحانه دلّ على ذلك حدُّهما المغلّظ في الإسلام، وتقبيحهما الشرعي الشديد.
9) الفواحش لا تُنجب أجواؤها أمّةً كريمةً، ولا تنبت جيلاً من كبار النفوس، وأصحاب العزائم. فمن أراد أن يهدم أمته فلينشر هذه الرذائل.
10) لمعالي الأمور طريق، وللفواحش طريق، وأحدهما لا يلتقي أبداً مع الآخر.
11) الفاحشة ممارسةٌ دنيئة يَخْبُو منها نورُ الرُّوح ويضؤل ويتوارى حتى ينطمس.
12) يسهل الدخول في نفق المعصية المظلم، ولكن قد يعسر جدّاً أن يخرج منه داخلُه، ويُحرمُ توفيقَ التوبة.
وهذه كلمات قصار سريعة في التوبة:
1. التوبة عودة عقل، وقلب، وضمير، وإرادة من الخطأ إلى الصواب، ومن السفه إلى الرشد، ومن الجهل إلى الحكمة، ومن الكبوة إلى النهضة، ومن الموت إلى الحياة.
2. التوبة ثورة منطلقها الوعي والنضج والصحوة على ضعف الذّات وهزيمتها أمام عوامل الغواية والانحراف.
3. التوبة انتصار كاسح لقوى الخير في الذات، وتفلّت من قبضة الشيطان(6)، وحبائل النفس الأمّارة بالسوء.
4. التوبة وضع حدٍّ لحالة التدهور في المستوى الإنساني عند صاحب المعصية في لحظة من الانتصار للذات.
5. يعود العاصي بتوبته الصادقة نظيفاً بعد قذارته، طاهراً بعد رجسه، مرحّباً به عند المؤمنين بعد طرده.
6. التوبة بعد الفِسق تدشين لرحلة الصعود، والفِسقُ بعد الطاعة تدشين لرحلة السقوط.
7. وراء كل معصية هزيمة للنفس، ووراء كل توبة صادقة ثورة ناجحة منها.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين. اللهم لا تعاقبنا بالإقامة على معصية من معاصيك، ولا تدخلنا في مخالفتك، ولا تغلق عنّا باب التوبة إليك، وأكثر من توبتنا، واجعلها صادقة، ولا تخرجنا من الدنيا على ذنب أتيناه، أو كان في نيّتنا، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي جعل خلقنا من الأرض إذ كنّا تراباً من ترابها، وطيناً مما تحتويه من طين، وأخرجنا منها خلقاً آخر، وجعل عودنا إليها، ومنها يخرجنا تارة أخرى من كان سعيداً بطاعة ربّه فلسعادته، ومن كان شقيّاً بمعصية ربّه فلما مهّد لنفسه من الشقاء؛ وقد جعل ربُّنا الأرض مسرحاً لنا ومحيا، ومدفناً لنا وسِتراً، وأودع فيها للأحياء على ظهرها مأكلاً ومشرباً، ومسكناً وملبساً، وزينة ورياشا، وما يستعين به الإنسان على عمارتها، والخلافة الصالحة فيها.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
عباد الله ألا فلنتق الله، ولنحمل النفس على ما يَزينها من طاعته، ولا تتمُّ لها سعادة بدونه من عبادته، ولنتحاش النّار التي سجّرها جبّارها لأهل غضبه، وكفى للعبد رادعاً من التساهل بعذاب الآخرة ما يرى لله عزّ وجلّ في الدنيا من تأديب بالعذاب لبعض العباد، وكفى لإغرائه بطلب نعيم الآخرة ما يرى من صور نعيم في الدّنيا من خلق الله لا يقوى كثيرون على تحمّلها، وما عذاب الدّنيا، وما نعيمها مما في الآخرة إلا قليل ضئيل.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، واجعل طمعنا في الآخرة وسعينا لها، وعظيم رغبتنا في ثوابها، وشديد إشفاقنا من عذابها، واكتب لنا نجاة من النّار، وفوزاً عظيماً في الجنّة يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله الصادق الأمين خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والعلماء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات الأعزاء فإلى هذا الموضوع:
الحكومات وحاجة المجتمعات:
الحكومة حكومتان: حكومة تعيش لنفسها تضحي بكل شيء من أجل وجودها. وحكومة أخرى تعيش لشعبها، تفكيرها منصب على مصلحته، ومشاريعها تستهدف أن ترقى به إلى أقصى حد ممكن.
والمجتمع مجتمعان: مجتمع مرتبط بالدين ويعيش أوضاعاً دينية، وحاجاته تنقسم إلى حاجات دنيا ودين، وهناك مجتمع لا ارتباط له في أغلب أوضاعه الحياتية بالدين وإن كان يمتلك روحا دينية وفطرة لا تسمح له بأن ينفصل عن الدين انفصالاً نهائياً في كل أوضاعه وفي كل مشاعره.
والحاجات نوعان: حاجات مشتركة بين كل المجتمعات البشرية، وحاجات خاصة. الحاجات المشتركة من مثل الحاجات المعيشية والصحية والبيئية. وأيضاً الحاجة إلى الكرامة الإنسانية العامة فإن للإنسان في عمومه شعوراً بالكرامة لا يكفي لاشباعة في الأحوال الطبيعة لنفس الانسان مهما كان لقضيته أن تغنى يداه بالمادة الغني من هذا النوع.
والحرية في بُعدها الإنساني هي حاجة مشتركة كذلك. توفير فرص العمل والعلم حاجة أخرى لمجتمع الأنسان فإن الإنسان لا يطلب المال فقط، وإنما يحتاج إلى أن يعمل، ويحتاج إلى أن يعلم.
حاجات خاصة: الحاجات الدينية النابعة من طبيعة الدين أو المذهب الذي يعيشه المجتمع. هذا مجتمع يعيش حاجات دينية على الخط الإسلامي، ذاك يعيش حاجات دينية على الخط المسيحي أو البوذي أو ما إلى ذلك.
احترام العادات والتقاليد والتي تختلف باختلاف المجتمعات. فقد تتنافى عادات في مجتمعين وهذا يطالب باحترام عاداته، وذاك يطالب باحترام عاداته.
المجتمع المسلم وحاجاته الخاصة:
المجتمع المسلم له حاجتان: حاجة دنيا وحاجة دين. ولا يعتبر المجتمع المسلم نفسه مجتمع حيوانات همّه الأكل والشرب وما ماثل، إنه يعيش حاجة دين، وله متطلباته الدنيوية، وتعظم المصيبة عليه في بعض مستوياته أن ينال المصيبة أن نال في دينه، كما لا تعظم عليه أن يصاب في حاجاته المادية.
إن المجتمع المسلم وعلى الأقل في بعض شرائحه ومستوياته ليقدّم أخراه على دنياه، ودينه على حاجاته المادية. فلو تعارض الدين والدنيا عند بعض المستويات من المجتمع المسلم لكانت تضحيته بدنياه وليست بدينه.
موقف الحكومات:
ينقسم إلى حيادي من حاجات المحكومين، ومنافٍ للمسؤولية التي تتحملها أي حكومة في قبال شعبها بحيث يتنكّر هذا الموقف للقمة العيش عند الشعب أو مقدّساته وقد يحاربها.
الموقف الثالث: هو أن ينسجم مع مسؤوليتها وأن تكون هذه الحكومة في خدمة مصالح شعبها المادية وقيمه المعنوية.
الحكومات والدين والانعكاسات للعلاقة بينهما
السياسة المنسجمة مع الدين تعطي انسجاما بين الحكومة والشعب المتدين. هذا الانسجام انسجام الحكومات التي تحكم شعوبا متدينة مع الدين يثير أكبر طاقة ممكنة عند الشعب لإنجاح مشاريع الدولة، يولد ارتياحاً نفسيّاً وأجواء رضى تساعد على الإنتاج، وتجنّب من الهزّات الأمنية.
أما المواقف غير المنسجمة فهي لا تسمح ببناء الثقة، تقتل روح العمل والقدرة على النشاط، تخلق واقعا نفسيا منقسما، تكون مصدر قلق أمني متعب للأوطان.
الأحوال الشخصية موقف غير منسجم مع واقع الدين لهذا المجتمع المؤمن بكل وضوح.
وأترك الكلام في الموضوع لضيق الوقت.
أنجح طريق وأقصر طريق:
للكثير من الأوطان مشكلاتها من خلافات داخلية، ونزاعات، ومن هذه النزاعات ما هو صعب، وما قد يكون أضعف ثقة كل طرف في الآخر.
وتختلف الأوطان في مثل هذه الأوضاع فقد يستمر التصلب فتتصاعد وتيرة الخلاف والنزاع إلى حد الصراعات المدمِّرة ليشهد الجميع موسماً سيئاً من حصاد الكوارث المؤلمة، والخسائر الجمَّة، والمصير الأسود.
وقد يتدخل العقل والدِّين والمصالح المشتركة لِتُوقِف التدهور في الأوضاع، وتمنع الانزلاق في مخاطر كبيرة، ويكون في ذلك رحمة للجميع تنحفظ بها المصالح، وتدرأ بها الخسائر والمفاسد والنكبات.
وأنجح طريق وأقصر طريق لحل مشكلات الأوطان حتّى ما صعب منها هو الأخذ بمبادرات الإصلاح ممن بيدهم القرار لتخفيف حالة الاختناق الضاغط، والأوضاع السيئة، والأزمات المثيرة، وتبريد الأجواء الساخنة.
فمبادرات الإصلاح إذا جاءت جادَّة ومخلصة وملفتة تملك قدرة كبيرة على احتواء الأزمات وهي لغة عملية إصلاحية لا تعدلها لغة.
وَلمَوقف واحد جادّ، وتجربة واحدة صادقة من تجارب الإصلاح العملي ومبادراته الفاعلة لتفوق في تأثيرها الإيجابي وبناء الثقة واستعادتها بعد ذوبان سنوات من إعلام الوعود والإغراءات الكلامية التي لا شاهد لها على الأرض.
ومبادرة من هذا النوع تخلق أرضية صلبة لحوار واصل، وتوافق بنّاء.
وإطلاق عدد من الموقوفين أو المحكومين كان مبادرة جيّدة تحتاج إلى استكمالٍ بالإفراج عن كل من بقي منهم لاستتمام هدفها المطلوب بدرجة أكمل، وإلى لإضافة مبادرات أخرى على مستوى البُعد الديني والدنيوي لحياة الشعب، وحوار هادف جاد تُودِّع البلاد بنتائجه المتوافَق عليها واقع الخلافات والنزاعات المخوفة، والأزمات الخطيرة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين. اللهم أعذنا من الشيطان وحزبه وأنصاره وأعوانه، ومن كلِّ الكفرة والفجرة والظالمين في الأرض، والسَّاعين في النّاس بالفساد والإفساد، واجعلنا من المنتصرين لدينك، وانصرنا على أعدائك، وأعدائنا يا مالك النصر يا غالباً لا يغلب، يا قوي يا متين، يا علي يا قدير يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الصحيفة السجادية، مناجاة التائبين.
2 – المصدر، دعاءه عليه السلام في الاعتراف وطلب التوبة من الله تعالى
3 – المصدر نفسه.
4 – المصدر، دعاءه في ذكر التوبة وطلبها.
5 – لا أتحدث عن عاص تقوم فلسفته على قبول المعصية وعدّها ربحا، حتى تتضح حالة الضعف عند المعصية نتحدث عن إنسان يؤمن أصلا بالقيم، يؤمن أصلا بالدين، يؤمن أصلاً بأن ربحه الحقيقي ليس في المعصية وإنما في الطاعة.
6 – أترى كيف تحاول أن تهرب من زنزانة يسجن فيها البدن؟! اعمل أكثر على أن تهرب من زنزانة سجن الشيطان والمعصية وهي زنزانة تسجن الروح وتقذرها، وتحّولها إلى خواء.

زر الذهاب إلى الأعلى