خطبة الجمعة (336) 28 رجب 1429هـ – 1 اغسطس 2008م

مواضيع الخطبة:

*استراحة روحيّة *ذكرى المبعث الشريف *قضايا وآراء *أزمتنا سياسية

علينا أن نحب الوطن، ونخلص في حبّه، بأن يكون حبّنا له من حبّنا لله، وهو مقياس كل حب، وأن يكون تعبيرنا عن هذا الحب لا يغادر خطّ الشريعة على الإطلاق، فنحبّ للوطن ما يُحّب الله، ونبغض له ما يبغضه الله.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي يعامل عباده بالإحسان والفضل، ويقابل كثيراً من سيئاتهم بالمغفرة والعفو، ولا يمنع إحسانه كفر كافر، ولا فضله معصية عاص، ألطافه عامّة، وأرزاقه مبسوطة، وحفظه شامل، وهداياته مبثوثة، ودعوته لموائد الرحمة قائمة.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله؛ فالله هو الغني ونحن أهل الحاجة إليه، وهو القوي ولا قوة لنا إلا به، وهو العالم ولا علم لأحد إلا من عنده، وكلّ وجودنا، وحياتنا، ورزقنا بيده. فمن نعاندُ ونكابر، ومن نعصي، وعلى من نستعصي؟! ومن يملك أن يدفع عن مستكبر على الله عزّ وجلّ ضرّاً؟!
ولنحتم من النّار بمفارقة الذنوب، والفرار من الخطايا، وما احتماؤنا الطعام مخافة المرض بذي أهميَّة لو قيس إلى احتماء الذنوب فراراً من النّار. تقول الكلمة عن علي أمير المؤمنين عليه السلام:”عجبت لأقوام يحتمون الطعام مخافة الأذى، كيف لا يحتمون الذنوب مخافة النّار؟!”(1). وكم من طيبات من الطعام ولذائذ أخرى يتخلّى عنها الناس على رغبة منها وشهيّة فيها وطمع نفس درءاً لمتاعب صحيّة يخافونها، وهي متاعب وإن مكثت فلا تمكث كالمكث في النار، وإن آذت لا تؤذي أذاها.
أعطانا الله جميعاً وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين حكمة الاختيار، وإرادة الأخذ بالحق والنافع، وتقديمِ الأهم على المهم، والمقيم من الخير على العابر من لذات منقضية حرام فيها هلاك النفس وشقاؤها الشديد المديد.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وكل من له حق خاص علينا وجميع أهل الإيمان والإسلام، وصل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بعد فإلى استراحة روحيَّة نعيشها مع بعض الفقرات من مناجاة التائبين الواردة عن الإمام الرابع من العترة الطاهرة وهو الإمام زين العابدين عليه السلام، وكلمة تمهيديّة قبل ذلك:-
لا يعين شيء على أمر الدنيا، ويمكن أن يواجه به الإنسان مصاعب الحياة أكثرَ من روح قويّة بصلتها بالله، ولا يوجد ما يسعد به في الآخرة من دون أن يعيش حياة الروح في هذه الحياة، ويكون له قلب عارف بربّه، غنيّ بذكره، والثقة به، واللجأ إليه، والخشية منه، والرهبة من عذابه، والرجاء في ثوابه، والشوق إليه، والتعلّق به. مضيء بهداه، متأدّب بأدب العبودية له، مستقيم على طريق شريعته.
والدعاء والمناجاة رافد عظيم لحياة الروح، وإنقاذها من حالة الضياع، والخمول والذبول، وموت الذكر وانطفاء النور، ولا سبيل لحياة روح بلا هدى، ولا تجد روح غذاءها من غير عبادة ومناجاة وقرآن وتأمّل ودعاء، غذاء الروح ونورها وهداها وحياتها وحيويتها في انفتاحها على بارئها، واستلهامها من جلاله وجماله وكماله، واستهداف رضاه لتتحلّى بحظّ محدود وإن جلّ من الكمال.
والانفتاح من القلب على الله عزّ وجلّ، وازدهاره بأنوار الإيمان، واستقباله فيوضات الهدى الإلهي، وتحلّيه بعطاءاتها يحتاج إلى تثوير شعوره بعلاقة العبودية والربوبية، وانفعاله بها، والطريق إلى ذلك نشاط الروح في عبادتها وذكرها ودعائها ومناجاتها لربّها العظيم الكريم.
والكلمة تأتي من أهل البيت عليهم السلام دعاءً أو مناجاة أو غير ذلك فلا تأتي إلا صادقة دقيقة معبّرة، مؤمنة واعية عالمة، لا يخالط إسلاميتها مخالط، ولا صفاءها مكدّر، ولا علمها شوب من جهل، ولا خطابها مع الله العظيم شيء من سوء الأدب مما يمكن أن يقع فيه الآخرون.
وإنهم خير من دعا وناجى الرب الجليل من أبناء هذه الأمة، وأطهرهم قلبا، وأنقاهم روحا، وأزكاهم نفسا، وأقومهم لسانا، وأصدقهم في مقام العبودية الإرادية لله تبارك وتعالى.
وهم خير من وقف من انسانها على دقائق النفس، وخصائص الروح، وأحوال القلب، ودفائن الشعور، وتقلّبات الذوات، وما يعتري الإنسان من علل داخله، وأجواء معنوياته، ومن وساوس وهواجس وتخيّلات وتوهّمات تشطّ به عن الصراط.وكذلك على ما يعالج فيه هذا الضعف ويقوّم معوجّه بما آتاهم الله عزّ اسمه من علم خاص، وألهمهم من نور المعرفة، وفتح عليهم من أبواب الهدى والبصيرة.
لذلك كان في الصادر عنهم عليهم السلام من دعاء ومناجاة كنوز لا يستغني عنها الناس، ولا يوجد ما بقيمتها في ما ثبت عن آخرين، وهي ضرورية لتربية الروح وهداها، وإطلاقها من أسر هوى النفس، وإضلال الشياطين، وتنقيتها مما يلحقها أَسَنٍ وعفن، وإيقاظها مما يعتريها من غفلة ووَسن، والارتفاع بها مشاعر وطموحات وتطلعات ونشاطا إلى الأفق الرفيع الكريم.
دعاؤهم ومناجاتهم وكلماتهم وهداهم خير ما يعين النفس المريضة المبتلاة، وكذلك النفس السالكة بمراتبها المختلفة على العودة إلى الله عز وجل ومواصلة السعي إليه، والمضي بعزم قوي، وبصيرة ونور على صراطه.
نعم، دعاؤهم ومناجاتهم وكلماتهم هي كذلك بعد كتاب الله العزيز الحكيم، والكلام الخارج عن مشكاة نور قلب رسول الله صلى الله عليه وآله الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. فهما وما ألهم الله الكريم منبع النور الذي يتدفّق من قلوب أهل العصمة من أهل البيت عليهم السلام، وتشعّ به كلماتهم.
وزين العابدين عليه السلام الذي هو أحد أئمة الهدى من آل رسول الله صلى الله عليه وآله قد قدّم للأمة زادا فكريا وروحيا نقيّا كريما صادقا وافرا كلّه هدى ونور وصراط قويم، ولقد أثرى جانب الروح إثراءاً هائلاً بما رشح عن قلبه المتولّه بالله، وروحه المملوكة لحبّه، المجذوبة إليه من إشعاعات هادية، وإضاءات منيرة تحيي النفوس، وتوقظ القلوب، وتقوم لها الأرواح من موت أو سبات.
إشعاعات وإضاءات دالّة، ونسائم ولطائف منعشة، وهدايات ثرّة، وعلاجات ناجعة يغنى بها دعاؤه ومناجاته، وذكره الجميل المنقطع لله، المشغول به عن ما سواه. له عليه السلام من الوصال الصادق للقلب الصافي بالله، وانفتاح الروح أكبر انفتاح وأعمقَه وأشفّه على الله قطافُ ثمارِ روحيّة يانعة، كريمة رائعة، لذيذة طاهرة، نقية مؤنسة، ممتعة زاكية راقية، رافعة معلية ما كان بها قمّةً روحيّة سامقة يعشقها السالكون إلى الله، ويبذلون الجهد الجهيد على طريقها، لكن ما يعييهم أنها فوق ما يحاولون.
وكل بيت أهل العصمة عليهم السلام قمم روح سامقة تُعشق ولا تُنال. ولنأخذ في شيئ من الاستظلال الروحي، واستنارة العقل، واستضاءة القلب، واستراحة النفس في وقفة مع مناجاة التائبين للإمام زين العابدين عليه السلام ولو في بعض كلمات يسيرة.
وإن يكن شيئ من هذا فإنما هو بقدر القامة القصيرة القاصرة للمتكلّم لا بما عليه امتداد قامة المناجاة وتعاليها وعطاؤها، وما تزدحم به من إضاءات هدى، وتشعّ به من أنوار إيمان بالغ ويقين، وتحكي عنه من نفس شفّافة لئلآة كريمة، وروح ملَهِمَة تتسع كثيرا لفيوضات النور، وهدايا الكرامة الإلهية الفريدة العالية.
وهذا مطلع المناجاة:
(إلهِي أَلْبَسَتْنِي الْخَطايا ثَوْبَ مَذَلَّتِي، وَجَلَّلَنِي التَّباعُدُ مِنْكَ لِباسَ مَسْكَنَتِي، وَأَماتَ قَلْبِي عَظِيمُ جِنايَتِي، فَأَحْيِه بِتَوْبَة مِنْكَ يا أَمَلِي وَبُغْيَتِي، وَيا سُؤْلِي وَمُنْيَتِي…).
مع الجملة الأولى من المناجاة.
(إلهِي أَلْبَسَتْنِي الْخَطايا ثَوْبَ مَذَلَّتِي):
سأتعامل مع هذه الجملة في مضمونها، والمضامين المشابهة لا بما هي صادرة عن الإمام المعصوم عليه السلام. وسيأتي توضيح لوجه صدور هذه الكلمات منه ومن أي معصوم آخر عليهم السلام من بعد ذلك، والتي قد يصل ظاهر بعضها ليس إلى ما ينافي شهادة واقعهم عليهم السلام، والنصوص الثابتة الدالّة على عصمتهم وإجماع المسلمين على أنهم من أعلى قمم الإيمان والتقوى والعمل الصالح فحسب، بل يصل لو نُظر إليه نظرة سطحية بلهاء إلى أنهم وحاشاهم مِن أوضع مستويات أبناء الأمة.
تشعر أن السائل قد أوجعه الالتفات إلى سوء حاله، ولم يطق الألم لخسارة أصابت أعزّ ما عليه روحَه التي يعرج بها إلى كماله، وقلبه الذي يتقرّب به إلى ربّه، وقد دفعه ضيق المعاناة، وعميق الجرح، وشديد الألم إلى أن يطلب من يشكو إليه لوعته، ويبثّه همّه وحزنه، ويصرخ إليه ويستغيثه. ومن يغيث غير الله، ومن ينقذ العبد من مأزقه سواه، وإن كان ذلك الغير من كان، وإن كان قمّة الناس والممكنات جميعا قدرة ورأفة وصلاحا؟! فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن ولا يكون.
وبذا لا تحط عين السائل الواعي في شكواه واستغاثته ولجئه على غير الرب القدير العليم الكريم مالك الأمر كلّه، صغيره وكبيره، أوّله وآخره، وكلّ دقيقة فيه، وفي كل آنٍ من أناته، ولحظة من لحظاته.
ومن هنا يأتي النداء صادقا حارّا مخلَصا راجياً لاهباً واثقا مطمئنا موقنا، وليس من نداء له كل ذلك وأكثر من ذلك كما هو النداء لله عزّ وجلّ تدفع العبد إليه الحاجة الحرجة الملحّة، والمأزق الضيّق الخانق الذي أيقن بأن لا مُخرِج له منه إلا ربُّه، وعليه تصدّر المناجاة نداء”إلهي”، وليس غير الله يكون اللجأ إليه.
وتأتي التتمة المتوالية إن شاء الله.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم ارزقنا دوام الذكر، وصدق الشكر، وتوفيق الطاعة، وبعد المعصية، واجعل القرآن ربيع قلوبنا، ولا تجعل لنا رأياً على خلافه، ولا شعوراً مفارقا له، ولا عملا لا يلتقي معه، ولا غاية غير الغاية التي دعا إليها، ولا خاتمة غير الخاتمة التي يُفضي إليها برحمتك يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ }

الخطبة الثانية

الحمد لله أعلم العالمين، وأقدر القادرين، وأعدل العادلين، وأحكم الحاكمين، لا تشبه ذاتَه ذات، ولا تدنو من صفاته الصفات، حقيقته لا تقبل الشبيه، ولا يناله تصوّر، وكل كمال يفترض دون كماله، ولا جلال ولا جمال في تصور عقل، أو خيال أو وهم إلا قصر به حدُّه عن جلاله وجماله حيث لا حدّ يحدّه، ولا نهاية ينتهي إليها، وكل من عداه وما عداه محدود.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
علينا عباد الله بتقوى الله، وأن نطلب للنفس التي حمَّلنا مسؤوليتها، وألزمنا برعايتها ما ينفع، ونجنّبَها ما يضرّ، ولا أعلمَ بهذا وذاك من بارئ النفس ومدبِّرها، وخالق كل شيء ومقدِّره.
فما طلب أحد صلاح نفسه، أو صلاح غيره من أفراد ومجتمعات من منهج من مناهج الأرض، ومواضعات الأعراف، وما يسنُّ الناس من قوانين معرضاً عن دين الله وشريعته إلاّ وقد اختار الذي هو أدنى على الذي هو خير، ورضي بالضلال عن الهدى، وقدّم الجهل على العلم، والباطل على الحق، وآل أمره إلى ضياع.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا ومن أحسن إلينا إحساناً خاصا، ومن كان له حق خاص علينا من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اهدنا للتي هي أقوم، ولا تجعل لقلوبنا ميلاً إلى باطل، ولا تُجرِ على ألسنتنا كلمة فيها غضبك، ولا تحبسها عن الكلمة التي فيها رضاك، واسلك بنا مسالك أهل الصلاح والإصلاح، وما فيه خير هذه الأمَّة، واجتماع كلمتها على التقوى، وأنت أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، والممهد لدولته، والعلماء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد فهذه بعض كلمات تتصدّرها كلمة بمناسبة ذكرى المبعث الشريف:
لله تبارك وتعالى في عباده رحمتان وهدايتان: رحمة وهداية تكوينية، ورحمة وهداية تشريعيَّة. الهداية الأولى تعمّ كل الممكنات التي تخرجها القدرة الإلهية من ظلمة العدم إلى نور الوجود وترعاها. والهداية الثانية تخص من كان في معرض التكليف من الخلق.
ويوم المبعث النبوي الشريف هو يوم تنزُّل الهداية التشريعية الكبرى التي اكتملت بها الهدايات الإلهية من هذا النوع مما سبق تنزّله قبل خاتمة الرسالات.
والأخذ بهداية التشريع، والالتزام بمنهج الدين القويم في شؤون الحياة تقرأ عنه في الكتاب الكريم أنه شرط في تدفّق المزيد من الرحمة التكوينيّة، وإفاضة الكثير من البركات السماوية على مجتمعات الناس، وأن الانفصال عن منهج الله سبحانه لهذه الحياة يصيبها بالضيق والتأزّم والبؤس والشحّ والشقاء:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }(2). فإما طاعة معها صحة الأوضاع، وإما معصية ومعها تردّي الأوضاع.
فالدين القويم والشريعة الغرّاء لهما دوران مترابطان: الأول: إعداد الإنسان في هذه الدورة من وجوده التي يعيشها على ظهر الأرض لأعلى المنازل الكريمة، والرتب الحميدة في الآخرة عن طريق التربية الخاصة والعامة وتهيئة الأجواء والمناخات المعنوية المساعدة التي تبلغ بإنسانيته على خطّ ربّه سبحانه إلى أسمى مراقيها وأرفع درجاتها.
والثاني: هو خلق أوضاع حياتية صالحة ومتقدمة على مختلف المستويات لتشكل البيئة المناسبة لتوفر الإنسان على ما يمكن له من سعادة على الأرض، وتجنّبه الهزّات العنيفة التي تعصف براحته أفراداً ومجتمعات، وتُقلقُ وجوده في الأعماق، وتشغله عن الغاية الأساس لهذه الحياة، وهي أن يُصنَع من خلال هذه الدورة من وجوده إنساناً صالحاً لأن يعيش أقصى درجات السعادة التي تهيؤه لها استعدادات داخله الموهوبة له من الله العظيم الكريم في اليوم الآخِر.
وإذا كان الانفصال عن منهج الله لأهل الأرض المتمثّل في دينه وأحكام شريعته مؤثّراً سلباً بأي درجة من درجاته على حياة الأفراد والمجتمعات بما قد يبين لناظر، ويخفى على آخر، فإنّ الدرجات الكبيرة من الانحراف عن خط الدين تهزّ أوضاع الحياة هزّاً عنيفاً بيّناً لكل ذي عينين، وتهدد جذور شجرتها بالاقتلاع.
أما لو تخلّى الناس كلّياً ولو لوقت يسير عن دين الله عقيدة ومشاعر ودوافع وغايات وقيماً وضوابط وأحكاماً وأصولاً خلقية وهدايات رئيسة لتفككت بنية المجتمعات الصغيرة والكبيرة من الأسرة حتى المجتمع البشري الأكبر، وعمّت الفوضى، وانتشر الفساد إلى حدّ القضاء على الحياة.
هذا كلّه حق ولكن أكثر النّاس لا يعلمون.
ومن هنا نعرف حاجة الإنسانية قاطبة لخاتَم الرسل صلّى الله عليه وآله وعليهم أجمعين، وخاتِمة الرسالات، وأنّ أكبر خيانة يمارسها فرد أو جماعة أو حزب أو حكومة أن يعمل على تحريف دين الله، والصدّ عنه، وطمس معالمه، والكذب عليه، وفصل النّاس عنه، ومطاردته.
قضايا وآراء:
حب الوطن واستقلاله: هناك حبّان من حبِّ؛ حبّ طبيعي يعبّر عنه الارتباط النفسي، والأنس بالأرض والأهل وهذا معروف عند الناس.
حبّ آخر هو حبّ الخير للوطن، والعمل بما فيه صالحه، والحفاظ عليه. والإنسان المسلم يرى هذا واجبا ورسالة.
ولكن هل من حبٍّ عند الإنسان المسلم يقابل حب الله؟! كل حبّ من حبّ الإنسان المسلم بمقتضى إسلامه يجب أن يكون تابعا لحب الله، حب رسول الله صلى الله عليه وآله إنما هو حبّ تابع وقائم على حبّ الله في نفس الإنسان المسلم المؤمن، وكذلك كل حب آخر.
هناك حبّ على مستوى عاطفة الميل والألفة بحسب طبيعة النفس للأهل والأرض مثلا، وهناك حبّ آخر عقلي يقوم على تقدير الخير، والتعلق بالكمال، والانشداد إليه، وتقوم عليه الطاعة عند الفعل، ويكسب الطمأنينة والساعادة للنفس. وهذا اللون من الحب لا يصح لأحد إلا بأن يكون متفرّعا على حب الله سبحانه وتعالى.
وكيف نحب الوطن؟ كما أحبّ نفسي، كما أحب ولدي. إنه الحب القائم على الأخذ بتعاليم الشريعة، إنه الحب الذي نعبّر عنه التعبير الذي حدّده الله تبارك وتعالى، إذا أحببت ولدك، وجاء حبّك على غير طريق الله، وعلى خلاف ما أمر ونهى فإنت لا تحبّه، إذا أحببنا الولد، إذا أحببنا الوطن فإننا نحبّه بالطريقة التي قالت بها الشريعة الغرّاء، وهذا هو الحب الصادق النافع. أمِنْ حبّ الوطن أن نغرقه بالخطايا؟! أن نغرقه بالفساد الخلقي؟! أن نطعم جوعى الوطن بكدّ الفروج؟!، هذا حب لا يرضاه الله سبحانه وتعالى. يجب أن ينبع حبّنا لأي شيء من الله، ويجب أن يأخذ الحبّ في تعبيره الطريقة التي أمر الله بها عزّ وجلّ.
تقول الآية الكريمة {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(3).
علينا أن نحب الوطن، ونخلص في حبّه، وأن يكون حبّنا له من حبّنا لله، وهو مقياس كل حب، وأن يكون تعبيرنا عن هذا الحب لا يغادر خطّ الشريعة على الإطلاق.
و الكلام عن استقلال الأوطان الإسلامية، مرتبط بعلاقة ذلك بوحدة الأمة وفرقتها وتقاربها.
باختصار وحدة الأمة هدف كل مسلم وأمنيته، ولو تمنّى أحد المسلمين غير ذلك لخالف إسلامه.
وحدة الأمة هدف كل مسلم ولكنّه هدف بعيد يفصل الأمة عنه واقع مليء بالتناقضات والقصور والنواقص، فهذا الهدف ليس على مرمى قريب من النظر العملي عند الإنسان المسلم المتعقّل، وطلبه بالقوة يضاعف من مشكلات الأمة ومحنها وفرقتها، ويحتاج إلى قطع مسافة طويلة من التثقيف والتوعية وتنقية المشاعر والارتفاع بالنفوس إلى الأفق الإيماني الرفيع
لو أردنا أن نوحّد بلدين من البلاد الإسلامية، ولنفرضهما أنهما أكثر البلدان الإسلامية تقارباً لصعبت الغاية، أما توحيد الأمة تحت راية واحدة، وقيادة واحدة، وأطروحة واحدة فهو من المستحيلات العادية في المدى المنظور، فطلبه على هذا المستوى شيء من تضييع الوقت والجهد، وينتج مزيدا من فرقة الأمة، وشتاتها، فلا يُطلب على المدى القريب، ولكن على الأمة أن تجدّ في طلبه ولو على المدى البعيد، ونحن نأمل من الإمام القائم (عجل الله تعالى فرجه)- و هو أمل صادق بإذن الله- أن يوحّد هذه الأمة كلّها تحت راية الإيمان الخفّاقة العالية.
إذا لم نختر الوحدة فلنختر مزيدا من فرقة الأمّة لكنّ هذا هدف كلّ عدو ومتآمر على الأمة. فما هو العملي؟ العملي أن نقول باستقلال كل بلد إسلامي وأن نقول بوجوب التقارب والتحالف غير الضّار بالوحدة، ونفض اليد من التحالفات الأجنبية التي تضرب وحدة الأمة وتغتال هويتها.
ولا للاختراقات الحدودية العدوانية والتوسعات الجغرافية بين المسلمين التي قد تحرّك الأطماع الرغبة إليها.
أزمتنا سياسية:
وما سيطرح تحت هذا العنوان خطوط عريضة من غير تفصيل لضيق الوقت
أزمتنا جذورها سياسية، وتجد مادة مناسبة في الاختلاف المذهبي، والأجواء الإقليمية الطائفية المعاشة.
وتوجد أسباب جانبية يمكن مواجهتها لولا الجذر السياسي للمشكلة.
نجد أن التحسن السياسي يخفف من التوتر الطائفي، وأن أي انتكاسة سياسية تثير هذه المشكلة من جديد وبشكل خطير جداً مما يدل بوضوح على أن المشكلة سياسية أصلا.
والتغلب على الطائفية في الحل السياسي.
والتقارب الشعبي يعيقه الجو السياسي الملبّد بالغيوم والملغّم بأخطر الألغام.
للمجلس الإسلامي العلمائي تجربة على طريق التقارب، وقد جاءت في ضوء شعار وحدة وطنية وإسلامية وهو شعار سابق للمجلس نفسه. فقد بعث المجلس قبل ما قد يزيد على سنة برسائل للجمعيات الإسلامية من الطائفة الأخت الكريمة في البلد، ولا زلنا ننتظر الجواب. كانت رسائل تطلب اللقاء ولو اللقاء الأولي للحوار والتفاهم ومحاولة التقريب.
إطلاق السجناء خطوة إيجابية على الطريق الصحيح، وخيار ناجح ويحمل قابلية تبريد الأجواء تمهيداً لإنجاح إرادة الحل فيما يُطلب، وينبغي.
والخطوة على قيمتها المقدّرة تحتاج إلى إتمام بلافراج عن كل السجناء والموقوفين على ذمة قضايا عدّتها الجهات الرسمية أنها من قضايا الأمن.
وخطوة إطلاق السجناء تتعامل مع تداعيات المشكل. فهناك مشكل هو الشعور المتبادل بالاستهداف، هذا الطرف يشعر بأن الطرف الثاني يستهدفه، والطرف الثاني يشعر بأن الطرف الأول يستهدفه، هذا هو لبّ المشكلة في ساحتنا السياسية.
وهذا المشكل له جذور، وأسباب وهي الملفات والقضايا المختلف عليها، والتي لا زالت معطّلة.
وهناك تداعيات للمشكل نجدها في هذه المواجهات والتوقيفات والمحاكمات وأحكام السجن والقلق الأمني الذي يشعر به الناس هنا.
والعلاج الناجع في أن ننظر إلى الجذور، وأن نبحث في الملفات المختلف عليها عن طريق الحوار، وأن تأتي خطوات إصلاحية تتعامل مع أساس المشكلة لتعود ثقة الطرفين، ولتتضافر جهود السواعد على بناء هذا الوطن البناء الصالح المجيد وهو ما نتمنّاه كل التمنّي، ويجب علينا أن نساعد عليه.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اهدنا للتي هي أقوم، اللهم أخرجنا من كل هم وغم وكرب وضيق وعسر وشدة وبليّة ما خصّ من ذلك وما عم، واجعل لنا ولجميع المؤمنين والمسلمين يداً على من حاربنا، ونصراً على من كايدنا، وظهورا على من عادانا، ولا تفرق بيننا وبين الحق طرفة عين أبدا، يا مالك الأمر كله، ولا مالك لشيء من الأمر سواه، يا قوي يا عزيز.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

___________________________
1 – بحار الأنوار ج75 ص41.
2 – 96/ الأعراف.
3 – 24/ التوبة.

زر الذهاب إلى الأعلى