خطبة الجمعة (335) 21 رجب 1429هـ – 25 يوليو 2008م

مواضيع الخطبة:

*لنخرج من الغباء *لا هذا ولا ذاك *السياسي والديني

أي طرف يستكبر اليوم على الحوار، أو يزهد فيه، ويعتمد على خياراته الأخرى الواثق بها لابد أن يقتنع غداً أنه لم يحسن صنعاً، ولم يوفّق في خياراته، وسيعلم أن الحوار لا غيره هو الحل

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا سبيل لأحد لطاعته أو معصيته إلا بما أنعم به، ولا حجة لأحد عليه، والحجة البالغة له على غيره، وقدرُه جارٍ، وحكمه نافذ، وسلطانه شامل، وقضاؤه عادل، وعلمه محيط، وليس لأمره مانع، ولا لعذابه من دافع.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، وأن نقف من نفوسنا موقف المراقب المحاسب المؤدِّب فإن لم نفعل طغى على عقلنا هواها، وذهبت بديننا مُناها فهي الميَّالة للهو، المغلوبة للسهو، الأمارة بالسوء، المخدوعة للشيطان، الواقعة في التّيه، المأخوذة للضلال، ففي تأديبها النجاة، وفي إهمالها الهلاك.
أعنّا ربّنا على أنفسنا، واجعلها طوع دينك، منقادة لأمرك ونهيك، مشتاقة إليك، مسرِعة إلى طاعتك، مضحية في سبيلك واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات ولوالدينا ومن أحسن إلينا إحساناً خاصّاً من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة وصلّ على محمد وآل محمد واهدنا بهداهم يا كريم يا رحيم.
أما بعد أيها الأعزاء فإلى تكملة حديثنا السابق لنخرج من الغباء:
1. نحن بأيهما أكبر روحنا أو بدننا؟
يأتي في الجواب هذه الملاحظات:
‌أ- البدن يعيش بالروح، لا أن الروح هي التي تعيش بالبدن. نماء البدن، حركته، إحساسه كلّ ذلك مصدره الروح ولا عكس.
‌ب- والروح هي تدير حياة البدن، ولا يملك البدن أن يدبِّر أمر حياة الروح.
‌ج- والذين يعيشون لأبدانهم يسهل عليهم أن يبيعوا انتماءاتهم الوطنية والسياسية والحزبية وغيرها.
‌د- أما المقدّس الروحي فلا يبيعه أحياء الروح، فلأحياء الروح مقدسات روحية، وأكثر ما يشعرون بذواتهم من خلال الروح، ومن شعر بأن ذاته في بعدها الروحي، وأن سموّه هناك عزّت عليه روحه، ولم يأت في حقه أن يبيعها بأغلى الأثمان.
‌ه- الجمال في ضمير الإنسانية لأبطال الروح لا لأبطال المادة في الأكثر. وإذا كان لأبطال البدن شيء من الجمال في ذوق الإنسان فإنه لا يمكن أن يقاس بجمال الروح في ضمير الإنسانية كلها. ونحن نوجّر البدن، ومنافع البدن، وإنتاج البدن، أما الروح فلا يمكن أن توجّر. نعم، جاء بإذن من مالك الأرواح تبارك وتعالى ومن في الاستجابة لأمره من الروح سموُّها وشأنها الكبير أنه يجوز أن تعبد نيابة عن الآخر بشرط أن تكون العبادة قربة خالصة لله تبارك وتعالى، وعندئذ ومع خلوص النية لله حتى تصح العبادة يأتي دفع وكأنه في قبال ذمَّة المنوب عنه وهو أجنبي عن معادلة الجانب الروحي بثمن من أثمان المادة إن غلى.
‌و- وإننا نلاحظ أن هناك تفاوتا كبيراً في الشأن بين الروح التي تعيش بها البدن، وروح الإنسانيّة، وهي الروح العارفة بالله عز وجل، المنشدة إليه، المنفتحة عليه، المتعلقة به، العشّاقة له.
فنجد فرقا شاسعا بين أن تُزهق روح حشرة و من طبيعة الروح التي تعيش بها أبداننا، وبين أن تزهق روح إنسان. ووفاة إنسان كل همه أكل وشرب، وما ماثلهما، تختلف في ضمير الإنسانية عن وفاة رمز من رموز الروح، وبطل من أبطالها. يموت الرجل من المستوى الأول ويحزن لموته عند أهل وجيران وأقارب، أما وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله فيحزن أصحاب القلوب الإنسانية الحية، وأما أن يكون سبب ذلك القتل العمد فهنا يهتز الضمير الإنساني اهتزازا عنيفا، ويعيش مأساته، ويجد أن اليد القاتلة قد تطاولت على أشرف ما يغنى به وجود الإنسان، وعلى مجموعة المثل العليا والأنوار المعنوية التي تشع بها شخصية كشخصية الرسول صلّى الله عليه وآله ذلك الرسول الذي لا يلحقه لاحق في منزلته الإنسانية الرفيعة.
وهذه الروح الإنسانية هي بدورها تتفاوت بتفاوت قربها وبعدها عن الله سبحانه وتعالى شأنا ومكانة واعتزازا عند الناس ممن لم يخسروا إنسانيتهم، ولم تقارب حياتهم حياة الحيوان.
ونقرأ عن النفس في الكتاب الكريم: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(1)، ونقرأ كذلك: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}(2).
وخسارة النفس التي يتحدث عنها القرآن غير أن يقتل إنسان، غير أن يخسر بدنه، وتنتهي حياة البدن عنده. إنها خسارة الروح المشعّة، الغنية بالمعنويات والجمال المعنوي، العارفة بالله، السائرة على طريقه.
الخسارة الكبرى أن يخسر الإنسان نفسه بهذا المعنى فيتحول بعد منزلة رفيعة من الإنسانية إلى منزلة الحيوان، وإلى منزلة الحجر الذي يوقد عليه في النار.
إنسان بعد أن يخسر روحه الملائكية، وتنطفئ شعلة الروح في داخله وكأنه لم يكرَّم في يوم من الأيام بنفخة من روح الله، وحين يبقى مادة فقط، لحما ودما وعظما هو إنسان قد خسر نفسه، وإنسانٌ يستحق أن يكون شيئا من وقود النار ليس هو بالإنسان الذي كرمه الله تبارك وتعالى.
خسارة النفس هنا هي خسارة عقل وحكمة، وروح عارفة، وجمال معنوي، وسعادة راقية. يقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم {والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.
فمن الإنسان الذي يكون قد خسر نفسه؟ أهو ذلك الإنسان الذي آمن بربّه، وتواصى بالحق، وتواصى بالصبر، الإنسان الذي لا زال يحتفظ بإنسانيته، بصلته بربه، بروحه المشرقة المنفتحة على الله، المتعلّقة به، ولو مُزِّق بدنه مزقا مزقا، وتحول أشلاء متناثرة؟!
فليكن إنسان مُزّق جسدُه كما مُزّق جسدُ الإمام الحسين عليه السلام، إلا أنه لم يخسر بنفسه لقوله تعالى {…إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.
والذين بنوا أجسادا عملاقة، وتمتعوا بصحة كبيرة، وعاشوا الدنيا كأرغد درجة من العيش المادي داخلون في الخاسرين ممن لم يعبدوا الله، ولم يعملوا الصالحات ولم يتواصوا بالحق والصبر؛ ذلك لأنهم قد انطفأت فيهم شعلة الروح الإنسانية الكريمة وخبا جمالها، وجفّت منابع الخير التي كانوا يغنون بها.
‌أ- هناك منتحرون على المستوى الأول، على مستوى البدن…. وهناك منتحرون على المستوى الثاني. والعاقل لا ينتحر لا على المستوى الأول ولا على المستوى الثاني.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(3).
الروح الإنسانية العالية تقبل الانتحار، إذ يمكن أن تكون موضعا للانتحار الفوري، ويمكن أن تكون موضعا ومتعلقا للانتحار التدريجي، وانتحار الروح هو أن تنطفئ شعلتها المضيئة في داخل الإنسان، أن تخسر فطرتها، أن تخسر هداها، أن تخسر معرفتها بالله تبارك وتعالى، أن تخسر تعشّقها إليه.
وما طريق الانتحار هنا؟ طريق الانتحار هنا ذنوب ومعاصي.
وهناك أحياء بدن وأموات روح، وهم وقود النار. وهناك مرضى بدن، ولكنهم أحياء روح، وكثير هم الذين قد خسروا حياة البدن لكن حياة الروح عندهم صارت على أشدّها، وصارت حياة الروح عندهم كأرقى مستوى من الحياة.
شهداء كربلاء خسروا حياتهم البدنية لكن قفزوا بمستواهم إلى ما هو من أعلى المستويات من حياة الروح.
المعاصي سموم الروح. وكم هم المتعاطون لسموم البدن عن اختيار، وكم هم المتعاطون لسموم الروح عن اختيار؟
قليلون هم الذين يتعاطون سموم البدن عن اختيار، وإردة حرة، أما الذين يتعاطون سموم الروح فهم أكثر من في هذا العالم. كم هم الذين يقدمون لأولادهم سمّ البدن؟ وكم هم الذين يقدمون لأولادهم سم الروح؟ أو يتغاضون عن تعاطي أولادهم لهذه السموم؟ فلنقس، ولنقارن.
ماذا يعني الإقبال على ما يسمى بفيلم “نور” الموقع في المعصية؟ أليس هو الاستخفاف بالنفس الإنسانية؟ أليس هو الاستخفاف بالله تبارك وتعالى؟ أليس هو الإقدام على الانتحار الروحي؟ أليس هو من السعي بالقدم عن اختيار إلى النار؟ أليس هذا استهزاء بعقاب الآخرة واستخفافاً به؟ أليس في هذا مكابرة لله تبارك وتعالى؟ ألا يعني هذا التصميم على إشاعة الفاحشة في المجتمع؟ أأستخفاف بنواهي الله في السعة ولجأ إليه في الشدة؟ الذي يشاهد هذا الفيلم لو أصابه مرض مفزعٌ لمن سيلجأ؟ لمن سيرفع كفّ الضراعة؟ لمن يسمّى بطل الفيلم؟! يد ضارعة لله عز وجل سائلة لفضله وفيضه هي التي تفتح قناة الفساد وتغتال نفخة الروح في ذاتها… النفحةَ الهبةَ الكبيرةَ من الله سبحانه وتعالى؟!

من منا يدخل أرضاً ملغومة، وهو يعلم؟! من منا يدخل أرضا يحتمل تلغيمها فحسب؟ من منا يدخل بركة مسمومة؟! يطأ أرضا تبتلع؟ يُقدم على تناول عسل لذيذ لكنه مسموم؟! من منّا يشاهد منظراً جميلاً ورائعاً لكنه يعرف أنه سينتهي بعمى عينه؟ من منّا يحدِّق في قرص الشمس حتى تعمى عينه؟!
أليس على الإنسان أن يخرج من غبائه؟! ومن أنساه الشيطان ذكر ربّه فهو غبيٌّ، ومن غلبته نفسه على عقله فهو غبي، ومن ملكته شهوته فهو غبي، ومن ضيّع قيمته الإنسانية فهو غبيّ، ومن عاش لبدنه مضحّياً بروحه وقيمها وهدفها وشرفها فهو غبي، ومن قدّم الدنيا على الآخرة فهو غبي، ومن نسي الموت الذي يترصّده على كل طريق فهو غبي.
وغبي من أصغى بسمعه، أو نظر بعينه، أو دخل في أي أمر من الأمور يفقد توازنه أمام فتنته، وينتهي تماسكه، وتتهاوى إرادته، ويخسر دينه أمام إغرائه، هذا لو كان ذلك الأمر حلالاً في نفسه حراماً لنتيجته، فكيف به لو كان محكوماً بالحرمة في ذاته كما في كثير من المرئيات والمسموعات الخارجة في نفسها عن الحد الشرعيّ، ومساحة المباح؟!
وليسأل المطالعون لمثل ما يسمّى بفيلم “نور” ماذا يفعل بهم، وبِمَ يخرجون من مطالعته من خسارة خلق ودين، ونتائج قذرة يندى لها الجبين كما يُتناقل. ومثل المطالعين لهذا الفيلم الخسيس كلُّ الذين يفتحون أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم ومشاعرهم على المشاهد والصوتيات التي تلعب بعقولهم ونفوسهم وإراداتهم، لينهاروا أمامها، ويخسروا الدين والنفس والشرف والمصير، ويدخلون في خسارة الروح، ويدخلون في ملأ الخاسرين.
لنخرج من غبائنا ولا غباء كما في البعد عن الله عزّ وجلّ، واسترخاص الروح، واستنفاد الحياة في إعداد الذات إلى النّار.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من أذكر ذاكريك، وأشكر شاكريك، وأصلح عبادك، وأخلص عبّادك، وأقرب من تقرب إليك فقرّبته، وأدنى من دنى إليك فأدنيته، وأفضل من فضّلته، وأكرم من أكرمته، وأسعد من أسعدته يا متفضل يا محسن، يا واسع العطاء، يا حنّان، يا منّان يا أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا خلق دون خلقه، ولا ملك غير ملكه، ولا سلطان إلا سلطانُه، ولا أمان إلا أمانُه، ولا هدى إلا هداه، ولا خير إلاّ في تقواه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله المخلوقين لقدرته، المحكومين بقضائه وقَدَرِه، الصائرين قهراً إليه علينا بتقواه وطاعته، وأن لا يخرجنا من تقواه مخرج، ولا يصرفنا عن طاعته صارف، فَمِنْ غيره يكونُ اللجأ إليه، ومنه لا لجأ إلى غيره، ومَنْ عداه يُستغنى عنه، وهو وحده الذي لا غنى لأحد من رحمته، ولا يُترك القويّ للضعيف، ولا يُطلب رضى الفقير بغضب الغني، ولا يُصار إلى موافقة العبد بما فيه سخط الربّ.
اللم صلّ على محمد وآل محمد، وأعذنا من نسيان قدرتك عند أيّ قدرة، وسطوتك عند أي سطوة، ونعمتك أمام كل نعمة، ونقمتك أمام أي نقمة، وحاجة الكل إليك، وغناك عمن سواك، وأنّه لا قدرة إلا قدرتُك، ولا سطوة إلا سطوتُك، ولا نعمة إلا نعمتك، و أن لا نقمة تضرّ إلا بإذنك، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله الصادق الأمين خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا قريبا دائما مقيماً.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الله فهذان موضوعان يجري الحديث فيهما:
لا هذا ولا ذاك:
في البلد حكومة لها سياساتها الخاصَّة، وفي البلد من يعارض بعض هذه السياسات لإجحافها وخطئها. وهذا هو الحال في كل بلدان العالم تقريباً اليوم.
ولو لم تحصل درجة من ضبط الأعصاب أمام هذه المفارقة في كل البلدان لاحترق العالم بمن فيه وما فيه، والبحرين جزء من هذا العالم والقوانين الجارية على العالم جارية عليه، وما تصلح به البلدان الأخرى تصلح به، وما يؤدي إلى دمار تلك البلدان وشقاء أهلها يعطي نتائجه المهلكة فيها.
وإذا اختلفت حكومة ومعارضة في أي بلد، واستهدف أحد الطرفين إلغاء الآخر واجتثاثه تصاعدت الأمور إلى أقصى حد. ولو اتجه أي طرف من الطرفين في البحرين هذا الاتجاه لكانت المحاولة خاطئة وخاسرة ومكلفة وكارثيّة، ولمصلحة أي من الطرفين صار يفكّر بهذا التفكير أن يتجه هدفه إلى غير ذلك.
يجب أن يتجه التفكير عند الطرفين إلى التصالح والتوافق، وإذا كان هذا هو الهدف فلابد أن تأخذ الوسائل طبيعتها من طبيعته. وهي على هذا التقدير لا تعدو الحوار وآلياته ومقدماته وأجواءَه وهو الشيء الذي شددنا عليه كثيراً وفي عدد من المناسبات والمواقف.
وفي مراجعة سريعة للماضي القريب الذي يقدَّر أنَّه لم ينس نجد أنه كان تشدّد أمنيٌّ وتضييق في أكثر من مجال، ولكنّه أنتج الانتفاضة ومتاعبها المشتركة، ولم ينتج الحل.
ولما كانت الانتفاضة وأخذت من جهود الطرفين ما أخذت، وأحدث التصادم من الخسائر ما أحدث لم يُفْضِ التصادم إلى الحلّ، وإنما كانت الطريق إليه في صورته الجزئية هو التوافق والتراضي والتسامح المشترك، والأخذ بلغة العقل ودرجة من العدل.
وإذا جرِّب التشدد الأمني والتضييق المعيشي والديني وغيره، والتواجه الصاعد مرة، وألف مرة فلن يكون فيه الحلّ، وإذا نشبت مواجهات ساخنة – لا سمح الله – فستزيد المشكلة، ولن تخفف منها؛ فلا العقوبات الجماعية، وتعطيل المشاريع الإنمائية في القرى والحرمان قادراً على الحل، ولا الزجاجات الحارقة إذا وجدت تملك أن تحققه.
وعندي أن كلاًّ منهما مرشّح إلى أن يؤزم الوضع بدرجة أشد وأعظم.
وأي طرف يستكبر اليوم على الحوار، أو يزهد فيه، ويعتمد على خياراته الأخرى الواثق بها لابد أن يقتنع غداً أنه لم يحسن صنعاً، ولم يوفّق في خياراته، وسيعلم أن الحوار لا غيره هو الحل، لأن وضع الأسرة الواحدة، القرية الواحدة، المدينة الواحدة، المجتمع الواحد لا يصلح إلاّ بالحوار والتفاهم وعلاقات العدل والإحسان.
السياسي والديني (حديث صريح):
1. هناك توجس وتحسس عند السياسي من الديني في ساحاتنا الإسلامية والعربيَّة بدرجة كبيرة، وهذا التوجس والتحسس يقود إلى التهويل والتأويل، وتقوم عليه خطط خاطئة، وتبنى عليه سياسات غير صحيحة، ويحدث كثيرا من التوترات، والساحة المحلية في مسألة ولاية الفقيه يمكن أن تكون مثالا لذلك.
2. لنتحدث في المسألة حديث صراحة وعلم.
الأصل الإسلامي العام: على مستوى المسلمين كلّهم هو هذه الكبرى السالبة وهي أنه لا حكم لإنسان على إنسان بل لأحد من الممكنات على أحد بالأصل. وهناك استنثاء، والاستثناء يحتاج إلى دليل.
الفكر السني عنده أن المخرج من هذه الكلية السالبة الشورى بشروط دون العصمة. فإذا بُويع مسلم من المسلمين للحكومة اكتسب حق الحكم في الناس، وكانت له صلاحياته. وذهب البعض إلى أن الغالب بالسيف يكتسب الشرعية.
أما بالنسبة للفكر الشيعي فإن المخرج من هذه القاعدة قاعدة أن لا حكم لأحد من الممكنات على أحد وأن الحكم في الأصل لله وحده، إنما هو العصمة على مستوى الحكومة الشأنية، والعصمة والبيعة على مستوى الحكومة الفعليّة.
يأتي الإشكال في الفكر الشيعي في مرحلة غياب المعصوم عليه السلام، وقد دخل الفقهاء في بحث ولاية الفقيه من مدخل الاستشكال في أن يكون حكم لأحد من الناس دون المعصوم عليه السلام.
فسألوا: هل للفقيه أن يحكم؟ وسألوا: ما هي صلاحيات الفقيه إذا حكم؟ هل تثبت له صلاحيات الحاكم المعصوم؟ أو تثبت له صلاحيات دون هذه الدرجة الواسعة؟
والسؤال: هل الفقيه يحكم؟ إنما ينتهي الجواب عليه إلى إثبات شأنية الحكم، وأن من شأن الفقيه العادل أن يحكم، وأن الفقاهة والعدالة تَثْبُتُ أرضيةً لصحة حكمه.
فالفكر الشيعي في قمة تشكيكه في مسألة الحكم بعد المعصوم يطرح السؤال حتى بالنسبة للفقيه، وليس معنى ذلك أنه يثبت الحكم لغير الفقيه ولا يثبته للفقيه، إنما يرى وبحسب النظرة الإسلامية في هذا الفكر أن الحكم في الناس إذا أردنا أن نعطيه الصبغة الشرعية وأن نعتبره طريقاً للتعبّد إلى الله عز وجل، وأنه امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى أيثبت للفقيه أو لا يثبت للفقيه؟
وإذا قيل بحكم الفقيه، جاء السؤال الثاني كما سبق وهو ما حدود صلاحيات حكمه؟
والسؤالان يشكّلان موضوع البحث في ولاية الفقيه. وهي مسألة علمية قبل أن تكون عملية.
وليس كل من بحث في بحث ولاية الفقيه وانتهى إلى الإيمان بها فعّل هذه الولاية.
الولاية الفعلية مشروطة ببسط اليد، حكومة بلا جيش، حكومة بلا بيعة، بلا سيف، بلا آخره لا وجد لها على الأرض. ونحن نرى أن الحكومة عن طريق البيعة، وليس بتسليط السيف على رقاب الناس، الفقيه لا يسلط سيفه على رقاب الناس، وينحر المسلمين نحرا، ويضحِّي بكل المصالح الإسلامية، ويبعثر الحالة الإسلامية من أجل أن يتمتع بالحكم.
الولاية الفعلية مشروطة ببسط اليد، ومقدِّمة بسط اليد البيعة وإلا كانت ولاية الفقيه فكرة لا أكثر. فليؤمن الفقيه بأنه الحاكم ولكن المساحة مشغولة بحكومة ثانية فهنا لا حكومة له على الأرض ولا يمكن أن يشغل الساحة الخاضعة لحكم الغير بحكمه. الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وهو الذي نرى وجوب إمامته ما كانت له الحكومة الفعلية في زمن الخلفاء الثلاثة وما زاحم حكمهم بحكمه، وقراراتهم بقراراته. وإنما فعّل حكومته حين بايعه النّاس وتأتى له بسط اليد، فكيف بالفقيه؟!
الفقيه حاكم شرعي بالصورة الفعلية في إقليمه الذي تأتى له أن يبسط يده عليه، وأمَّا الأقاليم الأخرى فيها حكوماتها الخاصة التي تنفّذ أوامرها ونواهيها دون أن تحكم بأوامر ونواهي ذلك الفقيه، ومن دون أن تُحدث ولاية الفقيه في منطقه حكمه الفعلي فوضى التعارض بين أوامر حكومته وأوامر حكومات الأقطار الأخرى غير الداخلة في حكمه، وتحطم حياة المسلمين.
مع قيام حكومة أخرى ولاية الفقيه غير قائمة بنحو الفعل والإمام المعصوم عليه السلام لم يكن يمارس حكومته فعلا في مثل هذه الحالة، الإمام الصادق، الإمام الباقر، كل الأئمة عليهم السلام بعد أمير المؤمنين وبعد الحسن عليهما السلام لم يمارسوا ولايتهم بصورة فعلية.
لا ربط بين الفكرة فكرة ولاية الفقيه وبين إرادة التوسع السياسي، لا ربط بين ولاية الفقيه وبين قرار التوسع السياسي، لا ربد بين ولاية الفقيه وقيام ظروف مؤاتية للتوسع السياسي. حتى لو كان هناك طمع، لو كان هناك توجه فهذا الطمع وهذا التوجه لا يلتفت بأيّ وجه من الوجوه إلى مسألة ولاية الفقيه.
قد يجتمع التوسع السياسي، وقرار التوسع السياسي، ظروف التوسع السياسي مع الفكرة وقد يفترقان ولا تلازم بينهما وليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا. والحكم قد يكون ديموقراطياً ويكون له إرادة التوسع السياسي، وقرار التوسع السياسي، وظروف التوسع السياسي، وقد يكون إسلاميا وقائماً على ولاية الفقيه إلا أنه لا توجد عنده إرادة توسع سياسي، ولا قرار توسع سياسي، ولا ظروف التوسع السياسي، وهذه مسألة راجعة إلى الخارج وليست هي للفكرة في حدّ ذاتها.
أؤكد أن الفكر السني أكثر وضوحا في مسألة ولاية الفقيه من الفكر الشيعي، الفكر السني واضح جدّاً في حكمه بولاية الفقيه، فهذه الولاية مفروغ من ثبوتها في هذا الفكر.
لماذا؟ الفكر السني يوسّع الولاية، ويعطيها لغير الفقيه، وهل يعقل في الفكر السني أن يجد من الفقاهة مانعا من ذلك؟ مائة في المائة لا. فالفكر السني يثبت ولاية الفقيه ويثبت ولاية أوسع وهي ولاية غير الفقيه، وليس أنه يثبت الولاية لغير الفقيه ويمنعها عن الفقيه.
فالأخوة السنة الكرام يثبتون ولاية الفقيه، ولكنهم يعيشون مع الحكومات في أوضاعها المختلفة من غير أن تحدث كل يوم على يدهم ثورة، والشيعة عاشوا أيضا مع الحكومات ولم تحدث على يدهم كل يوم ثورة، إيران نفسها حكمت بحكومات وضعية ولم يفعّل من يؤمن منهم بولاية الفقيه ولايته وحكومته، ولم يحدثوا في كل يوم ثورة.
حين يؤمن الأخوة السنة بولاية من هو أعم من الفقيه فهم يؤمنون جزما بولاية الفقيه لأن الأخص داخل في حكم الأعم.
ولا يأتي في البال، في العقل، في العرف، في العقلائي أن الفقاهة والعدالة مانعان من أصل الحكم أو مضيقان لصلاحيته.
نتائج عملية:
يترتب على هذا الفكر المتعلق بولاية الفقيه أنَّه لا صلة لها مطلقاً بإرادة التوسّع والتمدد السياسي، وإثارة الحروب، وهذه أمور قد تحصل عند الفقيه وقد لا تحصل، وقد تحصل عند غير الفقيه وقد لا تحصل، ونحن نعرف أن الأنظمة الأرضية تحاول دائما أن تتمدد وتتوسع وحساباتها في هذا المجال تنصب على البعد السياسي والبعد العسكري فحسب، أما بالنسبة لمن كان فقيها عادلا فحساباته أوسع من ذلك ووحدة الأمة، ومصلحة الدين، والحفاظ على هوية الأمة أولويات لا تغيب أبدا في نظر أي فقيه عادل من المؤمنين.
ولاية الفقيه لا صلة لها على الإطلاق بإرادة التوسع والتمدد السياسي، وإثارة الحروب، وممارسة الحكم البديل في بلد محكوم لغير الفقيه يزاحم حكم حكومته. ولو أخذ بتفعيل حكم الفقيه في بلد محكوم لغيره لكان معناه التمزق، معناه تشتت المسلمين، معناه أن تعم الفوضى الطاحنة في كل بلد يتواجد فيه جماعة من الشيعة.
يتوقع من أي حكم ديموقراطي أو غيره لا يمت لولاية الفقيه بصلة ولا للإسلام بصلة أن يستهدف التوسع السياسي في حين نتوقع جدا بأن الفقيه أبعد ما يكون عنده هو التوسع السياسي مراعاةً للموازين الإسلامية وللمصلحة الإسلامية.
يمكن جداً أن نعثر على فتاوى من كل الفقهاء الشيعة تمنع من التآمر على الأوطان، وإضعاف الأمة، وتفريقها، ولا يمكن لك أن تعثر على فتوى واحدة علنية أو سرية تجيز ذلك. وأنا بذلك ضمين إلا أن يكون المفتي اسماً بلا مسمّى، وبعيداً عن فهم روح الإسلام ومصلحته.
لا تقوم على فكرة ولاية الفقيه فتوى بتمرد الشيعة على قوانين البلدان التي هم مواطنون فيها. وأمر إنكار بعض القوانين غير العادلة أو غير المستقيمة مع الدين مشترك بين الفكر السني والشيعي من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحفاظ على الهوية الإسلامية، والشريعة الإلهية المقدّسة.
المواطنون الشيعة كغيرهم من مواطني البلدان التي يعيشون فيها تكون لهم ملاحظاتهم على هذا القانون أو ذاك، وعلى هذا المشروع السياسي أو ذاك، وهذه المسألة السياسية أو تلك، ومطالبتهم بالإصلاح والعدل والمساواة هي على حد مطالبة كل سائر المواطنين في بلدانهم بكلّ ذلك. وهو أمر لا ربط به بالإيمان بولاية الفقيه وعدم ولايته، وهو ثابت لا يمكن سقوطه.
أما تدخُّل السياسة في قناعات النّاس العلمية في المساحة الدينية وغيرها فهو أمر مستغرب، وبعيد عن الموضوعيَّة، ومن شأنه أن يَجُرَّ متاعب جمَّة في أي بقعة من بقاع العالم حصل فيها هذا الشيء، وهو خروج من السياسة عن اهتماماتها وعن دائرة كلّ الاحتياطات لمصالحها، ولا وجه له على الإطلاق.
والناس من أي دين ومن أي مشرب ومن أي مذهب ومن أي وجهة نظر علمية أو دينية ليسوا مستعدين أن يتنازلوا عن قناعاتهم خاصة ما كان منها دينيا ثابتاً.
يدعو إلى هذه الوقفة مع قضية ولاية الفقيه كثير من الكلام بهذا الصدد على لسان الصحافة وهو كلام يفتقد الدقّة والموضوعية، ويأخذ بالتزيّد والإضافة والتخرّصات والتهويل والتضخيم ليبني نتائج كثيرة واهمة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم يا من لا نصر إلا نصره، ولا عزَّ إلا عزّه اكتب بمنِّك وفضلك ورحمتك النصر والغلبة والعز لأمة محمد عبدك ونبيك صلّى الله عليه وآله، والهزيمة والانكسار والذل والعار على أعدائك الساعين في عبادك وبلادك بالظلم والفساد والخراب، المحاربين لدينك، المعادين لأوليائك، المضطهدين للمستضعفين من خلقك يا قوي يا عزيز، يا متين يا شديد، يا من هو على كل شيء قدير.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 45/ الشورى.
2 – 103/ المؤمنون.
3 – 6/ التحريم.

زر الذهاب إلى الأعلى