خطبة الجمعة (334) 14 رجب 1429هـ – 18 يوليو 2008م

مواضيع الخطبة:

*خروج عن الغباء *مولد أمير المؤمنين عليه السلام *حزب الله وإسرائيل *إطلاق الثمانية والأحكام القاسية *الالتزام الديني بين الفلسفة والتسليم

الدنيا عند علي عليه السلام معبر عاجل، وممر سريع لحياة سعادة أو شقاء بلا حدود، ويحدد قيمتها عنده أن تكون جسر تلك السعادة الأبدية أو ذلك الشقاء المقيم.

الخطبة الأولى

الحمد لله الغفَّار الستَّار، الجبَّار القهَّار، مالك الأخيار والأشرار، خالق الجنّة والنّار، ثوابه جزيل فوق كلّ ثواب، وعذابه شديد لا يشبهه عذاب، يثيب تفضّلاً، ولا يعذِّب ظلما، ويعفو عن الكثير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله، وعدم تمادي العاصي منّا في معصيته، وبالتوبة إلى ربِّه قبل منيّته، فإن ملاقاة الله عزّ وجلّ ونحن على إصرار الذنب، ومواقعة المعاصي أمر لا تقوم له النفسُ، ولا طاقة لها به، وخزي تلك الساعة على النفس عظيم، وعذابها أليم، وموعد المنايا ليس بيد العباد، ومفاجاءتها خارج التوقع والحساب، فالخارج من منزله لخطوات لا يدري أيرجع أو لا يرجع، والداخل لبيته للحظات لا يدري أيخرج مختاراً إلى غرضه، أم محمولاً كُرهاً إلى قبره، ولا يدري أحدنا أيقوم من نومه أو لا يقوم، أيرجع إلى فراشه أو لا يرجع، أيخطو خطوة بعد خطوته، أيأخذ نَفَسَاً بعد نَفَسِه أو هي آخر ما يخطو، وآخر ما له من أنفاس معدودة في هذه الحياة.
أعذنا ربَّنا من طول الأمل، وإهمال العمل، وقبح الفعل، وعدم التأهب للسفر، وسوء المنقلب، وخسارة المصير.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أما بعد فهذا حديث تحت عنوان “خروج من الغباء”:-
من لا يعرف النافع من الضّار فهو جاهل غبيّ، ومن لم يعرف المهمّ والأهمّ فهو جاهل غبيّ، ومن عرف كلّ هذا وقدّم الضار على النافع، والمهمّ على الأهمّ فهو أكثر جهلاً وغباء، ومصيبتُه في عقله أكبر.
وأقرب ما للإنسان نفسه التي لا يحول بين شيء منه وبينها إلا ربُّه، وهي أعزّ عليه من كلِّ أشيائه، وضرّها أوجع له وآذى مما عداها، وأفرح ما يفرح بنفعها وخيرها وتحقّق مناها. فلا معرفة تنفعه أكثر من معرفته بربّه وبها، ولا جهل يضره أكثر من جهله ببارئه وبحقيقة نفسه وأحوالها.
فكان علينا أن نعرف أنفسنا وأبعادها، وما هو المهم والأهم منها. ومن لم يعرف نفسه لم يكن أحد أجهل منه وأغبى، وما كان لأحد أن يتعامل مع نفسه التعامل المطلوب الصحيح وهو يجهلها، والتعامل الخاطئ مع النفس لا يكون فيه إلا ضررها وهلاكها وشقاؤها.
وإنّه من أجل أن أخرج من غبائي، وأن أحذر المزيد من الغباء، وأن لا أخطئ كثيراً، وأبعد عن الغاية الكبيرة التي هيّأني الله إليها، وأشطّ عن الهدف الرفيع الذي أعدّني إليه، ومن أجل أن لا أقدم جاهلاً على خسارة النفس والحياة، وألا أقع في طريق الاستغفال من الآخرين وأضلّ لابد أن أسعى لمعرفة نفسي.
وأول ما ينبغي أن نعرفه من النفس هو أننا بدن وحياة بدن علينا أن نعمل على تقدّمها وكفى، وذلك أقصى ما عليه حقيقة وجودنا ودورنا، أم أننا مع هذا روح وحياة روح، وإنسانية متميّزة تفارق الحيوان – وهو الأقرب لنا ونحن الأقرب له مما على ظهر الأرض من أحياءٍ تعيش حالة النمو والحركة الموضعية والانتقالية فيها مما نحسُّ من مخلوقات – تفارق الحيوان بوعيها الكبير لعبوديتها لله العظيم، وربوبيته لها، وحاجتها إليه، وتأهّلها للاستكمال على طريقه، وقدرتها من فضله على تجاوز حدود مقيِّدة مُقعِدة كثيرة، وعبور أكثر من مستوى من مستويات الحياة المعنوية، ودرجة من درجات الكمال بالتعلق به، والتشبّث بعطاءات وحيه ودينه، والسير إليه على هدى أسمائه الحسنى الملهمة، وأخلاق الدين الذي دعا إليه، وأرسل الأمناء من خلقه للناس به. هذا إلى جنب ما عليه النفس الإنسانية دون الحيوان من قوّة الإدراك، وقدرة التحليل، والتركيب، والتوصل إلى مدركات وقضايا ونتائج جديدة.
وثاني ما يجب أن نعرفه في مجال النفس، ونشدِّد على معرفته لنبني إرادتنا ونصوغ مشاعرنا ومواقفنا في ضوئه هو أنه إذا كان في حياتنا فعلاً روحيٌّ ومادي على مستوى سلوكنا وأوضاعنا ومشاعرنا هل ما ينبغي فعله لمصلحتنا أن نلغي أحد هذين البعدين أو نهمله تماماً على تقدير إمكان هذا الأمر، أو أن نسخِّر حياة الروح لحياة البدن، ونتخذها وسيلة من وسائلها لو تأتّى لنا ذلك، أو نسخّر حياة البدن لحياة الروح، ونرقى بها في اتجاهها.
ومنهج الله عزّ وجل الذي جاء به أنبياؤه ورسله للناس دعوةٌ صريحة لنشاط حياة البدن، وتطويرها، والاستجابة لحاجاتها ومقتضياتها لكن في محاولة جادة من الإنسان لتكييف حياة بدنه رغم تطويرها حسب متطلبات حياة الروح ومصلحتها، وأن يرقى هذا المخلوق الذي فضّله خالقه العظيم على كثير من خلقه بحياة بدنه بما يجعلها في مسار حياة الروح وتكاملها، وأن يتخذ أرقى مستوى ممكن له من حياة الروح هدفا، ومن أنسب مستوى لحياة البدن وسيلة لذلك الهدف فيجمع بين الإثنين بهذه الطريقة المعيَّنة.
والإنسان لا يخطئ النظر إلى ما عليه وجوده من بعد مادي يتمثّل في مادّة جسمه المتطورة عن التراب والتي تشيع عناصره فيها، وفي بنية مادية مرئية ومحسوسة هي هيكله الخاص وتركيبته المألوفة، وفي حاجات أكل وشرب وملبس، وتنفس، وإفراز، ومسكن، وتزاوج جنسي وما شابه أو قارب ذلك.
وهذا البدن وحتى الروح التي يحيا بها، وتمثّل سرّ حركته ونموّه واستمراره، لا تكفي لأن تكون منشأ لأفكار ومشاعر وطموحات وأهداف وأشواق وقيم وخواطر عالية تزخر بها نفس الإنسان، وتتحرك في عقله ووجدانه خارج دائرة المادة وعواملها، وحاجات الجسد وقضاياه، وما يتصل بالحفاظ عليه وبقائه.
إذاً لابد أن نكون وجوداً فوق وجود البدن، وروحاً أبعد من الروح الحيوانية، وحياة أسمى من حياة تنمو بها المادة وتتحرك حركتها الموضعية أو الانتقالية فحسب.
وهذه الروح العالية هي وراء أشواقنا الممتدة وطموحاتنا العالية، وانشدادنا إلى القيم الخلقية الرفيعة، وتجاوز همومنا في بحثها عن الكمال كلّ سقوف المادة وحدودها، ونعيمها ورغدها.
وهذه مجموعة منبهات على وجه المثال لا الحصر – والحصر هنا عسير – تؤشّر بل تؤكّد على أن الإنسان ليس مادة وروحا تكفي لنمو المادة وحركتها المكانية والزمانية فحسب:
‌أ- إننا نعشق العلم والمعرفة ولو لم يضعانا على طريق أي فائدة مادية.
‌ب- يتألم الفقير، ويمتلئ قلبه غيظاً لمنِّ الغنيّ الذي أعطاه وقضى حاجته.
بل تشمئز نفوس الآخرين لهذا المنّ الذي لم يمسهم بصورة مباشرة، وينقلب المُعطون بهذا المنّ من أهل لاستحقاق الثناء، إلى أهل للّوم والذّم.
‌ج- أذى الإنسان السوي بما تطاله به ألسن السوء من سبٍّ وشتم حتى لو لم يتسبب ذلك في سقوطه في نظر الناس وسوء الظّن به.
‌د- يتأذى الطفل لأول ما يدرك من استهجان الكبار لفعله، وينتشي وتكبر معنوياته ويندفع إلى تكرار الفعل لإعجاب الآخرين به.
‌ه- تطلّع الناس إلى المناصب المعنوية والتي ترمز إلى رفعة القدر ولو تجردت عن المردود المادي بصورة نهائية.
‌و- يحب الإنسان أن تكون كل آرائه صائبة ومقدَّرة على بعد من ترتّب فائدة مادية على ذلك وعدم ترتبها.
‌ز- تؤلم الأخطاء المعنوية التي يراها صاحبها كذلك ومنها الأخطاء العلمية صاحبها من النّاس، وإن لم يكتشفها أحد، وكذلك الأمر وبصورة أشد مع انكشافها للغير.
‌ح- إكبار النّاس حسب طبيعتهم الإنسانية الأصل في المجتمعات المختلفة لخُلق الإيثار والبذل والتضحية في سبيل الغير ولو كانوا بعيدين عن الاستفادة من كلّ ذلك مادياً.
‌ط- اعتبار النّاس للجزاء المعنوي، وإعطاؤه قيمة عالية قد تفوق في نفوسهم أحياناً قيمة الجزاء المادي.
ومن ذلك التقدير للشهادات العلميَّة وغيرها من المعنويات في نفسها.
‌ي- كثيراً ما يتحدث النّاس عن معنوياتهم السابقة والحاضرة وأعمال الإحسان عندهم ومواقف العدل، وأمجاد الآباء والأجداد من النوع المعنوي تأكيداً على القيمة الخاصة لشخصياتهم.
‌ك- يسيء للناس أن ينال الذمُّ وكلمة السوء عموماً آباءهم وأجدادهم ولو من غير أن يستتبع ذلك خسائر مادية لهم.
‌ل- كثيراً ما يعتزّ النّاس بالانتساب إلى الحضارة المتميّزة برقيّها المعنويّ وكونها من أعرق الحضارات، وأنها مصدر لانتشار العلم والعدل واحترام الإنسان، وبالتاريخ المجيد، والعائلة الكريمة، وهم يجدون في ذلك فخراً لهم من غير ربح مادي، بل قد يكلفهم ذلك خسائر مادية فادحة.
‌م- ما كان الإنسان لو لا إيمانه بقيمته المعنوية، واعتزازُه بما هو أبعد من المادة في ذاته ليبحث عن ذكر جميل له في النّاس بعد موته، ويتحاشى أن يكون مسبّة التاريخ.
‌ن- والتدين والعبادة ظاهرة بشرية عامّة مستوعبة لحياة الأجيال والمجتمعات على وجه الأرض، ولا تشذ عنها حضارة من حضارات الإنسان، وإن تعدد لون التدين والعبادة وتفاوتت مستوياته وأساليبه في حياة الحضارات والمجتمعات.
وهذا النشاط التعبّدي الذي لم يختف في حياة الحضارات والمجتمعات البشرية إنما هو نشاط روحي، وتعلّق من الروح العليا في الإنسان بمصدر الكمال، وانشدادٌ إليه منها، وبحث منها عن السمو الذي تحتاج أن تغنى به خارج حدود المادة ولذائذها ومتعتها التي لا تجد فيها ما يسدّ حاجتها، ويلبي منها تطلعاتها الضخمة.
وإذا أريد ردُّ عدد من الظواهر والمشاعر التي مرّ ذكرها إلى حبّ الظهور عند الإنسان، أجيب على ذلك بأن حب الظهور إنما هو من الشعور بالحاجة إلى أن يعترف لك الآخرون بدرجة من العظمة والكمال.
ولما كانت هذه الظواهر لا تظهرنا كباراً في المادة وحياة البدن، وإنما تتجه إلى أن تظهرنا كباراً في المعنى كان ذلك كاشفاً عن تعلّقنا بما هو كمال معنوي راجع إلى حياة الروح من المستوى الذي يتجاوز حدود البدن والمادة وحاجاتهما. وهي روح تبحث عن الحق وتتعشقه، وتُكبِرُ كمال المعنى وتسعى إليه. على أن ظاهرة التدين والتعبد التي تنتشر في العالم وعرفها تاريخ الإنسانية في امتداداته السابقة كلها، وتوجُّهَ الروح بالتعبد والتذلل والخضوع إلى معشوقها العظيم لا دخل لحب الظهور فيه كيف وهو يعني التواضع، وضمور الشعور بالذات، وحتى العبادة المتراءى بها إنما أتى الترائي بها للشعور بقيمتها في نفسها، وأنها نضج وكمال روحي، وصحّة روحية تكبرها القلوب.
وللحديث صلة.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أحيينا ما أحييتنا مسلمين، وتوفّنا إذا توفّيتنا مسلمين، وأنظمنا في فوج الصالحين، وارزقنا جنة النعيم، وآمنّا يوم الدين، وارزقنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الملك القدُّوس العزيز الحكيم الذي خلق فأحسن الخلق، ورزق فبسط الرزق، وقدّر وأحكم التقدير، ودبَّر وأتقن التدبير، لا يخالط علمه جهل، ولا يشوب عدله ظلم، ولا ينال قدرته عجز، ولا يلحقه نقص، ولا يجوز عليه قصور.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا كثيرا.
عباد الله وإماءه الذين خلق وملك، ويحيي ويميت ألا فلنتّق الله، ولا تذهب بنا المذاهب عن سبيله، ولا تنحرف بنا الأهواء عن دينه، ولا يغرنّ أحدنا الشيطان فينحدر عن صراط ربّه، فإن السبل كلّها غيرُ نافذة إلا إلى هلاك إلا سبيله، وكلّ الأديان خاسرة إلا دينه، وكلّ الطرق إلى بوار إلا صراطه.
ومن يملك لأحد نفعاً أو ضرّاً من دونه؟! ومن ينجي من غضبه؟! ومن يثبت لعقابه؟! ومن يردّ قضاءه وقدره؟! ومن يعطي عطاءه، ويثيب ثوابه، ومن يجد ملجأ من سطوته؟! وممن يطلب الرزق إلاَّ منه؟! ومن يستر العيب، ويغفر الذنب، ويكشف الكرب سواه؟!
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا ومن كان له حق خاص علينا من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وكلّ مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة. اللهم اسلك بنا سبيلك، وارزقنا تقواك، وبلغنا رضاك، وأكرمنا بإكرامك، وأنعم علينا في الدارين بإحسانك، واجعلنا من سعداء خلقك، وأنظمنا في أوليائك يا رحيم يا كريم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله الصادق الأمين خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين النجباء: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا.
أما بعد فهذا حديث في بعض المحاور:
ذكرى مولد أمير المؤمنين عليه السلام:
عاش عليه السلام الدنيا كلّ عمره وفي كل مواقعه بمنظار الآخرة وقيمها وتطلّعاتها، وأعطاه ذلك قوة هزم بها الدنيا، ولم تهزمه، وصرعها ولم تصرعه.
وما استطاع أحد من أهلها من عدو وصديق أن يغلبه على دينه، وكان الظهور والنصر في كل التجارب لدينه على دنياه.
ما استعان بالجور أبداً في موقف من المواقف، وما طلب إصلاح الآخرين وهو الحريص عليه بما فيه فساد دينه ونفسه الإنسانية الكريمة وروحه الطاهرة.
وكان له أن تستتبّ بيده الأمور، ويملك زمامها بالكامل لو سمح لنفسه أن يأخذ بشيء من التمايل عن دين الله ولم يفعل.
وكثيراً ما يطلب الناس صلاح دنياهم بفساد الآخرة، ويحاولون أن يبنوا الأولى على أنقاض الثانية، أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فعنده أن صلاح الدنيا لا يطلب إلا بصلاح الآخرة، وأنّه لا يعمر الدّنيا شيء كما تعمرها قيم الآخرة، وأخلاقيتها، ومقتضاها في هذه الحياة إذا أخذنا بالفهم الديني السليم.
وصدق علي عليه السلام لأننا نصغر ونحقر ونتأزم نفسيّاً، ويفوتنا خير كثير، وتضطرب أحوالنا الاجتماعية، وننقسم متباغضين متحاربين، ويظلم بعضنا بعضا، وتسوء أوضاعنا المادية ونشقى ضعيفا وقويّا، وفقيراً وغنيّا لأننا نعيش لأبداننا دون أرواحنا التي هي سرّ الكرامة والسعادة وقيم العدل والإحسان، والإخاء والمحبة فينا، ولأننا نعيش دنيانا بقيمها المادية المختنقة التي تثير فينا روح القتال على قبضة من عشب، أو قليل من حشف، ونبقى نقاتل عليها حتّى لو اجتمع لنا من حطامها ما يكفي لملايين السنين وليس من وراء هذا التكديس الجنوني لهذا الحطام إلا ضرب من الهوس والجنون.
والدنيا عند علي عليه السلام معبر عاجل، وممر سريع لحياة سعادة أو شقاء بلا حدود، ويحدد قيمتها عنده أن تكون جسر تلك السعادة الأبدية أو ذلك الشقاء المقيم.
ولا بد أن لا تشُحَّ، ولا تتبذخ، أن لا تعسر ولا تبطر بما لا يتحمله الإنسان فتقطع عليه سيره للآخرة، ولابد أن تتوازن وتعتدل أوضاعها لتكون عون الإنسان على تربية نفسه، ونيل هداه، وبلوغ غايته، وسمو ذاته، والتوفّر على سعادته.
ولا يحقق للدنيا أن تكون كذلك إلا أن تُعمر، وتُتقاسم في ضوء قيم الآخرة ومنها العدل والهادفية الإنسانية، وأن تكون الوجهة لله.
والخلافة سلطةً دنيويةً، ومنصبَ تأمّر على الناس عوائده على صاحبه دنيوية لا تساوي في نظرِ علي عليه السلام شسع نعل بالية أتت عليها الأيام. الخلافة بهذا المعنى حتى لو طرقت باب علي عليه السلام متوسلة إليه بألف وسيلة تطلب موافقته لرفضها وفرّ منها خائفا مستوحشا وَجِلا.
والخلافة وظيفةً إلهيةً، وموقعا لتصحيح أوضاع الناس، وإنقاذهم من المستنقعات التي تأتي على راحتهم في الدنيا، وسعادتهم في الآخرة، يمكن أن ينافس عليها عليّ عليه السلام، بل يمكن أن يقاتل من أجلها، وهو لا يجد لها كفؤاً مثله. يفعل ذلك وهو خائف من ثقل المسؤولية، ودقة الحساب استجابة لأمر ربه.
حزب الله وإسرائيل:
حدثت بين حزب الله في لبنان وإسرائيل جولات من المواجهات، خرج الحزب منها منتصرا في كل مرة، وخرجت إسرائيل مهزومة منكسرة.
مبروك لهذا الحزب وأمينه ومقاتليه وأنصاره وبلده وأمته هذا النصر المتوالي الكبير.
وهو نصر لهؤلاء جميعا، وللإنسانية على كل أعدائها، وشرف لأمتنا ولإنسانيتنا وللقيم الإلهية العالية.
وفي هذا النصر المتكرر درس لأمتنا الكريمة، وحجة لله عز وجل عليها. لقد طال الصراع مع إسرائيل الغاصبة، وحدثت منازلات مريرة معها تحت تربيات ورايات وشعارات مختلفة. وهذه المرة وحدها هي التي خاضت فيها الأمة في فئة قليلة منها الصراع مع العدو الإسرائيلي ونازلته في أكثر من جولة في ظل التربية الإسلامية والروح الإيمانية، والقيم الرسالية، والهدف الإلهي الذي آمنت به وأخلصت إليه.
وهي المرة الأولى التي تكون فيها الهزيمة الواضحة الصارخة للطرف الإسرائيلي، وفي كل جولاتها، ويكون فيها النصر والظفر على هذا العدو بصورة بيّنة منذ النكبة التي واجهت الأمة(1).
والدرس هنا، والوقفة هنا، والعبرة هنا.
كل ذلك في الإجابة على هذا السؤال: ما هو الجديد الذي تحقق به هذا النصر بعد توفيق الله؟ لا نرى لأي خصوصية دخلاً خاصا في قلب الموازين وإرغام أنف العدو إلا خصوصية التمسك بعطاءات التربية الإسلامية، والروح الإسلامية، والرؤية الإسلامية، والهدف الإلهي الخالص، والتوكل على الله، والاستمداد منه.
وهو طريق مفتوح أمام الأمة لتحقيق الانتصارات المتوالية في كل مواجهاتها مع العدوانية والظلم والوحشية والاستكبار الذي يشنُّ حروبه عليها، ويستهدف استئصالها.
إطلاق الثمانية والأحكام القاسية:
تزامن إطلاق الثمانية من شباب البحرين الذين احتُجزوا في أراضي المملكة العربية السعودية مع صدور أحكام بالسجن حكمت عليها الساحة بأنها قاسية على ثلة أخرى من شباب البحرين في محاكمة محليّة، فكان في ذلك للشعب اجتماع فرحة وترحة. والفرحة يُشكر الله عليها، والترحة يؤسى لها.
ومبروك للمفرج عنهم ولذويهم، وللشعب بالفرحة العامَّة، وصبّر الله المحكوم عليهم وأنقذهم.
وأساس الأحكام الصادرة قبل أيام، قد تمّ نقاشه، وناقشه كثير من المؤسسات السياسية والحقوقية والمحامين، قد حصلت لمراقبين لقسوة الأحكام حسبما نشر.
ولا زلنا نطالب بإطلاق سراح المحكوم عليهم ومعالجة كل الخلفيات التي تسبب تأزم الساحة معالجة مخلصة قائمة على الحوار والتفاهم والاحترام وتبادل الثقة.
ولا نرى طريقاً آخر آمن وأنتج لخير هذا البلد، والنأي به عن التشنجات والتأزمات يتقدم هذا الطريق أو يعدلُه قيمة.
وكل تجارب النزاع أو الخلاف بين الدول، أو الأنظمة والشعوب، أو الفئات دالة على هذه الحقيقة.
الالتزام الديني بين الفلسفة والتسليم:
الدين فيه أصول وفروع، والأصل متقدم على فرعه، وقوة الفرع من قوة الأصل، والأخذ بأصول الدين لا تقليد فيه بما هو تقليد، ولا يُعتبر فيه الظن، فلابد من علم، وهذا العلم قد يوفّره الوجدان الفطري، وما يمكن أن يطلق عليه نورُ الفطرة، وقد يحتاج إلى جهد العقل، وقد توفره القرائن. المطلوب العلم، والبقية طرق.
وفي تفاصيل العقيدة ودقائقها مسائلُ الطريق إلى النتيجة الحاسمة فيها ليس سالكاً أمام العقلية العادية المتيسّرة في الناس العقلاء بمستوياتهم المختلفة. ولا يكلّف الله نفساً إلا وسعها.
أما فروع الدّين فمنها الواضح المعلوم للجميع، ومنها ما لا ينال إلا بالاجتهاد الصعب المتوقف على الاختصاص بطريقه الطويل، وجهوده المضنية، وما يتطلبه من مواهب متميزة، وهو ما لا يمكن ولا يناسب أن يكلف به الجميع.
والمجتهدون في الفروع إنما يتوصلون إليها عن طريق التعليل الديني، وليس عن طريق الفلسفة العقلية التي تضع يدها على مقتضيات الحكم وشروطه وموانعه من الناحية الموضوعية والواقعية لتنتهي لإثباته أو نفيه على أساس من تمام العلة أو عدمها بهذا المعنى المذكور.
وعليه فالالتزام الديني لابد له من أرضية تتمتع بالوضوح العقلي والوجداني الكامل وذلك في مرحلة أصول الدين.
ثم يأتي دور التسليم في مرحلة الفروع وخاصة في العبادات كالصلاة والصوم والحج، وهو تسليم لا يأتي من فراغ، ولا ينطلق من سذاجة وعقلية سطحية، وإنما يستمد معقوليته وعقلانيته ووجاهته من تلك الأرضية التي اشترطنا فيها الوضوح التامّ.
فالتوحيد وهو أول وأهم أصل من أصول العقيدة قضية أُلهمت إياها الفطرة، وغرست في وجدان الإنسان، والأدلة العقلية عليها وافرة بالغة، والآيات المؤشرة عليها بل المؤكدة لها في الآفاق والأنفس لا تحصى.
وإذا آمنت النفس بالله ووحدانيته وجلاله وجماله وكماله في ضوء هدى الفطرة، ووضوح الدليل صحّ بل وجب عقلاً ووجداناً أن تتلقى منه أمره ونهيه باستجابة تامة بلا جدل ونقاش.
وإذا دلّ ما تنزّل عن الله عز وجل من وحي الكتاب، وما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وآله الذي لا ينطق عن الهوى على اعتبار أي طريق من الطرق المؤدية للحكم الشرعي ولو كان أداؤه ظنّياً حكم العقل والوجدان بالأخذ به تسليماً لله وتصديقاً بكلمته كلمة العلم المطلق والحكمة والرحمة المطلقتين، ذلك مع استطاعنا أن نفلسف الحكم الشرعي عباديّاً كان أو معامليّاً أو عدم استطاعتنا فلسفته.
والنتيجة التي لا يسع المسلم إلا أن يأخذ بها هي أن الالتزام الديني أساسه العلم ولكنه يحتاج في بعض مراحله إلى التسليم، على أنه ليس تسليم سذاجة ولا سطحية. فما انتهى إلى العلم فهو علم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعل قلوبنا زائغة، ولا أرواحنا مظلمة، ولا نفوسنا ضالّة، ولا حياتنا خائبة، ولا سعينا ضالاً، ولا عاقبتنا خاسرة. اللهم اجعل منقلبنا إليك من خير منقلب كريم، وآمنا في جوارك، وأغننا من عطائك، وزيّنا بنعمائك، وتجاوز عن كثير ما أسأنا، واقبل يسير ما كان منا من طاعة، وضاعف حسناتنا يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
_____________________________
1 – هتاف جموع المصلين بـ(الموت لإسرائيل).

زر الذهاب إلى الأعلى