خطبة الجمعة (325) 10 جمادى الأول 1429هـ – 16 مايو 2008م

مواضيع الخطبة:

*متابعة حديث ذكر الله *لا بناء على باطل *بوش يزور إسرائيل *الوطن والأمّة والدين

العجب لو بقي في دنيا السياسة اليوم عجب أن هذا الرجل – بوش – الذي تعدّه الأنظمة العربية متحيّزاً للعدو أو الصديق الإسرائيلي في معركته مع الفلسطينيين، ومناصراً للظالم على المظلوم، والممِدَّ له بأسباب الظالم، والمحامي الكبير عنه هو الرجل نفسه الذي يقف معه كثير من هذه الأنظمة في خندق واحد كلّما حارب بلداً إسلاميّاً عربيّاً أو غير عربي، أو عادى جماعة من الجماعات الإسلامية، أو تدخَّل في وضع داخلي لبلد من بلدان الأمة ووطن من أوطانها.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي هدى الإنسان للنجدين، وزيَّن له الحق، وقبَّح الباطل، ودعاه للخير، وحذّره من الشرِّ، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب عوناً له على هداه، وتبياناً لما اختلف عليه من الحقّ، وما تشتبه فيه العقول، وأقدرَه على الأخذ بما فيه نجاته، ورفض ما فيه هلاكُه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله و نفسي المخادعة لي بتقواه، واغتنام فرص الحياة في طلب رضاه، فالتقوى خير ما طلبه طالب، وأعظم ما سعى له ساع، وأجل ما يطمح له عاقل، ويناله موفّق.
وفرص الحياة سحابة عابرة، بل الحياة نفسها كلّها كذلك. وقد جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:”يا أبا ذر اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سُقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك”(1).
اللهم وفّقنا والمؤمنين والمؤمنات أجمعين لاغتنام الفرص، واستثمار الحياة، والانتفاع بالنعم في التقرب إليك، والوصول إلى رضوانك، والتأهّل لمزيد رحمتك وإكرامك.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أما بعد فهذه هي آخر حلقة من سلسلة حديث ذكر الله التي مرَّت في هذا المكان:
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ}(2).
“ليس في الجوارح أقلّ شكراً من العين، فلا تعطوها سؤلها فتشغلكم عن ذكر الله”(3).
“إن قسوة البِطنة، وفترة الميلة، وسكر الشّبع، وغرّة الملك ممّا يثبط ويبطئ عن العمل وينسي الذكر”(4).
الطريق لذكر الله مفتوح للقلب المتيقّظ، ولكن على الطريق صوادّ، وعلى الطريق صوارف، وعلى الطريق شياطين وأعوانٌ للشياطين يحولون ما استطاعوا بين القلب وبين ذكر ربّه. وللمرء طاقة، ومسؤوليته أن يستنفذ هذه الطاقة في جهاده في سبيل الله، ودوام ذكره، ومواجهة كيد الشيطان وجنده.
أما بلوغ الغاية، وتحقُّق الغرض، والوصول إلى الله، وعدم الوقوف عند الصوادّ والصوارف ودحر الشياطين فيحتاج دائماً إلى توفيق الله سبحانه وتعالى، والاعتماد عليه، والانقطاع إليه.
هذا الشيطان وهو العدوّ الأوّل يعمل دائماً على أن يملك القلب، أن يحول بينه وبين ذكر ربّه سبحانه وتعالى، وله أدواته وآلياته التي يخادع بها القلب، للاستيلاء عليه {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ}.
الخمر، الميسر، رغبة المال، حاجة الجنس، حاجات الحياة يحاول الشيطان أن ينفذَ من خلالها إلى قلب الإنسان، وغوايته. وهنا دور الجهاد مع النفس، ودور التبصُّر والتأمُّل، والتذكّر، ففي التبصّر والتأمّل والتذكّر عون أتاحه الله عز وجل للعبد على أن يقف الوقفة القادرة أمام إغواء الشيطان وصدّه عن ذكر الله.
وللجوارح نفوذ في عالم الحس، وهي نافذة القلب على هذا العالم بما فيه من مغريات، وبما فيه مما يستثير رغبة النفس، ويستقطب تطلّعاتها الشهوية المادية، والعين جارحة من هذه الجوارح، ولها دورها الكبير في بناء النفس وكذلك في هدمها.
عينٌ تمتد إلى مواضع العظة، ومواضع العبرة، وإلى آيات الله مع تفكّر في هذه الآيات، عينٌ تحاول أن تبحث عمّا يعظ، وعما يزيد من تعقّل النفس، وعمّا يعطي معرفة نافعة تمثّل عامل بناء للنفس، وتكون عوناً للبصيرة على التركّز، وعلى الفاعلية.
ومن أكثر ما يضرّ بقلب الإنسان أن تمتدّ العين إلى ما حرّم الله سبحانه وتعالى، وليس في الجوارح أقلّ شُكراً من العين بما تُحاول أن تمتد إليه من الحرام، مما يثير الشهوة إلى الحدّ وبالطريقة التي تصرف عن ذكر الله سبحانه وتعالى. وكم من نظرة انحرفت بصاحبها الانحراف الكبير، وأخذت به إلى الطريق الآخر. نظرة واحدة كفيلة بأن تهوي بصاحبها إلى النار، وأن تسقط به من علياء شرفه في الناس.
والترويض بعد الاتّكال على الله عزّ وجلّ هو الطريق إلى تأديب الجوارح ووضعها الموضع الصحيح. وهل لا يملك أحدنا عينه؟ ليس إلا أن تغمض لحظة حتّى لا يقع قلبك فريسة لحظة جنون، ولحظة شهوة عارمة تعصف بالعقل والحكمة وكل الخبرة، وقد تعلو في ضغطها قدرة التقوى، إغماضة واحدة قد تنقذك من مصير أسود في هذه الحياة، ومن مصير أسود في الآخرة، ويكفيك أن تغض الطرف عن المحرّم لتحتفظ بدينك، وتنقذ شرفك، وتنجو من النّار.
وقد يسمح أحدنا لبصره بأن يمتدّ إلى المرأى الملفت، القادر على تحدّي النفس وهزيمتها فتنهزم النفس، وتسقط فريسة تلك النظرة، وتزل القدم، ويسقط الشرف، ويكون الاتجاه إلى ما هو أسوأ مصير لهذا الإنسان ألا وهو غضب الله والنار.
وثانية أقول من منّا من لا يملك أن يحبس نظره عمّا يحاول أن يهجم على قلبه فيفترسه من خلال تلفاز أو غيره؟ نحن قادرون لكننا مقصرون.
الغفلة والهوى وطلب الشهرة، حب المال حبّاً جمّاً، والولع بزينة الحياة الدنيا، والانغماس فيها كل ذلك مما يصرف عن ذكر الله سبحانه وتعالى. وما أكبر خسارة النفس، وما أكبر خسارة الشرف، وما أكبر خسارة المصير، وكل ذلك هو النتيجة في الانصراف عن ذكر الله عزّ وجلّ.
هناك ثمرات لنسيان الله، للإعراض عن ذكر الله {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} قد يكون هذا الإعراض بارتكاب مقدمات تؤول بالنفس إلى أن تنسى، إلى أن تنصرف {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}(5).
إذا كان طريق المؤونة في حال الأزمات محصوراً في فلان الموظف لإعطاء المؤونة ونسيك هذا الموظف أو تعامل معك تعامل الناسي، ما الحال؟! وما الحال لو تعامل الله عزّ وجل مع العبد تعامل الناسي له في أشدّ حالات الضيق والحاجة والفزع يوم القيامة، يوم الفزع الأكبر فلا يُمطرُ عليه رحمة، ولا يهبه هدأة، ولا يمدّه بما يغيثه؟!! إذا ترك الله عبداً لنفسه في هذه الحياة فهو السوء كل السوء، وهو العدم كل العدم، فما بال الإنسان لو تخلّى عنه الله وتركه لنفسه في اليوم الآخر؟!!
وقلبٌ بلا مرسى، ولا ركن شديد يؤوب إليه، لا يملك لحظة سعادة، لا يملك استقراراً، لا يملك هدى، لا يملك راحة. وأين المرسى الآمن والركن الشديد؟ من أين يجد القلب الركن الشديد الذي يأوي له فيطمئن، ويثق، ويهدئأ روعه؟ هناك غير الله له قوة، بيده حياة، بيده شيء من خير، بيده أمن؟! فليركن هذا القلب إلى أي شيء من دون الله في حالة انفصاله عن الله فإنّه إنما يركن إلى ضعف، ويركن إلى موت، ويركن إلى فقر، يركن إلى عدم.
القلب إنما يستقر ويطمئن وهو الضعيف والفقير أصلا الذي ليس له حظ في نفسه إلا من العدم، القلب وهذا حاله لا يستقر إلا بأن يكون له ركن شديد، ولا ركن يؤي إليه، ولا ركن يعطي القوة إلا ما اتصل بالله سبحانه وتعالى.
فليكن مال عريض، ولتكن شهرة منتشرة، وليكن سلطان، ولكن القلب وهو يبحث عن مصدر قوّة، عن مصدر أمان، عمّا يمكن أن يُعطي استقراراً لن يجد من كل ما ملكت يد الإنسان ما هو ركن شديد، وما هو مصدر قوة حقيقية، وما هو مصدر بقاء، ومصدر هداية، ومصدر أمن. المال ليس الربّ، من اشتهرت عندهم ليسوا الرب، السلطان ليس الرب، كل ذلك ليس قوة في نفسه، ليس شيئا في نفسه، ليس وجودا في نفسه حتى يركن إليه القلب، القوّة التي لا قوة مثلها وهي بنفسها القوة الحق، والخير الذي لا خير مثله، وهو نفسه الخير الحقّ، إنما هو الله. القوة الحق قوة الله، الخير الحق هو الله، الوجود الحق هو الله، الحياة الحق هو الله تبارك وتعالى.
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ…}(6).
حين يكون الموكول له الإنسان هو أعدى أعدائه، ما حاله؟ والآية الكريمة تتحدث عن إنسان يعشو عن ذكر الله فيكون له قرين من شيطان، والشيطان أعدى أعداء الإنسان. والعشى نوع من العمى، وهو العمى الليلي، والحياة فيها ظلمات، طبقات من الظلمة، والقلب دائماً قابل لأن يعشو في ظلمات الحياة وذكر الرحمن هو النور الهادي الوحيد في كل ظلمة والعشى عن ذكر الله يُسْلَم معه القلب للشيطان، تُسلم النفس للشيطان، وهل الشيطان يُعطي هدى؟ وهل الشيطان يعطي سكينة؟ وهل يدل على خير؟ وهل للشيطان نية خير؟ ففي العشى عن ذكر الله الإنسان يكون تحت يد أظلم ظالم، وأشرّ شرٍّ، وأعدى عدوٍّ وهو الشيطان، وماذا يحمي من هذا الشيطان وأعوانه؟ إنما هو ذكر الله سبحانه وتعالى.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(7).
ماذا ننسى من أنفسنا؟ ننسى عبوديتها، وإذا نسينا عبودية النفس لله نسينا كرامتها، نسينا جنبة النورانية فيها، تعاملنا معها طينا رخيصا هيّنا، نسينا مستواها، مؤهلاتها، ما هو هدفها الصحيح، ما هو دورها المناسب، ما هي و ظيفتها في الحياة، أي مرتقى تستطيع أن تصل إليه، وحين يتعامل الإنسان مع نفسه شيئا رخيصا وحشرة قذرة لا تعرف إلا العيش في وحل المادة، وشهوات الأرض من غير أن يشفّ لها قلب، ومن غير أن تتجاوز لها روحٌ حدود المادة، ومن غير أن تعرف الله فقد أضاع نفسه، وقد خسر نفسه، ومن نسي الله عز وجل أنتج الله عز وجل له هذه النتيجة بقوانينه وبعدله وبحكمته جزاءً وفاقاً وهي أن ينسى نفسه، شرف نفسه، مكانة نفسه إلخ، فيأتي منه أن يبيعها بأدون الدون، وأرخص الرخص، ونختار لها أن تكون واحدة من أهل النّار.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل قلوبنا مشغولة بذكرك، مطمئنة إليك، مشتاقة إلى قربك، عامرة بحبّك، فرحة بلقائك، اللهم إنا نسألك خير ما سألك عبادك الصالحون، ونعوذ بك مما استعاذ منه عبادك المخلصون يا أرحم من كل رحيم، ويا أكرم من كل كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي من توكّل عليه أحسبه وكفاه، ومن تقرّب إليه زاده من رحمته وهُداه، ومن أخلص له الطّاعة أجزل ثوابه وأرضاه، وأكرمه وأعلاه، ومن كابره قمعه وأرداه.
نحمد الله العليّ العظيم حمداً يجنّبنا غضبه، وينقذنا من عذابه، وينيلنا قربه، ويورثنا الكرامة لديه، والمنزلة الرفيعة عنده.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله ألا فلنتّق الله؛ فما أسمى نفساً غنيت بتقوى الله، وما أشرقها نوراً، وأسعدها وأهداها. وما أحطّها نفساً لم تعرف من تقوى الله شيئاً، وما أشدّها ظلمة، وأضلّها، وأشقاها.
طاعة الله ومعصيته لا يلتقيان اتجاهاً ولا أثراً ولا نتيجة. الطاعة عروج في اتجاه الكمال، والمعصية انحدار إلى الحضيض، وآثار الطاعة تركُّزٌ في ملكات الخير، واستضاءة بنور الهدى، ويقين، وطهر، وسمو، وراحة نفس وضمير، وقدرة صعود.
أما آثار المعصية فاستحكام لملكات الشر، وفقدُ هدى، وزعزعةُ نفس، ورجسٌ، وسقوط واضطراب، وتهاوي قوى ونكوص.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. وثبت في قلوبنا حبّ طاعتك وبغض معصيتك، وارزقنا من عزم الطاعة وتوفيقها ما يجعل حياتنا كلّها في مرضاتك، وانأ بنا عن كل ما يسخطك ويباعد عنك يا رؤوف يا رحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حجج الله على عبادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المنتظر القائم المهدي.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك وانصرهم نصرا عزيزا كريما مبينا ثابتا دائما.
أما بعد أيها الإخوة الكرام فإلى هذه الكلمات:
لا بناء على باطل:
لا بناء على باطل في قضايا الفكر، ولا بناء على باطل في قضايا العمل، ولا بناء على باطل في قضايا الجزاء من مثوبة وعقوبة. هذا ما عليه العقل، وهذا ما يحكم به العدل، وهذا ما يذهب إليه ضمير الإنسان، وهو ما يحتج به العقلاء من كل المشارب. وما يتفرع على الباطل باطل.
وقد جاء عن اللجنة الطبيّة المكلفة بالفحص على متّهمي أحداث ديسمبر حسبما هو عن جريدة الوسط في عددها 2075 بتاريخ الإثنين 6 من جمادى الأولى 1429هـ: رجّحت اللجنة الطبيّة المكلّفة بالفحص على متهمي أحداث ديسمبر/ كانون الأول الماضي وجود معاناة وآلام وندبات وحروق على أجساد المتّهمين الخمسة نتيجة تعرضهم إلى الأغلال والتعليق والتعذيب بحسب الادعاءات التي أوردها المتهمون، وذلك لعدم وجود أسباب أخرى كما بيّنت اللجنة الطبية أثناء استجوابها أمس (الأحد) أمام هيئة المحكمة الكبرى الجنائية”.
وإذا قرأت استجواب النيابة العامّة الذي أجاب عليه الاستشاري علي العرادي عن اللجنة الطبية وجدتَ أن ترجيح اللجنة لما ذكرته صحيفة الوسط متكرراً في الإجابة على أسئلة المستجوب عن النيابة العامة.
هذا ومعاينة اللجنة الطبيّة إنما جاءت بعد أشهر من عمليات التعذيب التي تعرّض لها الموقوفون. وكان الله في عونكم أيها الشباب في معاناتكم المرّة.
هذا حظ موقوفي ديسمبر من التعذيب الظاهرة آثاره بعد شهور، فما حظ الدفعة الأخيرة المرتبط توقيفها بحادث قتل الشرطي الغامضة وقد رافقها من تهويل الإعلام ما رافقها؟!
والتفنن في التعذيب بألوانه المختلفة هو قاعدة الاعترافات الزائفة التي هي مستند الإدانة والأحكام الجزائية والعقوبة الصارمة المترتبة عليها.
فهل يمكن أن يوثق بشيء من هذه الإدانات والأحكام؟! وهل يمكن للشعب أن يستقبلها بصمت؟! المطلوب العدالة ولا عدالة في أحكام أساسها الاعتراف تحت ألم السياط، وألوان العذاب. والحقُّ أن المعذِّب لابد أن يحاكَم، وتوقّع عليه العقوبة. هذا لو كنّا نملك قوانين عادلة، وجهازا تنفيذيا عادلاً
ولكن أين العدل؟! أين العدل؟!
بوش يزور إسرائيل:
يزور بوش هذه الأيام الصهاينة والإسرائيليين في أرض فلسطين في الذكرى الستين لاحتلالهم الأرض الإسلامية العربيّة ليشاركهم فرحتين: فرحة توفُّرهم على الأرض المغتصبة، وفرحة تشريد الملايين من أبناء المسلمين في فلسطين، وليؤكد لهم الموقف الداعم المحتضن الدائم من أمريكا للاحتلال وتشريد ما قد يزيد على ستة ملايين إنسان من ديارهم، وكل الجرائم البشعة التي يمارسها الصهاينة في حق أبناء غزّة والضّفة الغربية، وليطمئنهم بأنهم ليسوا الشعب المحتل الذي قد يزيد قليلا على سبعة ملايين كما يُنسب إليه القول بل الصهاينة هم جزء من جبهة عريضة جزؤها الآخر كل الشعب الأمريكي والإمكانات الأمريكية وترسانة السلاح الأمريكية؛ فكل ذلك يضاف إلى إسرائيل في مواجهتها لأي عمل إرهابي كما يسمّيه، والمقطوع به أن أي دولة عربية تدخل في مواجهة إسرائيل هي إرهابية وموغلة في الإرهاب في النظر الأمريكي، ولو جرّتها إسرائيل للحرب جرّاً(8).
والعجب ليس هنا، وإنما العجب لو بقي في دنيا السياسة اليوم عجب أن هذا الرجل الذي تعدّه الأنظمة العربية متحيّزاً للعدو أو الصديق الإسرائيلي في معركته مع الفلسطينيين ومناصراً للظالم على المظلوم، والممد له بأسباب الظلم، والمحامي الكبير عنه هو الرجل نفسه الذي يقف معه كثير من هذه الأنظمة في خندق واحد كلّما حارب بلداً إسلاميّاً عربيّاً أو غير عربي، أو عادى جماعة من الجماعات الإسلامية، أو تدخل في وضع داخلي لبلد من بلدان الأمة وأوطانها.
بوش عدو في إعلام عدد من الأنظمة العربية في القضية الفلسطينية، ولكنه الصديق والمحامي والمشفق على المسلمين، على العرب حين يقف ضد دولة إسلامية أو ضد جماعة إسلامية، بوش ظالم، وموقفه معاد للأمة في القضية الفلسطينية على مستوى إعلام هذه الأنظمة ولكنها لا تُصادق إلا من صادق، ولا تُعادي إلا من عادى حتى في دائرة القضية الفلسطينية نفسها، فحماس والجهاد وكل حركة تذهب مذهبهما في المقاومة كلهم مستبعد ومتهم، وعباس وحكومته مقرّبان ولهما التأييد والدعم. وعلى هذه فقس ما سواها.
حقّ لك أن تعجب لما ترى ولما تسمع من أقوال وأفعال يجتمع ليلها ونهارها في وقت واحد ومكان واحد وبمعنى واحد وبكل ما يحقق التضاد الصريح.
وحق لك أن لا تعجب بعد كل الفساد الذي أصاب جنبات الحياة بعد النَّفس.
وهل في شعوب الأمة من يقبل هذه التهافتات، ويرى بوش عدواً للأمة وصديقا لها في وقت واحد بل قائداً لها في الحرب والسلم، وأن صديق الأمة من صادقه بوش وعدوّها من عاداه؟!
وهنا أقول لك كذلك اعجب لأن الأمر غريب لا يصدّق، ولا تعجب لأن فعل الإعلام والدولار والدينار والعصبيّة العمياء لا يكاد يصعب عليه شيء، ويكاد أن يُصدَّقَ على فعله المستحيل.
الوطن والأمّة والدين:
1. ما هي العلاقة بين الثلاثة؛ علاقة تنافر وتضاد في الوجودات والمصالح، أو علاقة تلاقٍ وتوافٍ وترابط؟
والكلام عن وطن هو جزء بوجوده البشري الأغلب من أمة هي الأمة الإسلامية، وجزء بأرضه من الوطن العام الإسلامي – إذا لم يعترض البعض على التسمية – وعن أمة هي الأمة التي تحدّث عنها القرآن الكريم والسنة المطهرة بصورة محدّدة المعالم من حيث الرؤية الكونية الواحدة، وأخوّةُ الدين الواحد، ونمطُ العلاقات، وترابط المصالح، ووحدة الهدف، ومن حيث النظام العام في أبعاده المختلفة، وتبادل المسؤولية الدفاعية، وحفظ الدين وتبليغُه والدعوةُ إليه، والذّودُ عنه، والنهوض بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء المشترك المتبادل بين المسلم وأخيه المسلم. فكل ذلك وما هو أكثر منه الأمة فيه كيان واحد.
والدين المعنيُّ في العنوان هو الدين الإسلامي، دين الفطرة التي فطر الله النّاس عليها، ولا تبديل لخلق الله.
وكونُ الأمّة الإسلاميّة في القرآن الكريم، والسّنة المطهّرة للمعصوم الأول وهو الرسول (ص) واحدة في أصولها العقيدية العامة من التوحيد والعدل – إذ لا يقبل مسلم أيّاً كان أن ينسب الظلم ملتفتاً إلى الله سبحانه متخذاً ذلك عقيدة باسم الإسلام – والنبوَّة والمعاد، وواحدة في أصول عباداتها ومجمل هيئات تلك العبادات بغض النظر عن التفاصيل الجزئية الاجتهادية، وواحدة في مرجعيتها السياسية العامة وإن اختُلف على أخذ وصف العصمة وعدمه فيمن هو الإمام أو الخليفة، وأنه معيّن بشخصه أو بوصفه، وكون أرض الإسلام واحدة وإن اتسعت رقعتها وتعددت القوميّات والشعوب واللغات عليها؛ ضرورةٌ من ضرورات الإسلام التي لا يليق التشكيك فيها.
2. انقسام الأمّة إلى كيانات سياسية متعددة خروج على الأصل المسلَّم به بلا ريب، وقد تم في الكثير تحت ضغط الأجنبي وبتخطيطه. وكون هذا الانقسام واقعاً شاخصاً مسألة لا تحتاج إلى تنبيه ولا يمكن إنكاره، ولا تجاوزه عملاً، ولا التخلص منه في المدى المنظور، وهو لا يبيح لنا أن نضعف أي وطن من هذه الأوطان المتشظية التي أفرزتها الانقسامات المتوالية، أو الإخلال بمصالحه الحقيقيّة، وأمنه المشترك.
ولكن كل ذلك لا يحوّل حالة الانقسام والتمزّق أصلاً إسلاميّاً، فالأصل الإسلامي هو الوحدة، ولا يقلب واقع ما عليه الإسلام من تصور وهدف في هذا المجال، ولا يصح لنا أن ننظّر له، ونُحاول بصورة غير علمية تبريره وتركيزه، والدعوة إليه.
والعودة بالأمة إلى واقعها السياسي الوحدوي يحتاج إلى مدى بعيد، وجهود مكثّفة تثمر وعياً كافياً، وقناعة عامة أو واسعة إلى الحد الذي يشعر معه المسلمون جدّاً بضرورة هذا الأمر ديناً وواقعاً، ويتقبلونه من داخل أنفسهم، وليس الطريق إلى ذلك هي النزاعات الحدودية، والصراعات المادية على الأرض، والبحور الغزيرة من دماء المسلمين مما يضرّ بوحدتهم وقوتهم أكثر مما هم عليه، ويؤثر سلباً لا إيجاباً على ما تبقّى من وحدتهم الفكرية والشعورية.
3. ونعطف على السؤال الرئيس في هذا الموضوع، والمتعلق بنمط العلاقة بين الوطن الإسلامي الخاص والعام والدين.
والواضح أنّه مع كون الوطن الخاص إسلاميّاً، والأمة إسلامية، والوطن العام إسلاميّاً، لا وجه للتصادم والتنافي في المصالح من هذه الجهة وولا خلل في صدق هذا العنوان على الموصوفات الثلاثة: إذ مع صدق الوصف يكون الإخلاص للوطن الخاص، وعلى الطريقة الإسلامية ملتقياً تماماً مع مصلحة الأمة، ومصلحة أي وطن آخر إسلامي، وفيه دعمٌ وقوة للدين، ويمثل أخذاً بحكمه، واستجابة له.
والحقّ أنه لا تنافي ولا تصادم بين الكيان العام والخاص من وطن وأمة إلا بمقدار ما يتباعد هذا الوطن أو ذاك من الأوطان الإسلامية الخاصة عن الإسلام، ومقدار تبعيته لإرادة الأجنبي ونفوذه وتدخلاته.
وهذا هو المستنقع الذي تردّى فيه واقع المسلمين في الأكثر اليوم، وهو ما يمثّل خسارة فادحة وخيانة كبرى للأمة والوطن الإسلامي العام، وكذلك الأوطان الإسلامية الخاصة على حد سواء.
4. وموقف المسلم الملتزم بإسلامه إزاء هذا الواقع المتردّي والمعقّد لابد أن يهتدي كما في كلّ الأحوال بهدى دينه، ونور شريعته؛ فيعمل في صالح وطنه الخاص بما يُرضي الله سبحانه، ولا يتساهل في حفظه ودرء الشرّ عنه، وهذا الموقف الذي يفرضه الإسلام في حق الوطن الخاص هو نفسه الذي يفرضه في حق الوطن الإسلامي كلّه والأمة من دون أن يتهافت الأمران ما دام المستفتى هو الإسلام، والمنظورُ في الموقف هو الله سبحانه.
فينتج أنه لا تفريط بمصلحة الوطن الخاص، ولا تآمر على حسابه، ولا بمصلحة الوطن العام والأمة، ولا تآمر على حسابهما، بل رعاية وحفاظ وإخلاص وذود عن كل هذه الكيانات المتلاقية المتوافية ربحا وخسارة في نظر الإسلام، وأحكامه الشرعية الصادقة.
وإنك لتلاحظ كثرة كلام في هذا الوطن عن حب الوطن وولائه والإخلاص له، وكأن الأرض لتهتز بأهلها لكثرة المعادين للوطن من أبناء الشعب المتآمرين عليه الداخلين في عمليات بيع له، أو كأن حب الأوطان مسألة فلسفية جديدة تحتاج إلى دروس مكثّفة وتنظيرات تغتال حقائق إسلامية وتطمسها، وكأن هناك تناقضا بين الإسلام بكل حقائقه الثابتة وبين مصلحة أي شبر من أرض الإسلام، وأي فئة صادقة من أبنائه حتى لا نستطيع تركيز حب الوطن ورعاية مصالحه، ودرأ الشر عنه إلا بطمس أو تشويه تلك الحقائق الإسلامية الواضحة الكبرى، وكل ذلك غير صحيح وغير وارد.
ومنذ بعيد والحكومات العربية والإسلامية هي التي تبيع الأوطان والثروة وعز الأمة وكرامتها والإنسان، وعلى من بيعُها؟! على أعدى أعدى الدين والأمة والإنسان، على المستبكرين على الله المسترقِّين لعباده.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين. اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجميعن وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأيد حماة دينك، والمجاهدين في سبيلك، واقمع رؤوس الكفر والنفاق والطغاة المستكبرين في الأرض، الساعين فيها بالفساد، والمحاربين لصالحي العباد، المضادين لدينك، والمنازلين لقدرتك، يا من هو على كل شيء قدير، وبالإجابة حقيق جدير.
اللهم ارزقنا خير الدنيا والآخرة، وجنّبنا شرهما، برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الأنوار ج74 ص75.
2 – 91/ المائدة.
3 – ميزان الحكمة ج 3 ص430.
4 – بحار الأنوار ج75 ص129.
5 – 124، 125، 126/ طه.
6 – 36/ الزخرف.
7 – 19/ الحشر.
8 – هتاف جموع المصلين بـ(المموت لأمريكا) و(الموت لإسرائيل).

زر الذهاب إلى الأعلى