خطبة الجمعة (317) 13 ربيع الأول 1429هـ – 21 مارس 2008م

مواضيع الخطبة:

*حديث في موضوع الذكر *هذا دين محمد (ص)

تنمية هذا الإنسان فكريا، شعوريا، روحيا، قلبيا، أن يزكو، بمعنى أن ينمو داخله في كل أبعاد داخله النماء الصالح، هذا هو إعمال الإنسان، هذه هي التنمية البشرية الحقيقية، هذا هو العمل الرسالي الكبير الذي يستهدف صناعة الحياة القويمة من خلال صناعة الإنسان القويم.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي ذكره شرفٌ للذّاكرين، وشكره رحمةٌ للشّاكرين، وطاعتُه نجاةٌ للمطيعين، وعبادته فوزٌ للعابدين، وإحسانه لأهل محبّته فوق تصوّر المتصوّرين، وجزاؤه لمن رَحِمَ لا يبلغه جزاء المحسنين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسُّوء بتقوى الله، والصّبر على الأذى في سبيله؛ فإنه ليس مثل جزاء الله جزاء، ولا أذى في سبيل الله يوازي جزاءً من عنده، فكلُّ أذى من أذى الدنيا منقضٍ، وثواب الآخرة مقيم، وليس لمعرفة نفوسنا بما أصابته من لذائذ مادة وروح في الدنيا ما يبلِّغها تصورَ أو توهم لذائذ تختص بها الآخرة، وتفوق كلَّ ما تقدِّمها تجارب هذه الحياة من لذائذ. وإن الله عز وجل لا يخلف وعده، ولا يكذب عبده، ولا ينقض عهده.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا هداية إلا لمن هديت، ولا ثبات على الحق إلا لمن ثبّت، ولا صبر عن معصية ولا على طاعة إلا لمن صبّرت، ولا خلاص من سوء إلا بك، ولا نيل لخير إلا من عندك، فافعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله، يا أكرم الأكرمين، ويا أجود المعطين، ويا أرحم الراحمين.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات من المؤمنين والمؤمنات الأعزاء فإلى حديث في موضوع الذكر:
{الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(1).
ما هو ذكره سبحانه؟ أن يعيش القلب الشعور المفعم له بعظمة الله سبحانه، بعلمه الذي لا يحدّ، بقدرته التي لا تعجز عن شيء، بما يُتاح للقلب أن يصل إليه وهمه وخياله من عظمة، من جلال، من جمال، من كمال، لا يُقدّر الله عز وجل بقدره؛ فالله فوق كل ما ذهب إليه وهم الإنسان من كمال وجمال وجلال.
أن ينشغل القلب بما يستولي عليه من الإيمان بقدرة الله سبحانه وتعالى، بفاعليته، بإرادته، بأنه يحول بين المرء وقلبه عن كل قدرة، بخوفه عن كل خوف، وبرجائه عن كل رجاء.
ذكر القلب لله أن إذا قامت عظمة شيء في نفسه اندكّت أمام عظمة الله عز وجل، أن إذا ذهب وهمه إلى قوّة، أو وقفت به الحياة على قوة قوي، على علم عالم، على جمال علم، على كمال أي شيء عاش هيمنة ذكر الله عز وجل التي تنسيه كل جمال، وكل كمال، وكل جلال، وكل قدرة، وكل علم.
ذكر القلب لله عز وجل أن يصغر في شعوره كلّ كبير أمام عظمة الله، وأن تذوب كل الأوزان والأحجام والأقدار أمام العظمة الإلهية اللامتناهية، وأن يرى يد الله وتمكينه سبحانه وراء كل فعل، ووراء كل حدث، ووراء كل الأسباب القريبة والبعيدة من وراء ذلك الحدث.
ذكر قلب العبد لربه سبحانه وتعالى يجعل ذلك القلب لا يغيب عن أسر عبودية العبد وذل عبوديته، وعن طلاقة حرية الرب تبارك وتعالى وعزة ربوبيته؛ فلو كنت ذاكرا حقّاً في أي لحظة لم تغب عن قلبي عبوديتي وذلها، وربوبية ربي وعزها وكبرياؤها.
الآية الكريمة تقول {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أليس العبد فقيراً، محدوداً، لا يملك لنفسه وجوداً ولا حياة، ولا نفعاً ولا ضراً؟ العبد المقطوع عن الحياة في نفسه، المقطوع عن الوجود في نفسه، العبد العدم في نفسه يفتش عن وجود، عن استمرارية وجود، عن استمرارية حياة، عن مصدر يقوى به، يحتمي به، يتكل عليه، يفتش قلب العبد في كل الآفاق، في كل مساحة الممكن فيجد أن كل الممكنات، وأن كل المخلوقات شأنها شأنه، فيبقى مضطرباً، يستولي عليه القلق، الخوف، الهلع، الشعور بالفاقة، الشعور بالنهاية الأبدية، يبقى يطلب الاطمئنان فلا يجده حتى يعرف الله عز وجل، ويشتغل بذكره فلا يجد فيه إلا القوي الذي لا يُغلب، العليم الذي لا يذلّ، الرحمن الرحيم، المريد الفعّال لكل ما يريد، فهنا تدخل قلبه السكينة، ويشعر بالراحة، وينتهي قلقه، وكلما تعلق بالله، وكلما تمتنت علاقته به، وكلما انشد إليه وجد من نفسه أنه أقوى، وتوفر على ثقة أكبر بالديمومة والقوّة والحماية والهناءة والسعادة.
ويؤكد لنا الله عز وجل أن الذكر دواء القلب { أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} اللجأ إلى غني من أغنياء الناس، إلى جبهة من الجبهات القوية، إلى كيان من الكيانات المتينة، إنّما تعطي شيئا من الطمأنينة للقلب الغافل، للقلب الناسي، غير الملتفت، فحالما تجد أن من استندت إليه لا يملك وجوده ولا حياته، وليس لها استقلال في أمر من أمره يسقط في يدك، ويرجع الخوف للقلب، تنتهي السكينة، ويسيطر القلق.
فلا طمأنينة حقّاً إلا بالانشداد إلى الله، بتأكيد التعلق به، بالاندكاك والذل والمسكنة بين يديه.
أتستطيع أن تستكبر على التمسّك بحبل مثبّت في سارية رفيعة وأنت في الفضاء؟ كم سيكون تمسكك بهذا الحبل؟ تعلقك به؟ وما هذا إلا مثل صغير أمام حاجة التعلق والتدلي برحمة الله سبحانه وتعالى وطلب فيضه.
{يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}(2).
تعلّقنا بأي قوي، بأي علاقة، بأي صلة، بأي كيان، بأي رصيد مصرفي، بأي حالة من الصحة، بالعشيرة، بالشعب، بالرأي العام، بأقوى قوة من دون الله سبحانه وتعالى هو عين الخسران، لأن كل شيء لا شيء إلا الله.
في الدعاء:”وأستغفرك من كل لذة بغير ذكرك، ومن كل راحة بغير أنسك ومن كل سرور بغير قربك، ومن كل شغل بغير طاعتك”(3).
لماذا هذا الاستغفار؟ أن أنس بأهله، بعروسه، أن تعلق بعلم، بأن يكون الفقيه الكبير، المحلل السياسي الدقيق، غير ذلك، لماذا إذا جالس مؤمناً فُسَّره به يأسف زين العابدين عليه السلام ويستغفر؟ يستغفر من كل ذلك حين يقف به النظر والهم والأنس والذكر والسرور عند غير الله مقطعاً به عنه سبحانه وإن عظم ذلك الغير في العيون؟ هي لحظات غفلة، ولحظات سقوط وخواء، وما تغفل النفس، وما يسقط القلب، وما تصاب الروح بالخواء إلا لصغار، إلا لدونية؛ هذه لحظات انفصال عن ذكر الله، والله لا ينبغي في الحقّ للقلوب أن تنفصل عن ذكره لحظة. القلوب الواقعة في الغفلة عن ذكر الله قلوب خسرت الارتباط بالجمال الأكبر، والقوة الأعظم، بمصدر الخير، بمصدر الكريم النافع كله.
عن الرسول (صلى الله عليه وآله):”إن ربي أمرني أن يكون نطقي ذكرا، وصمتي فكرا، ونظري عبرة”(4).
لأنه بهذا يكون الإنسان الموجود، وليس الجسد الموجود فحسب، وبهذا يكون حيا حقا، وواعيا حقا، ومحلقا حقا، وسعيدا حقا.
والرسول لابد أن يكون حسب وظائف رسالته، وتكاليف رسالته الموجود الحاضر، الحي، المحلق، الواعي، العارف الكبير كل حياته. وما خوطب به الرسول صلى الله عليه وآله بخصوصه، وخوطب به إنسان يكلّف كل حسب طاقته هو أن يكون موجودا، حيا، حقا، واعيا حقا، محلقا حقا، وذلك لا يكون إلا بذكر الله، بالانشداد إلى الله عز وجل، بارتباط القلب وتعلّقه بخالقه العظيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل ذكرنا لك موصولا، وشكرنا بنعمائك دائما، واحرسنا من الغفلة والسهو عن ذكرك، ومن الإهمال والنسيان لشكرك، ومن خداع النفس ومكر الشيطان الرجيم، ومن كل فتنة مضلة، وقنا صوارف الذكر، ومكدرات الإيمان، وما يقلق اليقين، ويحرم من هداك برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم ارزقنا خير الدنيا والآخرة، واكفنا شرهما يا أكرم الأكرمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي غلب بقهره كله شيء، وذل لجبروته كل شيء، فلا شيء يملك مضادته في ملك، ولا منازعته في سلطان، ولا مواجهته في قضاء وقدر، ولا ممتنع مما جرى به حكمه، واقتضته مشيئته، ولا يشركه أحد في أمره، ولا تدبير في الوجود غير تدبيره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتق الله، ولا نعصه بنعمه، ونحارب بها دينه، وكم من عاص لله عز وجل بما أنعم الله عليه، ومحارب له بآلائه، ومنتصرٍ لأعدائه بما وهبه من قوة، ومرصد لأوليائه بما أتاح له من فرصة. وهل عصى اللهَ القويَّ العزيز عاص أو يعصيه إلا بنعمه؟! وهل تمرد متمرد على جبار السموات والأرض أو يتمرد إلا بما منحه ومكنه؟! ألا من عقل سليم، ألا من وجدان حي، ألا من حياء من رب العالمين، ألا من تفكير في العاقبة، ألا من إشفاق من هذا الإنسان على نفسه، يكون له فيه حاجز عن معصية الله؟
وهل استغنينا عن خالقنا؟ أو أمنّا عقابه، أو وجدنا من أنفسنا القدرة على درأ عذابه؟ أو تحمل شديد غضبه؟!
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنه لا حول ولا قوة إلا بك، ولا قدرة لنا على سخطك، ولا طاقة لنا على عذابك، ولا مفر لنا من عقابك، ولا مهرب من عدلك إلا إلى رحمتك، فإليك نلجأ وبك نعوذ، وبرحمتك نلوذ، فجنبنا معصيتك، وألزمنا طاعتك، واجعل نعمك عندنا وسيلة إلى بلوغ رضوانك، ونيل جنتك، والفوز بالكرامة لديك يا أكرم من سئل، وأجود من أعطى، يا من هو على كل شيء قدير.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا قريبا مبينا.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات المؤمنين والمؤمنات فالحديث هذا اليوم تحت عنوان هذا دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم):
كلمة موجزة عن أهداف الرسالة، وأخرى عن القاعدة التي تتتحرك ضمنها الأساليب الرسالية، ثم عن أسس العلاقات الداخلية والدولية في الإسلام، والركائز والمبادئ العامة لهذه العلاقات كما نجدها في القرآن الكريم. والحديث على مستوى القرآن الكريم دون السنّة المطهّرة.
أهداف الرسالة:
وحدة العالم: والمحور هو توحيد الله سبحانه وتعالى، ولا شيء يوحد هذا العالم، ويرتقي به، ويعالج مشاكله كما هو محور التوحيد، وهذا موضوع بحث طويل لسنا بصدده.
{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا}(5) وهو خطاب القرآن الكريم لكل العالم، لكل الملل، لكل الناس كذلك. “قولوا لا إله إلا الله تفلحوا”(6) كما هي الكلمة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الحرية المشتركة: {ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله}(7) وحين تنتهي الربوبيات الكاذبة، والطاغوتية في الأرض تكون حرية الإنسان الصادقة.
نشر الرحمة على عموم العالم وفي كل الأبعاد من فكر، وشعور، من أوضاع نفسية، أوضاع فكرية، أوضاع عملية، أوضاع خاصة، أوضاع عامة {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(8). الرحمة التي يحتاجها الإنسان ليست رحمة غذاء جسدي فحسب. إنه يحتاج الرحمة في كل أبعاده، ومساحات حياته وحاجته لا يسدّها إلاّ فيض الله سبحانه وتعالى وتعاليمه، ومن ذلك الرسالة والرسول، والإمامة والإمام.
{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}(9) فكر الرسالة، وموازين العدل الإلهي والقيادة من اختيار الله سبحانه أسس ضرورية لقيام حضارة إنسانية كريمة عادلة. وإنه سخف، وإنه عبث، وإنه وهم وخيال أن تبحث عن حضارة إنسانية عادلة راقية وراءها فكر ساقط، وموازين مضطربة، وإمام هابط.
التنمية البشرية: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}(10) تنمية هذا الإنسان فكريا، شعوريا، روحيا، قلبيا، بأن يزكو، وينمو في كل أبعاد داخله النماء الصالح. هي التنمية البشرية الحقيقية، وهذا هو العمل الرسالي الكبير الذي يستهدف صناعة الحياة القويمة من خلال صناعة الإنسان القويم.
{يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا}(11).
تقود القلوب، تقود النفوس، تقود العقول على الخط الواضح النير الوضاء.
{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}(12) كل ما في الداخل من ظلمة تتبدل إلى نور، ومن ضعف يتبدل إلى قوة، ومن ضلال يتبدل إلى هدى، ومن ضياع يتبدل إلى ارتباط واضح، وإلى قدرة على توظيف هذه الحياة على الخط الصاعد لله سبحانه وتعالى {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}.
الحفاظ على سلامة البيئة العامة: والتنمية البيئية وظيفة من وظائف الرسالات الإلهية {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين}(13) وصلاح الأرض له بُعدان: الصلاح المعنوي بصلاح الإنسان، والبعد الثاني هو صلاح البيئة التي يعيشها الإنسان ويتعامل معها، ويحتاجها في استمرار قيامه بالدور الخلافي في الأرض. وفي الآية إعلاء من قيمة إصلاح الأرض، ومواجهة لعمل الإفساد.
{ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين}(14) وتجدون أن وظيفة الإصلاح والنأي عن الإفساد تربطها الآيتان الكريمتان بحالة الإيمان {ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين} وحالة الإحسان “إغن رحمة الله قريب من المحسنين” إنه من الإحسان، إنه من الإيمان، إنه من دور الخلافة في الأرض الذي كلّف به الإنسان أن نصلح الأرض ولا نفسدها.
{ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}(15) لابد من الرجوع إلى الخط الصحيح، خطّ القيم والتشريع الإلهي في كل التعاملات، خط الإعمار، خط إصلاح البيئة، والمحافظة على البيئة، ولذلك تأتي تجارب قاسية في حياة الإنسان تؤدبه وترجع أو تقترب به إلى الخط الصحيح في التعامل الإيجابي العادل والحكيم مع البيئة وأخيه الإنسان.
{فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم}(16) بناء علاقات إنسانية متينة تخلق بيئة موائمة لتقدم الإنسان واحدٌ من أغراض الرسالة، وسيلة من وسائل هذا البناء، وهي والأرحام تمتد من مسافة إلى مسافة، وتتسع من مساحة إلى مساحة، فإذا كان الحفاظ على الأرحام واجبا، وعلى كل الناس فمعنى ذلك أن تقوم علاقات إيجابية متينة بين كل الناس تعم كل المجتمع الإنساني في محطيه الكبير. فالرسالة الإلهية من أهدافها أن تقوم علاقات إيجابية كريمة بين الإنسان وأخيه الإنسان، كما أن من وظيفة الرسالة أن تضع هذا الإنسان على خطّ هذه العلاقات عمليّاً.
الأساليب الرساليّة:
أما الأساليب فهي تتحرك في دائرة نظيفة ولا مكان للأساليب القذرة في العمل الإسلامي {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(17) وهذا النهي يعم الأساليب، ويحدد نوعية الأسلوب في العمل الإسلامي؛ يوافق على نوعية، ويرفض نوعية أخرى، تقول الآية الكريمة {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فالنأي عن الأساليب الساقطة، الأساليب القذرة، الأساليب الضارة، الأساليب المحرمة أمر دين، وهناك قاعدة لا يختلف عليها اثنان من المسلمين (لا يُطاع الله من حيث يُعصى).
ثم لا للانفعال {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}(18) ولو بحثت بصبر لوجدت الكثير مما يحدد دائرة الأسلوب في العمل الإسلامي(19).
أسس العلاقات الداخلية والدولية:
الداخلية وهي المتحركة في إطار المجتمع المسلم. والدولية وهي المتحركة في إطار الدولة الإسلامية والدول الأخرى غير الإسلامية.
الأساس الأول: عدل وإحسان: فإن لم يكن إحسان فعدل. وهذا لا يخص المسلمين، بل يعم التعامل مع كل الناس. {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ…}(20)، {يا أيها الين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}(21) المطروح في كل النصوص التي تمثل النظام الإسلامي دين، وليس أحكاماً منبوذة وقواعد مفصولة عن رضا الله سبحانه وتعالى، هذه قواعد يرتبط بها رضا الله عز وجل. الطرف الثاني عدو ومرتكب لما يجعله مبغوضا عند الإنسان المسلم، إلا أنه يجب أن لا يشط خطأ الآخر بالمسلم عن خط العدل في التعامل معه {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} هناك رقابة من الله، هناك حساب، هناك عقاب إن عدلتم عن هذا الخط الإلهي إلى خط الأرض خط الظلم والجور.
{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} تؤكد الآية بذيلها “إن الله يحب المقسطين” على القسط لأنه مطلق، فسواء أخرجونا من الديار أو لم يخرجونا من الديار، قاتلونا أو لم يقاتلونا، القسط لابد منه. الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا لا ينهانا الله عن البر بهم، والإحسان إليهم، مع تأكد القسط في حقِّهم.
لا عدوانية في الإسلام:
{ولا يجرممنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا…}(22) ترفع مستوى الخطاب {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم…}(23).
مبدأ التعاون وعدم التعاون: {… وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب}(24) هذا التعاون مع من؟ التعاون مع الداخل الإسلامي، وكذلك مع الآخر. يمكن أن نتعاون مع دولة أخرى غير إسلامية ولكن على البر والتقوى، ونشر الصلاح والأمن والعدل والحق في الأرض، أن نخفف من مأساة الإنسان، أن نفتح الباب لإنقاذه، أن نطفئ نار حرب تحرق الأخضر واليابس من بلاد الكفر والإسلام ولا تصحح أوضاع الأرض، أن نعدل عن حرب إلى سلم لا يغضب الله سبحانه. {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} لا مع مسلم ولا كافر. فلا تعاون من المسلم على الإثم والعدوان ولو كان مع مسلم على كافر.
التبادل الحضاري الإيجابي:
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى}(25) ذكر الخلق من ذكر وأنثى هنا لذكر وحدة النسب الأصل، فمهما تباعدت الأنساب الفرعية فالنسب الأصل واحد، فهناك رابطة الأصل الواحد وعلى الإنسان أن يحترم هذه الرابطة أياً كان الإنسان الآخر.
ثم جاء جعل الشعوب لحكمة إلهية، ولمصلحة هذه الأرض، والآية الكريمة تبين الغاية {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} لا لتتباعدوا، لتنخلق العلاقات الإيجابية الهادفة البنّاءة، التي تثري هذه الحياة، وتحافظ على استمراريتها، ويسعد في ظلها الإنسان.
{.. لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الآية الكريمة في هذه الفقرة تحدد المسار الصحيح للتنافس والتسابق وهذا المسار هو الذي يرتفع بمستوى الإنسان ومستوى الحياة، ويعطيها الكرامة والسمو والاستقرار والسعادة.
وتأتي أسس أخرى للعلاقات.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم ثبتنا على الإيمان وإن اشتدت المضائق، ورضنا بقضائك وقدرك وإن تفاقمت المحن، وادحر عنا الشيطان الرجيم، واكفنا شر النفس الأمارة بالسوء، اللهم ونسألك عافية الدنيا والآخرة وخيرهما وهناءتهما وسعادتهما يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك النصر يا من لا نصر إلا من عنده، والعزَّ من لا عزيز إلا من أعزه، والغنى يا من لا غنى إلا من فضله، والاستقامة على الحق يا من لا حول ولا قوة إلا به.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 28/ الرعد.
2 – 9/ المنافقون.
3 – الصحيفة السجادية، مناجاة الذاكرين ص 419.
4 – بحار الأنوار ج90 ص165.
5 – 64/ آل عمران.
6 – بحار الأنوار ج18 ص202.
7 – 64/ آل عمران.
8 – 107/ الأنبياء.
9 – 25/ الحديد.
10 – 2/ الجمعة.
11 – 45، 46/ الاحزاب.
12 – 257/ البقرة.
13 – 85/ الأعراف.
14 – 56/ الأعراف.
15 – 41/ الروم.
16 – 22، 23/ محمد.
17 – 90/ النحل.
18 – 125/ النحل.
19 – وتقديم الأهم على المهم، ودفع الأضرّ بالضار عند التزاحم لا يمثّل استثناء من قاعدة الالتزام بنظافة الأساليب.
20 – 90/ النحل.
21 – 6/ المائدة.
22 – 2/ المائدة.
23 – 108/ الأنعام.
24 – 2/ المائدة.
25 – 13/ الحجرات.

زر الذهاب إلى الأعلى