خطبة الجمعة (318) 20 ربيع الأول 1429هـ – 28 مارس 2008م

مواضيع الخطبة:

*موضوع الذكر *متابعة أسس العلاقات الدولية والداخلية في الإسلام

العلاقة مع أي دولة أخرى من حدودها أن تكون علاقة تعاون على البرّ والتقوى، على ما ينفع الناس، على ما لا يخرج عن طاعة الله تبارك وتعالى.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي منح قلوبَ أوليائه حلاوة معرفته، وأنس ذكره، وشرف شكره، ونعمةَ قُربه، وجعلها موضعاً لتقواه، ومسكناً لمحبَّته، ضارعةً إليه، متعلِّقةً برحمته. لا محيي ولا مميت غيرُه، ولا هدايةَ إلا من لدنه، ولا خروجَ من الظلمة إلى النور إلاَّ بمدده.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله، وتذكّر عظمته؛ فما تذكّر متذكّر عظمة الله والتي لا ساحل لها ولا نهاية إلاَّ وحجزه ذلك عن الدنوّ من المعاصي ومقاربة السوءات، والسقوط في الهلكات. وإنّ أصحاب التقوى العالية لا يكفُّون عن الخير، ولا يتوانون عنه، ولا يستهويهم الشرُّ، ولا يميلون إليه.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربّنا احجزنا بتقواك عن معصيتك، وأقبِل بنا في رغبةٍ على طاعتك، وهب لنا رحمتك، واجعلنا من أهل جنّتك وكرامتك، ومن زمرة أوليائك المخلَصين وصفوتك.
أما بعد أيها الملأ الطيب فهذه مواصلة في موضوع الذكر:
{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}(1).
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهذا عطاء من عطاءات الصلاة، ولكنّ هذا العطاء قد يكون هو الحدّ الأدنى من عطاءاتها. وفيما هي ذكر، وبما تورث من ذكر ترتفع عطاءاتها عن هذا المستوى حتّى تتجاوز النّفس التي تتربّى في أجواء الصلاة الإيمانية العبقة مستوى التنزّه عن الفحشاء والمنكر إلى درجات من القرب الإلهي التي لا يعرف لذّتها إلاَّ أصحابها، والتي تجد النّفسُ بها صفاءاً ونقاءاً وسموّاً ورفعة فوق كل ما يعرف الناس من متع هذه الحياة.
في القرب من الله القوّةُ، وفي القرب من الله الطّهر والزكاة والأنس والسعادة التي لا تقاس بها سعادة.
الصلاة بما هي ذكر، وبما تورث من ذكر تربيتها للنفس فوق كلّ تربية، وقدرتها على التجاوز بها للظلمات الروحية، ولدرجات الضعف التي تعيق مسيرتها إلى الله ما يجعل هذه النفس تقوى على المسار الصعب، المسار الصاعد إلى الله سبحانه وتعالى إلى مسافات بعيدة.
ذكر الله أكبر لأنه الحياة الحقيقية، ولأنّه الهدف الأسمى، وليس في غيره كما فيه من رقيٍّ وسموٍّ للروح، وهل أنت وأنا إلا روحٌ إما سافلة – والعياذ بالله وإما عالية؟! ولا تجد روح حظّاً من العُلا والرفعة إلا بمعرفتها بالله وأن تعيش ذكره العظيم.
“أكثروا ذكر الله عز وجل على كل حال فإنه ليس عمل أحبّ إلى الله ولا أنجى لعبد من كل سيئة في الدّنيا والآخرة من ذكر الله(2) (قيل: ولا القتال في سبيل الله؟)(3) قال: لولا ذكر الله لم يؤمر بالقتال…”(4).
القتال الذي يملك قيمة في الإسلام هو قتال يمثّل ذكراً لله، فيه ذكر لله، متقيّد بذكر الله، بأحكامه، وهو من أجل دينه، ولا يأتي من العبد إلا تعظيماً لله واستجابة له سبحانه وتعالى، وإلا فلا قيمة للقتال في نفسه، قيمة القتال في كونه ذكراً لله تبارك وتعالى، وقتال لا يمثل ذكراً لله هو أقرب إلى الحيوانية. وإن كان القتال دفاعا عن النفس والعرض والمال من المشروع، لكن لا يسمو القتال، ولا تكون له درجته العليا حتى يكون في هذه الموارد أو غيرها اسجابة لله، ومن أجل وجهه الكريم، وقتال من مستوى الدفاع عن النفس لحب البقاء فحسب، وإن كان لا شك في مشروعيته ووجوبه على الإطلاق وهو عقلائي جدّاً لكنه من المستوى الذي يمارسه الحيوان العادي بطبيعته.
“قال: لولا ذكر الله لم يؤمر بالقتال…” القتال العظيم من أجل تقديم الله على غيره، من أجل أن تكون حركة الإنسان في الأرض محكومة لذكر الله، وقائمة على تعظيمه. ومن أجل أن يكون ذكر الله هو الحاضر في القلوب، وأنّ يكونَ الموقّر لهذه القلوب هو الله لا الطواغيت كان القتال في الإسلام.
ومن لم يقاتل في سبيل الله وحيث يأمر الله فذكره لله غير جاد، وما هو بالذاكر الصحيح فإن الذاكر الصحيح لله عز وجل لا يتأخر عن أمر من أوامره، ولا يقتحم نهيا من نواهيه.
“ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من الدّينار والدّرهم، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتقتلونهم ويقتلونكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: ذكر الله عزّ وجلّ كثيراً”(5).
وأقول: أن من أكبر الذكر له سبحانه التضحية بالنفس طاعة له، وتقديماً له على النفس وعلى كل الآخرين، ولا قيمة عالية لأي عمل لم يكن لله سبحانه وتعالى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }(6).
وهذا ما يعني أن أبقوا على حياة قلوبكم ما استطعتم، فإن القلب الحيَّ علامته أن لا يغيب عنه ذكر الله سبحانه. فلحظة أن ينفصل القلب عن ذكر ربّه هو ميِّت، ولا يكون حيّاً إلا بذكر الله تبارك وتعالى. لا يعقل لقلب يشعر، لقلب يعيش حالة الحياة أن ينسى الله. العين التي لا تبصر الجمال عمياء، والعين التي لا ترى قوة القوي عمياء، والعين التي لا ترى جود الجواد عمياء، والعين التي لا ترى خلق الخالق عمياء، والعين التي لا ترى تدفّق فيض الله على كل ذرة من ذرات الوجود عمياء، فذلك قلب عينه عمياء، وهو القلب الذي لا يرى الله العليّ العظيم.
فهذا التسبيح بكرة وأصيلا وذكر الله ليلاً ونهاراً للإبقاء على حياة القلب، وحتى لا يخسر الإنسان نفسه، فإنه بروحه وقلبه لا غير. فحيث يموت القلب، وحيث تسبت الروح أنا غير موجود.
“(قيل له صلّى الله عليه وآله: من أكرم الخلق على الله؟) قال: أكثرهم ذكراً لله وأعملهم بطاعته”(7).
لماذا؟ لأنه الأطهر قلباً، الأعلى قدراً، الأسمى ذاتاً، الأنقى زاداً، الأزكى مضموناً. لأنه بذكر الله خير لا شر. القلب الذي يعيش ذكر الله عزّ وجلّ لا يكون فيه شر لأن ذكر الله عزّ وجلّ والشرّ لا يجتمعان في قلب.
“ما من شيء إلاّ وله حدّ ينتهي إليه إلاّ الذّكر فليس له حدّ ينتهي إليه(8)، فرض الله عزّ وجلّ الفرائض فمن أدّاهنّ فهو حدّهنّ(9)… إلاّ الذّكر(10) فإنّ عزّ وجلّ لم يرض منه بالقليل ولم يجعل له حدّاً ينتهي إليه (ثم تلا هذه الآية):{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً}(11)…”(12) عن الصادق عليه السلام.
“من ذكر الله في السّر فقد ذكر الله كثيراً”(13).
ذكر الله في السر تجعله الكلمة عن علي عليه السلام مصداقاً للذكر الكثير، وكأن ذلك بما يتّسم به الذكر في هذه الحالة من إخلاص، وخلوٍّ من النظر إلى العبيد، فبما هو ذكر خالص لله سبحانه وتعالى يكون فرداً من أفراد الذكر الكثير. وقد يكون هذا على مستوى الحقيقة أو على مستوى التنزيل. وأن هذا الذكر الخالص وإن قلّ فإنّه بمنزلة الذكر الكثير عند الله تعالى ثواباً وفاعلية في النفس.
“عن عبدالله بن بكير قال: سألت أبا عبدالله عليه السّلام عن قول الله تبارك وتعالى:{اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} قال: قلتُ ما أدنى الذّكر الكثير؟(14) قال: فقال: التسبيح في دبر كلّ صلوة ثلاثاً وثلاثين مرّة”(15).
ولا نشك في أن المعني هنا ليس لقلقة اللسان. هذا الكمّ بخصوصية أنه في دبر الصلاة له ميزة، وبخصوصية نوعيته له ميزة لو أخلص فيه العبد لكان ذكراً كثيراً، أما لو جاء لقلقة لسان، أو رياءً فإن مثل هذا الذكر بعضه إثم، وبعضه لا تكاد تكون له قيمة.
“(في الدعاء) أسئلك بحقك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك(16) أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة وأعمالي عندك مقبولة، حتّى تكون أعمالي وإرادتي(17) كلّها ورداً واحداً وحالي في خدمتك سرمداً”(18).
ماذا يطلب الإمام عليه السلام؟ أن لا يموت قلبه لحظة، أن لا يُصاب قلبه بالغيبوبة والسبات لحظة، أن لا يخسر إنسانيته وكرامته لحظة، أن لا ينفصل عن مصدر العطاء، ومصدر العزّة والكرامة والشرف والسؤدد والثقة لحظة. يريد كل ليلهِ ونهاره عامراً بالحياة، وليست حياة بدن، وإنما هي حياة قلب وروح، فإن حياة البدن يشاركنا فيها الحيوان، أما الحياة التي نمتاز بها ونكرُم فهي حياة الروح، وليست لهذه الروح حياة إلا بذكر الله.
انظر ماذا يقول الدعاء:”أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة” وإلا فهي خراب، وإلا فهي خواء، وإلا فهي خسار.
“وبخدمتك موصولة، وأعمالي عندك مقبولة، حتى يكون أعمالي وأورادي أو وإرادتي كلها وردا واحداً” حتى تكون حياتي بلا فواصل فتور، وبلا فواصل توقّف في قضية الحياة “وحالي في خدمتك سرمداً”.
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم إنّا عبادك الفقراء إليك، لا نرجو غيرك، ولا نؤمل سواك، وقضاء الحاجات عندك لا عند أحد عداك، فلا تردنا خائبين، واقض حاجاتنا للدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وأجود المعطين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ }

الخطبة الثانية

الحمد لله فارج الهمّ، كاشف الغمّ، رحمن الدّنيا والآخرة ورحيمهما، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. لا ملك لأحد سواه، ولا حول ولا قوة إلاَّ به، وهو العليُّ العظيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
علينا عباد الله بتقوى الله، وأن نفعل الخير ونكفَّ عن الشر ما استطعنا، فما عاقبة الخير إلا الخير، وما عاقبة الشر إلا الشر، والشوك لا ينبت إلا الشوك، والعنب لا يُطلب إلا من العنب.
وأي عاقل يسعى لشرّ نفسه، ولا يطلب خيرها؟! فما أسفه من كانت حياتُه طريقَ ناره باختياره، وهروباً عن الجنّة بملء إرادته!!
ومن سلك درب الحرام للذائذ دنياه أخطأ الرأي وكثيراً ما يذيقه سوء اختياره الطعم المرّ لنتائج المعاصي في هذه الحياة.
ربنا اغفر لنا، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، ولا تسلمنا للشيطان الرجيم أبداً يا أرحم الراحمين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً قريباً.
أما بعد أيها الملأ الكريم فقد تقدم عنوان أسس العلاقات الدولية والداخلية في الإسلام، وتقدّم من هذه الأسس البعض، ويُضاف إلى ذلك هذا العدد الآخر وكل ذلك لا يعني الاستيعاب لركائز وأسس تلك العلاقات.
التبادل الحضاري الإيجابي:
وهو يمثّل ركيزة من ركائز العلاقة الداخلية ومع الخارج في نظر الإسلام {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ…}(19) ثم تأتي الآية الكريمة:{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(20).
ودائما نجد وكما سبق التنبيه إليه أنّ هذه الأسس والركائز تُربط بقضية تقوى الله واستحقاق الثواب عن أطاعه، والعقاب لمن خالفه، فهي قضية دين وعمق إيماني وأخروي، وليست قضية تعاليم ووصايا دنيوية سطحية بلا جذر بعيد والآيتان الكريمتان تفتحان باب العلاقات الدولية ولكن العلاقة مع أي دولة أخرى من حدودها أن تكون علاقة تعاون على البرّ والتقوى، وما ينفع الناس، وما لا يخرج عن طاعة الله تبارك وتعالى. فهنا أمر ونهي: أن يكون التعاون على البر والتقوى هذا هو الأمر، أن لا يكون على الإثم والعدوان هذا هو النهي. تعاوني معك، وتعاونك معي، تعاون فئة مع فئة، تعاون الدولة الإسلامية مع دولة أخرى مسلمة أو كانت كافرة ضابطته أن يكون تعاوناً على البر والخير والصلاح، لا تعاوناً على الإثم والعدوان.
حفظ الأمانات ورعاية العهود والمواثيق:
وهي قضية تحتاجها العلاقات الدولية أتم حاجة، ولا يمكن أن يكون هناك تبادل تجاري مستقر، ولا أمن ولا سلم، ولا أي علاقة إيجابية من دون أن يكون هناك وثوق بأمانة الطرف الآخر ورعايته للعهد. والقرآن الكريم يؤكد بكل قوة على هذا المبدأ الإيجابي الضروري الكريم {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}(21)، {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}(22)، ويأتي قوله سبحانه:{إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}(23).
كل هذه الآيات الكريمة تصب في صالح التأكيد والترسيخ لمبدأ حفظ الأمانات، ورعاية العهود والمواثيق، وكم تعاني العلاقات الدولية من عدم رعاية هذا المبدأ وإن نصّت عليه المواثيق الدولية ولكنه يبقى في الكثير في ظل الحضارة المادية الجاهلية حبراً على ورق.
أما في الإسلام فإنه لا يسع المسلم الحق أن يغيّر أو يبدّل أو ينقض ابتداء عهداً أقدم عليه، أو أمانة قبل ائتمانها ما دام أصل الأمر ليس خارجا عن طاعة الله.
ويأتي في السياق نفسه قوله سبحانه هنا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(24).
مبدأ آخر: حق الجوار:
ومعنى ذلك أن يستجيرك مشرك من يستحق القتل يريد أن يسمع الإسلام، – وليس كل مشرك يستحق القتل – فهذا المشرك ممن يستحق القتل ويستجيرك ليسمع الإسلام تقول عن مثله الآية الكريمة في سورة التوبة:{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}(25) فالموقف منه أن تجيره، وإذا بيَّنت له الإسلام بصورة كافية عليك أن توصله إلى المكان الذي يجد فيه نفسه آمناً سواء آمن بالإسلام أم بقي على كفره.
إلى الآن وكأننا نتحدث عن أن الإسلام ليس عنده حرب، وليس الأمر كذلك، الإسلام عنده حرب، ولابد أن يكون عند الإسلام حرب، وليس ديناً واقعياً دين لا يقر أصل الحرب ولو اضطراراً، ولنصرة الحقّ والعدل، ولكن الحرب في الإسلام أنواع: هناك حرب مشروعة لابد منها {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ…}(26) والتفتوا إلى من هم أئمة فهم الذين يقودون الحركة العدوانية على الإنسان، وهم الذين يواجهون الدين الحق، ويحولون بين النّاس وبين حقوقهم في اتباعه. وقتال أئمة الكفر لابد أن يتطلب قتال الجيوش التي سخروها في مواجهة الحق، والإنسان، ومن أجل العدوان الشامل والاستعباد {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} والمطلوب هنا إنهاء الحالة العدوانية، التأديب لنقض العهود، من أجل أن تقر الأسس الحضارية الصالحة والتي لا قوام لحضارة الإنسان في الأرض، ولا لاستمرار المسيرة الإنسانية بدونها {لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}.
{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}(27) لا يجري عند أي مجتمع عقلائي أن يُهجم عليك، ويريد الآخر تصفيتك، وإلغاءك وتقف أنت مكتوف اليدين لا تحرّك أمام العدوان ساكناً.
هناك حرب الإكراه على الدين، والآية الكريمة صريحة في نفي هذه الحرب، وبحسب التعليل لقضية عدم الإكراه فيها فإنّها غير قابلة للنسخ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدمِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ}(28).
حرب الغنائم:
هل يشن الإسلام حرباً من أجل التوسع الجغرافي؟ من أجل آبار النفط، من أجل الثروة، من أجل الغنائم الدنيوية؟ تقول الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ}(29) فلا حرب من أجل عَرَض الدنيا، لا حرب من أجل الغنائم الدنيوية.
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(30).
وبغضب تقول الآية الكريمة الأخرى:{لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(31).
لا تعطّش للحرب {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(32).
وقد يجنحون للسلم، ولكن قد يُلامس النفسَ شكٌّ في جدية ما أظهروه من الجنوح لها، فما الموقف؟ {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}(33) الاحتمالات الضئيلة بمراوغة العدو وطلبه الصلح للاستراحة، واسترداد القوّة ينبغي أن لا يكون مانعاً من قبول السلم المعروض، لكن قد تقوم قرائن جدّية على محاولة نقض العدو للعهد وأنه يريد أن ينقضَّ على الإسلام وكيانه وهذه الحالة تعالجها الآية التالية {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء}(34) فكما ألغوا قيمة العهد من جانبهم وألقوا به جانبا فارم بالعهد الذي عاهدتهم به، وانبذه، وتخلّ عنه معلناً ذلك كما تخلّوا حفاظاً على كيان الإسلام، وإثباتاً لحالة اليقظة والوعي والجدية، وحماية للقيم، وأخذاً بالحزم أمام تحايل العدو ومكره.
لماذا الاستهداف للإسلام ومعاداته، والإسلام هو هذا الدين الكريم بهذه المبادئ المشعة الجانحة للسلم، المؤكّدة للركائز والأسس الإيجابية التي يمكن أن تقوم عليها علاقات دولية محترمة نافعة؟
1. دين يجهله أهله، فضلا عن الأمم الأخرى. والناس أعداء ما جهلوا. الطواغيت قد يعرفون الإسلام، ولكن الطاغوت لا يحمل نفسا مستعدة للاستجابة للحق، أما الشعوب والجماهير العامة من كل الأمم إذا عرفت الحق فإنها ولو بصورة إجمالية تهوي أفئدتها إليه.
2. التضاد مع المصلحة الدنيوية للطواغيت، وهو الشيء الذي يدفعهم لمواجهة الإسلام بكل وسيلة ممكنة، فالطواغيت يعرفون إما أن يكون إسلام فيتأتى لهم أن ينصبوا أنفسهم أرباباً من دون الله في الناس، ويقبل الناس هذه الربوبية الكاذبة، وإما أن يكون الإسلام فيستحيل عليهم ذلك، ولا يجتمع أن يكون هناك وعي إسلامي وانشداد للإسلام، وتقديس للإسلام، واعتراف بألوهية الله ووحدانيته، وأن تقبل النفس الحالة الطاغوتية في الأرض. لذلك فالطواغيت عدو دائم للإسلام، وحربهم له بلا هوادة، فلا يمكن أن تتوقف العداوة للإسلام في الأرض من خلال هذا الطابور الخسيس طابور الطغاة والمستكبرين الجبابرة.
3. العصبية العمياء التي تحكم الكثير من أتباع الديانات، خاصة طبقة المنتفعين بالدين، فهناك رهبان، هناك قسسة، هناك أحبار قد يعرفون الدين الإسلامي، ويعرفون حقّانيته، وأنه الدين الذي لا يصح بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أن يتعبد بغيره، لكن لهم نفساً لا تسمح بالوقوف الموقف الصحيح من الرسالة والرسول صلى الله عليه وآله.
4. البشاعات التي تُرتكب باسم الإسلام وتسيء إليه من فئتين: فئة الحكام المسلمين الظلمة، الأنظمة التي تنتسب إلى الإسلام وهي تمارس الجور والبغي في الأرض وتتخلف بالأمة مسافات على طريق تقدّمها، والفئة الأخرى هي التي تحمل راية الإسلام وتمارس أبشع الجرائم في الأرض باسمه ظلماً وجوراً، زوراً وكذباً، جهلاً وسذاجة.
5. انهيار المستوى الإنساني في كثير من الشعوب، بحيث أصبح الإسلام ثقيلاً على نفوس الكثيرين، وأصبحت تكاليفه متجاوزة حد ما تحتمل تلك النفوس التي انهارت قدرتها العالية بفعل الحضارة الماديّة الساقطة.
6. ووراء هذا أو ذاك من الوجوه السابقة قصور وتقصير في التبليغ والدعوة، ووراء العداوة للإسلام والتجاسر عليه، والاستئساد في وجهه، والنيل من حرمة وكرامة شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله فقد الأمة هيبتها بسبب الوهن والتخلّف اللذين تعاني منهما من جراء الهيمنة الظالمة للكيانات الجائرة التي تحكمهما، وتعمل على إسقاط قدرتها وإرادتها.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين. ربنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اكف أمة الإسلام كل سوء، واحم ديارها من كيد أعدائك، وأنقذها من الفتنة والشتات، ولا تجعل بعضها لبعض عدوّاً، وعليه حربا، أو له خاذلا، وللغزاة الكافرين ناصراً. اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك،والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدُّنيا والآخرة.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 45/ العنكبوت.
2 – ذكر الله حاجز، قام على خوف أو قام على شكر، أو قام على حبّ فإنّه يحجز عن مقارفة الذنوب، يعطي للنفس رفعة تجدها بمستوى محلق بعيد عن الموبقات والسيئات.
3 – أنت تقدم يا رسول الله ذكر الله على كل شيء حتى القتال في سبيل الله، قيل: ولا القتال في سبيل الله؟
4 – كنز العمال ج2 ص243.
5 – بحار الأنوار ج90 ص157.
6 – 42، 42/ الأحزاب.
7 – ميزان الحكمة ج3 ص409.
8 – ما من شيء في شريعة الله إلا وله حد ينتهي إليه.
9 – بأداء الفرائض الخمس الحج والزكاة والخمس إلخ يكون المكلَّف قد فرغ من مسؤوليته عنها، أما مسؤولية الذكر، وعبادة الذكر فهي تستغرقُ حياة الإنسان الواعية كلّها فحتّى لحظة الاحتضار مطلوب من نفسي أن تذكر خالقها ومدبرها الكريم.
10 – فليس له حد ينتهي إليه.
11 – 41/ الأحزاب.
12 – شرح أصول الكافي ج10 ص281.
13 – بحار الأنوار ج90 ص160.
14 – الحد الأدنى، السؤال عن الحد الأقل من الذكر الكثير، الذكر الكثير ليس له حد نهائي، ليس له منتهى، لكن له بداية. لكن ما هو الذكر الذي يمثل الدرجة الأولى من درجات الذكر الكثير وإن كان فوق هذه الدرجة درجات؟
15 – ميزان الحكمة ج3 ص410.
16 – أسماء الله ليست ألفاظاً، أسماء الله المعني بها الصفات العليا له سبحانه وتعالى.
17 – وفي نسخة أورادي.
18 – مقطع من دعاء كميل الذي علّمه إياه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. إقبال الأعمال، مفاتيح الجنان..
19 – 13/ الحجرات.
20 – 2/ المائدة.
21 – 32/ المعارج.
22 – 91/ النحل.
23 – 4/ التوبة.
24 – 27/ الأنفال.
25 – 6/ التوبة.
26 – 12/ التوبة.
27 – 13/ التوبة.
28 – 256/ البقرة.
29 – 94/ النساء.
30 – 67/ الأنفال.
31 – 68/ الأنفال.
32 – 61/ الأنفال.
33 – 62/ الأنفال.
34 – 58/ الأنفال

زر الذهاب إلى الأعلى