خطبة الجمعة (237) 8 ربيع الأول 1427هـ – 7 ابريل 2006م

موضوع الخطبة:


 تلاقح حضارات + حكم التقبيل في الإسلام + قضية المعتقلين + حماس واختيار الديموقراطية + حسيني أنا؟ حسيني أنت؟

نحن نقف من أصل قضية المطار ومن الحكم على الشباب فيها، ومن استمرارهم في السجن موقف الإنكار التَّام ونطالب جداً وبشكل سريع بإطلاق سراحهم.

الخطبة الأولى

الحمد لله كما هو أهله حمداً كثيراً دائماً عالياً نزيهاً خالصاً كاملاً ليس له حدّ، ولا يأتي عليه عدّ. لا يبيد ملكه، ولا ينفذ عطاؤه، ولا تنقص خزائنه، ولا ينتهي إحسانه، ولا تقف الحدود بكرمه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
اللهم إنا نستهديك، ونسترشدك، ونتوكل عليك، ونفوِّض أمرنا إليك.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصّرة بتقوى الله، والتوكل عليه بالتبري من كل حول وقوة إلا ما هو حوله وقوته؛ فإن كل الأشياء عدمٌ بلا حوله وقوته، ولا حول ولا قوة لشيء مستقلاً من دونه، فالاستمساك بحول غير حوله، وقوة غير قوته استمساك بالوهم والخيال، وما أغنى ذلك عن صاحبه شيئاً.
ومن كان عليه التوكل ولا توكل على غيره كانت له الطاعة الكاملة، والانقياد التام، والتسليم المطلق، وكيف لا يكون هذا التسليم للكامل الذي لا يعدله كامل، وليس وراء كماله كمال لا خارجاً ولا في التصور؟!
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم اجعل طاعتنا لك، وسعينا في سبيلك، وإرادتنا من إرادتك فيما تحب وتكره، ورضانا رضاك، وسخطنا سخطك يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.

أما بعد أيها الخوة والأخوات في الإيمان فإن لله سُنناً في التشريع، ولرسوله (ص) سنناً من سننه، ولا معدل لمؤمن ولا مؤمنة عن سُنن لله ولرسوله (ص) إلى طرائق من السلوك مخالفة من أين جاءت، وعلى يد من ابتُدِعت؛ لا فرق بين مستورد منها، ومصنّع في الداخل.
والإسلام لا يريد القطيعة بين الناس أفراداً وأُمماً وقد قال سبحانه { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ….}(1). ولا العقل ولا التعقّل يمنعان من الاستفادة من الآخرين، وأخذ ما يزين عنهم وينفع، والناقص يرجع إلى الكامل، والمحتاج يمدّ يده إلى الغني. والأمم تتكامل فيما بينها، وتتعاطى لتسدّ حاجاتها المختلفة.
ولكن الأمّة العاقلة تدرس ذاتها، ومخزونها، وعطاءات حضارتها، ومنابع ثرائها، وتحاول أن تقف على مراكز اضطرارها، ومواقع احتياجها فتُعطي في تفاعلها مع الآخر ما هي أكثر تقدّماً فيه، وأكثرُ هدى وصوابية ورُشداً، وتسعى لسدّ نواقصها مما تجده صالحاً لا تملكه ويتوفر عليه الآخرون.
وأمتنا في واقعها شيءٌ، وفي مخزونها الديني والحضاري الإنساني المنطلق من منبع الدين شيءٌ آخر، فلئن كانت من حيث الواقع تعاني الكثير من النقص والتخلف فيما هي عليه من وعي الدّين وأدبه، إلا أنها ومن حيث مخزونها الديني الكبير والحضاري الإنساني المتمشّي مع خط الدّين يعلن واقع كل الأديان والأطروحات المعاشة في الأرض، وواقع ديننا الحنيف أنها أغنى أمة وأهداها على الإطلاق.
فلا أخذ لهذه الأمة من أمة أخرى فيما يتصل بسنن الدين والخلق والسلوك والعادات الإنسانية الكريمة في نظر الدين والعقل والتعقّل.
نعم قد يلتقي سلوك أمة من الأمم في جنبة أو أكثر مع ما عليه سُنن الدين الإسلامي الحنيف، ومقرراته السلوكية الصالحة أكثر مما تلتقي أمتنا معه فيكون ذلك مؤشّراً على تقصير هذه الأمة، ويستوجب منها الرجوع إلى دينها وخُلقها الأصيل لتكون كما أراد الله تبارك وتعالى لها أهدى الأمم، وفي مقدّمة الركب الحضاري العام الصالح، وكما هو مقتضى دينها.
ومن جهة السبق العلمي المادي، والأخذ بخط الدراسات الميدانية المعمّقة والمتخصّصة والاستفادة من حقل التجارب والاستقراء إلى أقصى حد ممكن مما تتميز به أمم في الأرض بالقياس إلى هذه الأمة لم يأتِ من جهة أن الإسلام مهمل لشؤون هذه الحياة وهو الذي دفع في اتجاه المنهجة العلمية الدقيقة التي تغطِّي حاجة البحوث الحسّية والعقلية، ويكفي أساساً متيناً لهذه المنهجة والدفع في اتجاهها قوله تبارك وتعالى {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(2).
والإسلام هو الذي جعل الكون كله أرضه وسماءه والحركة التاريخية على الأرض مسرحاً لتفاعل حِسّ الإنسان وعقله ووجدانه.
والآيات القرآنية الكريمة في هذا البعد غفيرة بيِّنة ساطعة منها قوله سبحانه {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(3).
وإنَّه وإن كان لهذه الظواهر الكونية بحسب النظرة الأولية دلالة على عظمة الله، وحسن تدبيره وعلمه وحكمته، ولكنها بالنظرة العلمية الدقيقة المتتبعة أعظم دلالة، وأوصل إلى الهدى والنور، والاطمئنان واليقين. وإذا كانت الآيات في نفسها تملك الدلالة فإن الاستفادة من عطائها وهداياتها لا بد لها من تعقل وتفكر بدرجة وأخرى، وبقدر ما يكون التعقل قويا كافيا وافياً ويكون البحث علمياً ومعمّقاً تكون الدلالة أوضح وأوسع وأركز وأعمق.
ومثل الآية السابقة الآيتان الكريمتان الآتيتان {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }(4).
وإذا كانت النظرة السطحية لهذه الآيات ذات عطاء معيّن، فإن عطاءها العلمي الكبير والمركّز قائم على النظر العلمي الدقيق، والدراسات التجريبية المتطورة المصحوبة بعقل باحث عن الحقائق الكبرى والعلة الحقيقية الأصل. والآيات في هذا الحقل وفيرة غفيرة كما تعرفون.
وأنتم ترون بوضوح مدى التقدم العلمي المادي الذي تحققه العودة إلى المنهج الإسلامي في بعض بلداننا الإسلامية، والانفصالُ عن الهيمنة الغربية والتحكم الذي تمارسه على كثير من أقطار أمَّتنا في حركتها العلمية طلباً للتقدم التكنولوجي الذي يسد حاجة الأمة، ويوفر لها الاكتفاء الذّّاتي ومن داخلها.
وفي الوقت الذي يمنع فيه الغرب تسرب الأسرار العلمية لحركته العلمية المادية التي تواكب حاجات العصر وتغذّيها إلى الدول الإسلامية، ويحجر عليها أن تكون على طريق الوصول إلى هذه الأسرار بجهود أبنائها يفرض عليها كل ساقط من أخلاقياته، وما ابتلت به حضارته من انحرافات إنسانية خطيرة، وما صار إليه من منحدر سحيق في مسألة الدّين، وبُعدٍ عن الإنسانيات الرفيعة.
وفي ظل هذا الواقع يتحتَّم على أمتنا أن تُميز بين ما يصح أخذه من الآخر وما لا يصح، وأن تكف عن الاستيراد في مسألة الدين والسلوك المرتبط به، والقوانين القائمة عليه، والرؤى المتولّدة منه، وأن ترجع في كل ذلك إلى كتاب الله، وسنة المعصومين عليهم السلام.
ولنقف أمام جزئية سلوكية غير منظورة قد تستصغرها العين، وقد يُستسهل أثرها في عملية التغريب، هذه السلوكية هي سلوكية التقبيل الشائع بين الناس. أريد أن أؤكد أن المجتمع طبقات، وشرائح مختلفة؛ شريحة تُغزى من خلال الفكر، وشريحة تغزى من خلال السلوك، وشريحة تنهزم أمام التهديد، وشريحة تنهزم أمام الترغيب، وأن انقلاباً هائلا يمكن أن يحدث في الأمة، وغربة شاسعة عن خط دينها يمكن أن يبدأ حدوثها من خلال مفارقة جزئية في هذا السلوك أو ذلك السلوك لما عليه خط الإسلام ومقرراته.
وإنّ كثيراً من النّاس الذين يبدأ انحرافهم عن الإسلام من الناحية السلوكية ليجدون أنفسهم على مسافات شاسعة من بعد حين ليبدأ تنكّرهم للإسلام في فكره وعقيدته وأصوله، فما إن يفارق السلوك خطّ الإسلام، ويتغرّب عن خط الإسلام إلا ويبدأ الفكر في التنكر بما يقوم عليه هذا السلوك من أصل فكري وعقائدي.
وإني لأرى بأن الغرب يطمح في غزو العالم الإسلامي وتغريبه من خلال السلوك أكثر ما يطمح في ذلك من خلال الفكر، فإذا كانت مصيدة الانحراف الفكري يقع فيها عدد من الناس، فإن مصيدة الانحراف السلوكي أوسع في عملية الاصطياد.
وسأقرأ بعض الحديث الوارد في مسألة التقبيل عسى أن نسترشد به، ونتخلى عن مجاراة الآخرين في هذه المسألة وفي كل ما يريدون أن يصدّروا إلينا من سلوك رديء.
“قبلة الولد رحمة، وقبلة الزوجة شهوة(5)، وقبلة الوالدين عبادة، وقبلة الرجل أخاه دين”(6).
“ليس القبلة على الفم إلا للزوجة (أ) والولد الصَّغير”(7) والحديث واضح.
“إذا قبّل أحدكم ذات محرم قد حاضت(8): أُخته، أو عمّته، أو خالته فليقبّل بين عينيها ورأسها، وليكفّ عن خدّها وعن فيها”(9) عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
“وعن جابر قال: لقيت النّبيّ صلّى الله عليه وآله فسلّمت عليه فغمز يدي، وقال: غمز الرّجل يد أخيه قبلته”(10) فهذا الغمز يحمل معه معنى الاهتمام ومعنى المحبة ومعنى الارتباط الوثيق الأكيد.
“عن أبي جعفر عليه السلام عن جابر الأنصاري قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله عن المكاعمة، والمكامعة.
فالمكاعمة أن يلثم الرّجل الرّجل(11)، والمكامعة أن يضاجعه ولا يكون بينهما ثوب من غير ضرورة”(12).
وفي هذا السياق نقرأ عن الصادق عليه السلام “إنّ لكم لنوراً تعرفون به في الدّنيا حتّى أنّ أحدكم إذا لقى أخاه قبّله في موضع النّور من جبهته”(13) فاعرف أين تقبّل أخاك المؤمن.
“عن عليّ بن مزيد صاحب السّابري قال: دخلت على أبي عبدالله عليه السلام فتناولت يده فقبّلتها، فقال: أما إنّها لا تصلح إلا لنبيّ أو وصيّ نبيّ”(14) والمصداق الواضح من وصي النبي هم أئمة أهل البيت عليهم السلام.
ونقرأ عنه عليه السلام “لا يقبّل رأس أحد ولا يده إلا رسول الله صلّى الله عليه وآله أو من أُريد به رسول الله صلّى الله عليه وآله”(15) ويعني هذا أن يكون الرجل ممن يمثّل امتدادا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شخصيته وفي دوره الرسالي الكبير.
ويدخل بعض الفقهاء الفقيه العادل المتقي في هذا المضمار لكون تقبيل يده من أجل رسول الله صلى الله عليه وآله واحتراما له، وهو يمثّل بلا أدنى إشكال نوعاً من الامتداد القوي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
“عن عبدالله بن عمر (أنه ذكر قصّة إلى أن قال) فدنونا – يعني من النّبيّ صلّى الله عليه وآله – فقبّلنا يده”(16) فاعرف مواضع التقبيل وما يناسب كل صنف من المؤمنين من هذه المواضع.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اهدنا بهداك، وتولنا برعايتك وكفايتك، وأخلص عملنا لوجهك الكريم، واجعل نيتنا من أحسن النيات، وعملنا من أفضل الأعمال، وخاتمتنا من خير الخواتم.
اللهم إنا عبيدك والفقراء إليك المحتاجون إلى رحمتك، فزد في رحمتنا ولا تطردنا من رحمتك لحظة عين، ولا أقل يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) }

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي دلّ على الحق ودعا إليه، وأبان الباطل ونهى عنه، وأنزل كتباً هادية، وأرسل رسلاً مبشّرين ومنذرين، وبثَّ الآيات النفسيَّةَ والآفاقية الساطعة، وأقام البراهين القاطعة، وما رضيَ لعباده إلا الخير، وما كره لهم إلا الشر، وما أطيع جبراً، وما عُصي غلبة وعجزاً. يثيب أضعافاًً، ولا يعاقب ظلماً. حكيم لا يفعل جزافاً، قاهر لا يُقهر، غالب لا يُغلب.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله حق تقاته، ولا نموتن إلا ونحن مسلمون. وعن التقوى جاء عن علي عليه السلام:”إنَّ تقوى الله لم تزل عارضةً نفسَها على الأمم الماضين والغابرين(17) لحاجتهم إليها غداً إذا أعاد الله ما أبدى، وأخذ ما أعطى، فما أقلَّ من حملها حقّ حملها”(18).
ولا يزال المرء يجاهد نفسه على طريق التقوى حتى ينال من عصمة الله ما ينال ففي الكلمة عن علي عليه السلام:”بالتقوى قُرِنَت العصمة”. ومن حقيقة التقوى ما عن الصادق عليه السلام:”سُئل الصادق عليه السلام عن تفسير التقوى فقال: أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك”(19).
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وارفع درجتنا عندك، وأسعد حظّنا لديك، واجعلنا من أهل إحسانك وامتنانك ورحمتك وتفضّلك يا رحيم يا كريم.
اللهم صل وسلم على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر وحُفَّه بملائكتك المقرَّبين، وأيده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفّقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك يا كريم.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات الكرام من المؤمنين والمؤمنات فإلى هذه كلمات:-
قضية المعتقلين:
ظاهرة المعتقلين السياسيين تُعتبر ظاهرة استثنائية في كل بلد، وهذه الظاهرة تُهدِّد دائما بأحداث وتوتّرات صاعدة ومتفاقمة وخاصة عند حدوث أي عامل مساعد على ذلك.
وتظل الحالة في نفسها في عدد من البلدان ومن غير عوامل مساعدة مرشّحة لخلق أزمات مستجدّة بالإضافة إليها بما هي أزمة حادّة تضغط على الضمير الشعبي اليقظ بصورة عامة، وعلى القلوب المحترقة لأمهات السجناء وآبائهم وزوجاتهم وذويهم بصورة دائمة وخاصة.
وتخطئ الحكومات التي تعتبر أن بقاء المعتقلين السياسيين في السجون مهدّئاً أمنيّاً حيث إن المعتقلين السياسيين أصحاب قضية لا يعيشون همها وحدهم، ولا يمكن للشعب الذي يحتضن قضيتهم أن يسكت على عذابهم. وسجنُهم يُغذِّي الشعور بالقضية ويثيرها عند ذلك الشعب بدرجة أكبر وليس أنه يغيِّبها، وإنَّه ليضيف إليه شعوراً بالمعاناة النفسية لمصيبة من سُجن لصالح القضية، وشعوراً بالإثم لما قد يحتمله من تقصيرٍ من جانبه في أولئك السجناء.
والمعتقلون الذين بدأت قضيتهم بالخطأ الرسمي في حادثة المطار ثم توسّعت في ذيول تابعة لها، لا بد أن تتحمل الجهة الرسمية مسؤولية خطئها الذي ارتكبته في هذه الحادثة والذي لو لم يُحتوَ بسرعة بالنسبة لموضوعه الأصل لساءت الأمور إلى الحد الذي لا يعلمه إلا الله. ويتمثل ذلك الخطأ في الفعل الاستفزازي للضمير الشعبي المقدِّر للقيم الدينية والتي لا يمكن أن يُضحّي بها ولا برموزها في أي ظرف من الظروف.
ونحن نقف من أصل القضية ومن الحكم على الشباب فيها ومن استمرارهم في السجن موقف الإنكار التَّام ونطالب جداً وبشكل سريع بإطلاق سراحهم.
كما نهيب بكل الجمعيات والفعاليات السياسية أن تعمل جاهدة على هذا الأمر.
ثم إننا لسنا مع حوادث عنف وحرق وتخريب وضرب من أي جهة رسمية أو شعبية. ولسنا مع السكوت عن المطالبة الشرعية والمدروسة والمنضبطة للموازين الفقهية بالحقوق.
ونرى أن اشتراك أكبر عدد ممكن من الجمعيات والفعاليات السياسية المختلفة في الضغط لصالح الإفراج عن المعتقلين بالأساليب العُقَلائية هو الطريق الأهدأ والأبعد عن الخسائر الوطنية لحل هذا الموضوع المؤرّق.
حماس واختيار الديموقراطية:
نجحت حماس في انتخابات شُهِد لها بالشّفافية والنزاهة لتكون حكومة رسمية للفلسطينيين. وكان هذا النجاح اختباراً آخر ينضاف إلى عدة اختبارات لصدق شعار الديموقراطية الذي تُردِّده أمريكا وأوروبا وتحاربان حسب دعواهما من أجله ليُسجِّل فشلاً ذريعاً لا يُبقي لصدق هذا الشعار عند المتدرّعين به أي درجة من الدرجات كما هو شأن كل الاختبارات السابقة لهذا الشعار عندهم في الساحة العربية والإسلامية.
ونجاح حماس ليس مشكلة لأمريكا والغرب فحسب فالأنظمة العربية قد سبب لها هذا النجاح مشكلة محرجة كذلك، وذلك من جهات ثلاث:
‌أ- من جهة أن لا تضحية على الإطلاق بالسيد الصديق الأمريكي ثم الأوروبي، وبالعلاقة معه، وأن في هذا الخسارة الكبرى، وإسقاط أنظمة تحت طائلة شعار الديموقراطية نفسه، والذي يرفعه السيدان الكبيران أمريكا وأوروبا.
‌ب- أن الأسلوب الذي جاءت به حكومة حماس أسلوب مخوف وهو أسلوب الديموقراطية الذي لو شقَّ طريقه في بقية البلدان العربية لأحدث تغيرات هائلة ولانقلبت الأعالي أسافل والأسافل أعالي؛ لأن خيار الشعوب في طريق، وواقع الأنظمة في طريق آخر.
‌ج- أن حماس ترفع شعار الإسلام وتُخلص له حسب فهمها على الأرض وما أشدَّ الخوف من الإسلام عند أنظمة عربية كثيرة.
ثمَّ إنَّ الدعم العربي الرسمي بصورة جدية ومجزية لحكومة حماس يُساوي في الشرط المأخوذ فيه الشرط الأمريكي نفسه وهو أن تقول حماس للصلح الظالم المفروض أمريكياً وإسرائيلياً مع إسرائيل نعم، وتُسلِّم لهما تسليماً كاملاً، وتبيع الأرض والإنسان من أجل مصلحة أن حكم حكماً شكلياً فحسب، وتدخل في بيعة حقيرة مع أمريكا. وإلا فكيف تقاوم الأنظمة العربية الإكراه الأمريكي على هذا الصلح، فيُغضب السيد الأمريكي الكبير، ويطيح بأنظمة وأنظمة ويدك عروشاً على رؤوس أصحابها؟!
وبقي الشارع الغربي والإسلامي، وهو يعيش حالة الاختبار كذلك فهل يُقدِّم دعمه المالي الممكن للشعب الفلسطيني وحكومته الجديدة من منطلق الواجب الديني والأخوي، ويقول كلمته الصريحة في مناصرة الشعب الفلسطيني رغم ما قد يكون من كراهة أنظمة رسمية كثيرة لذلك؟ وهل لا تقف القوانين والقرارات الجائرة أمامه في ذلك، ولا تلاحقه المساءلات والتحقيقات والسجون بسبب نصرته المتواضعة للأشقاء بلحاظ الدين والعروبة؟!
إنه الاختبار الذي نرجو للشعوب العربية والإسلامية أن تنجح فيه، وللأنظمة أن لا يصل طغيانها، وخوفها إلى الحد الذي لا يستبعده الكثيرون فتضرب بيد من حديد على محاولة غوث الشعب الفلسطيني ومناصرة حكومته المنتخبة بما يتيسر للشعوب.
أحسيني أنا؟ أحسيني أنت؟
بعُد بنا الزمن عن الإثارة المرتبطة بشعار حسيني قد مرَّ في محرم الماضي(20). ولذلك لا يأتي هذا الحديث ردّاً على تلك الإثارات والتهريجات وإنما هو من باب طلب الوعي والوضوح في مثل هذا الأمر.
فبعيداً عن الهرج والمرج، والتأويلات والتقوّلات، وأغراض السوء، وتقصّدات السياسة، والتوظيفات التوقيتية الفاشلة تأتي محاولة الإجابة على هذين السؤالين (أحسيني أنا؟ أحسيني أنت؟):
ليس من صاحب دين بحقٍّ وصدق إلا ويتمنى أن يكون شخصية حسينية فإن الحسين عليه السلام بمستواه الكبير المحلّق فضلا عن عصمته الذي تجعله فوق الشبهات محل عشق القلوب، وموقعه المتقدّم يغري كل طامح في أن يكون إنساناً متقدّماً أن يلحق به.
لكن هل لي ذلك؟ هل لي أن أكون حسينياً بالكامل حتى لا يكون فيّ شيء من شخصية أخرى مخالفة لشخصية الحسين عليه السلام كشخصية يزيد وأنصار يزيد؟ هل لي أن أكون كما أعشق، وكما يحلو لي على خط الحسين دائما ومن غير أي انحراف؟
ومعنى أن أكون حسينيّاً بالكامل ودائماً أن يكون فكري على حد فكر الحسين عليه السلام، ورؤيتي الإيمانية بحجم رؤيته، ومشاعري نزيهة على حد نزاهة مشاعره، وإرادتي إلهية تماماً كما هي إرادته، وتصرّفي هو نفس تصرفه في خلوص الهدف، وفي صدق الحكمة، وفي سلامة القصد.
ولكن لأكون كذلك لا بد أن أكون معصوماً كالحسين عليه السلام ولست أنا ولا أنت كذلك، إذاً كيف يسوغ لك أن تدّعي أنك حسيني بالكامل، وأن تدّعي لنفسك أن شيئا من غير شخصية الحسين عليه السلام لا يلامس وجدانك، ولا يدخل عقلك، وليس في شيء من مشاعرك شيء من غير الحسين عليه السلام، وسلوكك كلّه طاهر كطهر سلوك الحسين عليه السلام. تلك دعوى أطلقها البعض وعليه مسؤوليتها.
وإذا لم نكن حسينيين بالكامل، ولا نساوي الحسين عليه السلام تماماً فما الذي يجعلنا كذلك ويجعلنا ننقص في وزننا وشخصيتنا عن وزن الحسين وشخصيته؟ لا بد أن يكون هو شيء من خارج هذه الشخصية، وعلى خلاف خطّها، ومن مضمون ليس من مضمون هذه الشخصية على الإطلاق. وإن مضموناً يخالف مضمون شخصية الحسين عليه السلام ولا لتقي معه لا بد أن يكون من مضمون شخصية يزيد وأمثال يزيد.
ومن ادّعى أنه حسيني بالكامل فقد أضاف من نفسه معصوماً آخر إلى قائمة المعصومين، وكاملاً إلى قائمة الكُمَّل.
وما من نفس غير معصومة، ولا بيت غير معصوم، ولا إنسان ولا مجتمع كذلك إلا ويعتمل في داخله خطّان في الفكر والشعور والإرادة؛ خطّ يصله بالحسين عليه السلام، وخطّ يصله بيزيد.
ويختلف الخطّان قوة وضعفاً وشدة تأثير واجتذاب في داخل النفوس والمجتمعات. وكلُّ ميل للشر يلتقينا بالحسين عليه السلام، وكل ميل للشّر يلتقي بمن سواه ممن معاديه من قريب أو بعيد.
والحسين عليه السلام رمز لخط الأنبياء والمرسلين والأولياء، ويزيد رمز لهواة الدنيا وطلّابها.
وأما الكلمة التي افتُري عليها كثيراً، وحُمِّلت ما لا تحتمل، ولعبت الأهواء والسياسة فيها تأويلاً بعيداً وتفسيراً غريباً بمجّه ذوق من له أدنى إلمام بالعربية فإن اللام فيها والداخل على النفس والبيت والإنسان والمجتمع ليست للعهد لتشير إلى شيء معين من هذه المذكورات، وإنما هي لام الجنس التي تُفيد أن المعني طبيعة النفس البشرية، وطبيعة البيت والإنسان والمجتمع الإنساني ما لم يستثنه العقل السليم أو النقل الثابت الصحيح.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا لا نستصغر شيئاً من أمر دينك، ولا نتردد عن امتثال أمر من أوامرك، ولا نتساهل بشيء من نهيك، ولا نرضى إلا بما رضيت، ولا نرغب إلا فيما رغّبت، واجعل كراهتنا من كراهتك، وسخطنا من سخطك، وسلّم لنا ديننا ودنيانا يا رحيم يا كريم.
{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 13/ الحجرات.
2 – 78/ النحل.
3 – 164/ البقرة.
4 – 3،4/ الرعد.
5 – لا تخلط في قبلاتك.
6 – ميزان الحكمة ج8 ص32.
7 – ميزان الحكمة ج8 ص32.
8 – وهو تعبير عن بلوغها.
9 – ميزان الحكمة ج8 ص32.
10 – ميزان الحكمة ج8 ص32.
11 – فلا تلثمه، لا تقبله في خدّ، في فم مثلاً.
12 – ميزان الحكمة ج8 ص32.
13 – ميزان الحكمة ج8 ص33.
14 – ميزان الحكمة ج8 ص33.
15 – ميزان الحكمة ج8 ص33.
16 – ميزان الحكمة ج8 ص33.
17 – وكل أمة هي ماضية غابرة.
18 – ميزان الحكمة ج10 ص644، 645.
19 – المصدر ص646.
20 – وهو شعار كتب قديماً وعلقته جمعية التوعية الإسلامية في بعض الشوارع هذا العام.

 

زر الذهاب إلى الأعلى