دراسات وبحوث – ثورةٌ أُمٌّ وثورةٌ شعاعٌ (1)

من التحركات ما يأتي ردَّ فعل تدفع إليه محاصرة الظروف التي تفقد الفرد أو الجماعة كل خيارات النجاة، وتجعل صاحبها في زاوية الموت الحادّة التي لا تنفتح على طريق 

المدخل

أطرح ابتداءً بعض النقاط المدخلية أمام يدي البحث الذي تستوعبه محاور محدَّدة.


ماهي الثورة؟

الثورة حركة إنسانية متقدمة ذات تميز نوعي يخالف نوعَ مألوفٍ فكري أو ديني أو اجتماعي مثلاً أو ما هو أعم وتعصف به، وهي تفجُّر هائل في بعد أو أكثر من أبعاد الذات الإنسانية الخيرة، يفجر جمود الأوضاع في الخارج وعند الآخرين؛ ليحلّ بديلاً إيجابياً ويدفع بحركة الحياة قدماً ويفتح لها آفاقاً جديدة ثرَّة واسعة.
فالثورة قد تكون فكرية تحطم جدران الفكر، وتُطلقُه من زنزانة الجمود والتحجر ليدخل عملية إنتاج وإبداع ضخمة، وتجارب حيَّة جديدة، وآفاقاً من الآفاق البكر بمنهجية عمليَّة صارمة، ورؤية دقيقة متحررة ليأتي أكبر مما كان وأجود وأبصر، ويكون المبدع الخلاّق المتبحر، الغواص المحلق المجدّد المخصب.
وقد تكون نفسيّة تحرر النفس البشرية من مخاوفها الوهمية، وتبعث قوقعة يأسها وقنوطها، وتطرد عنها الشعور بالانهزامية والتقزم أمام الأحداث والأخطار التي تقع على طريق الفعل الصاعد، لتعانق الطموحاتِ الكبيرة والأهداف الضخمة، متحملة مسؤولية الطريق، مستسيغة متاعب الدرب المحفوف بالمشاكل.
وقد تكون اجتماعية تكتسح العلاقات الظالمة فتحوّل الأعالي أسافل والأسافل أعالي كما ينبغي أن يكون، لتكون من هذا بدايةُ التغيير الإيجابي الكبير والتحوّل الشامل في موازين العلاقات الاجتماعية، من أصغر دائرة إلى أكبر دائرة في عالم النفس والاجتماع، وتندفع مسيرة هذه العلاقات في الطريق الصائب والخط الصاعد.
وقد تكون الثورة روحية تكسّر كل حواجز الطين في الوجود الإنساني، وتدوس الآمال والهواجس الأرضيّة المحدودة، لتنطلق في حركة محلّقة بعيداً عالياً لا يوقفها شيء، ليجد هذا الوجود نفسه واقعاً أكبر من المكان والزمان، في شعور غني دائم حيّ حاضر فاعل مفعم بالتعلق والتدلي والشعاعية للجمال المطلق والكمال اللامحدود.
وهي لا تكون ـ هذه الثورة الأخيرة ـ إلاّ بأن تكون الثورة الشاملة العميقة في كل أبعاد الذات الإنسانية الراقية، والحركة الهائلة في نفخة الروح القدسية في وجود الإنسان بكل حيثياتها الفاعلة؛ وعندئذٍ تندفع الذات الإنسانية والحياة بكل أبعادهما في حركة عرضية عامَّة قوية جادَّة صاعدة إلى الله متخلّقة بأخلاقه، مهتدية بهدى أسمائه، متسارعة في أشواطها إلى رضاه.
وهناك ما يسمّى بحركات سياسيّة وانقلابات عسكرية مما لا يستهدف إلاّ طلب المنصب، والقفز على كرسي الحكم، أو التكبيل لحركة الحياة وحرفها عن المسار؛ فهذه أحداث دونية صغيرة، أو حركات عدوانية جائرة.

مقوّمات الثورة:

ركنان لابدّ منهما في كل ثورة؛ قضيّة في رجل، ورجل حقيقته قضيّة. قضيَّة هي قضية الإنسان في فطرته الإنسانية النقيَّة المتنبهة النامية على خطها الأصيل، قضية تحمل رؤية الفطرة ووجدانها وتوقها وتشوّقها، وخلوصها وطهرها، ولها غنىً يزيد الفطرة إلى زادها الروحي والفكري والخلقي الطيّب زاداً طيباً، ويمدها فوق نورها نوراً، ويثريها على هداها هدىً، قضية تملك أن تخاطب الإنسان وتملك أن ترفده؛ تخاطبه بلغة إنسانيته ووعيه ووجدانه وأشواقه الرفيعة، التي هي من صميم ذاته. وترفده بما يزيد من تفجر وعيه، ويستثير من خزائن عقله، ويركّز أصيل وجدانه، وينمي مغروس أشواق إنسانيته، ويوظّف استعداداته النبيلة ليبلغ به أقصى درجات هداه ورفعته.
وهذه القضية لابدّ أن تكون للرجل السمع والبصر والفؤاد واليد والرجل؛ لكي تشخّص للنّاس مشكلتهم، وتراقب فيهم مواضع صحتهم وسقمهم، ولتهتدي بمن تبتدئ وبمن تنتهي، وأين تخاطب ومتى تخاطب، ولتملك أن تحتال للإصلاح والتغيير، وتتوفر على أسباب الثورة والمواجهة.
ولابدّ من رجل هو تلك القضية. نعم كأنه ليس إلاّ العقل والقلب والسمع والبصر واليد والرجل لها؛ فليس له ما يرغب أو ما يرهب مما يصرف عنها، أو يجعله يعطي من نفسه له من دونها إلاّ ما صبّ مصبها وكان من أسباب نجحها، رجل يُرى سمو الفكرة في سموه، وعدلُها في عدله، وتسامحها في تسامحه، وانفتاحها في انفتاحه، ونزاهتها في نزاهته، ودقتها في دقته، وحكمتها في حكمته، وصفاؤها في صفائه. رجل يتحرك حيث تريد له الفكرة أن يتحرك، ويقف حيث تشير بالوقوف، ويرتفع بكيانه كله إلى مستوى الصلابة الذي تفرضه في إطار التعامل مع الذات والآخرين أقرباء وأصدقاء، وبعداء وأعداء، وإلى مستوى السماحة الذي تتطلبه وإن كان فيه تجاوز الذات ونسيانها.
ذاك هو الرجل الأمة الذي كان النبيَّ إبراهيم عليه السلام والنبيّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وعلياً والحسن والحسين عليهم السلام وكل إمام معصوم وكان بدرجة أُخرى الخميني الثائر قدس سره: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكُ من المشركين)(1) أمة من الوعي والهدى ومواقف الإيمان الصلبة والقيم الرسالية والخط الإنساني الأصيل، أمة تطلعها إلى السماء وخطها خط الفطرة، وقصدها إلى الله عز وجل.
نعم حين تتجسد القضية العملاقة في الرجل العملاق؛ الرجل الأمة الحية المتصلة بالله، القانتة إليه، المخلصة لوجهه الكريم، المستقيمة على الدرب تكون الثورة وتجد قوامها، وتبقى صوتاً حيّاً فاعلاً على مدى التاريخ. وقد بقي النبي إبراهيم عليه السلام الفرد في حدوده المادية، الأمة روحاً إيمانية منطلقة، وبصيرة عميقة واسعه، ورؤية نافذة فسيحة، وإرادة صلبة خيرة، وعزماً ثابتاً ماضياً، وحكمة عالية راسخة، وقلباً كبيراً زاكياً، وكلمة رسالية واعية، وتوجهاً عباديّاً مخلصاً، وصوتاً جهادياً ثائراً، وموقفاً مبدئياً مناضلاً، بقي يخرّج أجيالاً، ويهدي أفواجاً، ويبني عقولاً ونفوساً وضمائر، ويثير عزائم، ويوقظ إرادات، ويشعل ثورات، ويحطّم عروشاً من ضلال، بقي صوتاً مدوّياً يشارك كفاحات الأنبياء والأولياء قبل وبعد في صناعة التاريخ، وبناء الإنسان، وتصحيح المسيرة.
الركنان في الثورة؛ القضيَّة الكبيرة في رجل، والرجل الكبير في القضية، قد تنضم إليهما نخبة وأمة من صنع القضية واشعاع الرجل وغيره من رجال القضية ومدرستها. وبهذا يكون التفجير أكبر، والنتائج أسرع وأكثر.

تفاوت الثورات

لا تستوي الثورات عمقاً وسعة، ولا عظمة وسمواً، ولا بقاءً وخلوداً، ولا إشعاعاً وعطاءً. وهي إذ تتفاوت في ذلك كله لا يأتي تفاوتها جزافاً، وإنما يعود لأسباب لعلَّ ما يأتي أهمها:

1ـ أصالة القضيَّة:

أول ما يتفاوت بين الثورات في مستوياتها القضية التي تتفجر الثورة في إطارها؛ فالثورة وهي تأخذ من ترسيخ القضية والتمكين لها هدفها الأخير لا يمكن أن نكبّر إطار قضيتها؛ وبمقدار ما يكون للقضية التي تمثّل ضمير الثورة وهمها ورسالتها من تأصل وامتداد في فكر الإنسان، في استقامته وفطرته الأولى وروحه وضميره وضروراته وتطلعه؛ يمكن أن يكون للثورة التي تجسد تلك القضية وتحمل نداءها.
إن من الثورات ما ينطلق من هم تقويم الأوضاع و أعادتها إلى نصابها؛ وفقاً لموازين العدل والإنصاف والاستقامة في مقطع زماني خاص، أو رقعة جغرافية معينة، أو في حدود قوم من بين الأقوام، وهذه الثورة تبقى لو تعالت وتوسعت ثورة داخل هذا الإطار ما لم تتجاوز همّها هذا المحدود الصغير، ويكون إشعاعها واستقطابها غير قادر على الانتشار الكبير.
والقضية التي يمكن أن تحطم حدود المكان والزمان وتخلد إلى الأبد متجاوزة بموج الثورة إلى كل الأجيال والأمم في كل زمان وفي كل مكان، هي قضية تلتقي بصلاح الإنسان وفلاحه، وبهمّ بنائه وعمارته في طريقها الصاعد إلى مرضاة الله عبر الانسجام الكامل مع نداء رسالته.
وهي قضية تستوعب أبعاد الإنسان وواقعية الزمان والمكان وما يرتبط بهما وتدخلها في الحساب من دون أن تقف عندها في الهدف الأخير أو تتأطر بإطار هذه الحياة.

2ـ عظمة المثال:

لسان القضية المؤدي البليغ في الناس هو مثالها منهم، المجسد لها فيهم، الذي يشعُّ بوعيها وأدبها وإيحاءاتها وهداها وصدقها وأصالتها وسموها، ويوصل نداءها إليهم، ويلتقي في خطابه ولمحاته واشاراته وإيماءاته وإيحاءاته التي هي من خطابها وإيحاءاتها بعميق وجدانهم، وأصيل فطرتهم، وصادق همهم وطموحهم وتطلعهم. ولا يمكن للثورة أن يتأصل فيها وعي القضيَّة وأخلاقيتها بأزيد مما يكون لمثالها في الناس الحامل لرسالتها؛ إذ كما لا يمكن أن يزيد حجم الثورة وعطاؤها على حجم قضيتها كذلك لا يزيد على مقدار القائد المفجر للثورة ونصيبه من وعي القضية وأدبها لأنه المقدار الذي ستخوض به القضية صراعها، وتتشبع به الثورة في تفجّرها.
فالقضية وإن تكن أكبر قضية لا يمكن أن تكون ثورة كبيرة بقدرها ما لم تجد نفساً بشرية مثالاً تتسع لها، وتحمل قيمها وهداها ورسالتها في كل كلمة وفي كل موقف وفي كل منعطف، وعند كل منزلق. وبقدر ما يغيب من هدى القضية وقيمها في رجل القضية يغيب منها عن مرأى الناس ومسمعها ونفوسهم وأفئدتهم، ويثلم من قدر الثورة، ويخسر من وزنها وفاعليتها وأثرها.
هذا الرجل الأول في القضية والثورة هو معبر وعيها وأدبها للناس، وأثرها فيهم إنما هو بقدر ما تفيض به نفسه مما له منها من خير لا يقف عند مكان ولا زمان، ولا شعب ولا أمة، ومن هدى ونور وغوث ونصرة تنبسط بهما يد العطاء لكل طالب، بل يتفقد مواضع الحاجة إليهما منه قلب كبير يسع القريب والبعيد.
فكلما كان هناك مستوى إنساني قافز له من اللحاق بمستوى القضية البعيدة المتميزة نصيب أكبر، وكان مثال القضية ورمز الثورة كان أمل لموج الثورة وإشعاعاتها، وأكسبها قدرة على البقاء والتمرد على أعاصير الأيام وأحداثها المزمجرة؛ وإذا وجد المثال الإنساني القمة الذي يقف مع القضية في سماء رفيعة واحدة غنيَّة بالعطاء الذي تحتاجه الأرض ولا تستغني عنه أبداً أبى للثورة أن تذوب، وأن يجوز عليها ذبول أبداً.
وكلما كان للقضية نُخب تضم صوتها إلى بطلها، كان أعطى للثورة أن تُفهم وتمتدّ بدرجة أكبر في العقول والقلوب والنفوس، وأن تُتمثل أفكاراً هادية، وقيماً عملية، ومشاعر إيجابية واقعة في ذوات الكثيرين.

3ـ تجاوز التوقعات:

قد تولد الثورة في ظروف محسوبة لدى الكثير من المراقبين للأوضاع بلحاظ ما يقدّمه لهم سبرُهم وتجاربهم وتحليلهم الاجتماعي والنفسي والسياسي وحاسبتهم الفنيَّة في هذه المجالات، فيكون مجيئُها على تقدير مرئي للعديدين، وفي وسط من الترقب المتشائم للأعداء، والتفاؤل الضاحك للأصدقاء، وقد تأتي تقديراً ينفرد به قائد لا يسمح لغيره مستواه أن يري رؤيته، ويقدّر تقديره، تقديراً لا تقع عليه إلا عين البصير المتفرد، ولا ترقى إليه النخب، ولا يكتشفه النظر الحديد مما عند الآخرين.
وقد يفجر الثورة ابتداء عزم تلاقت معه عزوم على تسلّق القمة، ومقارعة الموت ومواجهة نتائج البركان، وقد لا يفجّرها ابتداء إلا عزم واحد متفرد من بين العزوم وإن تابعه منها ما يتابعه أثناء الطريق. هذا العزم يكون من اقدامه أن يواصل الطريق وحده غير مستوحش ولا آبه لفقد النصير، غير معلّق مضيَّه على الدرب الصعب على عدة ولا عدد، نعم شدة هذا العزم وتلحّظه يولدان عزوماً أُخرى لاحقة تشارك في البذل والعطاء، وشق الطريق إلى النتائج.
ومن التحركات ما يأتي ردَّ فعل تدفع إليه محاصرة الظروف التي تفقد الفرد أو الجماعة كل خيارات النجاة، وتجعل صاحبها في زاوية الموت الحادّة التي لا تنفتح على طريق ترجى منها السلامة إلاّ طريق تفجير الأوضاع. ومنها ما يأتي به خيار حرّ طليق من خيارات العقل والمروءة والدين، يقدّم التعب على الراحة، وشرف الشهادة على ذلّ الحياة، وإن كانت الشهادة صورة من أشدّ صور المأساة وآلام البدن، وكانت الحياة أنعم حياة وأرفه حياة؛ خيار من وحي الوعي الخالص، والتقدير الدقيق، والرؤية المتثبتة، والروحية الشفّافة، والتصميم الفولاذي الهائل، بلا محاصرة خانقة في الخارج، ولا انفعال هائج في الداخل، ولا غياب لأكداس المحن المترتبة عن النظر الحديد.
وقد تبدأ الثورة إعصاراً عاتياً وبركاناً هائجاً، إلاّ أنها من بعد حين وحينما تصطدم بصلابة الأحداث وهول المشاقّ تعود جوّاً هادئاً، وحالة وادعة، وتسكن ريحها وينتهي كل شيء وليكن ما يكن من نتائج يُحصل معها على الراحة وتسلم الحياة. وقد لا تزيد الثورة أيامها الصعاب المثقلة بالهموم، ودربها الطويل المليء بالتحديات إلاّ إصرارا وعزيمة، وإلا شدة وصرامة.
ومن الصور أن تجد الثورة أول انطلاقتها، وقبل انطلاقتها رأياً عاماً داعماً يستثير الهمة، ويشدّ العضد ويدفع على الطريق وخلاصة من آراء أهل المواقع تتفاءل لمستقبلها؛ وعلى خلافه قد لا تواجه الثورة عند بدء تفجُّرها إلاّ سخرية عدوّ، وإشفاق صديق، وتخديراً وتخذيلاً من أصحاب الرأي وأهل المشورة؛ إلاّ أن وعي القائد، ورؤيته الثاقبة، وروحه المضحية، وقيمه العليا وصرامة بأسه، وصلابة عزمه تجعله يتجاوز كل الآراء القاصرة، والمشاعر الواجفة، والحسابات الصغيرة ليمضي قدماً على هدى من ربّه، ويقين من دينه، وسلامة من نيته، وعلم بربح تجارته التي لا تبتغي دنيا، ولا تهدف إلى حطام، ولا يهمها أن تحتفظ بحياة؛ إنما كل همها نجح القضية ونصرها. يمضي قدماً لتأتي النتائج كما رأى في أول الطريق عزّاً وغلبة للقضية التي آمن بها؛ سواء سقط شهيداً في سبيلها، أم صار حاكماً يرعى مصالحها.
والثائر ليس واحداً في كل صورتين متقابلتين مما تقدّم، فالبطولة أكبر، والعظمة أبين حين تأتي الثورة من منبع رؤية يتفرد بها القائد، وتصميماً لا يشاركه ابتداء تصميم الآخرين، وخياراً حراً واعياً من قضاء العقل والدين، لا موقفاً يدفع إليه حصار خانق من الخارج، أو يسوق إليه هياج متهور من الداخل، ويحث عليه تشجيع وتزيين وترغيب من هنا وهناك. ولا بطولة ولا عظمة إلاّ بأن تثبت قدم القائد على المداحض، لتتثبت به الأقدام، وبأن ينتفي تراجع وتذبذب، ويكون الإصرار والمواصلة والاستقامة.
ولنقف الآن أمام ثورتين عملاقتين خالدتين ـ أمّ وشعاع ـ تُريانا مكانهما من هذه المقاييس، وثائرين كبيرين ـ أستاذ وتلميذ ـ يُعلمانا التمسك بهذه القيم؛ على أن الثورة الشعاع والثائر التلميذ، فضلاً عن الثورة الأم والثائر الأستاذ، سيبقى محل تشوق الكثير من الثورات والثائرين، ولن يملك الكثير اللحاق به، حتى تنتهي المسيرة إلى بقية الله الأعظم أرواحنا فداه وعجل الله فرجه لترى الدنيا كلُّ الدنيا فيه اليقين كله والصدق كله والعلم كله والشجاعة كلها والثورة أرفاها وأروعها وأعمقها وأشملها، وليريها الإسلام كاملاً في ثورته المجتاحة وعدله العميم.
تكون الوقفة مع الثورة الأم، ثورة الحسين السبط عليه السلام، ثورة الشهادة والإباء، والثورة الشعاع؛ ثورة القائد الخميني قدس سره في عدد من المحاور هي:
1ـ القضية.
2ـ القيادة.
3ـ النخبة والأمة.
4ـ الظرف والأداة.
5ـ النتائج.

ومما سيعنى به في غالب هذه المحاور صفة الشعاعية والامتداد في الثورة الثانية للثورة الأولى الأصل الثابت والمعين الذي لا ينضب.

المحور الأول: القضيَّة

تنطلق الثورتان المباركتان من محور واحد هو رضا الله سبحانه ببعدين متلازمين هما تأصيل الإسلام وتمكينه، وتحرير الإنسان وتكميله. والحديث تحت هذا المحور يكون في نقاط:
1ـ الإسلام.
2ـ الإنسان.
3ـ بين الإسلام والإنسان.
4ـ الهيمنة أو الشهادة. ما هو الطريق؟

وكلمة الأمام الحسين عليه السلام عن منطلق الثورة: «رضا الله رضانا أهل البيت»(2)، «هوّن علي ما نزل بي أنه بعين الله»(3).
ويقول الإمام الراحل عنه: «إن الله معنا، ونحن نعيش مع إسلامنا ونعمل لله، ولماذا يخاف من يعمل لله، وممن يخاف من يسير في طريق الله؟!»(4).
ويأتي فهم قائد الثورة الإسلامية في إيران من فهم سيده أبي عبد الله الحسين عليه السلام الذي يرى أن رضا الله سبحانه والعمل له إنما يتم ببذل النفس والنفيس لتثبيت الإسلام الأصيل في العقول والقلوب، والتمكين له في الواقع العملي من حياة النّاس إنقاذا لهم، ودفعاً بهم على طريق الكمال، طريق العبودية الخالصة لله سبحانه، في تحرر كامل من جميع الأوثان والعوائق.
ولنتابع عناية الثورتين بالإسلام والإنسان والفهم الدقيق لعلاقة ما بينهما، وما أكدتاه من طريقٍ لإنقاذ الإسلام وتحرير الإنسان.

1ـ الإسلام:

(إنَّ الدين عند الله الإسلام…)(5)، (ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)(6)، (… ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك همُ الفاسقون)(7)، (… ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك همُ الظالمون)(8)، (… ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك همُ الكافرون)(9).
طريق الصعود إلى الله، والتأهل إلى مرضاته، والتأدب بأدبه طريق واحد لم يترك الله عز وجل للعباد أمره، بل نصَّ عليه نصّاً، ورفض مما سواه رفضاً قاطعاً، فلا غير الإسلام، ولا بديل عنه، ولا شيء يضاف إليه.
وليس إلاّ الإسلام الذي يعترف بحاكمية الله ويردّ الأمر كله إليه، ويواجه من يعطي لنفسه حق الحاكمية من دون الله.
هذا هو الإسلام الذي كانت من أجله عاشوراء مواجهةً للإسلام الأموي اليزيدي المزيّف، وكانت من أجله الثورة الإسلامية في إيران ردّاً على الإسلام الشاهنشاهي الأميركي المكذوب.
إنه التمييز الواضح للإسلام اللافتة التخديريّة الاستغلالية الذي يعلو سوطاً على ظهور المحرومين المقهورين، ويُسوّق تبريراً لتسلط الظلمة الجبّارين. هذا التمييز الذي حرصت نصوص الثورتين على تركيزه وعياً وشعوراً وموقفاً عمليّاً في نفوس أبناء الأمة وجماهيرها العريضة، التمييز الذي أعطى قيمة خاصَّة لكل قطرة دم تقدَّست بهذا الوعي من دم شهيد أو جريح.
ومن النصوص الصارخة بهذه الرسالة من الوعي لكل أجيال الأمة وقوافلها، ولكل من يريد حكماً على الإسلام من كل النّاس، هذه البيانات الساطعة من سيد شباب أهل الجنة.
«وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي صلى الله عليه وآله وسلم. أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب عليه السلام»(10)، «…على الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد»(11)، «ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ بَرماً»(12).
إن الإسلام فهماً معيناً في فكر النّاس، وشعوراً خاصاً في نفوسهم، وموقفاً محدداً في سلوكهم، وعلاقات عمليّةً، وأوضاعاً سياسية واجتماعية واقتصادية، وقيماً تتلون بها ساحة الحياة، ونفسيَّة تكبر أو تصغر، وروحية تسمو أو تهبط ليتبع إسلام الحاكمين مع خلو الجوّ لهم وتفردهم بالساحة، فإذا حكم يزيد ولم يكن من يفضحه فلن يكون إلاّ الإسلام اليزيدي والإسلام الأميركي المترشح عن ذوات من أسفل الذوات، ومنابع جائفة لا يندّ عنها إلاّ خبيث رديء آسن. وهو كفر يتبرقع بما قد يتراءى إسلاماً في البداية، فلا يلبث أن يسقط القناع ويعلنها كلمة كفر صريحة لا مواربة فيها.
لذا لابدّ أن يقف الإسلام الصادق المتنزّل على قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رمزه الكبير وقدوته الأولى سيد الشهداء عليه السلام في وجه المؤامرة ليسقطها بدمه الفوار بنور الإيمان، الزخار بشعلة الهداية؛ لابدّ أن تكون الثورة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر في الدائرة الإسلامية الشاملة لصعيد الفكر والشعور والعمل والمنطلقات والأهداف والفرد والمجتمع، وأن يكون من هدف التحرك الثوري الضخم، هذا الهدف المقدس المتركز في سحق المؤامرة على الإسلام من الداخل، وتقديم الإسلام القرآني لكل الناس من خلال أوضاع حيوية متقدمة، وعلاقات إنسانية رائعة، تكون المدرسة العملية الشاهدة على عظمة الإسلام وكفاءته في قيادة الحياة وإيجابيته وعدله ونَصفه، الأمر الذي لا يتكفله القرآن الكريم ولا أحاديث السنة المطهرة تكفلاً مباشراً فاعلاً، وإنما هو مهمة الممارسة العملية لحكومة العدل الإلهي، التي تحول المفاهيم والأحكام والأخلاق والمشاعر التي يدعو إليها الإسلام إلى واقع عملي حيّ شاخص، وتملأ مساحة الحكم الولائي بما ينطلق من روح العدل، ويستهدف الحفاظ على المصالح العليا للرسالة وأمّتها، ملتزمةً في ذلك كله خطى السيرة القدوة المؤسِّسة، سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، والسيرة القدوة الباعثة، سيرةِ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وهي السيرة التي تردّ النّاس إلى السيرة عن التشريق والتغريب والميل عن الصراط ولو بمقدار. وما كان لكلمة الإمام الحسين المعصوم عليه السلام بدّ من تأكيد السيرة الثانية والتقائها كاملاً مع سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهما لسانان ناطقان عملا على حدّ واحد بقيم الإسلام ومثله كما هي في النصّ الإلهي المصون عن الزلل، ولتأكيد أن ما أعقب سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من دونها عدله نسبي، وتمثيله للسيرة القدوة مأخوذ عليه أنه منقوص.
نعم كان التقويضُ للإسلام اليزيدي، والتمكين للإسلام المحمدي الأصيل في أكبر مساحة ممكنة من عقول النّاس وأفئدتهم وأوضاعهم العملية؛ الهدف المقدس الذي هبّ من أجله أبو عبد الله عليه السلام على طريق مرضاة الربّ العظيم.
هذا الهدف الذي صرخت به كلمات الحسين الشهيد عليه السلام ونطق به جهاده المستميت، نجده تماماً في كلمات تلميذه الأمين ومواقفه، يقول قدّس سره الشريف: «إن شعبنا يعرف أننا نحارب من أجل الإسلام ومبادئ الإسلام، ونذود عن الإسلام»(13).
«نحن طردنا أميركا لنقيم دولة إسلامية، لا أن نأتي بالاتحاد السوفيتي محلها. شعارات شعبنا تظهر هذه الحقيقة. نحن قلنا دائماً لا غربيَّة ولا شرقيَّة»(14).
وهو الذي فجر الثورة العارمة من أجل الإسلام المحمدي الأصيل، مطلقاً تحذيراته المتوالية من الإسلام القشر الذي يختبئ فيه اللب المرُّ الخبيث المنتن الأميركي، والذي لا يتفتق إلاّ عن شجرة الكفر والإلحاد الصريحين.
يقول رضي الله عنه: «لن نسمح بعودة أميركا وروسيا إلى إيران، وسنطبق الإسلام الذي يريده الله»(15).
نعم هناك إسلام يريده الله وبه جاءت رسله ودعت إليه أولياؤه، وما زال ولا يزال يحمل رايته المخلصون من عباده، وهو علم وحكمة وصدق وعدل وتقدم ورخاء وتوحيد شامل، وعبودية خالصة لله تبارك وتعالى، فيها انطلاق الإنسان إلى كماله، وفيها انعتاقه من كل الأغلال وتحرره من كل العبوديات المحقِّرة المقزِّمة.
وهناك إسلام يريده الشيطان ويدعو إليه أولياؤه، ويجد أنصاره من الأراذل والصغار من طلاب الحياة الدنيا وباعة الضمير وذوي العاهات الروحية والإنسانية، إنه إسلام يزيد وأميركا وكل العملاء والأذناب والقنوات القذرة، لامتصاص دماء الشعوب واقتيات تقدُرات الناس ومقدَّراتهم، إنه الإسلام الذي يقف مع الكفر على صعيد واحد في مواجهة صحوة الفكر والضمير في كل مكان، ويقف بالمرصاد لأي إطلالة نور للإسلام المحمدي الأصيل.
وإن القائد الراحل رضي الله عنه جدّ الجد كلّه على خطى سيده الأمام الحسين عليه السلام ثائراً وعازماً أن يميّز للعالم كله بين إسلام تنزَّل من السماء علماً وعدلاً ورحمة وكرامة وأماناً وإحساناً، وإسلام صنعته شياطين الجن والإنس فكان جهلاً وظلماً وقسوة وخوفاً وإساءة وهواناً.
وبقي الهدف الإسلامي النبيل في الثورتين ماثلاً في كل كلمة، وفي كل موقف وحركة وسكون حتى آخر نفس مقدّس عند شهيد الطف سيد الشهداء عليه السلام، وآخر لحظة من حياة تلميذه الثائر البار الفقيه المجاهد.
2ـ الإنسان:

هذا هو البعد الثاني من بعدي قضية الثورة في كربلاء وفي إيران، فالهدف الثابت فيهما هو تجلية الإسلام وتمكينه، وتحرير الإنسان وتكميله؛ وذلك في إطار ما فجر الثورتين من طلب مرضاة الله العزيز العظيم.
وللإنسان والإسلام مصير واحد مشترك في الأرض، فلا يكون إنسان بلا إسلام، ولا يبقى إسلام بلا إنسان. الإنسان السوي هو خريج مدرسة واحدة ومحضن واحد، هو محضن الإسلام، والإسلام أمانة ثقيلة كبرى إذا كان لأحد في الأرض أن يتحملها فلا يكون إلاّ إنساناً محتفظاً بمقومات إنسانيته. أمّا المصابون بالمسخ في لبّ إنسانيتهم فلا ينهض بهم الإسلام.
وما جاء الرسل وما تنزلت الرسالات وما كان جهاد الأنبياء والأولياء إلاّ لصناعة الإنسان وتربيته وتكميله.
لذا فما من ثورة تصدق مع الإسلام إلاّ وتصدق مع الإنسان، وآية الزور في أي ثورة تحمل شعار الإسلام أن تستغل الإنسان أو تهمله. والإنسان كلّ مترابط لا تكاد تستقيم أُخراه بلا أولاه، ولا أولاه بلا أخراه، لا يكاد يكمل في معزل تام عن دنياه، أو تستقر له حياة بدنٍ في حالة من فوضى الروح وسقمها وتبعثرها.
وإنك لتجد نصوص الثورتين تنظر للإسلام والإنسان شُقَّي قضيَّة واحدة، وتعطي من همها لهما على حدّ سواء؛ وإليك من هذه النصوص:
عن سيد الشهداء عليه السلام: «وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمـة جدي صلى الله عليه وآله وسلم»(16)، «… وحششتم علينا ناراً، اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم».
ويقول المستلهم بحق لدروس الثورة في كربلاء الإمام الحسين عليه السلام ودروس الوعي في حكومة القرآن لأمير المؤمنين عليه السلام في نص القرار الذي سمّى فيه محمد علي رجائي رحمه الله رئيساً للجمهورية في صباح يوم عيد الفطر الموافق 2/8/1981م: «إن هذا الحكم يكون ساري المفعول طالما كان يسير في خط الإسلام العظيم وملتزماً بأحكامه المقدسة… وساعياً لخدمة مصالح بلده وشعبه العظيم… وإذا لا سمح الله عمل خلاف ذلك فاسحب الثقة والمشروعية عنه».
ويضيف في نفس النص وفي سياق الإلزام: «… وأن يفتخر ويعتز بخدمة عباد الله وبالأخص المستضعفين منهم، فإن هؤلاء هم الأوفياء للإسلام وحماة جمهورية إيران الإسلامية»(17).
ويقول: «من أعظم الخيانات أن يجعلوا طاقتنا الإنسانية متخلفة ويحولوا دون إصلاحها ونموها»(18).
وفي نص آخر: «إننا مع إعلاننا للبراءة من المشركين وما نزال مصممين على تحرير الطاقات المكبوتة للعالم الإسلامي»(19).
وفي ثالث: «انتصار القلوب أكبر من انتصار الحرب. وفتح القلوب أكبر من فتح البلدان»(20).
وهو يرى أن مهمة الإسلام تتمثل في أنه «يربي الإنسان ليكون إنساناً في جميع الحالات»(21).
تقف بنا نصوص الثائر الإمام المعلّم عليه السلام، ونصوص الثائر التلميذ رضي الله عنه على الوعي الإسلامي الأصيل، الذي يعمل من أجل أن يسمو بأوضاع الأرض والإنسان لا أن يحلّ منفصلاً عنها. أجلٌّ مفهوم يؤكده الإسلام، وهو مفهوم التوحيد الإلهي، إنّما يركّزه في عقل الإنسان وقلبه؛ ليصنع له تفكيره ووجدانه وشعوره وواقعه وعلاقاته وكل أوضاعه، لتشف وترف وتسمو وتتعالى.
إنه ليستحيل أن يتحول التوحيد في ظل وعي إسلامي أصيل إلى قضية فلسفية جامدة، تأكل العمر في أروقة الجدل المترف بعيداً عن أن تصنع وضعاً متقدماً للإنسان، في نفسه وواقعه الخارجي.
(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم)(22).
لا نعرف من القرآن الكريم ولا من سنَّة المعصومين عليهم السلام إسلاماً مفصولاً عن هموم الإنسان ومشكلاته، ومنعزلاً عن قضايا الساحة العملية، وهارباً عن مواجهة التحديات وخوض معركة الحياة.
فالإسلام الذي يقرّر للإمام الحسين عليه السلام الثورة والشهادة هو الإسلام الذي يُصلح أوضاع الأمة؛ الفكرية والروحية والنفسية والعملية من اقتصادية وسياسية واجتماعية وصحية وغيرها.
«وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي» والتغيير الشامل والإصلاح الكامل للعالم كل العالم وللدنيا كل الدنيا هو محطّ النظر عند أبي عبد الله الحسين عليه السلام؛ واصلاح الأمة الإسلامية هو الطريق للتحرير الشامل، الذي لا يهمل شعباً ولا ينسى أمة. وهل يراد للناس جميعاً إلاّ أن يكونوا أمة واحدة، مسلمة لله، مستكملة وجودها على طريقه؟! ومن سيصلح الأرض أهلَها وقيمَها وأوضاعها إذا لم يتم للأمة الإسلامية صلاحها؟! ومن أين سيعم الأرض الهدى وموازين القسط وقيم العدل إذا لم يتم نسف النقيض المتسلل على أيدي المخربين إلى ديار الإسلام وربوعه؟! لابدّ للإمام الحسين عليه السلام أن يحطم الحكم الطاغوتي داخل الأمة أولاً، ويبعثها رساليّة، ويواجه عدو الله وعدوها وعدو الإنسانية جمعاء ممن يسعى لإطفاء نور الله في الأرض في مهده ومنبعه، لتشعّ الأرض كل الأرض بنور ربها من بعد حين.
ويأتي الإنسان في كلمات الإمام الراحل محطّ النظر للإسلام والثورة لا في جانب منه دون جانب ولا حيثية دون أخرى. الإنسان كل مترابط بأبعاده الروحية والجسدية، والاهتمام به لا يتجزأ؛ لان هذه التجزئة المقابلة بترابط وجوده فاشلة حتماً في تربيته وتكميله، ومن هنا يكون السعي لخدمة مصالح البلد والشعب يعني محاولة الإثراء الشامل والإصلاح الكامل للوضع الإنساني والمعيشي لأبنائه، وأحداث التغيير الإيجابي في البنى التحتية والفوقية من وجود الإنسان وحياته داخله وخارجه.
ولا يكون الإصلاح جادّاً، بل لا صدق له أصلاً ما لم يكن المستضعفون والمحرومون محل العناية القصوى والاهتمام الشديد، وإلاّ فهو الشعار غير الوفي للأوفياء، والوعد المكذوب للصادقين.
والإنسان على ترابطه بكل أبعاد كيانه هو روح قبل أن يكون بدناً، وهو بعقله وقلبه ونفسه أكبر منه برجله ويده، بل هو ذاك الروح والقلب والعقل؛ أمّا ما هو من البدن فوسائل اتصال وأدوات وفعل وآلات إنتاج، لذا يكون من مهمَّة الثورة وهي تحارب الفساد كله، وتستهدف الإصلاح كله أن تركز عنايتها كثيراً في معالجة عطب الداخل في كينونة الإنسان، وإصلاح الخلل فيما هو اللب منه وهو أصل إنسانيته ومعناه. وأنت تجد هذا واضحاً في النصوص الأخيرة المنقولة للإمام الراحل قدس سره، ولا سيما في ما ركّز على انتصار القلوب وفتحها وتربية الإنسان؛ ليحيي إنسانيته وعيها وهدفها وقيمها، غنياً ومفتقراً، مغلوباً وغالباً، محكوماً وحاكماً، وفي جميع الأحوال.

3ـ بين الإسلام والإنسان

لا تزاحم مطلقاً بين الإسلام بقائه وعزّه وظهوره، وبين إنسانية الإنسان. فليس أكثر من أن يتطلب عزّ الإسلام تضحية الإنسان، وهو هنا إنما يضحي ببدنه تقديماً لإنسانيته التي لا تجد ذاتها إلاّ في الإسلام؛ وليس من لحظة يشهد فيها الإنسان حضوراً إنسانياً غنيّاً، وغزارة وتدفقاً وفاعلية لهذا الوجود، ونضجاً وقفزة في مستواه كلحظة إقدامه على الشهادة في سبيل الله واعياً مختاراً مطمئناً مخلصاً؛ إذ لا شك أنها اللحظة التي يصغر فيها عند الشهيد كل شيء من دون الله، ولا يكون كذلك إلا بأن يكون الله قد فتح عليه باباً من اللطف والهدى، وأسكن قلبه الطمأنينة، بما أراه من جماله وجلاله وصادق وعده، مما يريحه ويُرضيه ويرتفع بشعوره عن الدنيا وما فيها. وهي لحظة ترى إنسانية الإنسان فيها ذاتها صدقاً ظلاً لقدرة القدير ولطفه الكبير، وهل لإنسانية الإنسان غنىً ونضج وبلوغ غير أن نرى هذه الرؤية فتزايل الدنايا وتطيب وتطهر، وتستريح وتستقر، وتثق ويغمرها اطمئنان وفير؟!
وهذا الاتصال الحي المثري من الفاني بالباقي، ومن الذليل بالعزيز، ومن الفقير بالغني، يضاف إلى أنه يمثل القفزة الهائلة والنضج النهائي لإنسانية الشهيد أنه يبقى منذ لحظة الشهادة الاتصال الحي الثابت الدائم الذي لا غياب له ولا فتور.
هذا وقد يحصل التزاحم بين مصلحة البقاء والعز للإسلام، وبين البقاء عدداً من سنوات في الحياة الدنيا لبعض من مجتمع أو أمة؛ وهو تزاحم بين إنسانية الإنسان وعزه وكرامته وبقائه الخالد الراغد من جهة، وبين أن يبقى بجسده قليلاً أو كثيراً من سني الذّل والهوان والخسة في الفانين من جهة أخرى؛ وهو تزاحم لا يتردد فيه الإسلام بشهادة نصوصه الداعية إلى الجهاد، وتاريخه في الصراع المرير مع الكفر كله. لا يتردد أن يقدم عزَّ الإيمان وإنسانية الإنسان وحياة السُعداء الخالدين على حياة الذلِ والانسحاق في الأشقياء الفانين.
نجد هذا الفهم متجلياً في كلمة سيد الشهداء عليه السلام وهو يخاطب في رسالة له بني هاشم: «فإنه من لحق بي منكم استشهد ومن تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح»(23) ما أروع تجسيد كلمته عليه السلام التي خطّها بدمه الشريف في قلب الزمن، وهو دم لا يجف ولا يمّحي! ما أروع تجسيدها لقيمة الشهادة في سبيل الله وتسليطها الضوء على ذلك الانتصار الهائل لحظة الشهادة، على ضعف الذات وهلعها وحرصها وشحّها، وعلى ذلك الانطلاق الكبير من سجن الذات الدنيا إلى الأفق الممتد للذات العليا، والتحرر الشامل من أسر الطين ومشاغله ومخاوفه ورغائبه الصغيرة، والانعتاق الضخم للروح من قوقعة الأرض وحساباتها إلى الأبعاد اللامتناهية وراء عوالم المادة وأكوانها! فالشهادة في سبيل الله أكبر نصر ويوم فتح تحققه الذات في عالم ذاتها، وأمضى سلاح يحقق للإسلام عزه وللأُمة هيبتها، والتخلف عنها ذلة وهوان، وتقزّم في الذات الإنسانية وانكماش في أبعادها.
والكلمة الأخرى لسيد الشهداء عليه السلام في هذا السياق: «ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً»(24). قالها كلمةً لا يهدأ لهيبها حرفاً، وقالها كلمةً لا ينتهي تفجرها دماً.
ثم إنه لو كان موت بلا جنّة ولا نار لما صبر الحر على الحياة يدفع ثمنها ذلة من نفسه وانسحاقاً أمام طاغية من الطواغيت؛ كيف والشهادة تعني فوز الأبد؟! فهذا أبو الأحرار وهو يحمل على ميمنة العدو يعبر عن إبائه وحميته من جهة وعن شدة تقواه ومبدئيته من جهة أخرى.
الموت أولى من ركوب العار والعارُ أولى من دخول النار النار التي هي عنوان سخط الله ومقته، وعنوان الخسة والسقوط لمن كتبت عليه العارُ، وهو أشد من حزّ المدى والسيوف على الأبي مقدَّم عليها، وهو العار الذي يعني ذلة الظاهر في احتفاظ كامل بعزة الباطن، والعيش في ظل سيطرة العدوّ حين يعني تفجير الأوضاع تضييعاً أكثر للمصلحة الإسلامية العليا.
من بعد ذلك تأتي كلمات القائد الراحل قدس سره لتعبئ النفوس بالوعي التضحوي وخيار الموت، تقديماً للمصلحة الإسلامية العليا على كل شيء، مقتفياً خط الوعي الذي رسمه دم الحسين الشهيد عليه السلام: «فحفظ الإسلام هو أهم من جميع الواجبات، ولأجله جاهد وضحَّى غاية التضحية الأنبياء العظام من آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، لم يصدّهم عن أداء هذه الفريضة الكبرى أي مانع، وتابع الأنبياء على ذلك الصحابة المؤمنون، وأئمة الإسلام عليهم صلوات الله، سعوا بكامل الجهد حتى التضحية بالنفس من أجل ذلك»(25).
«إنَّ حفظ حياة المسلمين أهم من كل شيء، وإن حفظ الإسلام أكثر أهمية من الحفاظ على حياة المسلمين»(26).
«إن استشهاد أبناء الإسلام وذرية الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وأبناء فاطمة والحسين عليهم السلام في سبيل الإسلام وتحقيق أهدافه السامية ليس بالأمر الجديد، أو الظاهرة الحديثة، فلقد قدّمت الأمة الإسلامية العظيمة في محراب مسجد الكوفة وصحراء كربلاء، أرض العزّة والفخر والشرف على امتداد التاريخ الشيعي المخضّب بالدماء ـ قرابين عظيمة في سبيل الله ورفعة الإسلام العزيز. وإن إيران الشهادة غير مستثناة من هذه الظاهرة السعيدة، فالثورة الإسلامية قد قدَّمت الكثير من الشهداء الذين اختطّوا نهج إمامهم الحسين عليه السلام»(27).
وهكذا تحمل كلمات القائد الكبير الوعي الإسلامي الأصيل بأمانة وإخلاص عبر الكلمات والمواقف الثورية اللاهبة إلى كل أجيال الأمة، وتغرس فيها الروح المبدئية الصادقة، التي تجعلها تقدّم كل شيء من أجل الإسلام، وترى حياتها في الموت في سبيله.
ولقد نطقت دماء الأنبياء والأوصياء والصديقين وهي تسقي شجرة الإسلام عبر التاريخ المديد أن ليس من دم يمكن أن يبخل به على الإسلام؛ وكيف يعز دم على الإسلام وما شرف دم وما تقدس إلاّ بما انتمى للإسلام وجسده؟! وهل الدم الذي لا تسري فيه الروح المبدئية التضحوية الفوارة التي تذود عن الإسلام وتجاهد بين يديه إلاّ دم من دماء الأغنام والأبقار؟! لا يعز الدم إلا بالإيمان، ولا يسمو إلا بالتشرب بمفاهيم العقيدة وقيمها، ولا يكون كذلك أو يجوز عليه أن يحتفظ بتدفقه في العروق دون أن يتفجر خارجاً؛ ليسقي شجرة المبدأ ويدفع عنها غائلة الاجتثاث.
نعم هذه هي العلاقة. الإسلام من أجل الإنسان يربيه ويزكيه ويقوّم مسيرته ويصحح أوضاعه ويبلغ به غايته، والإنسان يتحمَّل أمانة الإسلام حتى الموت في سبيله، وهذا موت جسد فيه أشد حياة للروح وأكبر طفرة في الوجود، وأخصر طريق للغاية.

4ـ ما هو الطريق؟

الثورتان الأم والشعاع تستهدفان عز الإسلام وحفظ إنسانية الإنسان، لكن ما هو الطريق الذي ترشّحانه لتحقيق هذا الهدف؟ أهو النصر أم الشهادة؟ أم إن هذه كان لها طريق وتلك طريق ابتداء بالاختيار؟ هل اختارت الثورة الأم الشهادة من دون أن تطلب النصر وتخطط له؟ وهل اختارت الثورة الشعاع النصر من دون أن تقبل من الشهادة إلاّ ما يفرضه النصر العاجل؟
تاريخياً كان للإمام الحسين عليه السلام أيام معاوية بعد وفاة الحسن الزكي عليه السلام لقاءاته السياسيّة التحضيرية ببعض النخب في المجتمع الإسلامي يوم ذاك، وإن لم ير التحرك قبل هلاك ذلك الطاغية لأكثر من وجه. واختار الأمام عليه السلام مكة محلاً لاقامته بعد خروجه من المدينة لأسباب قد يكون في مقدمتها ما توفّره من فرص اللقاء بجماهير الأمة وطلائعها من كل نقاط البلاد الإسلامية، خاصة في موسم الحج الذي تزخر فيه بأفواج الحجيج وجموعهم؛ وكانت بين أهل الكوفة وبينه مكاتبات تتصل بالثورة، وقد أرسل إليها بهذا الشأن ثقته وابن عمه مسلم بن عقيل، وكتب كما ذُكر إلى زعماء في البصرة يذكّرهم مقام إمامته عليه السلام، ويستحثهم أن يسمعوا قوله ويطيعوا أمره؛ فكان سلام الله عليه بصدد تحشيد الأمّة خلف قيادته المعصومة للإطاحة بالحكومة الطاغوتية المفسدة إنقاذا للدين وتخليصاً للأمة، وإن كانت ملاحقات الحكم الأموي وتخطيطاته للقضاء السريع على حياته الشريفة إن لم يعط يد الذلة لم تترك له الفرصة للتحرك الواسع على هذا الطريق.
في ضوء هذه المعطيات وما يترتب على تسلم قيادة المعصوم لزمام الأمور في الظروف المهيأة لنجاح التجربة الإسلامية من نتائج لا تقاس عظمة لصالح الدين والمؤمنين، يكون النصر العسكري الذي يمكن لكلمة الله في الأرض، ويضع أمانة الحكم والحفاظ على مصلحة الدين والأمة باليد الأمينة الكفوء، التي لا تتحرك حركة ولا تتوقف إلا من منطلق العلم والحكمة والإيمان؛ يكون النصر العسكري مطلوباً للثورة، وشهادة من يستشهد من أجل تحقيق النصر لقيام الحكومة الإسلامية في الأرض، حتى تشرق بنُور ربها العظيم وتعمر زاكية ومن عليها.
وإذا شحَّت الظروف بالنصر وكان الانتظار مَحْقاً للإسلام، وقضاء على فرص النهوض للأمة، يتعين دور الشهادة المنقذة التي تضع الحكم الطاغوتي المفسد على برميل من الزيت، يحترق به قبل أن يدمّر الأمة ويجتث جذور مبدئها، ويتعين أن يسقط أقدس رأس لا يملك غير دمه الأزكى أن يرسم درب البعث والتحرير ويثير الحياة من جديد في عروق الأمة.
وهذا النصر الطولي له عدته كما أن النصر الابتدائي عدّته. ومن عدّة النصر بالشهادة في كربلاء ما دخل في خطط الثورة من اصطحاب أبي عبد الله عليه السلام الحرم والصبية من بيت النبوة، إعداداً للفصل الثاني في مواجهة الجاهلية، بعد فصل الشهادة حيث تأتي مهام التبليغ والإعلام والتوعية واستثمار ظروف المأساة، واكتشاف جماهير الأمة ولو جزئياً لشناعة جرمها بالمشاركة أو السكوت على خنق وجودها بقتل رجلها الكبير ومنقذها الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، ومن العدّة هنا أيضاً ما حرص عليه سيد الشهداء عليه السلام من أن تكون المواجهة لجيش الضلال في المرتبة الطولية بصفوة تتميّز بالوعي والمبدئية والصلابة، ولذا سعى جدّاً لتخليص جبهة الحقّ من كل النفعيين والمترددين، الذين لا يستطيعون أن يسهموا في نصر الشهادة وإن استطاعوا الإسهام في نصر الغلبة؛ ولذا تراه سلام الله عليه يخطب في من تبعه مرة بعد أُخرى، ويعطيهم فرصة الانسحاب حتى ينقي الصف من الضعيف، وتبقى النخبة القادرة على تسجيل موقف مبدئي صارخ بالكلمة والدم والصمود وعنفوان الإيمان. وإنك لتراه من جانب آخر يستصرخ الأحرار للحاق بقافلة الأمجدين.
إنقاذ الإسلام وتحرير الإنسان هو المطلوب على طريق الهدف الأكبر المتمثل في رضوان الله؛ إن يتحقق هذا بنصر الغلبة فذاك، وإلاّ فبنصر الشهادة، والطريقان معاً على طوليتهما محل التفات الثورة وتخطيطها المبكر.
وكتاب أبي عبد الله عليه السلام إلى بني هاشم يغريهم بالنصر في صورة الشهادة، وهو نصر الأمة والدين ولو من بعد حين، ونصرٌ عاجل ظافرٌ لذات الشهيد التي تحقق أكبر انطلاقة تحرريَّة في ذاتها بالشهادة: «فإنه من لحق بي منكم استشهد ومن تخلّف لم يبلغ الفتح والسلام»(28).
وها هي كلمته عليه السلام في أصحابه الأشاوس تعطي شهادتهم مضمونها الحي في بعدين: بعد التحرر الذاتي الهائل الذي لا يبقى معه قصور في الذات يحول بينها وبين مواقع النبيين وملأ الجنة أبداً، وبُعد الذود عن دين الله فيما يعنيه دم الشهيد من تهديد جدّي للطغاة وحكم الجاهليين في إيقاظه وإلهابه واستثارته للمخزون الثوري المطمور تحت الأتربة السوداء من إفساد الطغاة المجرمين: «يا كرام، هذه الجنة قد فتحت أبوابها واتصلت أنهارها، وأينعت ثمارها، وهذا رسول الله والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يتوقعون قدومكم ويتباشرون بكم؛ فحاموا عن دين الله ودين نبيه وذبّوا عن حرم رسول الله»(29).
وتأتي ثورة الشعاع وهي لا تستهدف إلا عزَّ الإسلام وتحرير الإنسان، لتطلب هذا الأمر بنصر الغلبة أو نصر الشهادة.
يقول السيد الإمام قدس سره: «إني أدعو لكم بالنصر ولكم ثواب الشهداء»(30). يقول ذلك لعشاق الشهادة الذين يسألونه الدعاء أن يُرزقوا إياها: «إن الباعث على الفخر والاعتزاز هو هذه المعنويات العالية والقلوب المليئة بالإيمان والإخلاص، وطلب الشهادة الموجود لدى هؤلاء الأفراد، الجنود الحقيقيين لولي الله الأعظم. وإن هذا لفتح الفتوح»(31).
«بل يجب أن نقلق فيما لو لم نتمكن من أداء واجبنا الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى به، يجب ألاّ نقلق فيما إذا هزمنا من قبل الشرق أو الغرب أو الداخل أو الخارج؛ لأن الخسارة الحقيقية هي عدم التزامنا بالواجب الإلهي»(32).
نستفيد هنا فكراً إسلامياً نيراً خالصاً مقتطفاً من شجرة النبوة والإمامة، ومن ثورة كربلاء الوعي والتخطيط، والدم والشهادة.
الجواب لعشاق الشهادة من المستهام فيها أنه علينا أن نحمل روح الشهادة بين جنبينا، وأن تكون أرواحنا على الأكف في سبيل الله ليكون لنا ثواب الشهداء، ولكن علينا ألا نفوّت فرصة واحدة لتحقيق نصر عسكري ساحق، يمكن لحكومة الإسلام وأطروحته في الناس من أجل أن يُصنعوا على عين الإسلام وفي رحابه الطاهرة، التي تعبق بالعدل والعلم والمحبّة والإخاء وكل المعاني الخلقية الرفيعة وأسباب التقدم والكمال، علينا ونحن نسترخص الحياة في سبيل الله وعلوّ الإسلام أن نطلب النصر العسكري ونخطط له بأقل الأثمان.
ويبقى الاستعداد للموت المبدئي، وحبُّ الشهادة والسعي لها بقدم راسخة ويقين أكيد، والتخطيط للفوز بها عندما تتطلب ذلك مصلحة الإسلام، يبقى كل ذلك مفخرة المفاخر ومادة النصر على المدى الطويل وضمانة العزّ للدين والمؤمنين في كل التاريخ؛ وإنه لفتح الفتوح كما تقول كلمته رضوان الله عليه.
ولم لا ولا نصر إذا لم تكن الروح التضحوية وحبُّ الموت في سبيل الله؟!! وإنه لا يدوم نصر بعد حدوث إلا بدوام هذه الروح وسريانها في أبناء الأمة، وتغلبها على حبّ الدنيا وكل ما يغرى وكل ما يستهوي من سحرها وزينتها.
نعشق الشهادة فتح الفتوح للأمة من منطلق الإيمان والإخلاص، وهو فتح الفتوح لكل من كان له هذا العشق الجليل؛ فإنه يعني السمو في التفكير، والرفعة في الشعور، والتحرر من أسر الدنيا، ووله القلب بالله؛ وفي ذلك العشق انفتاح بصيرة، وانطلاقة روح، وزكاة قلب، وعظمة ذات.
لذا فإن أمة تتوفر على هذا العشق لا تكون خاسرة وإن حالت الظروف القاهرة دون تحقيق النصر المادي أو كتبت عليها هزيمة الظاهر؛ فمن ربح ذاته فقد ربح كل شيء، ومن خسر ذاته فقد خسر كل شيء، والنفس التي تقدّم الله سبحانه على ما دونه قد بلغت نضجها؛ وخسائر الخارج لا تنال من هذا النضج والكمال ولا تثلمه.
ولنخرج إلى صورة تضع الفكرة في كلمات يسيرة، فالثورة إذا كانت إسلامية فهي لا تستهدف إلا عزَّ الإسلام وتحكيمه من أجل الإنسان وتكميله، وهي تدفع بالإنسان لحماً ودماً ثمناً لهذا العز والنصر، محققاً لنفسه بهذه التضحية أكبر قفزة وجود في ذاته، وأكبر فرصة بيده؛ لنصر دينه وأمته بعد أن لا يكون نصر إلا بالشهادة؛ والحصيلة أن الإسلام يضحي بالإنسان بدناً من أجله إنسانيةً وروحاً؛ تقديماً للباقي على الفاني، والأهم على المهم.

ـــــــــــــــ
(1) النحل : 121.
(2) انظر الوثائق الرسمية، عبد الكريم القزويني : 78، عن مقتل الحسين للأمين: 63.
(3) مقتل الحسين عليه السلام، المقرَّم: 279.
(4) رسالة الثورة الإسلامية: 40، العدد 27، ذو الحجة/1403هـ .
(5) آل عمران : 19.
(6) آل عمران : 85.
(7) المائدة : 47.
(8) المائدة : 45.
(9) المائدة : 44.
(10) مقتل الحسين عليه السلام، عبد الرزاق الموسوي المقرَّم، 1390هـ .
(11) الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين عليه السلام، عبد الكريم القزويني : 440، عن مقتل الحسين للأمين: 24.
(12) المصدر السابق: 111ـ112 ، عن مقتل الحسين للأمين : 90، والطبري: 301.
(13) رسالة الثورة الإسلامية: 41، العدد 27، ذو الحجة/ 1403.
(14) الشهيد، العدد 27/37.
(15) كيهان العربي، العدد 146، الخميس 3/ذو القعدة /1403هـ .
(16) مقتل الحسين عليه السلام لعبد الرزاق الموسوي المقرَّم: 139.
(17) صوت الأمة، العدد 18، شوال/1401هـ .
(18) رسالة الحرمين، العدد 23 : 42.
(19) منقولة من مصدر ضيّعته بعد ذلك.
(20) صوت الأمة، العدد 10ـ11: 7، 1401هـ .
(21) رسالة الحرمين العدد 23 : 42 .
(22) الجمعة : 2ـ3.
(23) انظر الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين عليه السلام ، عبد الكريم الحسيني القزويني : 47، عن كتاب عبرة المؤمن ، جواد شبر : 17.
(24) انظر المصدر السابق: 111ـ112، عن مقتل الحسين عليه السلام للأمين: 90، والطبري: 301.
(25) دراسات: 55، العدد 11، صفر/1411، أغسطس /1990م، عن الوصيّة.
(26) صوت الأمة، العدد 20 : 119، ذو القعدة/1401هـ .
(27) رسالة الثورة الإسلامية، العدد 65، ربيع الأول/1402هـ .
(28) انظر الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين عليه السلام، عبد الكريم الحسيني القزويني : 47.
(29) انظر المصدر السابق : 218.
(30) صوت الأمة، العدد 26، صفر/1402.
(31) جريدة حرس الثورة الإسلامية، العدد 37 : 5 ، ربيع الثاني / 1402هـ .
(32) الشهيد ، العدد 68، 18/ شوال/1401هـ .

زر الذهاب إلى الأعلى