خطبة الجمعة (147) 5 صفر 1425هـ – 26 مارس 2004م

مواضيع الخطبة:

 هادفية الخلق – شهادة الشيخ أحمد ياسين – تمييز حرام – الأوقاف الجعفرية

 

أيها الشيخ.. تريد أمريكا، تريد إسرائيل، يريد كل الطغاة والعملاء لهذه الأمة أن تكون أمة بلا قيم، بلا دين، بلا روح جهادية، بلا سلاح المقاومة، بلا نفسية المقاومة، بلا عزيمة المقاومة، بلا فن المقاومة، بلا نية المقاومة وإيمان المقاومة، بلا صبر، بلا صمود، بلا وعي، بلا اعتزاز بالكرامة، بلا شعور بالذات الحضارية، لنستعبد، لنداس، لنسحق، لنُستَغلّ ونُنهب، لنُذَلّ ونُهان.

 


الخطبة الأولى

الحمد لله الذي تقوم السماوات والأرض بقدرته، ولا تدوم إلا برحمته، ولا تثبت لغضبه ونقمته، وكل ما فيها مدبَر بأمره، خاضع لمشيئته، منقاد لإرادته.

أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه ورسله، صلى الله عليه وآله الكرام الميامين وسلم تسليماً كثيرا.

عباد الله ألا فلنتق الله، ولا نخلف له عهدا، ولا ننقض له ميثاقا، ولا نخرج عن طاعته، ولا نواقع معصيته، ولا نستبدل عن سبيله سبيلا، وهو الغني الحميد، العزيز القدير، الذي يُسأل ولا تسأل، ويستجار به ولا يحتاج إلى معين ولا ظهير.

ألا وإن الأيام متصرمة، والآجال قادمة، والأعمال محفوظة، والنيات معلومة، والمنايا محتومة، والدنيا مدبرة، والآخرة مقبلة، فلتُعد العدة، ولتُأخذ الأهبة، لرحيلٍ يومه غير معلوم، وساعته لا ندري عنها، وأمره خارج اليد، لا يملك منه صاحبه شيئاً. وليُطلب الفرار من تبعة حساب قد يطول موقفه، وعقاب قد يدوم مقامه، ولا يدفعه إلا إيمان صادق، وعمل صالح، ونية طيبة، وكل ذلك مما ينجي إنما وقته الدنيا لا الآخرة، ويومه قبل الموت لا بعده.

اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، واربأ بنا جميعاً عن معصيتك، وارزقنا توفيق طاعتك، واجعلنا من السابقين يوم القيامة إلى جنتك، والفائزين في الدنيا والآخرة برضاك، والآمنين برحمتك من طردك ونارك وغضبك، إنك أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فمع تتمة لحديث الأسبوع السابق في نقاط ثلاث:

الأولى: أرضيتان وحياتان:

نظرة جد للكون، والحياة، والإنسان، والدنيا، والآخرة، لا تستوي ونظرة لعب لكل ذلك، فحياة تقوم على نظرة جد غير حياة تقوم على نظرة لعب. فمن نظر إلى الكون والحياة والإنسان والدنيا والآخرة نظرة جد أقام حياته كلها على الجد، ومن نظر إلى ذلك نظرة لعب جاءت حياته لعباً وعبثاً ولهوا.

أرضيتان يقوم على كل واحدة منهما منهج غير ما يقوم على النظرة الأخرى. نظرة الجد تقوم عليها الهادفية، الاختيار الواعي، المواقف المتدبرة، المسلك الجاد، الرقابة والمحاسبة، الرؤية الشاملة للماضي والحاضر والمستقبل، وضوح المصير، فالمذنب يعرف مصيره، والمحسن يعرف مصيره، اطمئنان للحياة، للوجود، للكون، للحاضر، للمستقبل، احترام للذات وللآخرين، انضباط على الخط الواضح اللاحب. من نظر إلى الكون والحياة والإنسان والمصير نظرة الجد.. فكَّرَ، وتدبَّرَ، وتأمَّل، وبنى مواقفه على رؤية واضحة تمتد إلى المستقبل البعيد، واستثمر الوقت الاستثمار الذي ينسجم مع هدف الحياة، مع هدف الكون، مع هدف الوجود.

أما نظرة اللعب فما يقوم عليها هو اللاهدفيَّة على المدى الطويل، وإذا كان لنظرة اللعب أن تُنبت أهدافاً فهي أهداف اللاعبين، أهدافٌ قصيرة، أهداف كلها تتصرم في الحياة، وتتحرك في دائرة الحياة. أما الحياة في امتدادها الطويل، وجود الإنسان في مستقبله البعيد، فيبقى في نظرة اللعب بلا هدف!

الطفل قد يستهدف من لعبه شيئاً، ولكنه ليس الهدف الطويل، ليس الهدف المستمر، ليس الهدف البناء الذي ينسجم مع ما يقصد إليه العقلاء، وإن كان يأتي لعب الطفل جداً بحسب مرحلته. وفي لعب الطفل إعدادٌ له للحياة، وما هو لعبٌ في حق الكبار قد يكون هو عين الجد في حق الصغار، أما أن الكبير يصير صغيراً بأن تكون أهدافه صغيرة قصيرة منقطعة فتلك الكارثة، وذلك هو الجنون، وذلك هو السفه.

نظرة اللعب تقوم عليها اللاهدفية على المدى الطويل، وأهدافها وهمية، كهدف الخلود من خلال بقاء الاسم، من خلال بقاء البنايات الشامخة، من خلال تخليد الجندي بتمثال للجندي المجهول. كل ما نخلفه من ذكر، كل ما نخلفه من أثر لا يمثل شيئاً بالنسبة إلينا إذا لم ينقذنا في الحياة الآخرة، ولا يمثل لنا بناءً مستقبلياً رابحا.

مما يقوم على نظرة اللعب للكون، للحياة، للإنسان.. عبثية الحياة في مسلك الإنسان، ولا قيم في خط هذه النظرة، والنظرة على هذا الخط للذات وللآخرين نظرة ازدرائية، نظرة احتقار.

أنا لما أنظر لنفسي حيواناً لا أكثر، وأنظر لوجودي بأنه وجود ستين سنة ثم يتحول إلى جيفة وتراب وذرات منتشرة ضائعة في الكون العريض، فما هي تلك القيمة لهذا الوجود؟ المرء لما ينظر إلى نفسه جسداً، والجسد بين نطفة وجيفة، وهو على هذا الخط إناءُ عذرة، ما قيمة هذا الإنسان؟! من عمي عن أن ينظر إلى ذاته النظرة الصحيحة الإلهية، والنظرة الفطرية، على أنه شعاع من نور الله سبحانه وتعالى، على أنه عقل، على أنه ضمير، على أنه روح متصلة بفيض الله سبحانه وتعالى، وقادرة على أن تعبر المسافات الطويلة إلى منازل الكرامة عند الله، من لم ينظر إلى نفسه هذه النظرة فما قيمته؟! أهو أكبر وجوداً من ثور هائج؟ أو من حشرة راكنة؟ لا أرى للإنسان وجوداً أكبر من الحيوان حين تتخلى نظرته عن وجوده الروحي، وعن وجوده الشعاعي، وعن نور الفطرة في داخله.

هذه النظرة – نظرة اللعب إلى الكون والحياة والإنسان – تنبثق عنها كما سبق نظرة ازدرائية للذات وللآخرين، والمستقبل في إطار هذه النظرة مستقبل محدود متهاوَن به. أنا كم سأعيش؟ سأعيش ستين سنة؟مائة سنة؟ مائتي سنة؟ إنه مدى محدود، ومستقبل قريب. أما صاحب النظرة الجادة للكون.. للإنسان.. للحياة..فلا يسعه أن يتهاون بالمستقبل الممتد، بالمستقبل الأبدي، لا يمكن أن يتهاون بشقاء دائم، أو بسعادة خالدة.

نظرة اللعب للكون.. للحياة.. للإنسان.. تعطي الإباحية، و تعطي أن يقضي الإنسان حياته في اللذات الوقتية، وتعطي له أن ينطلق مع خط الإباحية، وتولد قلقاً وغموضاً في المستقبل البعيد غير المحدود، فإنه لا يمكن لإنسان ينظر إلى الكون وإلى الحياة نظرة اللعب أن يحدد تماماً أن هناك آخرة أو ليس هناك آخرة.

الثانية: جدٌ لا لعب:

اللعب بالمعنى الظاهر مكشوف لنا، ولكن هناك لعباً خفي المعنى، تدرك فئة من الناس – فئة الأنبياء والمرسلين والأولياء ومن تدبر أنه لعب, وأكثر الناس يرون فيه الجد كل الجد.

هذه أمثلة عابرة:

1- عملٌ يستغرق النهار وشطراً من الليل: ركضاً وراء المال في حالة من الغنى. إنسان استغنى غنىً يكفيه الحياة، ولكنه لازال يلهث وراء المال لهاث الفقير بفقر المدقع. لا يراد له أن تتعطل حركته في الحياة، ولكن يراد له أن ينظر الحياة وصلة للآخرة، وجسراً للآخرة. هذا المسكين لازال يرى الحياة كل شيء، لا يزال يرى الدنيا كل الأمل، ولا يزال يراها كل المعنى. إنه يتلهى، إنه يلعب. وكل من انحدر عن خط الهدف لاعب.

2- زخرفات تتجاوز الحد المعقول: فيما نبني، فيما نقتني.

3- حرق الثروات الفائضة مع جوع الملايين طلباً لأرقام هائلة من المال.

4- الصناعات البذخية من غير فائدة بناءة إلا الشهرة والتباهي: هناك مقتنيات تسعى إليها النفوس الرخيصة، لا تؤدي أي دور في حياتها، ولا تخدم هدفها من الحياة، ولكنها تستهوي نفساً صغيرة، فيجمع من المقتنيات ما يجمع من غير أن يعرف لذلك هدفاً. صحيح أن هناك هوايات، ويمكن أن تتجه الهواية لبعض المقتنيات، لكن أن يصل الأمر إلى حد السرف، إلى حد التلهي، إلى حد أن لا أرى ذاتي إلا في هذه المقتنيات، إنه ضرب واضح من ضروب اللعب. ([1])

5- إشعال الحروب وتدمير الثروات للحملات الانتخابية، ومن أجل تثبيت الكرسي: يُقدم رئيس من رؤساءِ الجمهوريات على أن يُدْخِلَ بلده كلها في حرب من أجل أن يُعاد انتخابُه، ومن أجل أن يتستر على فضائح له.

6- سباق الشكليات: كأكبر كعكة، وأكبر شجرة زينةٍ صناعية، وأعظم قلادة ورد.

7- توظيف ملايين الدولارات والدنانير للعبة كرة القدم: وهنا لا خلط، فقد يتوهم البعض أني أقول هنا بحرمة رياضة كرة القدم، إلا أنها إذا اتُخِذت رياضة، وفي الحدود المعقولة، ومن أجل هدف بناء الجسم، فذلك إنما من المباح وليس من الحرام. ولكن أن توظَّفَ ملايين الدولارات والدنانير مع جوع البطون، مع بقاء شعوب كثيرة بلا ماءٍ صالحٍ للشرب، مع فتك الأمراض الخطيرة بملايين من الناس، ألا يُعَدُ هذا لعباً؟!

8- السباق مع الموضة في المنزل والمركب واللباس والزينة وأمثالها.

9- الإنفاق المتهور على الدعاية التجارية الكاذبة لاستغفال الزبائن.

ثم إنه يدخل في ما هو لعب مما يُعِده الكثير جدًّا الاشتغالُ بالتكاثر، بالأشياء التي تفيض عن الحاجة كثيراً وتتجاوز الحد المعقول.

10- الولائم السفهية التي لا يراد بها إلا الشهرة الدنيوية الخاوية: البناء من أجل البناء، الفن من أجل الفن، حتى العلم من أجل العلم، علم الفقه من أجل علم الفقه، علم الدين من أجل علم الدين.. عبثٌ ولعب. ما لم يحمل طلب العلم، ما لم يحمل الفن، ما لم يحمل البناء، ما لم تحمل التجارة، ما لم تحمل كل أعمالنا التي تتمتع بمظهر الجِد هدفية الحياة، وترتبط بما هو الهدفُ الحقيقيُ للحياة.. فإنها داخلة في معنى اللعب بالمعنى الدقيقوالأصوب. الصلاة الرياء، الجهاد للرياء، التبليغ للرياء، هذه الخطبة إذا جاءت رياءً، كل ذلك لعب.

الثالثة: مفارقةٌ مدهشة:

إنسانُ الأرض على قصوره وعبثيته، يرى من الضرورة لاستمرارية الحياة الاجتماعية وانتظامها بمقدار.. أنّ عليه سنّ القوانين، والمطالبة بتطبيقها، والإثابة والعقوبة عليها، وأن يفرِّق بين محسن في نظره ومسيء، ويأخذ بهذا النظر في كل وزارة ودائرة. ثم يرى العبثية لوجوده وحياة نفسه، وأنه لا معنى لتطلعاته وأشواقه الروحية، ونظرته الأخروية، لا دنياً ولا آخرة. وكم هو عجيب من هذا الإنسان أن ينسب العبثية وغياب الهدف لعملية الخلق على يد العليم الخبير الحكيم؟! وتعجب للإنسان كيف يخطط لكل عمل صغير في حياته ويجعل لذلك هدفاً، ثم يفرغ حياته نفسها من الهدف، ويهمل أن يخطط لها على ضوئه.

وأركز قبل الختام على وعي وتذكر هذه الحقيقة، حقيقة أن الحضارة الإسلامية حضارة جِدٍ لا لعب، وأن كل حضارة مادية هي في لبها حضارة لعبٍ لا جِدْ، وذلك على ضوء ما تقدم.

اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، واجعل حياتنا جِدّا، وعملنا صالحا، ومحيانا كريما، ومماتنا سلاما، وعاقبتنا خيرا، وآخرتنا خلودا هنيئا، ونعيماً مقيما، يا أكرم الأكرمين، ويا أجود المعطين.

بسم الله الرحمن الرحيم

“قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد”.

الخطبة الثانية

الحمد لله الحق العدل، العليم الخبير. خبيرٌ فوق كل خبير، عالمٌ لا يحاط بعلمه، عدلٌ لا يجارى عدله، حقٌ ليس مثله حق. أمر عباده بالعدل والإحسان، وأثاب من عدل، وكتب العقوبة على من ظلم، ولا مفر لأحدٍ من عدله، ولا مهرب له من حكمه.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الأمين على وحيه، والمبلغ لرسالاته، والقائد إلى صراطه، صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وسلاما.

أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة بتقوى الله القائل في كتابه العزيز “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم”. وهذا وعدٌ منه سبحانه لمن آمن واتقى برحمة منه، تغنيه في الدنيا وتغنيه في الآخرة. نصيبان وافران لهذا المؤمن المتقي قد تكفل بهما ربه، ووعد الله لا يخلفِ.

وإذا مشى الآخرون في ظُلَمٍ من ظلمات الدنيا لا يهتدون منها، مشى المتقون بنورٍ من عند الله لا يبقي شبهة ولا حيرة، ولا يكون معه انحرافٌ ولا عثرة، ذلك في الدنيا؛ وفي الآخرة يلازمهم نور الكرامة والرضا، والمعرفة الجلية، المغنيةٍ المشرّفة.

وقد قال الله سبحانه “أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون”. وقال عز من قائل “يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم”.

ربنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وأخرجنا من ظلمات الإلحاد والشرك والشك، وارزقنا نور الإيمان والمعرفة واليقين، واجعلنا من عبادك المتقين.

اللهم صل على البشير النذير، والسراج المنير، والهادي الأمين محمدٍ و على آله الطاهرين، وصل وسلم على علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وصل وسلم على فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله الزكية المعصومة التقية، وصل وسلم على الحسن والحسين الزكيين والإمامين الوليين، وصل وسلم على أئمة المسلمين وهدى المؤمنين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ضياء الدنيا والدين. وصل وسلم على المنقذ المذخور، والإمام المنصور، باعث الإسلام ومحيي القرآن محمد بن الحسن المرتضى والمؤتمن. اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه وانصره نصراً عزيزا وافتح له فتحاً مبينا.

عبدك الموالي له، المناصر لمنهجه، والممهد لدولته، والفقهاء العدول والعلماء الصلحاء، والمجاهدينالغيارى، والمؤمنين والمؤمنات العاملين في سبيلك، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم، وبلغهم مناهم من خير الدنيا والآخرة، وانصر بهم دينك يا كريم.

أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فمحاور الحديث ثلاثة:

– شهادة الشيخ أحمد ياسين

– التمييز الحرام

– الأوقاف الجعفرية

شهادة الشيخ أحمد ياسين:

أيها الشيخ.. ماذا هابوا فيك وماذا عادَوا منك وأنت الرجل الذي أقعد جسدَه عن الحركة شللُه النصفي، وأجهدته الأمراض؟! هابوا فيك وعادَوا منك فكرك المبدئي، كلمة الحق المزلزلة على لسانك، إرادتك الجهادية الحرة الجريئة، إلهابك لمشاعر المجاهدين، بصيرتك السياسية، رفضك المساومات الرخيصة المذلة، استقطابك لأفئدة الغيارى المجاهدين المخلصين من أبناء شعبك، معنوياتك العالية، غيرتك على مقدسات أمتك وكرامتها، تبنيك الخيار الإسلامي، إصرارك على المقاومة، نموذجية روحك الجهادية البطلة، التي تستنهض القاعد وتستثير الجبان، وتحول شجاعة الشجاع إلى بركان.

أيها الشيخ.. تريد أمريكا، تريد إسرائيل، يريد كل الطغاة والعملاء لهذه الأمة أن تكون أمة بلا قيم، بلا دين، بلا روح جهادية، بلا سلاح المقاومة، بلا نفسية المقاومة، بلا عزيمة المقاومة، بلا فن المقاومة، بلا نية المقاومة وإيمان المقاومة، بلا صبر، بلا صمود، بلا وعي، بلا اعتزاز بالكرامة، بلا شعور بالذات الحضارية، لنستعبد، لنداس، لنسحق، لنُستَغلّ ونُنهب، لنُذَلّ ونُهان. وإذا كنت الذي تريد لأمتك خلاف ذلك، فلا بد أن يقتلوك، ويمزقوا جسدك الواهي مِزقاً مِزقا، ويُقطِّعوك إرَباً إرباً عسى أن تنطفئ شعلتك الجهادية المتسعرة. ولكن الشهادة لا تطفئ شعلة الجهاد، ولا تقتل روح المقاومة، وإنما توسع في مداها، وتديم فاعليتها فيحرارة أكثر، وتسعّر أشد، وبدافعية أكبر.

إنهم أرادوا أن يقتلوك لكنهم وسعوا بالشهادة مداك، وكم فعل من الأولين والآخِرين من داخل الأمة وخارجها، من أجل إيقاف حركة الجهاد، مثل ما فعلوا وأكثر ما فعلوا، وحركة الجهاد متواصلةٌ متنامية، متعاظمةٌ متفاقمة. قتلوا أكثر من صدرٍ وصدرٍ كبير، صدرٍ عملاق، صدرٍ شهم، صدرٍ قائد، صدرٍ عالم، صدرٍ كله إيمان، صدرٍ كله ثورة، صدرٍ كله إخلاص. وقتلوا أكثر من حكيم([2])، وقتلوا أكثر من هاشمي أبيّ، له من الكفاءة ما يقود حركة الحياة على خط النجاة، وقبلُ قتلوا الإمام الحسين عليه السلام، وقتلوا أمير المؤمنين عليه السلام، ولكن الإسلام يُنبت رجالاً على مدى التاريخ، ينبت عمالقة، ينبت قادة فولاذيين، ينبت قادة مبدئيين لا يلينون أمام إرادة الاستكبار الجاهلي.

وإنه لمِمّا يستوقف النظر، الرد السريع لحزب الله اللبناني على الجريمة النكراء في الجبهة اللبنانية، الشيء الذي يعطي درساً للذين يقسمون الأمة المسلمة إلى مسلم وكافر، وهم يحدثون بذلك شرخاً واسعاً بين أهل القبلة الواحدة والإخوة في الإسلام. ودرساً آخر للذين يستسيغون ظلم السنة للشيعة، أو الشيعة للسنة في الوطن الواحد، ليستثيروا العداوة والبغضاء بين إخوةٍ يراد لهم الاشتراك في بناء الوطن، والدفاع عنه، ورعاية مصالحه، وتنمية مكاسبه. إن موقف حزب الله ليقول للجميع: الشيعيّ حرب على من حارب السنيّ، والسنيّ حرب على من حارب الشيعيّ، والكل جبهة واحدة في مواجهة العدوان من خارج الأمة أومن داخلها، حتى يُحَقَّ الحق، ويبطل الباطل، ويمضي العدل على الجميع من خارج الأمة ومن داخلها.

تمييزٌ حرام:

التمييز الطائفي في عدد من الأمور داخلَ الدائرة الإسلامية مستهجنٌ بالغ الاستهجان، قبيحٌ ظاهر القبح، محرمٌ جليُّ الحُرمة، فتّاك بالوحدة الوطنية والإسلامية، خلاّقٌ للفتن المدمرة، قريبٌ إلى البداوة الجافية، بعيدٌ عن روح الحضارة الراقية. فالواجب على أي بلد ابتلي به أن يتخلص منه بأكبر سرعة ممكنة.

والحالة الطائفية على المستوى الرسمي في وطننا العزيز البحرين أمرٌ كان قائماً ولا يزال، وهي حالة موثقة، وأرغب في تجنب ذكر هذا التوثيق لمعاداتي للاستثارة مكتفياً بالإشارة. وعندما تكون الحالة مَرَضيَّةً شاخصةً موثقة، فلا يسَعُُ أي حركة إصلاحية أن تُهمِلَها، أو تتراخى في حلها، ولا يصح لأحد أن يدافع عن بقائها على الإطلاق.

وما ينبغي أن نُصرَّ عليه جميعاً سنة وشيعة، حاكمين ومحكومين، هو العمل بالتسريع بتخليص الوطن من هذه الحالة البغيضة المتخلفة بكل المقاييس الدينية والأخلاقية والحضارية والوطنية، وبمقياس المصلحة المشتركة، والهمّ المشترك، والجهد المشترك، والمصير الواحد، بعيداً عمّا يعكّر الأجواء، ويثير سوء الظن، ويضعف من التماسك المطلوب.

وينبغي أن تكون أساليب المطالبة غير مثيرة، ولكنها مواظبة على المطلب مواظبة تنهي المشكل بسلام إنشاء الله، حيث أن بقاء الظلمٍ لا يصح أن يُقر، وعاقبة الظلم سوءٌ دنياً وآخرة، وهو شرٌ لا يمكن أن يُعقِب إلا شراً ما بقي للجميع.

وفي الأخذ بأساليب تؤدي بطبيعتها إلى تقويض الأمن خسارة الجميع، وتحطيمٌ لجسور الثقة والتعاون.

وإنه ليُتعجب من مسئول رسمي يشعر بمسئوليته أن يهنأ له أن يستمر التمييز الظالم، ومن مسلم يحترم إسلامه لا ينكره، ومن ذي خلق كريم لا يستوحشه، ومن مواطن حريص على مصلحة الوطن لا يرفضه، ومن متحضر يعي ضرَرَه لا يشجبه. التمييز الطائفي الظالم قبيحٌ بغيض، علينا جميعاً أن نبغضه وأن ننبذه، وأن نشترك جميعاً حكومةً وشعباً في محاربته.

الأوقاف الجعفرية:

أولاً:

الوقف عمل قربيٌ يُقبل عليه عدد من القادرين المؤمنين طوعاً؛ طمعاً في ثواب الله، وحرصاً على الحفاظ على مصالح الدين، وسداً لحاجات فئات من المؤمنين. وقد أسهم الوقف كثيراً في تقويم الحوزات العلمية الدينية والمساجد والحسينيات في البلاد الإسلامية من ناحية مادية، وأي إساءة في استعمال الأوقاف يؤثر سلباً وبدرجةٍ كبيرة في توجه المؤمنين لوقوفاتٍ جديدة.

ومنذ أن تدخلت الحكومات بوضع يدها على الأوقاف انصرف نظر الكثيرين عن الأخذ بهذا الأمر الحيوي، الذي يعود بفوائد كبيرة على المصلحة الدينية.

ثانياً:

قد نشرت مخالفاتٌ كثيرة منافية لمصلحة الأوقاف، وخارجة عن الحكم الشرعي، مما نسب إلى دائرة الأوقاف الجعفرية. وقد تم الاطلاع على عدد من الوثائق في هذا المجال، وثبوت بعض هذه المخالفات كافٍ للقلق الشديد والاستنكار لما كان قد حدث، على أن الولاية على الأوقاف في وضعها الحاضر غير صحيحة، بغض النظر عن وجود مخالفات وعدمه. ولشرح هذا الأمر يذكر الآتي:

أ- مسألة الأوقاف لا تدخل في المجال السياسي، ولا في ميزانية الدولة، وليست لها أي علاقة بأي من هذين الأمرين.

ب- تنظم الأوقاف والولاية عليها أحكام شرعية محددة، فمن ناحية الولاية يجب أن يكون ولي الوقف هو من ثبت تعيينه في متن الوقفية، وبذلك يكون هو الولي الشرعي. وعندما يترك تعيين الولي في متن الوقفية تأتي ولاية الفقيه العادل المتوفر على شروط الفتيا والحكم. وإذا لم يمكن الفقيه فتأتي ولاية العُدول من المؤمنين من أهل المعرفة بهذه المسائل.

ومن النواحي الأخرى التي تتصل بالوقف صرفاً واستثماراً وبيعاً وإجارةً وغير ذلك، فإن الأحكام الشرعية تتكفل بصورة تامة بمعالجتها وإعطاء الرأي الحاسم فيها. وهذا كله داخل في الشأن العُلمائي ولا علاقة للأوضاع الرسمية به.

ج- من المقطوع به أن الواقف على المسجد أو الحسينية أو الحوزة العلمية الدينية إنما يتجه قصده إلى ما تريده الشريعة، إلى تولية من ترى الشريعة توليته في هذا الأمر. ولا شك أن من ترى الشريعة توليته في هذا الأمر بعد أن لم يكن هناك ولي خاص مُسمى في متن الوقفية، إنما هم الفقهاء العُدول أو عُدول المؤمنين عند فقد الفقيه العادل. وهذا كله يقضي بدرجة جازمة باستقلالية الأوقاف وإدارتها استقلالية تامة.

فإذا وُجدت إدارة للأوقاف فإنما تكون من المؤسسات الأهلية الخالصة، لهذا نطالب باستقلالية إدارة الأوقاف استقلالية كاملة، على أنه يمكن للدولة أن تراقب حركة المال في هذه المؤسسة على حد مراقبتها لسير الحركة المالية في الجمعيات الأهلية الثقافية والاجتماعية مثلا. وإن تدخل أي وزارة أو دائرة أو مؤسسة من الهيكلية الرسمية بأكثر من ذلك يلغي هذه الاستقلالية التي لا يرضى الشرع بدونها.

اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا ومن أحسن إلينا إحسانا خاصاً من المؤمنين والمؤمنات. اللهم بفضلك ورحمتك سد عنا أبواب الشر، وافتح علينا أبواب الخير، وأخرجنا من كل سوء، وأنقذنا من كل بلية، ونوّر قلوبنا بنور الإيمان، وآنسنا بذكرك، وشرفنا بعبادتك، وهب لنا عافيتك يا كريم يا رحيم.

“إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون”.


[1] – وصناعات بذخية ترفية تنشأ ويرَّوج لها لتمتص جهود الملاين وأموال الجائعين والمحرومين مستغلة هذه التوجهات المتطرفة ومشجعة عليها تمثل ضرباً من اللعب بعيداً عن هدف الحياة.

– هو كذلك،[2]

زر الذهاب إلى الأعلى