خطبة الجمعة (145) 20 محرم 1425هـ – 12 مارس 2004م

مواضيع الخطبة:

 

وقفة مع كلمة لأمير المؤمنين(2)  – مساجد لا ساكتة ولا مُفسِدة – شعار الاستثمار – إصلاح أو أمركة

 

يا أمريكا.. يا أنظمة.. نحن مع الإصلاح النابع من خصائصنا، ومن منطلق الحفاظ على هويتنا، ومصالحنا، وثرواتنا، واستقلالنا. وخصائص هذه الأمة المعطّلة هي أنها أمة العدل والمساواة، واحترام إنسانية الإنسان

 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي شرع لعباده منهج حياتهم، وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته، رحمة بهم، وتكميلاً لهم، وإسعاداً لدنياهم وآخرتهم، وليست له حاجة في طاعة من أطاع، ولا مضرة تلحقه سبحانه من معصية من عصى.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وبارك عليهم جميعاً.
أوصيكم عباد الله ونفسيَ الخاطئة بتقوى الله، وطلب مراضيه، فلا قيمة لغنى غني.. وقوة قوي.. وعلم عالم.. وكل ما كان من خير موروث أو مكتسب أبعد عن الله، أو لم ينل به صاحبه مرضاته. فلا يقف نظرُ ناظر منا وهمّه عند خير من خير الدنيا فينقلب عليه شراً. فخيرٌ يحبس النظر عن مرضاة الله.. ويحرم من جنته وإكرامه وإنعامه الذي وعد به الصالحين من عباده.. هو عين الشر، وسعادة دنياً تسلب سعادة الآخرة هي عين الشقاء.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وأعذنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات من شقاء الدارين، وارزقنا سعادتهما، واجعلنا ممن أهّلتهم بالصالحات لرضوانك، وكتبت لهم جنتك، وأكرمتهم بقربك و الزلفى لديك.
أما بعد فهذه عودة للكلمة الهادية المتقدمة عن أمير المؤمنين عليه السلام، استكمالاً للحديث في ضوء مقرراتها.

تقول الكلمة “إن الله سبحانه أمر عباده تخييراً ونهاهم تحذيرا، وكلف يسيراً ولم يكلف عسيرا، وأعطى على القليل كثيرا، ولم يُعصَ مغلوباً ولم يطع مُكرِها، ولم يرسل الأنبياء عبثا”.

“وأعطى على القليل كثيرا”:

في تعاملات الدنيا.. كم يبذل الناس وكم يأخذون. الطالب يدرس سنوات متواصلة، يبذل فيها جهداً كبيراً، ويسهر الليالي من أجل شهادة توظفه بعض سنوات، يـتأتى له من هذه الشهادة والوظيفة منزل يأوي إليه، لقمة تشبع بطنه، كسوة تكسو ظهره، وما زاد عن الحاجات المعقولة للبدن مما ذكر وأمثاله ينقلب عليه مضرة. كل ما يمكن أن يحصله الإنسان من جهاد الدنيا في الدنيا هو أن يسد حاجاته، وكلما بالغ في اللذات كلما أهلك نفسه وأتلف عمره، وجلب لنفسه المضرة البالغة. هذه هي حصيلة الشهادات، وحصيلة الابتكارات والاكتشافات، والعمل الدؤوب والسهر الطويل، وليس شيئاً آخر على مستوى الدنيا. أما الشهرة فهي وهم؛ فإن الشهرة والجاه لمن كانا له لا يُسكنان ألمه، ولا يفرّجان همه، وقد يكون الإنسان ممن يتقلب في فراشه من مضض الألم وثقل السقم، واسمه مستطير في العالم كله، ولا ينقذه أن اسمه مشهور، وأن له شهرة عريضة في العالم.

ويهجم الهم على القلب، والواحد منا بين أحبته وفي قومه وملأه، وهو محاطٌ بكل الأسباب التي تعطي في الظاهر الأمن، إلا أن كل ذلك لا يفرّج له همه ولا يكشف عنه غمه.

فالعمر حين يُبذل للدنيا ثمنه قليل، والنفس حين تُستهلَك في دائرة الحياة الحاضرة هي نفس رخيصة. فالأثمان في الدنيا بين أهلها قليلة، يعطى الواحد قبال ذكائه وفطنته وحكمته وخبرته وتجربته ودراسته الطويلة – بعد أن تشتريه أمريكا أو روسيا أو أي بلد آخر – ما يوفر له البيت واللقمة والكسوة مما سبق ذكره ولا أكثر، على أنه يكون المستهدف، المبغوض، الساقط.

فالأثمان بين أهل الدنيا للحياة قليلة أيها الأخوة، وقليل الإنسان في تعامله مع الله إنما يدفعه لنفسه. وهو أساساً نعمة من الله عنده، أما ما أعده الله له فتقل عنده الدنيا كاملة. صلاة واحدة من العبد يقبلها الله سبحانه وتعالى لا تقع الدنيا كلها ثمناً لها في كرمه وجوده. والتفتوا أن ثمن الدنيا منتهٍ، وثمن الآخرة على بقاء وفيه خلود، وثمن الدنيا ثمن متنازع عليه، وثمن الآخرة ثمن مأمونٌ لا ينازعك أحد عليه. وثمنٌ هنا قد لا يدفع مرضاً، وثمنٌ هناك يعني السعادة بكاملها. فروق وفروق بين ما هو ثمن الدنيا وبين ما هو ثمن الآخرة.

أما ماضوية الفعل حين تقول الكلمة “وأعطى على القليل كثيرا” فهذه الماضوية بلحاظ التشريع، فقد شرّع سبحانه وتعالى وكتب أن يعطي على القليل كثيرا، وقد تكون هذه الماضوية في الفعل لما عليه تحقق الوعد الإلهي حتماً، وأن وعد الله في حكم فعله، وأن ما وعد الله به سبحانه وتعالى واقعٌ واقع.

“ولم يُعصَ مغلوبا”:

من يُعصى من الناس قد تكون معصيته لمغلوبيته لأنه عاجز قاصر القدرة. فالحاكم من حكام الناس قد يُعصى، ومعصيته قد تكون لقصور قدرته، أما الله عز وجل فلا قصور في قدرته. ولو فوّض الله سبحانه وتعالى لخلقه الفعل، وأنه خلق وانفصل عن خلقه بقدرته، وكانت لهم القدرة المستقلة على الفعل، لعنى ذلك أن قدرة الله قاصرة فعلاً، وأن عجزه سبحانه وتعالى متحقق وحاشى الله.

قدرة الله في مدرسة أهل البيت عليهم السلام مُمسِكة بكل المخلوقاتِ ونظامِ الكون في كل لحظة، فكونكم كله نور، وهذا النور لا يبقى إلا ببقاء مصدره، ومددٍ من مصدره. نور المصباح لكي يبقى لحظة لابد أن يُمدّ بالطاقة الكهربائية من المصدر، وحين تنقطع الطاقة الكهربائية ويتوقف التيار فلا نور للمصباح. ولو توقف تيار المدد الإلهي عن هذا الكون لحظة لغرق في ظلمة العدم. فالوجود نور، ونوره بمددٍ من مصدره الإلهي الدفاق الذي لا ينتهي.

الكون يُخلَق في كل لحظةٍ لحظة، الكون يتدفق الفيضُ الإلهي ليوجده حدوثاً بعد حدوث، وليس أن الكون وُجد وبقي مستمراً وحده. نور المصباح لم يوجد وينفصل عنه مصدره، واستغنى عن مصدره، والكون أيضا لا يستغني عن مصدر العطاء لحظة واحدة. هكذا تصور لنا مدرسة أهل البيت عليهم السلام الأمر. قدرة الله في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ممسكة بكل المخلوقات ونظام الكون في كل لحظة، وهي التي تمد الإنسان بالطاقة والفعل ومتطلباته، وقدرة اختياره وعدمه، حتى قدرتك على الاختيار تعطَى لك كل لحظةٍ لحظة. أنت مختار.. ولكن الممسك بهذا الاختيار هو الله. الذي يعطيك هذا الاختيار هو الله، ولو شاء في أي لحظة أن يوقف عنك قدرة الاختيار لأوقفها، لو شاء أن يجبرك لأجبرك. فلا مكان للقول بأن العبد يعصي قهراً على الله عز وجل.

وهذه الكلمة من الإمام علي عليه السلام “ولم يعص مغلوبا” للتصحيح العقيدي، لأن هناك رؤية تقول أن الله يطاع ويعصى خارج إرادته التكوينية، وهذا تعطيل لقدرة الله سبحانه وتعالى. الكلمة للتصحيح العقيدي وللحماية النفسية من الانهيار أمام انتفاش الباطل على يد الكافرين والمنافقين، “أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب، جند ما هنالك مهزومون من الأحزاب”. ما هم الأحزاب؟ ما قيمتهم؟ ما قيمة أمريكا، روسيا، الصين، اليابان، كل العالم الكافر؟ “جندٌ ما”، هزيل، صغير، لا يُذكر، مهزوم أمام قدرة الله سبحانه وتعالى وجبروته وبطشه وأخذه. فلا انهيار، لا انبهار، لا سقوط في نفسية الإنسان المؤمن أمام انتفاش الكفر.

“ولم يُطَع مكرِها”:

أولاً: الطاعة تكون بفعل المأمور به وترك المنهي عنه، فلو كان الإنسان مجبراً على الطاعة مطلقاً لم تقع منه المعصية. الإجبار على الطاعة يعني أن لا تقع من الإنسان معصية، بينما المعصية واقعة من الإنسان فعلاً. هذا يكشف عن أنه لا إجبار على الطاعة. أنت لو كنت مجبراً على الطاعة لم تستطع أن تعصي ولو مرة واحدة، ولكننا نعصي، وهذا برهان أننا لسنا مجبورين على الطاعة.
ثانياً: ولو كان الإنسان أحياناً يجبر على الطاعة وأحياناً يجبر على المعصية ويعاقب عليها لكان الله ظالماً، تعالى ربنا عن ذلك علواً كبيرا. على أن طاعة المطيع أسبابها من عند الله، وإقدار العبد على اختيارها بفضله، ولا تحصل له إلا بتوفيقه. أكونك مختاراً في طاعتك يعني أن لك جميلاً على الله؟ أن لك تفضلا على الله؟ لا أبداً. لماذا؟ الجواب هذا: طاعة المطيع أسبابها من عند الله، وإقدار العبد على اختيارها بفضله ولا تحصل له إلا بتوفيقه .

ثالثاً: الجزاء بالثواب على الطاعة مستحَق، لكن ما معنى استحقاق العبد ثواب الله على طاعته؟ هل سجل جميلاً على الله، فكان على الله أن يجزيه؟ كونك تستحق الثمن من عندي أنك أعطيتني مثمناً. العبد لا يعطي الله شيئاً أبداً حتى يستحق عليه بذات فعله ثمناً، ذات الفعل من العبد لا تسجل على الله عوضاً أبدا. ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمنٌ لطاعته عند الله باستحقاقٍ ذاتي لأفعاله وطاعته، إنما هذا الاستحقاق يعني أن الله عز وجل كتب على نفسه أن يجزي المطيع بالإحسان، وكتب ذلك على نفسه تكرماً منه وتفضلاً، وليس أنك سجلت على الله جميلاً تستحق به ثواباً عنده. الجزاء بالثواب على الطاعة مستحق، واستحقاقه ليس ذاتياً لفعل العبد، لأنه لا إحسان منه لبارئه، وإنما استحقاقه بجعلٍ منه سبحانه، وبما أخذه على نفسه من مجازاة طاعة العبد بالإحسان إليه.
اللهم صل على محمد وآل مح
مد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولمن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأصدقائنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين. اللهم اهدنا جميعا بهدى محمد وآل محمد، واجعل لنا من علمهم علما، ومن تقواهم تقوى، واحشرنا في زمرتهم، واكتب لنا جواراً معهم في جنة الخلد يا كريم يا رحيم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وأنحر، إن شانئك هو الأبتر }

الخطبة الثانية

الحمد لله البعيد في شأنه، المتعالي في عظمته، المحتجب بعزته، الخفي بجلاله وجماله وكماله، القريب من مخلوقاته بسلطانه وهيمنته وقدرته، وتدبيره وتصرفه ولطفه ورحمته، وغوثه لمن استغاثه واستجابتِه.
أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وصفوته، صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيرا.

أوصيكم عباد الله ونفسيَ المشفق عليها بتقوى الله الذي لا إله إلا هو، ولا معطي ولا مانع سواه، ولا ضارّ ولا نافع غيره، وأن يكون اشتغالنا بإصلاح أنفسنا قبل اشتغالنا بإصلاح غيرنا، وعنايتنا بمعنانا أكبر من عنايتنا بقالبنا، فإن صلاح الغير مع فساد الذات لا يُنقذ، وحسن المرأى مع سوء الطوية لا يسعد. ومن سره أن يراه الناس جميلاً وهو يعلم من نفسه القبح أثبت ذلك منه سفهاً شديداً، وجهلاً بالغاً، وكان ممن يستعيض بسفهه عن الحقيقة بالوهم، وبجهله عن الماء بالسراب.

اللهم أعذنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات من الوقوع في الوهم، والسقوط في الضلال، ومن إفناء العمر وراء السراب، والاقتناع برضا المخلوقين مع سخط الخالق.

اللهم صل على محمد الهادي الأمين، وإمام المتقين، وقدوة السالكين، ورحمتك في العالمين، وعلى آله الطاهرين. اللهم صل وسلم على الزاهد العابد، والراكع الساجد، الولي المجاهد، الإمام علي بن أبي طالب، اللهم صل وسلم على فاطمة الزهراء التقية النقية الزكية، اللهم صل وسلم على الحسنين الزكيين الهاديين الوليين، اللهم صل وسلم على أئمة المسلمين: علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري القادة الميامين.

اللهم صل وسلم على إمام الزمان، وترجمان القرآن، محمد بن الحسن القائم المنتظر، اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً وافتح له فتحاً مبيناً، ومكن له في ارضك وعبادك تمكيناً.
اللهم عبدك المواليَ له، الممهدَ لدولته، والفقهاءَ العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والعاملين من المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وسائر المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم، وبلغهم مناهم من الخير، وانصر بهم دينك والمستضعفين من عبادك.

اللهم نستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أما بعد فيتناول الحديث موضوعات من الساحة المحلية والإسلامية والعالمية بقدر الإمكان: مساجد لا ساكتة ولا مُفسِدة، شعار الاستثمار، إصلاح أو أمركة، اليوم العالمي للمرأة، تفجيرات مجنونة في مدريد.

أولاً: مساجد لا ساكتة ولا مُفسِدة:
مساجدنا وحوزاتنا… المساجد والحوزات الإسلامية على خط الإسلام لا ساكتة ولا مفسدة، لا هي شيطان أخرس، ولا هي شيطان مفتن، ولا هي إرهابية مدمِرة، ولا هي إذاعات رسمية مغرِرة، ولا هي مصدِّرة لفتاوى التكفير، ولا هي بمُمَيِّعة. هي آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، مطالبة بالحقوق بأسلوب حواري يجنب الأوطان خطر الصمت، وأن تحترق بالفتنة. هاهي مساجدنا وحوزاتنا.

أما توظيف أئمة الجماعة والجمعة توظيفاً رسمياً فهل يُراد به تأكيد هذه الوظيفة؟ حتى يكون الأمر كذلك.. لابد من مماشاة المشاريع لخط المسجد، والأمر ليس كذلك. إذا أريد بالتوظيف – توظيف أئمة الجماعة والجمعة – هو ما ذكرنا من وظيفة المسجد وأكدنا عليه.. فلا بد أن تجاري الأوضاعُ الخارجية خط المسجد، على أن الواقع يشهد بغير ذلك، فلا يكون الغرض ما ذكرت.

فسواءٌ أحسنّا الظن أو أسأناه في قانون التوظيف، وسواء فتحنا لأنفسنا باب التجويز لأخذ الأجور أو لم نفتحه، فالنتيجة واحدة، وهي تسييس المسجد ليجاري السياسات الوضعية، التي منها ما قد يستقيم، ومنها ما قد ينحرف عن خط الدين.

ثانياً: شعار الاستثمار:

شعارٌ يستعمل في مواجهة أي اعتراض ديني وأخلاقي على الفساد، ولتمرير مشاريع تهدم الدين، وتقوّض البنية الأخلاقية والقيم. كلما جاء مشروع يحمل فساداً، ويمثل معول هدم للأخلاق والقيم والدين، وواجه معارضة من شعب مؤمن رُفع شعار الاستثمار في قبال هذه المعارضة. هذا الشعار قد تحوّل شعار إرهاب فكري، ولمصادرة الرأي الآخر، ولتغرير الجائعين والمحرومين، حيث يُستثار المحروم والجائع في قبال الدين، وفي قبال الصوت الديني والخلقي، بتصوير أن هذا الصوت يعطّل المشاريع التي تشبعه، المشاريع التي تملأ يده بالمال، على أن الجائع والمحروم ليس له من مشاريع استثمارية تقوم على هدم الخُلق والقيم فلسٌ واحد، إنما ملايين هذه المشاريع هي من دخل الجيوب المترفة لا غير.

نحن نقول أن الاستثمار منه ما هو نظيف، ومنه ما هو قذر، ومن حق الشعب أن يطالب بالاستثمار، وبالخطط الاستثمارية، وأن تكون هذه الخطط الاستثمارية من أجل استثمار نظيف يتسق وينسجم مع هويتنا، ومع قيمنا وخطنا الحضاري. والدنيا لا تعجز.. والعقلية لا تعجز أن تتفجر عن خطط للمشاريع الاستثمارية النظيفة، وما حصر الله سبحانه وتعالى الرزق فيما هو محرم وفاسد.

لا شك أن المشاريع الاستثمارية القذرة تواجه معارضة في هذا البلد وغيره من البلدان الإسلامية الملتزمة، وهذا يجعل هذا النوع من الاستثمار يهرب عن البلدان الإسلامية. الاستثمار القذر إذا رأى أن الطريق مفتوحٌ أمامه في بلد فمعنى ذلك أن ذلك البلد ساقط خلقياً، وأن غيرة أهله قد انتهت، وأن انقلاباً حضارياً على الخط الإسلامي قد حصل. كلما وجدنا أرضاً تستقبل مشاريع استثمارية قذرة بصورة مفتوحة، وكلما وجدنا هذه المشاريع تتوافد على هذا البلد، كلما ثبت أن البلد قد خسر إسلامه. أما إذا وجدنا أن المشاريع الساقطة.. المشاريع السافلة.. مشاريع الفساد.. المشاريع الاستثمارية القذرة تهرب من بلدنا فهذا يجعلنا نحمد الله، ونقول عن بلدنا بأنها على خط الخير، خط الحضارة الإسلامية والخلق القويم.

لكن نسأل لماذا يهرب الاستثمار النظيف؟ تتحدثون لنا عن هروب الاستثمار القذر، وتضجون لهروب الاستثمار القذر، لكن دعونا نسأل لماذا يهرب من بلدنا الاستثمار النظيف؟؟ أتمتلكون الشجاعة أن تقولوا ما السبب؟؟ نحن نعرف السبب… تلك مشاريع تضايَق، تلك مشاريع تُنتهَب لأيدٍ خاصة، وهذا ما يجعلها تهرب. افتحوا الطريق للمشاريع الاستثمارية النظيفة التي تؤسس اقتصاداً سليماً قوياً يتفاعل معه الشعب ويحتضنه ويؤيّده ويتظاهر من أجله.

هناك شعاران: شعارنا نحن الإنسان والاستثمار، الإنسان الروح والبدن، والاستثمار من أجل الإنسان، لا الاستثمار الذي يحوّل الإنسان إلى حيوان. حين تصرخ دائماً استثمار استثمار وتُغيّب الإنسان وكرامة الإنسان، وكذلك مصلحة الإنسان المستضعف، فهذا من النظر إلى الأشياء بنظرة عوراء. افتح عينيك معاً وقل لنا استثمارٌ وإنسان.. استثمار من أجل الإنسان.

ولا تقل لي استثمار ولو كان على حساب روح الإنسان.. قيمه.. كرامته.. أمنه.. سعادته. هذا الشعار قاصر وماديٌ صِرف.

ثالثاً: إصلاح أو أمركة:

المطروح أمركة باسم الإصلاح، وهذا لا يشك فيه مسلم من المسلمين، وهي أمركة عقول، ومشاعر، وإرادة، وأوضاع حضارية، وأوضاع اقتصادية، وأوضاع سياسية، وأمركة لكل الساحة الإسلامية. ولكن.. لماذا فزع العديد من الأنظمة؟ غيرةً على الإسلام؟ انتصاراً لخط الحضارة؟ إشفاقاً على الشعوب؟ هذا فزع غير معتاد من الأنظمة أن تقفه أمام الأمركة. اعتدنا احتضان تغيير المناهج، احتضان القواعد العسكرية، اعتدنا الاشتراك في الحروب مع أمريكا في خندق واحد، اعتدنا تواجد الجيوش الأمريكية على الأرض، اعتدنا المشاريع التحللية المستوردة، اعتدنا أن أسواقنا أسواق لترويج البضائع الأمريكية، اعتدنا أن نفط الأمة تحت الخدمة الأمريكية. الأنظمة التي تقف هذا الموقف كله يُعجب منها حين تقف موقفاً فزعاً من شعار الإصلاح الجديد، إصلاح الشرق الأوسط، ومشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تطرحه أمريكا. الأمركة هذه المرة كأنها تطال مصالح الأنظمة، ومن هنا جاء الفزع. تطال بنياتها بعض الشيء، تطال سلطانها العريض المطلق بعض الشيء.

وهناك شعاران عند الأنظمة لدرء الخطر الأمريكي، شعار الإصلاح من الداخل حفاظاً على الهوية وخصائص الذات، والذات هنا هي الذات الوطنية، والذات القومية، والذات الحضارية. هذا الشعار يُطرح من الأنظمة قبال الإصلاح الأمريكي على مستوى الشعوب، ومن أجل استنهاض الشعوب، وأن تكون نصرتها للأنظمة في هذه المعركة. لكن هناك شعار آخر لا يُطرح على الشعوب، يُطرح في أروقة المفاوضات، وفي الخلوات للاعتذار للأمريكي عن مشروعه الجديد، هذا الشعار هو خطر تسلق الإسلاميين والإرهابيين إلى مواقع القرار والسلطة. ماذا كانت قيمة الخصائص الثلاث حسب المعتاد؟ خصائص الذات الوطنية، والقومية، والحضارية، عند الأنظمة؟ تقدم أن الثروات للأجنبي، القرار للأجنبي، التبعية الحضارية للأجنبي، مواجهة النهضة الحضارية الإسلامية، اعتدنا أن أوطان الأمة الإسلامية تباع ثرواتها، وتباع أرضها بثمن بخس، وتوهب بلا ثمن للأجنبي، اعتدنا مواجهة الحضارة الإسلامية – التي يُدافع عنها الآن – في مواجهة الطرح الأمريكي، اعتدنا استرخاص الدم المسلم، واسترخاص الروح المسلمة من أنظمة كثيرة في البلدان العربية والإسلامية، اعتدنا تهميش وإهدار كرامة هذا الإنسان الذي يُراد الحفاظ عليه اليوم في صورة شعار يطرح أمام الإرادة الأمريكية للإصلاح الجديد.

والإصلاح من الداخل لابد أن يُنتظر طويلاً أيها الإخوة كما عطّل طويلاً، وعُذب وشرِّد وسجن وقتل من دعا إليه. الإصلاح الخارجي مقابَل بالإصلاح الداخلي، ومطروحٌ الآن شعار الإصلاح الداخلي الذي انتظرته الشعوب كثيراً، ونادت به كثيراً، وعُذبت وشردت وقتلت من أجله كثيراً كثيرا. وهذا الإصلاح لابد أن يُنتظر كثيراً؛ لأن إنسان هذه الأمة لازال غير ناضج، لا يجيد استعمال الديمقراطية، ولا النقد، ولا المشاركة في الحكم، ولازال قاصراً يحتاج إلى تربية طويلة في نظر كثير من أنظمة الأمة.

يا أمريكا.. يا أنظمة.. نحن مع الإصلاح النابع من خصائصنا، ومن منطلق الحفاظ على هويتنا، ومصالحنا، وثرواتنا، واستقلالنا. وخصائص هذه الأمة المعطّلة هي أنها أمة العدل والمساواة، واحترام إنسانية الإنسان، وكرامته وحريته الحقيقية لا بمعنى التسيب البهيمي، واحترام دوره الخلافي، وقدرته على المشاركة الإيجابية الفاعلة في صناعة تاريخٍ إنسانيٍ مجيد، وعلى السبق العلمي والتنافس على طريق الصالحات، هذه أمة الإنتاج الكريم، والقيم والخلق العظيم، والانفتاح على خير الإنسانية جمعاء بلا تمييز.

اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولمن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة. ربنا اكتبنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات عندك في الصالحين، واجعل سعينا في رضاك مع المتقين، وجنبنا أذى المفسدين، وباعد بيننا وبين الظالمين، واكفنا شر المعتدين، يا أرحم من استُرحم، ويا أقوى من كل قوي، ويا أعز من كل عزيز.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

زر الذهاب إلى الأعلى