خطبة الجمعة رقم (144) 13 محرم 1425 هـ – 5 مارس 2004م

مواضيع الخطبة:

 

وقفة مع كلمة لأمير المؤمنين(1) – مذابح همجية 

 

من سلك مسلك التكفير والحكم بالشرك على المسلمين قد خرج عن الحد الديني عامةً.. كان سنياً أو شيعياً، وعليه أن يرجع إلى الحد الديني الأصل، ويمكن أن يكون سنياً ويمكن أن يكون شيعياً بعد ذلك. إلا أنه وهو يُلصق تهمة الكفر بأدنى مناسبة بالمؤمنين.. بالمسلمين.. فهو على انحرافٍ من الفكر الإسلامي

الخطبة الأولى

الحمد لله الحميد المجيد الفعال لما يريد. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا.

أوصيكم عباد الله ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله، ومراقبته في ما نُعلن ونُسِرّ، فإنه العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يُكِنُّ منه ليلٌ داجٍ ما فيه، ولا قلبٌ مخبوء ما يحويه، وهو العلي القدير الذي لا يفوته صغير ولا كبير.

عباد الله اعرفوا ما جئتم له في هذه الحياة، وأمضوا العمر في طلبه، ولا تنفقوا المهلة في ما يُلحق الخزي، ويشقي النفس، ويعقب العذاب. وما ربح من ضحك أياماً ليبكي الأبد كله، وما أفلح من عاش دنياه في الشهوات ليوافي بموته الحسرات، ويجد له مستقراً دائماً في النار.

اللهم صلي على محمد وآل محمد، وأعذنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات من مضلات الفتن، ومن شقاء الدنيا والآخرة، وخوف الدنيا والآخرة، وخزي الدنيا والآخرة، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وتوفنا مع الأبرار.

أما بعد فقد جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام ” إن الله سبحانه أمر عباده تخييرا، ونهاهم تحذيرا، وكلف يسيرا ولم يكلف عسيرا، وأعطى على القليل كثيرا، ولم يعص مغلوبا، ولم يُطَع مُكرِها، ولم يرسل الأنبياء لعبا”.

ولنقف مع هذه الكلمات وفكرها النير وتوجيهه العقلي والإسلامي الدقيق.

1- أمر عباده تخييرا:

من الأوامر ما هو مستحب على المستوى التشريعي، ومنها ما هو واجب، ومن النواهي على المستوى نفسه ما يعني الكراهة، ومنها ما يعني التحريم. أما من ناحية ما أعطي الإنسان من قدرةٍ على الفعل وعدمه، وعلى أن يقرر الاستجابة لله وعدمها، وعلى أن يطيع أو يعصي، فهذه الأوامر حتى ما كان إلزامياً منها على المستوى التشريعي يكون تخييرياً.

أنت ملزَم شرعاً بأن تفعل إذا كان الأمر واجباً، لكن من حيث قدرتك على الفعل وعدمه، ومن حيث ما أعطاك الله عز وجل من إرادة ومن قوى، تستطيع أن تفعل فتطيع، وتستطيع أن لا تفعل فتعصي. والكلمة تعني أن الأوامر الإلهية تخييرية من ناحية قدرة الإنسان التكوينية على الفعل وعدمه.. على الاستجابة وعدمها.. من ناحية الإرادة التي وهبها الله عز وجل لهذا الإنسان بأن يفعل أو لا يفعل.

ولولا هذا التخيير، ولولا هذا الإقدار على الفعل وعدمه – من حيث ما رزق الإنسان من إرادة، ومن حيث القوى التي وفَّرها الله سبحانه وتعالى له– لبطل التكليف. فإن المسألة لو كانت جبرية لم يكن معنى لأن يأتي رسل، وتنزل كتب، وتكون خطابات، ولبطل الثواب والعقاب كذلك. يبطل الثواب بما هو ثواب.. نعم، يمكن أن يحسن الله سبحانه للعبد حتى لو لم تكن منه طاعة وحتى لو كان مجبورا، أما عنوان الثواب والجزاء فلا يتحقق إلا بأن يكون الإنسان قادراً على أن يفعل وأن لا يفعل، فاختار الفعل في مقام الأمر، واختار عدم الفعل في مقام النهي. فالإمام علي عليه السلام في هذه الكلمة الواردة عنه ينفي مسألة الجبرية عن الإنسان، ويقرر أن الإنسان مختار في مسألة الطاعة والمعصية لله في مورد التكاليف. فهناك مساحة للتكليف، هذه المساحة للتكليف.. الإنسان فيها قادرٌ على أن يطيع وعلى أن يعصي.

2- أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيرا:

هناك أوامر ونواهٍ إلزامية كما سبق، ومعنى الإلزام في الأوامر وفي النواهي أن القانون يفرض عقوبة على من تأخر عن الفعل في مورد الأمر، أو أقدم عليه في مورد النهي. هذا معنى الإلزام التشريعي والقانوني. نحن ملزمون بالصلاة بمعنى أننا إن لم نصلِ نستحق أن نُؤاخَذ، والخمر محرم علينا لزوماً بمعنى أن من شرِب الخمر منّا حقت في حكم الله عقوبته.

النواهي على المستوى التشريعي فيها ما هو إلزامي، ولكن على مستوى القدرة على الترك والفعل، فكل النواهي – ما كان منها على مستوى الكراهة، وما كان منها على مستوى التحريم – فإنها تخييرية، أي أنا بما أنا إنسان قد أعطاني الله عز وجل الإرادة، وأعطاني اليد التي تتحرك، والعين التي تبصر، والجوارح الأخرى، وأعطاني كل الظروف التي تمكنني من الفعل وعدمه؛ فأنا مختار، والاختيار هو أرضية التكليف وأرضية الجزاء من ثواب ومن عقاب.

من جهة أخرى نجد أن القرآن الكريم لم يحمل تعليمات طبية صريحة في كل الموارد تمثل تحذيراً من الأمراض الخطيرة، لم يأت التحذير من السرطان في القرآن الكريم والأخذ بأسبابه، لم يأت التحذير من السل ومن أسبابه، التحذير القرآني لم ينصبّ بشكل واضح وجلي ومركز إلا على خطر الآخرة. نعم، في القرآن قواعد صحية، في القرآن قواعد حياتية تمثل منهجاً إلهياً للنجاة في هذه الدنيا والسعادة فيها، لكن التركيز في التحذير إنما نجده على أخطار الآخرة.. لماذا؟ الإنسان هنا مدفوع بأن يهتم اهتماما بالغاً بصحته، وقد أعطي العقل للبحث والاستقصاء في أسباب ما يشفي مرضه، وما يمرض جسمه، وما يقيه الأمراض. الإنسان أعطي عقلاً يمكن أن يتحرك به في هذه الحياة ويبني حياته من خلال جهده العقلي، ومن خلال تجربته وخبرته. ولو لم يكلَف الإنسان بأن يقيم حياته بيده، وأن يتقدم بها بيده، لملّ الإنسان وسئم.

لكن العقل الفعال في قضايا الحياة، وفي قضايا العلم الذي يرتبط بالحياة، والصحة التي ترتبط بالبدن، هذا العقل لا نجده قادراً على أن يقضي بأمرٍ في مسألة الغيب. نعم، العقل يطلُّ بك على الغيب، يعطيك إيماناً بالغيب، أما تفاصيل الغيب فيقف العقل عاجزاً عن أن يقضي فيها. نحن لا نرى خطر الآخرة، نحن نرى المرض وصعوبة المرض، نرى الموت فنتوقى منه، نرى السقم الفتاك الذي يمثل معاناة لصاحبه، ولذلك نطلب كل الوسائل التي نستطيع أن نفر بها من المرض، نفرّ بها من الفقر، نفر بها من المعاناة، أما خطر الآخرة فليس لنا علم به، لذلك يأتي التركيز الكبير على خطر الآخرة والتحذير منه.

ثم إن خطر الآخرة لا يمكن أن يقاس به خطر الدنيا بأي صورة من الصور. هذه الأخطار الدنيوية، هذه الأمراض والأسقام التي تمثل معاناة وعذابات شديدة في الحياة، حين تقاس بخطر الآخرة لا تساوي شيئاً، لا في مدتها ولا في كمّها ولا في نوعيتها. فخطر الآخرة.. عذاب الآخرة.. يفوق بما لا نستطيع أن نقيسه عذاب الدنيا إقامةً ونوعاً وكمّاً. حيث إن من صورة عذاب الآخرة أن الإنسان يجتمع عليه العذاب نفسياً وروحياً وجسدياً دفعة واحدة، ولا يشغله عذابٌ عن عذاب، ولا يفارقه العذاب لحظة. وعذاب الآلام وعذاب النار قد يكون معه عذاب اليأس وعذاب الاحتقار للذات.

على كل حال نحن لا نمتلك صورة عن عذاب الآخرة، ولا نقدّر لذلك العذاب قدراً، لذلك نجد القرآن الكريم يركز على التحذير من خطر الآخرة وعذابها.
الكلمة تقول عنه عليه السلام (ونهاهم تحذيرا)، لأن كل ما نهى الله عنه.. يمثل ارتكابه نقصاً في الذات، تخلفاً في الذات، ثلمة في الذات. هذه الثلمة في الذات تنزل بالإنسان من موقع إلى موقع، من موقع يرقى به في الجنة إلى موقع ينزل به إلى النار. هناك نتائج حتمية.. هناك علاقات موضوعية بين ما نفعل من حرام وبين ما يترتب على ما نفعله من ذلك الحرام. مسألة الجزاء الإلهي على المحرمات تختلف عن مسألة الجزاء القانوني الدنيوي على المحرمات.

هنا يتصدى فرد أو تتصدى مجموعة تشريعية لتقول وتعتبر بأن الفعل الفلاني يعاقب عليه بالعقوبة الفلانية، هذا هو ربط تشريعي بين الفعل والجزاء، ونسمي هذا النوع من الجزاء بالجزاء الجعلي. يعني الجزاء القانوني هو جزاء اعتباري جعلي.

بالنسبة لمحرمات الله سبحانه وتعالى.. الارتباط بين الجريمة وبين جزاءها ليس ارتباطاً اعتبارياً جعلياً، وإنما هو ارتباطٌ تكويني وعلاقة موضوعية خارجية. الخمر ينزل بالمستوى الروحي حقيقةً، ونزول مستوى الروح حقيقة يعني أخذها صورة تعذبها، وهكذا بالنسبة لباقي المحرمات.

والتحذيرات الشديدة في القرآن الكريم التي تفزع وترعب هي ليست للفزع والرعب الذي يربك الحياة، وإنما هي للتبصير والتهذيب، لأن غفلة الإنسان عما يرتكب من ذنب ونتائج هذا الذنب توقعه في أشد العذاب. وصحيحٌ أن الله غفور رحيم.. ولكنه شديد العقاب، ونحن نرى في هذه الحياة عياناً أن الله غفور رحيم وأن الله شديد العقاب. الكوارث التي تواجه الإنسان في الحياة هي تعبير عن أن الله شديد العقاب، وإمهال الكافر.. وفيض الرزق عليه.. وإعطاؤه من خيرات الله خطابٌ للناس بأن الله غفورٌ رحيم.

فالخطابان الإلهيان اللفظيان القائلان بأن الله غفور رحيم، وأن الله شديد العقاب.. معهما أيضا خطابان إلهيان تكوينيان يعبران عن أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم. وقد يجد الإنسان في حياته الشخصية مصداقاً جلياً لكون الله غفوراً رحيماً، ولكون الله سبحانه وتعالى شديد العقاب.

3- كلف يسيراً ولم يكلف عسيرا:

نحن نعرف أن في الحج صعوبة، أن في الصوم صعوبة، أن في الصلاة صعوبة، فكيف تقول الكلمة كلف يسيراً ولم يكلف عسيرا؟ وهذا ما يقرره الإسلام في نصوص كثيرةٍ من أنه بُني على اليسر ولم يُبنَ على العسر، وقد نُفي الحرج في أكثر من نص. الإسلام ينفي العسر والحرج ولا ينفي أصل الكلفة. هناك كلفة..

هناك ثقل في التكاليف.. في الأوامر الإلهية والنواهي الإلهية، والكلفة غير العسر وغير الحرج. الحرج أن يجعلك التكليف في حالة ضيق بحيث لا تستطيع أن تتحرك الحركة التي تبنيك فرداً وتبنيك مجتمعاً، وتعرقل حياتك، وتعرقل نموك الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي، نموك الروحي، نموك التربوي، الأخلاقي. العسر يعني هذا، ولا يعني أن تتحمل ثقلاً لتبني اقتصادك، ولتبني اجتماعك، ولتبني سياستك، ولتبني ذاتك. فالمنفي هو العسر الذي يعطل حركة الحياة، ويشلها ويمنع من تقدمها ووصول الإنسان إلى غايته. أما التكليف والكلفة التي تعين الإنسان على أن يقطع الدرب، على أن يحقق الغاية، فهذا ليس عسراً وليس حرجاً. ما يقابل أصل الكلفة هو الإهمال، هو التسيب. الإسلام لا يدعي أنه يشرع لحياةٍ إنسانيةٍ متسيبة، الإسلام يقول بأني أشرّع للإنسان حياة تقوم على الجد، تقوم على البناء، تقوم على تحمل الكلفة، وأعطيه الروحية القادرة، وأعطيه النفسية القادرة، وأعطيه الجو الاجتماعي القادر، وأخلق له الأجواء الخارجية التي تساعده على أن يتحمل الكلفة بيسر، وهو ينفي العسر في نفس الوقت. فالمقرر هو أن الإسلام جادّ، وفيه تكاليف بنّاءة، والحياة فيه ليست متسيبة، ولا هي بحياة الأغنام، ولكن أيضاً ليس في الإسلام عسرٌ ولا حرج.

وحين نقف على كل المقاطع للكلمة الواردة عن أمير المؤمنين عليه السلام، نجد أن الفكر المتلقّى عن طريق مدرسة أهل البيت عليهم السلام لا غبار عليه، ولا يوقع العقل في حيرة وتردد وإشكالات عويصة، ولا يستلزم أن يُنسَب إلى الله عز وجل ما لا يليق بشأنه.. من ظلم.. أو عجز.. أو تعطيل. فنرى هذا الفكر يقدم حلاً شافياً واضحاً لمسألة الجبر والتخيير، يقدمه في كلمات يسيرة بعيدة عن لغة الألغاز والمعميات. ومسألة الجبر والتخيير هي المسألة التي أتعبت الفلاسفة والمتكلمين وأصحاب المذاهب المختلفة من غير أن يهتدوا إلى سواء السبيل فيها.

أول مدرسة، والمدرسة الوحيدة التي قدمت حلاً عقلياً في المسألة يرتضيه العقل ويستريح إليه، هي مدرسة أهل البيت عليهم السلام. وكل المدارس الأخرى التي أعطت رأياً آخر في قبال رأي أهل البيت عليهم السلام مضطرةٌ أن تتراجع عن رأيها، وإلا نسبت إلى الله ما لا يليق.

اللهم صلي على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا ولمن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة. اللهم اكشف هذه الغمة عن هذه الأمة، وادفع عنها كيد الكائدين، ومكر الماكرين، واجمع كلمتها على التقوى، وأيدها بتأييدك، وأعزها بعزك، وانصرها بنصرك، يا قوي يا عزيز .

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}

الخطبة الثانية 

الحمد لله المحيي المميت، الباعث بعد الموت، يعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأمر كله، ومرجع كل شيء إليه، وتقدير كل شيء عائد لحكمته، وهو أحكم الحاكمين. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله الهداة الميامين.

عباد الله علينا بتقوى الله، وأن يكون ضميرُنا نقياً، ونيتنا سليمة، وقولُنا سديداً، وعملنا صالحاً، ومحبتنا له ولأوليائه، وكراهتنا لأعدائه، وأن لا نبغي للناس إلا الخير، ولا نسعى فيهم إلا بما يعود علينا وعليهم بالصلاح، فإن لكل امرئ ما كسب، وكل نفس ملاقيَة ما قدمت، ولا يحصد أحدٌ عند الله ما زرعته يدا غيره، ولن يتحمل وزرَ أحدٍ أحدٌ أبدا، فلتعمل كل نفس لنفسها قبل فوات الأوان، وقبل يوم تشتد فيه على التفريط الحسرات.
اللهم أعذنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات من كل شر، ومن نعمة عاقبتها نقمة، ومن فرح بباطل يفضي إلى النار، ومن غرور يطيل الموقف يوم الحساب، ويقلل الحظ يوم الجزاء.

اللهم صل وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، حبيب رب العالمين، اللهم صل وسلم على علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، اللهم صل وسلم على فاطمة الزهراء التقية الزكية النقية، اللهم صل وسلم على الإمامين المعصومين، والسبطين الزكيين الهاديين الحسن بن علي وأخيه الشهيد الحسين، اللهم صل وسلم على أئمة المسلمين، والرحمة للعالمين: علي بن الحسين السجاد، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري عليهم السلام، اللهم صل وسلم على إمام العصر، الموعود بالنصر، بقية الله في أرضه، والمذخور من أهل بيت نبيه لإحياء دينه وإنقاذ المستضعفين من عباده، القائم المنتظر، اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً وافتح له فتحاً مبيناً يا كريم. اللهم عبدك المواليَ له، الممهدَ لدولته، والفقهاءَ العدول، والعلماءَ الصلحاء، والمجاهدينَ الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين أيّدهم وسدّدهم ووفقهم لمراضيك يا رحمن يا رحيم.

أما بعد فهذه وقفة مع موضوع خطير من صنع أهل الفتنة.

مذابح همجية:

هناك مذابح همجية كما نعرف جميعاً، تحدث في باكستان في كل موسم من مواسم عاشوراء في السنوات الأخيرة، انضمّت إليها مذابح أخرى في كربلاء وفي الكاظمية هذا العام، والمناسبة هي مناسبة إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام.

أولاً.. إحياء محرم إنما هو لرد الناس إلى الدين، (أعني بالناس هنا كل المسلمين من شيعة وسنة)، وهو هداية لغير المسلمين إلى الدين. طولَ العام ونحن بين اقتراب وابتعاد عن الإسلام، والتربية المادية السائدة تجعل الأمة في كل عام – في أكثر شرائحها – أبعد عن دين الله، وتُغرق الساحة بكثير من الباطل؛ فيأتي شهر رمضان المبارك ليغسل بعض الأدران، وليعطي إراءة وإنارة، وليهدي قابلاً للهداية، وينضم إليه محرم ليعطي هذا العطاء الخيّر المبارك. وكل مناسباتنا الدينية إنما هي من أجل العودة بالأمة إلى خط ربها سبحانه وتعالى، ومن أجل خطابٍ إلهي يتوجه لهذه الأمة وللعالم كله.. يقترب بهذا العالم الشقي إلى شاطئ الرحمة والأمان والفيض الإلهي. محرم لهذا.. ولجمع كلمة المسلمين، وهو إنما يجمع كلمة المسلمين على التقوى. والحسينُ عليه السلام إمامُ أمةٍ وليس إمامَ فرقة، وهو إمام اتحادٍ وليس إمام شتات.

هذا محرم.. فكيف يعامَل، وكيف تعامَل كربلاء، وكيف يعامَل الإمام الحسين عليه السلام بما يعامَل به الكفر الذي لا يمكن أن يستجيب إلى إيمان؟!! الإسلام لا يحارب الكفار ابتداءً، الإسلام يومَ أن كان يحارب الكفار ويفرض الجهاد الابتدائي.. ما كان يسبق السيفُ عنده الكلمة، وكان الخطابُ خطابُ الهداية دائماً هو الأول في تاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله، وفي تاريخ أئمة أهل البيت عليهم السلام.

من المسؤول؟

نقول كما يقول الآخرون.. قد يكون المسؤول البعث، ولو كان البعث هو المسؤول لهان الأمر، البعث ليس له امتداد وعمق في الأمة، وإذا استطاع أن يغرّر فلن يستطيع أن يغرّر كما يغرّر من يدّعي الإسلام والتمسك به. البعث طرحٌ جاهليٌ مكشوف، فلا يُخاف منه الخوفَ من جاهليةٍ تلبس ثوب الإسلام، ومن فكرٍ متجمدٍ ينسب نفسه إلى الإسلام، ومن غوغائية غير منضبطة ترفع لافتة الإسلام.

قد تكون أمريكا مسؤولة، وهي مسؤولة على كل حال.. خاصة في العراق. قد تكون لها يدٌ عابثة في باكستان، ويدُها عابثة في العراق بشكل مكشوف، وهي تتحمل مسؤولية قانونية بلا جدل.
وقد يكون المسؤول – وهنا الكارثة – جماعات تنتسب إلى الإسلام وتشهد الشهادتين، ومنها من قد لا يُتهَم في تقواه، ولكن تقوى الجاهل قاتلة! من الخوارج من هو متقٍ.. ولكنه يمرق من الدين مروق السهم من الرمية، بسرعة هائلة، وبصورة فورية.

نحن نحتاج إلى تقوى مع علم، مع فهم للإسلام، ومَن فهِم الإسلام مقلوباً سيدمّر الدنيا كلها بتقواه، وسيحرق الإسلام بما يدعيه من تقوى! وجماعة المتقين عن جهل.. المتقين عن خلفية فهمٍ إسلامي مقلوب.. وإسلام مزوّر.. وإسلام رسمته يد أمريكا ويد بريطانيا قبل ذلك.. هؤلاء قنبلة لا تحرق الكفر قبل أن تحرق الإسلام، بل حرقها للإسلام قبل حرقِها الكفر.

المسؤول قبل ذلك هي فتاوى التكفير.. وهي مدرسة تتساهل في نسبة الشرك للمسلمين، حتى تعتبر زيارة قبر النبي شركاً، تعتبر قراءة فاتحة على قبر مؤمن شركاً، تعتبر إقامة حفل الميلاد النبوي شركاً. ما لم تكن عودة واعية لفهم الإسلام، ولقراءة صحيحة للنص الإسلامي، وإذا بقيت هذه السطحية في فهم الإسلام، وهذا الهروب من الفهم الدقيق الذي تغنى به المدرسة الإسلامية الواسعة، وخصوصاً مدرسة أهل البيت عليهم السلام، فإننا لن نستطيع أن نقدم للعالم إلا إسلاماً يشوبه كثير من التشوهات. أما المدرسة التي تولد بعد قرون من زمن رسول الله صلى الله عليه وآله عن طريق اجتهادٍ ما وفهم محدودٍ فتحصر الإسلام فيها وتُكفّر كل المدارس الأخرى، وأول مدرسة تلغيها هي مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وتعتبر كل ما جاء عن جعفر عليه السلام ليس بحجة، فهي مدرسة عليها أن تراجع مقرّراتها علمياً، لأن أقصى ما يمكن أن تدّعيه أنها اجتهاد في قبال اجتهاد آخر، ولا يمكن أن يُدّعى لرأي اجتهادي معين أنه مصيب للواقع دائماً في حين أن الآراء الأخرى لا تصيبه في كل ما تخالفها فيه.

ثم وإنه بأي وجه يسقط ما كان عن الصادق عليه السلام؟ الجواب عند هذه المدرسة أن كل النَقَلة عن الإمام جعفر عليه السلام من الشيعة هم كذابون!

أريد أن أثير هنا نقطة: عجباه.. كيف أن أهل البيت عليهم السلام – من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى الإمام الحسن العسكري – لم يختاروا من يقربونه.. ويعطونه علمهم.. ويشيدون به.. إلا الكذاب؟!! إذا كان الشيعة الذين نقلوا عن الأئمة عليهم السلام كلهم كذابين فمعنى ذلك أن أهل البيت عليهم السلام لم يختاروا لصحبتهم إلا الكذابين! كلما يأتي حديث في مصدر شيعي فهو مردود، وكلما تكون الرواية في مصدر سني عن سند فيه شيعي فهو مردود. حسناً أين الرواة إذاً عن الأئمة عليهم السلام، هل كان الأئمة عليهم السلام لا عِلم لهم؟ لا رواية لهم؟ لا موقعية لهم؟ لا صلة لهم بالقرآن؟ برسول الله صلى الله عليه وآله؟ أو أنهم خصّوا الكذابين دون غيرهم بأحاديثهم وعلمهم ورواياتهم؟! أريد من المسلمين أن يراجعوا هذا الموقف، أهو موقفٌ منصِف؟ أهو موقف يليق بأهل البيت عليهم السلام؟

على كل حال المذابح الهمجية في باكستان.. المذابح الهمجية في العراق.. المذابح الهمجية في المناسبات الدينية.. التي تثير الفتنة في المسلمين.. مردُها هذه الفتاوى التكفيرية، والتي تحكم بالشرك لأدنى مناسبة.

نسأل: المجزرة في صالح من؟

في صالح البعث وفي صالح أمريكا. إما أن يكون التمزق السني الشيعي في العراق مؤدّياً إلى ظهور البعث من جديد وحكم صدام، وإما أن يَحدُثَ خوفٌ للشيعي من أخيه السني، وخوفٌ للسني من أخيه الشيعي في العراق؛ والملجأ للخائفَين هو أمريكا، وكلٌ يساوم أمريكا من أجل تأمين خوفه. كأنّ مطلوبُ الهجماتِ هو هذا.. مطلوبُ الهجماتِ أن يخاف الطرف السني من الطرف الشيعي، وأن يخاف الطرف الشيعي من الطرف السني، وبمن ينتصر الطرفان؟ كل واحد من الطرفين يُراد له أن ينتصر بأمريكا؛ فتكون بيد أمريكا أوراق رابحة، وفرص تساومية عالية جداً، وحظوظ وافرة في مسألة التساوم مع السنة على حساب الشيعة، ومع الشيعة على حساب السنة. أليست النتيجة هذه؟!

أما أولئك الجهلة الذين يستبيحون دم المؤمن المتقي، فلن يخرجوا بأي ربح، وليس لهم إلا النار. أيتصور هؤلاء أنهم يقضون على الشيعة قضاءً مبرماً في العراق حتى يخلوَ لهم الجو بالقضاء على الشيعة والسنة من أصحاب الرأي القويم؟ الشيعة في العراق لا يمكن القضاء عليهم، والمواكب الحسينية لا يمكن أن تتعطل. أثبت التاريخ كله أن الشيعة أعطوا ضرائب من دمهم، أعطوا ضرائب من أمنهم، أعطوا أجزاء من أجسامهم. أقبلوا على القتل الاختياري كما ينقل التاريخ من أجل أن يزوروا الإمام الحسين عليه السلام. محاولة تعطيل المواكب وإقامة العزاء على أبي عبد الله عليه السلام.. يعرف أولئك أنها محاولة يائسة.

والتفريق بين السنة والشيعة في العراق أمرٌ محالٌ؛ لما نقرأه من وعي السنة، أنا لا أقول المعتدلين، دون من سلك مسلك التكفير والحكم بالشرك على المسلمين، ولما نقرأه من وعي الشيعة.

الفقهاء.. والرموز السياسية.. الأحزاب.. العلماء.. المثقفون الشيعة هناك.. وكذلك في الجانب السني.. أكبر من أن تمر عليهم هذه المؤامرة ويستجيبوا لكيد الفئة العابثة بأمن المسلمين وبقيمهم.
أريد أن أضرب مثلاً وأنتهي لأن الوقت ضيق: أيها الإخوة.. لو ربّينا عشرة آلاف شيعي في البحرين على كراهة السنة، وعلى الحقد على الأخوة السنة، وعلى استباحة دم الأخوة السنة، وربى السنة أيضاً عشرة آلاف شخص منهم على كراهة الشيعة، واستباحة دمهم والحقد الدفين عليهم.. كيف ستكون البحرين؟! الفرض هنا أليس هو فرض تحوُّل البحرين إلى غابة؟ المسلمون لو سلكوا سلوك هؤلاء المكفِرين.. هؤلاء الذين يبيحون دم المسلم.. لتحولت الأوطان الإسلامية إلى غابات لا يأمن فيها أحد على نفسه!! نحن لا نقبل هذه التربية ليس بالنسبة للدائرة الإسلامية فقط، ففي لبنان.. أيصح أن نربي المسلمين فيها على الحقد الدفين على النصارى، واستباحة قتلهم ونهب أموالهم؟ ويربي المسيحيون أيضاً أبناءهم على استباحة دم المسلمين؟ في فرنسا.. أندفع بالمسلمين وهم ملايين إلى أن يستبيحوا دم الفرنسي من غير المسلمين؟ أهكذا يأمر الإسلام؟ هل يأمر الإسلام بزرع الفتنة في الأرض كل الأرض، وتقويض الأمن في كل دولة من الدول؟! هذه تربية يحتاج أصحابها إلى أن يتراجعوا عنها، ويجب على المسلمين كل المسلمين أن يقفوا في وجه هذه المدرسة، وفي وجه هذه التربية. مدرسة يجب أن تنتهي من الوجود.. مدرسة الحكم بالتكفير على سائر أبناء المسلمين ولأي خلاف اجتهادي.

اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، ولمن أحسن إلينا إحساناً خاصاً، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا، يا أرحم الراحمين. ربنا هب لنا من لدنك رحمة وقنا عذاب النار، ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، وطهّر قلوبنا من كل حقد يخرج بنا عن طاعتك، ونستبيح به محارمك، ولا تجعلنا ممن يستخف بدم مسلم أو مسلمة، أو ينال من أحد من خلقك سوءاً من غير حق، يا خير من استُعصم به يا رحمن يا رحيم.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}النحل/90

زر الذهاب إلى الأعلى