خطبة الجمعة (50) 1 المحرم 1423هـ – 15-3-2002م

مواضيع الخطبة:

معرفة الله – فلسطين السليبة – مناسبة عاشوراء
– الإصلاح السياسي المحلي

الجادّون في إحياء عاشوراء هم حضّار المجالس الحسينية في المأتم، والمشاركون فعلاً في المواكب بوعي حسيني وروح حسينية وأخلاق من أخلاق الإمام الحسين (ع).

الخطبة الأولى

الحمد لله لا تغني عن معرفته معرفة، ولا يسد مسدَّ ذكره ذكر، ولا ينفع كشكره شكر. وليس من رحمةٍ كرحمته، أو نفحةٍ كنفحته، أو نقمة كنقمته. في رحمته غنى عن كل رحمة، ونيل لكل خير، ودفعٌ لك لشر، ومن حلت عليه نفحته، ركبه الشر، ولم يبق له خير، ولا منقذ له من عذاب الله الشديد المقيم. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. خالق لا خالق معه، رازق لا رازق غيره، مدبر لا مدبر من دونه، قدره جار، وقضاؤه غير مردود. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلّغ فصدق، ودعا فأخلص، وجاهد فاستقام، وأرشد فهدى، ودلّ فأصاب. صلى الله عليه وآله الأطياب .
عباد الله اتقوا الله فلا نجاة لأحد إلا بتقواه، وقرّت عين من اتقى فقد قال سبحانه ((هذا ذكرٌ وإن للمتقين حسن مآب. جنات عدنٍ مفتّحة لهم الأبواب. متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة وشراب. عندهم قاصرات الطرف أطياب. هذا ما توعدون ليوم الحساب)) وهو يوم الطامة ويوم القارعة ويوم الفزع الأكبر لمن عصى وجحد وكابر ودخل في حرب مع الله ورسوله والمؤمنين. وإن رزق الله لعباده المتقين في تنّوع وتدفق دائمين ((إن هذا لرزقنا ماله من نفاذ)) 54 ص. وما اتقى من تكبر وطغى، ومن تهاون وعصى. ومن أفتى بغير حق بَعُد ما بينه وبين التقوى، وقطع الصلة بينه وبين طريق الطاعة و الزلفى .
أما بعد فإن العلوم والمعارف على كثرتها وتنوعها وتفاوت درجاتها إنما تطلب من أجل غيرها، والمعرفة الوحيدة التي تطلب لنفسها وتمثل غاية الغايات بلا غاية وراءها هي معرفة الله معرفة حقة، وإن تكن المعرفة المحدودة لغير محدود، فغاية السعي أن ينعم القلب برؤية ربه، وتنتهي به المعرفة إلى معرفته، فحينئذ ينتهي الطلب إلا من مزيد معرفة، وجديد رؤية له سبحانه، وترضى النفس، وتقر العين، وتهنأ الحياة، ويطيب الوجود. إذا كان المطلوب للإنسان أن تغنى نفسه، ويبلغ أعلى رقيّه، ويخرج من الخوف المحطّم، والوحشة القاتمة، والشعور بالفناء، إلى غزارة الشعور بالأمن، والأنس والبقاء، فإن معرفته لربه توفر له كل ذلك، وتتجاوز في عطائها حدود ما يتصوّر .
ونقف مع إنارات لبعض النصوص في هذا الموضوع الأهم على الإطلاق. إنه أي معرفة الله سبحانه هو الموضوع الأهم على الإطلاق .
موقع المعرفة :
أولاً : موقع المعرفة لله هو الأول:
( بعضكم أكثر صلاة من بعض، وبعضكم أكثر حجاً من بعض، وبعضكم أكثر صدقة من بعض، وبعضكم أكثر صياماً من بعض، وأفضلكم أفضلكم معرفة )
ولا تقل لي بأن المعرفة تقابل الصوم والصلاة وغيرها من الواجبات، لأن من عرف صلى وصام، وصلاته هي التامة وصومه هو الكامل .
( أفضلكم إيماناً أفضلكم معرفة )
ثانيا : طريقان : طريق معرفة وطريق ضلال :
((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به)) 28 الحديد. هذا هو طريق معرفة الله، هناك طريقٌ نسلكه فيأخذ بيدنا إلى معرفة الله تعالى، وهناك طريقٌ آخر نسلكه فيتيه بنا ويزيغ وينحدر بنا عن الصراط، ويقطعنا عن رحلة الكمال، والله لا نجده إلا من خلال رحلتنا إلى الكمال .
(( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله ..)) التقوى طريق معرفة الله، التقوى معناها أن يطهر القلب، أن تراعي أحكام الله: الواجبات والمحرمات، وكلما راعى أحدنا أحكام الله، وراقب في داخله عظمة الله، وجلال الله، وجمال الله، وكمال الله، كلما اهتدى أكثر .
لا تقوى إلا بالإيمان بالرسول، ولا إيمان لمن لم يعمل بأوامر الرسول ونواهيه، سواءً كانت هذه الأوامر والنواهي من الأحكام الإلهية، أم من الأحكام الولائية أي من الأحكام التي تصدر من رسول الله صلى الله عليه وآله، من خلال موقع الحكومة لا من خلال موقع التبليغ .
الأخذ بالدقة، بأوامر ونواهي القيادة الشرعية، المتمثلة في قمتها العليا في رسول الله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، طريق إلى أن يكتسب الإنسان نوراً من رحمة الله عز وجل، إلى أن تتنـزل عليه فيوضات معرفة الله سبحانه وتعالى. أتريد أن تعرف الله: التزم، إتقِ، افعل ما أمر الله، تحذر مما نهى الله عز وجل، هذا طريقك الكبير إلى معرفة الله، قبل أن تقرأ الفلسفة، وبعد أن تقرأ الفلسفة، قبل أن تقرأ اصطلاحات العرفان، وبعد أن تقرأ اصطلاحات العرفان .
(( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله ..)) – وعدٌ من الله، ووعد الله لا يخلف – (( .. يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به)) 28 الحديد.
الطريق الآخر .. طريق الضلال : (( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه …)) 23 الجاثية .
حين نشرّع على خلاف شرع الله، حين نركز سلوكاً لا يأذن به الله، حين نبتعد بالمجتمع ولو خطوة صغيرة تمهيدية للبعد لله، فنحن نتخذ إلهانا هوانا .. (( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علمٍ ..)) أنا أعلم بأن الحكم الشرعي هو الفلاني، بأن الأقرب للتقوى هو السلوك الفلاني، فحين أتمايلل وأحيد عن الحكم الشرعي .. ما معنى ذلك ؟ أن المتبع في داخلي ليس هو الحكم الشرعي، بل الهوى الذي اتخذته من دون الله إلها.
(( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علمٍ وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله)) 23 الجاثية .
إذا أراد أحدنا أن يفقد رؤيته الفعلية لربه سبحانه، فليخطو خطوةً في طريق الزيغ والضلال. كلما تخلف أحدنا عن تطبيق حكمٍ شرعي ن كلما زاغ قلبه، كلما اظلّمّ قلبه، كلما فقد قلبه القدرة على الرؤية، أصابه العشى، أصابه العمى. المعصية تستتبع ختماً على السمع، المعصية خاصةً عن علمٍ تستتبع ختماً على السمع، ختماً على القلب، فلا يسمع الإنسان يسمع سمع حيوان، تنسدّ منافذ قلبه وقواه المفتوحة على النور، فلا يرى قلبه من النور شيئاً. (( .. وجعل على بصره غشاوة ..)) إذن كل مسالك هذا الإنسان للمعرفة قد انغلقت بمعصيته .. (( .. فمن يهديه من بعد الله ..)) ؟؟ و لا هادي من دون الله سبحانه .
ثالثاً : حياة العارفين :
(إن معرفة الله أنسٌ من كل وحشة .. )
نحن نطلب الأنس في الأهل، في الأصدقاء، في أن نجمع حولنا من الرأي العام أكبر قدر ممكن، ولكن ما يؤنس من الوحشة هو غير ذلك، القلب الذي يفقد الرؤية لله، معرفته بربه، لا يمكن أن يأنس الأنس الكامل بعيداً عن معرفة الله سبحانه وتعالى: كن في الظلمة الظلماء، كن الوحيد الشريد، كن في السجن المطبق، كن في ظرف الفقر المدقع، وقلبك مفتوحٌ على معرفة الله، ستشعر بالأنس، ستشعر بالعزة، ستشعر بالفخار، ستشعر بالثقة التامة.
وافقد معرفتك بالله، واسكن القصور، وكن من تكون في رغدك، فإنك لن تكون الإنسان الذي يعيش قلبه الأنس الحقيقي وعلى أتمه .
( إن معرفة الله أنسٌ من كل وحشة، وصاحب من كل وحدة، ونور من كل ظلمة، وقوة من كل ضعف، وشفاءٌ من كل سقم ) سقم الأرواح، سقم القلوب، سقم الصدور. نعم أولئك هم العارفون بالله يعيشون الأنس لا تقرص قلبهم وحشة … يجدون دائماً صاحباً مؤنساً، ورفيقاً وفيّا هو الله سبحانه وتعالى، لا يعيشون وحشة الظلمة، لأن معرفة الله لهم نور من كل ظلمة، لا يعيشون حالة الضعف، لا في حال الهزيمة ولا في حال النصر، وللنصر ضربٌ من الضعف، وللهزيمة نوع آخر من الضعف، وللغنى ضعف، وللفقر ضعف، يدخل به هذا الظرف أو ذلك الظرف على النفس، والنفس الناجية من الضعف في كل الظروف وفي كل الحالات، هي نفسٌ آمنت بالله، عرفته، عاشت الأنس به (.. وقوة من كل ضعف، وشفاءٌ من كل سقم) من حالات الحقد، حالات الحسد، حالات التذمر .. الخ، قلبٌ غسله نور الإيمان، وطهر المعرفة، فلم يبق يعاني من سقم ولا مرض.
(من سكن قلبه العلم بالله سبحانه، سكنه الغنى عن الخلق) فهو قلبٌ لا يشترى مطلقاً، لا يجد الخلق كل الخلق ما يشترونه به، وإبراهيم عليه السلام في الرواية وهو يقذف إلى النار، عرضت عليه الملائكة أن تقضي له حاجة فلم يجد في الملائكة من يقضي له حاجة، ولم يجد حاجة إلى مخلوق بعد أن سكن قلبه العلم بالله.
( من صحتّ معرفته، انصرفت عن العالم الفاني نفسه وهمته )
لم يعد يقتتل اقتتال الحشرات على النفايات .
( .. واجعلنا من الذين اشتغلوا بالذكر عن الشهوات .. )
من ذكر لم تستعبده شهوة، لم تأسره شهوة، لم يضعف أمام شهوة ..
(.. واجعلنا من الذين اشتغلوا بالذكر عن الشهوات وخالفوا دواعي العزة – العزة الكاذبة – بواضحات المعرفة )
( يا من لا يبعد عن قلوب العارفين )
الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. ما له من قلب لا يبعد عنه الله، وكان من تلك القلوب، قلب الحسين عليه السلام .
رابعاً: بمن المعرفة؟
بي اعرف ربي ؟ بالسماء اعرف ربي ؟ بما أنبت ؟ بما خلق ؟ بما أحيا ؟ ..
( بك عرفتك، وأنت دللتني عليك، ودعوتني إليك، ولو لا أنت لم أدر ما أنت)
الخلق والنظام والعلم والعطاء والكمالات المحدودة المتفاوتة انعكاسات لنور الوجود الإلهي المطلق، لا بالصورة المطلقة التي لا يطيقها المحدود .
أنت ترى انعكاسا لنور الله، أنت ترى في عظمة الجبال، في جمال الوردة، في دقة الصنع، في إحكام التدبير، انعكاسا، شعاعاً، من إشعاع الوجود الإلهي المطلق .. فأنت به تراه.
اللهم صل وسلم على عبدك المصطفى محمدٍ وآله الشرفاء، وارزقنا معرفتك، ووفقنا لطاعتك، وجنبنا معصيتك، وأغننا بك عمن سواك، واقطع طمعنا في من عداك، ولا تحرمنا تسديدك وهداك، واغفر لنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات أجمعين ولآبائنا وأمهاتنا وأرحامنا ومن كان له حقٌ خاصٌ علينا منهم، وانصر الإسلام وأهله، واخذل الكفر وأهله وأذقهم مرّ نقمتك في الدنيا والآخرة، يا من هو بالمؤمنين رؤوف رحيم، وعذابه للكافرين المعاندين والمكابرين شديد أليم .

بسم الله الرحمن الرحيم
(قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد)

الخطبة الثانية

الحمد لله أتمّ الحمد وأكمله وأجمله وأدومه وأسناه، ربّ غير مربوب، ورازق غير مرزوق، وقاهر غير مقهور، حيّ قيّوم لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ربّ سواه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، لا تنتهي رسالته، ولا تندثر دعوته، ولا تطفأ أنواره، ولا يذهب ضياؤه، صلّى الله عليه وآله فسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله اتقوا الله، ولا تطغوا في الأرض مفسدين، ولقد قابلت سورة (ص) بين المتقين – وقد تقدم من وعد الله لهم في السورة نفسها ما تقدم في الخطبة الأولى – وبين الطاغين، فمن خرج من التقوى وقع في الطغيان، ومن فارق الطاعة صار إلى المعصية، وإنما ينتظر الطاغين لسوء عاقبة، ومنقلب مَهين، يقول سبحانه (هذا وان للطاغين لشرّ مآب. جهنم يصلونها فبئس المهاد. هذا فليذوقوه حميماً وغسّاق. وآخر من شكله أزواج. هذا فوج مقتحم معكم لا مرحباً بهم، إنهم صالوا النار، قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدّمتموه لنا فبئس القرار) واعلموا عباد الله أن أصدقاء اليوم على الباطل أعداء غداً في النار، وان الخُلّة الدائمة إنّما هي خلّة التقوى (الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاّ المتقين) 67 الزخرف .
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك الأمين، ولسان الصدق في العالمين، محمد خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، اللهم صل وسلم على راية الهدى، وإمام التقوى، والوصيّ المبتلى علي المرتضى، الراضي بالقدر والقضاء. اللهم صل وسلم على أمتك الطاهرة كريمة نبيك الفاخرة، العالمة المصونة، فاطمة الأمينة. اللهم صل وسلم على إمامي المسلمين ونور المهتدين، وضياء الصالحين، أبي محمد الحسن الزكي وأبي عبد الله الحسين الشهيد. اللهم صل وسلم على أهل السداد والرشاد، وأئمة العباد، وقدوة العباد علي ابن الحسين السجاد، ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري قادة المحراب والجهاد.
اللهم صلّ وسلّم على مذخور الإسلام، ومنقذ الأنام، ومحي الشريعة والإيمان، محمد بن الحسن إمام العصر والزمان. اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه، وأذهب به الهم، واكشف به الكرب، ومكن له تمكيناًُ، وشرّد به فلول الكفر والنفاق، وأذهب به دولة الكفر والشقاق، يا أقوى من كل قوي، ويا أعزّ من كل عزيز.
اللهم عبدك الذي ينحو نحوه، ويقصد قصده، ويشيد ما أراد تشييده، ويهدم ما أراد هدمه، أيده وسدده، وادفع عنه، وأعز جانبه، وارفع بنيانه. وأيّد وسدّد وأعزّ فقهاء الأمة وعلماءها المنتصرين لدينك، المتمسكين بشريعة نبيك المصفى وآله الشرفاء (ص)، الساعين في الأرض بالصلاح، الهادين لطرق الفلاح. اللهم عبادك المجاهدين عن الإسلام، الذائدين عن حماه، شدّ أزرهم وقوّي جنانهم وثبّت أركانهم، ورسّخ إيمانهم، وانصرهم نصراً عزيزاً قريباً يا ناصر المستضعفين، ومذلّ المستكبرين.

أما بعد..

أيها المؤمنون والمؤمنات، فان أوضاع الساحة الإسلامية دامية قانية، وهي وان أدمت القلوب إلاّ أنها قد تخرّج جيل الإنقاذ والعودة إلى الإسلام المنقذ؛ الجيل الذي لا يأخذ بالإسلام على استحياء من المنكر العالمي، ولا يفصًل الإسلام على مقاس عقليّته المغزوّة، ونفسيّته المهزومة، ويذهب مع الإسلام النقي في كل مساراته القويمة الهادية إلى أقصى حد، فهو جيل تمهّد له الانتكاسات المتوالية، والانسحابات المتسارعة، وحالة اليأس من كل الكيانات المعادية للإسلام، والكيانات الكاذبة عليه، والمتستّرة به، ومن أحشاء الظلمة ينشق نور الصباح، وقد تطلّ تباشير العافية من بعد يأس الشفاء، وهدأة البركان قد تطول ولكنه يعود إلى انفجار، وإذا كان ما يعرف عن البراكين أنها مدمّرة فان البركان الإسلامي لا يدمر إلاّ الشر، ولا يتمّ بناء الخير في الأرض والناس إلاّ على يديه.

وهذا عن أوضاع ساحتنا في أرض الإسلام السليبة فلسطين:

وتيرة المجازر والهدم والحرق والاغتيالات ونسف البنى التحتية وإذلال الإنسان والتصفيات الواسعة في تصاعد مستمر، لتركيع المجاهدين وتصفية القضية. ومندوبان أميريكيان في المنطقة أحدهما للسلام الكاذب والذي يبشّر به زوراً، وان كان في صورة حل استسلامي تفرضه الغطرسة الاستكبارية على جانب الفلسطينيين المجاهدين. وحقيقة الأمر مقايضة إعلامية شكليّة بين منّة أميركية غير محققة لسلام الاستسلام العربي للإرادة الصهيونية، وبين موقف عربي شجاع يتوحد وراء القيادة الأمريكية لسحق العراق واحتلالها عسكرياً بالصريح من أمريكا. وهذه هي المهمة الأخرى التي جاء من أجلها المندوب الأميريكي الآخر. وهناك بطولات إعلامية عربية وراءها مواقف منها خائر ومنها متآمر. ومن دور هذه البطولات الإعلامية غش السذّج من أبناء الأمة وامتصاص بقية لشعور قد تكون بالنقمة، وإدارة معركة كلامية وحوارات باردة ثم ساخنة تهيئة لاستساغة الضربة والهزيمة وتحمّل الصدمة، وبذلك نخرج بنتيجتين: مكافأة الأمة لإسرائيل بتطبيع علاقات دائم شامل مع كلّ العرب ، وفتح الأسواق للبضائع الإسرائيلية، والعقل العربي لسموم الفكر الإسرائيلي، والأخلاقية العربية لدرجة أكبر من التمييع والتحلّل على يد الفن الإسرائيلي الساقط، وعهر الحضارة المادية السافلة. وهي مكافأة ترد بها الأمة جميل الإسرائيليين في تخليصها من المتشدّدين الإسلاميين على الأرض العربية حين تفتك بهم وبكل وطني على أرض المقدسات لتفتح الطريق بذلك واسعاً أمام قطار العلمنة والعولمة والأمركة كما يحلو له، بعيداً عن مضايقة الإسلام والإسلاميين. هذه نتيجة، والنتيجة الأخرى حكومة أمريكية صريحة في أرض الرافدين تكفينا من تخوفات المستقبل والقلق على الآتي إذ تضمن سَد الباب تماماً على الإسلاميين في العراق وحتى أصحاب الحس الوطني. نتيجتان والخير كثير، والحمد للشيطان الأكبر الذي صار يطارد الشر ويتعقّبه في كل مكان لينزل به الضربات القاصمة حتى لا يبقى إلاّ الأخيار جماعة الشيطان الأكبر نفسه.

وإنّ الساحة العربية والإسلامية محكومة في أكثرها لحكومات مكبّلة من داخل النفس وخارجها، وهي تسقي شعوبها من ذلّها ذلا، وتغيّبها عن أبسط حضور في أحداث أمتها الملتهبة وفي اللحظات المصيرية من وجودها كما هو الحال اليوم وقبّعة الإرهاب التي تلبسها أمريكا ممن تريد من يرفع بعض طرف في وجهها، والتي أتت على آخر ما يمكن من شجاعة الحكومات، هل ستسحق الإرادة عند شعوب الأمة بالكامل لتحلّ محلّها الرجفة والاضطراب؟! إنّ إرادة الكفاح والتضحية التي تفرض نفسها في أرض المذابح والمجازر، وترعب إسرائيل وأمريكا، وتحوج هذا العالم الظالم للتآمر عليها، تجيب على هذا السؤال بكل كفاءة وجدارة. والخوف على الأمة أن تسقط إرادتها في أحضان التمييع اللاأخلاقي، وباسم التمدّن والعصرية، وفي ظل الهزيمة النفسية أمام شعارات من هذا النوع، لا أن تفقد إرادتها أمام غطرسة الاستكبار وتهديداته وتوعّداته. الخوف على الأمة ليس من الإرهاب الأمريكي والأوروبي، الخوف على الأمة من التمييع الأمريكي والأوروبي، والسيطرة العسكرية على البلاد الإسلامية ليست هي القصد الأول. هذه مقدّمة لأن ما يحقّق الغرض للأعداء ليس هو أن تتواجد عساكرهم في المنطقة، وتشعر المنطقة بعداوتهم ويشتّد إسلامها وتتحضّر أكثر للمستقبل واليوم الآتِ. أمريكا تريد أن تخلق في الأخير صداقة مع الشعوب الإسلامية، تريد أن تدجّن الشعوب الإسلامية، تريد أن تنال إعجاب الشعوب الإسلامية، لتميع وتذوب بتخلّقها بأخلاق الغرب وتنسى الإسلام بالكامل.

ونأتي أيها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات من كل الأعمار إلى مناسبة عاشوراء لنؤكّد أن هذه المناسبة ليست لتغييب الإسلام في الواقع، بمعنى نسيان الإسلام من أجل الواقع ومعاناته، كما أنها في نفس الوقت ليست للهروب بالإسلام عن الواقع، وتعليقه بالقياس إلى الواقع. يلامس الواقع من منطلق الإسلام وبالطريقة الإسلامية، وفي حدود الحكم الفقهي ، والمعالجة الشرعية. عاشوراء ليس مسرح الشعارات التي لم يتم تدقيقها من ناحية إسلامية، بل هو فرصة لطرح المفهوم الإسلامي النقي، والرؤية الإسلامية الصافية، وهو للارتفاع بالمستوى الخلقي لكل من الرجل والمرأة، ولمزيد من العفة والطهارة الروحية والتزكية، ويجانب هذه الوظيفة أي أسلوب يؤدي إلى لون من الانحطاط الخلقي، والتسيّب في السلوك والتميّع في المشاعر.
محرّم للوعي الإسلامي والنضج العاطفي … للجدية والرجولة … للشهامة والكرامة … للعزة والإباء… لروح التضحية والفداء … للاجتماع على موائد التقوى والفضيلة … لتصحيح الإرادة ونهوضها … لكل ما يبني الشخصية الإسلامية القويمة …

محرّم ليس للسطحية ولا للانهيار الخلقي والفجاجة العاطفية وعربدة المعربدين … ولا لمجد القبيلة والمنطقة، ولا نصيب فيه لأي مدرسة غير مدرسة الإسلام القويم … ولا استغلال فيه لأي غرض لا يرتضيه الإسلام .
ومكبرات الصوت في هذا الموسم وغيره للتبليغ، واعلاء كلمة الحق لا للإزعاج وإحداث الصخب المثير من غير حساب ولا مراعاة. والجادّون في إحياء عاشوراء هم حضّار المجالس الحسينية في المأتم، والمشاركون فعلاً في المواكب بوعي حسيني وروح حسينية وأخلاق من أخلاق الإمام الحسين (ع). اللجان الخلقية التابعة للمواكب، يجب أن يهتم بها أكبر اهتمام، ويجب أن تدعم أكبر دعم.

ومن ناحية سياسية محلية يؤسف جداً لمنحى العد التنازلي في مسار الإصلاح السياسي، وتراجع الخط البياني في هذا المجال. وآخر ما لوحظ على هذا المستوى اللون الطائفي والتوزيع غير العادل في المحافظات والدوائر البلدية، ولا بد من شجب الطائفية كان منبعها شعباً أو حكومة. ونحن نرفض كلّ ما قد يسئ عملاً لمتانة العلاقة بين المسلم وأخيه المسلم، ويشعرهما بتصادم المصالح، ويفسد أجواء الثقة المتبادلة بينهما، ورغبة الاقتراب والتلاحم بدرجة أكبر عندهما، على أن العدل مطلب ثابت على كل التقادير، والعدل بان منقوصاً مثلوماً قاصرا.
وشئ آخر قد لوحظ في هذا المجال وهو حرمان المحكوم عليهم في أثناء الانتفاضة من حقّ الترشيح والتصويت، الشيء الذي يفتقد المبرّر الشرعي والقانوني، ويتصادم مع غلق الملف السابق لأحداث ما قبل الميثاق.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد واهدنا سواء السبيل، ووفقنا لخير العمل، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن كان له حق خاص علينا من أهل الإيمان والإسلام. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين وأحلل غضبك بالقوم الكافرين يا قوي يا قهّار، يا عزيز يا جبّار.

إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى
وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكّرون

زر الذهاب إلى الأعلى