خطبة الجمعة (44) 18 ذو القعدة 1422هـ – 1-2-2002م

مواضيع الخطبة:

الاسرة في الإسلام..العلاقات
الاجتماعية (6) – بعض الركائز العامة –
نحن والآخرون
– تحكيم شرع الله سبيلٌ – التمييز العنص

متى تجب طاعة الحاكم؟ تجب طاعة الحاكم إذا استقام على أمرربِّه، وأدّى حقوق الرعية، وقام في الناس بالعدل، ولا يكون ذلك إلاّ بأن يحكم بما أنزل الله.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا يضر شيء مع رحمته، ولا ينفع شيء عند نقمته، ولا مطلب مثل رضاه، ولا محذور يشبه غضبه. أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين، ونجاة للمؤمنين. صلى الله عليه وآله الطاهرين.
عباد الله.. اتقوا الله، ولا يخرجنّكم من طاعته طمع ولا خوف، ولا تدخلنّكم في معصيته رغبة ولا رهبة، فليس من أحد أحقّ من الله أن يخاف ويرجى، وليس أحد من دونه بمالك إلاّ ما ملّكه الله، ولا من ضارّ ولا نافع إلاّ بإذنه. عباد الله وحّدوا الله في الملأ والخلأ، في الشعور والقول والعمل، ولا تتخذوا مع الله أرباباً في سرّ أو علن، فيكون لهم من عملكم ما يرضيهم، ويسخط الله، ومن قولكم حظّ يقرّبكم إليهم، ويبعّدكم من الله، ومن شعوركم نصيب يدنيكم منهم، ويطردكم من رحمة الله.
أما بعد .. فان العلاقات الاجتماعية التي تدخل في عناية الإسلام تبدأ كما مرّ من دوائر المصاهرة والنسب والجوار، وتأخذ في الامتداد والتوسع لتشمل تلك العناية العلاقة مع الفئات الاجتماعية الضعيفة، وعلاقة الإيمان، وعلاقة الحاكم بالمحكوم وبالعكس، والعلاقة بالناس عموماً، وحتى من له عداوة مع المسلمين. ويمرّ الحديث بصورة مستعجلة بالموقف الإسلامي من هذه العلاقات الأخيرة، ثم ينتقل إلى بيان بعض الركائز العامة لنظام العلاقات الاجتماعية في الإسلام والتي لا يشدّ عنها، ولا نجد لها تخلّفاً في هذا النظام، وينتهي بذكر ملامح من النظام الاجتماعي الآخر.
المحور الأول: الإسلام والعلاقات الاجتماعية المتنوعة:-
1) مع الفئات الضعيفة:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}83/البقرة. فئة ضعيفة ومستضعفة في المجتمعات الأخرى، بل هي مسحوقة في تلك المجتمعات، مكانها في الإسلام أن يحسن إليها، أن يعتني بها. مسئولية من الله سبحانه وتعالى، أن يعتنى بهذه الفئة وترعى، لا على مستوى المطعم والمشرب فحسب إنما على مستوى الجسد والروح بالكامل.
2) مع الناس عامة:
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}13/الحجرات تسأل عن صلتك بالإنجليزي الكافر، وبمن في روسيا، وبمن في أقاصي الدنيا وأدانيها، فتأتي الآية الكريمة هذه لتجيبك أنك وهم جميعاً تنحدرون من أصل واحد من ذكر وأنثى، فأنتم نوع واحد وعلى مستوىً واحد من حيث الإنسانية في الأصل، ولا يبقى مجال للسباق والتفوق الحقيقي إلاّ مجال التقوى ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
كيف نتعامل مع الآخرين؟ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}90/النحل هذا التعامل بالعدل، التعامل بالإحسان، ليس مع أمة الإسلام وحدها، انما مع كل الأمم، ومع كل إنسان. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 58/النساء يلزم الإسلام المسلمين والحكومة الإسلامية، أن تقوم بوظيفة العدل في حكومتها إلى أين امتدت هذه الحكومة، فمن دخل بلاد الإسلام سواء كان مسلماً أو غير مسلم، إذا قبله الاسلام مواطناًأو أمنه،فليس التعامل معه يمكن أن يحيد عن العدل.. (وقولوا للناس حسنا) هكذا علينا أن نخاطب الآخرين، وهكذا علينا أن نتعامل مع الآخرين، والإمام علي عليه السلام يرى في كتابه إلى مالك الأشتر: أن الناس صنفان اما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق. فنحن وجميع الناس نظراء، نظراء في الإنسانية، نظراء في استعداد الطاعة والمعصية، نظراء في استعداد الرقي والهبوط، ومن الطبيعي جداً أن تأتي عناوين طارئة على المرء تسقطه حتى يستحق القتل.
3) بين الحاكم والمحكوم
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 59/النساء – الذين عيّنهم الله سبحانه وتعالى ورضيهم أولياء أمر، هؤلاء تجب طاعتهم، وهي حق الحاكم على المحكوم. عن علي عليه السلام: “انّ الله جعلني إماماً لخلقه، ففرض عليّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء النّاس كي يقتدي الفقير بفقري، ولا يطغي الغنيَّ غناه” وهذا من حق المحكوم على الحاكم. “حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل فحقّ على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا، وأن يجيبوا إذا دعوا ولو” ولو إلى تلف الأنفس.
متى تجب طاعة الحاكم؟ تجب طاعة الحاكم إذا استقام على أمرربِّه، وأدّى حقوق الرعية، وقام في الناس بالعدل، ولا يكون ذلك إلاّ بأن يحكم بما أنزل الله. “حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله” يبتدأ حق الحاكم من بعد أن يثبت خارجاً حق المحكوم عليه. على الحاكم أن يؤدي حق المحكوم حتى يطالبه بالطاعة، وحق المحكوم لا ينفصل عن حق الله أبدا.
4) مع الأعداء
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}8/المائدة – التزام العدل حتى مع العدو. هكذا هي العلاقة الاجتماعية مع الأعداء… علاقة غير مفتوحة على العدوان… علاقة مقيّدة بالعدل، ويجب أن تتحرك التصرفات مع العدو في دائرة العدل. هكذا يعلّمنا الإسلام. هذه اشارات لبعض العلاقات الاجتماعية العامة.
المحور الثاني : ركائز عامة ثابتة وهذه بعضها، بل هي إشارة إلى ذلك البعض
أولاً: مراعاة الفطرة والواقع الصحيح
التشريعات والأخلاق والحقوق والواجبات الاجتماعية في الإسلام، لها أرضيتها من الفطرة والواقع السليم، فلن تجد علاقة من العلاقات الاجتماعية التي يرعاها الإسلام ويبنيها وينميها، إلاّ ولها جذر في الفطرة أو من خلال الواقع المكتسب الجديد الصحيح المفيد، وهذا الواقع الصحيح المفيد هو بدوره أيضاً وفي الحقيقة يمتد به وجوده ليتصل بجذر من جذور الفطرة، ولا إهمال في التشريع لأي علاقة ذات جذور في الفطرة والواقع النظيف. هنا أمران: الإسلام لا تجده يخلق علاقة على خلاف الفطرة، ومن جهة أخرى ليس مما تدل عليه، أو تدعو له الفطرة من علاقة إلاّ والتفت إليها الإسلام ورعاها وبناها، فما أمر الله به أن يوصل يتناول كل ما تدعو الفطرة النقيّة لأن يوصل، ولم يُهَمل منه شيء.
ثانياً: النظام الاجتماعي في الإسلام يستفيد من مدخل الفطرة للرقي بمستوى العلاقة الاجتماعية وتوظيفها على طريق تربية الفرد والمجتمع تربية الاهية وصياغتهما صياغة إنسانية خلقية كريمة على طريق الله. وظيفة النظام الاجتماعي، كوظيفة النظام العبادي وأي وظيفة أخرى في الإسلام يستنطق الفطرة، ويأخذ بها على الطريق الصحيح، ويثري الخير في ذات الإنسان من خلال التعامل معها. استجابة الإسلام للفطرة ليست استجابة ساذجة، إنما هي استجابة مخطّطة هادفة، تتبنى أن يرتفع مستوى الإنسان وأن تسمو ذاته.
ثالثا: يرفض الإسلام الولاءات المصطنعة الضارة نهائياً، ويعارض العلاقات الاجتماعية الشيطانية المسيئة إلى الخلق الكريم، والعدل والتقدم والوئام العام الاجتماعي، وهنا بعض الأمثلة، فعلاقة الزنا، علاقة غير محترمة في الإسلام أصلاً ويحاربها الإسلام، وعلاقة التحالفات على الظلم، علاقات منبوذة ومواجهة من الإسلام أشد المواجهة.
رابعا: تتحرك كل الولاءات والعلاقات الاجتماعية في النظام الإسلامي حول محور واحد له المركزية التامة، والاستقطاب الكامل، وهو محور الولاء لله وحده بلا منازع ولا شريك. وهو الولاء الذي يحكم كل الولاءات ويتقدم عليها، ويلغي ما يصادمه منها سر ذلك أن لا كمال إلاّ في الاتجاه إلى الله، وعلى طريق الله، وكل ولاء يخالف الولاء لله هو انحدار عن خط الله، انحدار بالنفس، وسقوط للذات، وذوبان للإنسانية.
خامساً: وبذلك لا تتقاسم النفس الولاءات المختلفة، وتخلق الصراع في داخلها والتهافت، وإنما تنسجم كلها وتتوافق بعد أن لا يبقى منها إلاّ الصالح الذي يوافق مرضاة الله سبحانه.
سادساً: في ظل التمحور من كل الولاءات حول محور الرضى الالهي والولاء لله، تقع كلّها في مواقعها المناسبة البناءة من غير أن تتعملق بما ليس لها، أو تضمر فتظلم وزنها.
المحور الثالث: نحن والآخرون
هذا منهجنا فماذا يقول منهج الآخرين؟
1) علائق السفاح والزنا محل علائق المصاهرة والنسب.
2) بدل الإحسان إلى الطبقات الضعيفة، استضعاف الأقوياء وسحقهم من الأكثر قوة وبطشاء.
3) ظلم وطغيان بدل العدل والإحسان.
4) مكان التناظر في الخلق، والأصل الواحد، تبضيع الإنسانية وخلق الصراع العنصري والجغرافي والقومي كما تشهدون.
5) حالة من فوضى العلاقات والولاءات، فالتصادم بين الولاء للوطن، والولاء للقطب الواحد، بين الولاء العشائري والولاء للنظام العام أو مصلحة الإرادة المتفردة للحاكم، بين الولاء للحزب السياسي، وولاء القرابة. وهناك تهافتات وتهافتات كُثْرٌ في هذا المجال حتى يدخل الانشطار والانقسام والقلق والفوضى في داخل ذات الفرد الواحد.
6) إحلال المثل الأعلى المزوّر القاصر، محل المثل الأعلى الحق المطلق سبحانه وتعالى. وهذا ما يمثّل أم المشاكل حيث أن رضى الله عزّ وجل فيه تحقيق للمصلحة الحقيقية للذات وللآخرين، فلا يتنافى إخلاصي للآخرين ووفائي لهم مع محور الولاء لله وتحكيمه. إذ لا مصلحة حقيقية لأحد إلاّ فيما يلتقي مع مرضاة الله عز وجل. أما الآلهة الزائفة فمصلحتها تفصلني عن مراعاة مصالح الآخرين لفقرها وأنانيتها ومحدوديتها ومنافستها للآخرين، بل هي تقوم على تلاشي وجودي وعلى ذوباني واندكاكي وضياعي، فلابد أن أضيع، لابد أن أتلاشى، لابد أن أذوب من أجل أن أخلص الولاء للآلهة الزائفة، أما الولاء لله فيبني ويشيد الذات ويثريها.
اللهم صلّ على عبدك المصطفى، وخيرتك من أهل الصدق والوفاء، وعلى آله النجباء واغفر لنا ما سبق منا في سالف أيامنا، واعصمنا في بقية أعمارنا، ولا تجعلنا من المغلوبين للشيطان، المصروعين للدنيا، وأجعل لنا حظّاً وافراً من علم الكتاب، وهدى الرسول والآل، وجمّلنا بالمعرفة، وزيّنا بالتقوى وأكرمنا بالطاعة، ولا تحرمنا من رحمة الشفاعة، واغفر لاخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولكل ذي حق خاص علينا منهم، وأبدل المسلمين عن فرقتهم اجتماعاً، وعن رضاهم بالباطل إصراراً على الحق، وعن ضعفهم قوة، وعن هزيمتهم نصراً، وعن ذلّهم عزّاً يا قوي يا عزيز، يا علي يا قدير.
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا مقدّم ولا مؤخر إلا هو، ولا معبود سواه، ولا هادي من دونه. الآجال من تقديره، والمصائر بيده، والأرواح في قبضته، لا سببية إلا بفيضه، و لا عليّة إلا بمدده، ولا تحقق لشيء في الكون كله إلا بإذنه. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله عاش محموداً، وقضى مرضّياً، ومضى سعيداً، وخلّف نوراً مضيئاً، وهدىً مبينا، ومنهجاً قويماً، وكنوز معرفة لا تنفد، ومنابع علم لا تنزف، اللهم صل وسلم على عبدك محمد المصطفى وآله السعداء.
عباد الله اتقوا الله فإنه لا ملجأ لأحد ولا مهرب من أخذه، ولا غنى لأحدٍ عن رفده، ولا هدى لأحدٍ إلا من عنده، وكلُّ قوي منتهٍ إلا إلى ضعف، ولا يبقى قوياً إلا الله، وكل منته إلى موت، ولا يبقى حيّاًَ إلا الله، وكل جبّارٍ صائر إلى هوان، ولا جبروت حقاً وصدقاً و أزلاً وأبدأً إلا لله، وكل قهار مقهور لقدر الله الذي يجري عليه كما يجري على النملة والذبابة، و لا قهّار غير مقهور، ولا محدود قهره من دون الله، ولا تغرّنكم الدنيا عباد الله، ولا يصرفنكم الجمع لها عن طاعة الله، فإنها تنتهي بملوكها وأهل بذخها إلى الوهن بعد الشدة، والضعف بعد القوة، والمرض بعد الصحة، وتصير بهم إلى الحفر المظلمة أجساداً هامدة، ورميماً مهيناً، دون أن يدفع عنهم ما جمعوا، أو يحميهم ما ملكوا، وإنه ليأتي على الإنسان أن لو كانت له الدنيا كلها، ما وجد منها حيلة تمدّ له في حياته لحظة.
اللهم صل وسلم على مبعوثك برسالة الإسلام تنبيهاً وتنضيجاً للعقول، وتزكية للأرواح والنفوس، وتطهيراً للقلوب عبدك المصطفى محمد وآله شموس الهدى، اللهم صل وسلم على عبدك الزكي ووليك الرضي، وصي الرسول، وزوج البتول علي بن أبي طالب. اللهم صل وسلم على العالمة بالدين، أم الأئمة الطاهرين، المبرّئة من الشك والرَّين، فاطمة بنت خاتم النبيين.
اللهم صل وسلم على الإمامين الهاديين، والقمرين النيرين أبي محمد الحسن وأبي عبد الله الحسين , اللهم صل وسلم على كلمة التقوى وذوي النهى والمرجع في أمور الدين والدنيا، أئمة الحق والهدى علي بن الحسين زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن بن علي العسكري القادة على خط السماء.
اللهم صل وسلم على هدى العالمين الإمام الراشد، والولي القائد، محمد بن الحسن المنتظر والمؤتمن. اللهم بلّغه مأموله، ومزِّق به من الكفر جيوشه وفلوله، وانصره نصراً عزيزاً، وأفتح له فتحاً يسيراً، واملأ به الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت بالطغيان ظلماً وجوراً. اللهم أيّد وسدد ووفق للخير والنصر والعز مرضيّه، واخذل وبدِّد شمل مقصيّه .اللهم انصر ناصره واهزم محاربه. اللهم فقهاء الأمة المخلصين، وعلماءها العاملين المجاهدين، وفقهم لمراضيك، واعزهم بعزك، وأيدهم بتأيدك.
نداء المسيح عبوديةٌ خالصة:
أمّا بعد فإن أصدق القول وأحسن الحديث هو كتاب الله العزيز الحميد القائل :
{إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 51/ آل عمران
مع هذا النداء من النبي عيسى عليه السلام لبني إسرائيل، وهو نداء كل الأنبياء والمرسلين والأوصياء والصالحين للأفراد والجماعات، على خط التاريخ الممتد، والأجيال والأمم:
إنه أسمى نداء، وأكرم دعوة، وأنجح طرح لقيادة الحياة، وصناعة الإنسان، ونضجه، وهداه وعلاه، نداءٌ ينطلق من أكبر حقيقة وأمتن قاعدة .. ينطلق من ألوهية الإله الحق الواحد الأحد الفرد الصمد .. الله الموجود في ذاته لذاته، لذاته بذاته، المستجمع لكل صفات الكمال والجمال والجلال …
ثم من ربوبيته الصادقة الشاملة التي تقوم بها الكائنات، وتتدفق الحياة، وتستمر الموجودات، وتسير الأشياء إلى الغايات. هذا النداء يطلقه عبدٌ متواضع لربه، معترف بعبوديته له، وانقطاعه إليه، وتعلقه به، وما يتولاه ربه به من ربوبيته له، وتدبيره لأمره، وجميلِ صنعه به، مبتدئاً بذكر ربوبته له قبل غيره: عيسى عليه السلام قال: ربي وربكم … لئلا تكون هناك شمة استكبار والتفات للأنا في ندائه فهو يقول ((إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ)) وبذا يكون له عليّ أن أعبده وعليكم أن تعبدوه في مقام الاختيار عبادة تقتضيها العبودية الثابتة بالقهر والإضطرار. نحن عبيد لله قهرا، نحن مضطرون لا نملك أن نتفلت قيد أنملة من عبوديتنا لله، هذا في مجال التكوين. وجدنا بهذه العبودية، ونقوم بهذه العبودية، ونستمر بهذه العبودية، ويسري دمنا في شرايننا بهذه العبودية، وكل أثرٍ منا تسبق إرداتنا فيه عبوديتنا لله سبحانه وتعالى. تبقى هذه المساحة الاختيارية في حياتنا وهي محل الابتلاء، فهل نخضع لله سبحانه وتعالى لننجو، أم نستكبر لنهلك ؟ على أن هذه المساحة ليست خارجة عن سلطان الله وتدبيره.
هذا النداء – نداء عيسى عليه السلام – إذا أطلقه الأنبياء وأوصياؤهم، وأطلقه المصلحون من الإسلاميين يطلقونه بعيداً عن فرض الذات، وعن أي هدف استكباري، وأي نَفَسٍ استعلائي، وعن روح الوصاية الذاتيه.
يطلقونه تذكيراً وإرشاداً وتبيلغاً للناس وخضوعاً لله، وإشفاقاً على عباده، وتحملاً للمسئولية أمامه سبحانه وتعالى بأن نصحوا ودعوا وصدقوا ما عاهدوا الله عليه من الدعوة إلى الخير والعمل بها.
والنداء بالعبودية الذي يتقدمه إفراده سبحانه وتعالى بالربوبية كما هو مذكورٌ في الآية الكريمة – سبق ذكر الربوبية على النداء بالعبادة لله سبحانه وتعالى – هو نداء بالعبودية الخالصة الموحدة والشاملة لكل مساحة الحياة لفرد ولمجتمع، فكما أنه لا رب بالحق إلا الله، فإنه لامعبود للخلق إلا الله، ورب الصلاة والصوم والحج، هو رب الجهاد والثقافة والسياسة والإجتماع والاقتصاد ورب كل فاعلية ونشاط .

تحكيم شرع الله سبيلٌ لسعادةٍ أبدية:
فنداء الأنبياء نداءٌ للبشرية كلها بإلتزام منهج العبادة الكاملة المستوعبة لساحات الحياة جميعها، لأن هذا هو المنسجم مع إفراده سبحانه بالربوبية وتوحيده، لا ان تأتي العبادة المترتبة على التوحيد الشامل في زاوية أو أكثر من زوايا الحياة بلا إستيعاب لكل ما لها من مسافات ومساحات.
وتوحيد العبودية لله ودخول الجميع في طاعته، والاحتكام لشرعه هو الصراط المستقيم – كما أشارت الآية الكريمة – وأقرب بعد بين المنطلق والغاية، والطريق الواصل الذي يحقق للانسانية أهدافها في العيش الكريم، والحياة الفاعلة المستقرة المتقدمة السعيدة، والمآل السعيد والمستقبل الذي يفوق الآمال.
إن نداء التوحيد، وشموليةِ الاستسلام الطوعي لإرادة الخالق الحكيم، وشرعه القويم، كما هو نداء الأنبياء والأوصياء، هو نداء الاسلاميين الصادقيين اليوم، الذين لا يريدون بالإنسانية إلا الخير، ولا يجدون طريقاً لخيرها غير الاسلام.
دعوة باطلة:
ومِنْ أنكر المنكر، وأفحش القول، وأسوأ الظلم أن يوصم الإسلام والإسلاميون في كل مكان، وهم الذي يرون الخلق عيال الله، والعباد عباد الله، وأن الإنسان أقل ما يربطه بالإنسان أنهما نظيران متكافئان في أصل إنسانيتهما، وما وجدا عليه من فطرة، وأن القاعدة الكبرى في التعامل هو أن يكون بالعدل والإحسان، وأنا لا تحامل يجوز معه رفع اليد عن الأخذ بالعدل، وأن ليس لهم انفسهم – الاسلاميين – إلاّ أن يذلّوا لله ولعدله وحكمته وعلمه وقدرته وأن ليس لهم أن يطغوا في الأرض وأن يستكبروا أو يسعوا بالفساد، وأن عليهم أن يسترجسوا كل بغيٍ وسوء … من أنكر المنكر وأفحش القول وأسوأ الظلم، وأقبح القبيح أن يوصم هولاء والإسلامُ النقي من قبل دعاة العنصرية، ومصاصي دماء الشعوب، وأصحاب الحملات الاستعمارية المستنزفة لخيرات الأمم، والذي يحصرون مقياس القيم والحق والعدل في موافقة المصالح الأمريكية كما يصرحون أنفسهم، … من أنكر المنكر ان يوصم الإسلاميون بعد كل هذا .. من قبل هؤلاء بالإرهاب والغوغائية والهمجية مستغلين في ذلك الحادث المدمر في أمريكا، الذي إن صدق أنه من بعض المسلمين، فقد جاء رد الفعل خاطئاً، مداناً من سائر المسلمين دولاً وهيئات ومؤسسات وشخصيات في طول العالم الإسلامي وعرضه لمآسي عانى منها المسلمون ولا زالوا يعانون كما تعرف الدنيا كلها، وهو رد فعل نكرر إدانته، ونطالب الاسلاميين في كل مكان أن يقدّموا البديل الإعلامي الراقي عنه، والذي لايشوّه صورة الإسلام الناصعة ارضاءً للعلقلية الغربية المادية، والمستوى المتدني من الناحية الخلقية بفعل من طغيان الدوافع الجسدية، ولا يستسلم لإرادة التمييع والتذويب، وفقد الثقة، وإهتراء الرجولة مما يحاوله الغرب بنا، ولا يقضي على روح الجهاد للذود عن الأوطان والقيم والكرامة.
نحن مع النداء الذي وجهه النبي عيسى على نبينا وآله وعليه السلام لبني إسرائيل للخروج بهم من جاهليتهم، وما تفرزه الجاهلية من مشاكل لها أول وليس لها آخر، وهو نداؤنا لجاهلية القرن الواحد والعشرين، ولشعوب العالم كله من كل العناصر والأقطار والأولوان. وهو النداء الذي أمر الله سبحانه خاتم أنبيائه ورسله أن يسمعه أهل الكتاب، ولا زال القرآن يطلقه ليصل مسامع الدنيا بكل من فيها من أفراد وشعوب: { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } 64آل عمران.

منهجية الإسلام نفيٌ للاستغلال والتمييز العنصري:
دعوتنا من دعوة الله ودعوة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم للاجتماع على كلمة سواء، لا تحابي أحداً، ولا تجور على أحد، لا استعباد فيها من بشر لبشر، ولا استغلال في حكمها من إنسان لإنسان، ولا فرض من أحدٍ على أحدٍ لذلٍ أو هوان، فلا عبودية إلا لله خالصة لا شوب للشرك فيها تَشفُّ بها أرواح العباد، وتسمو نفوسهم، وتزكو قلوبهم، وتصح وتتقدم وتطهر حياتهم .
دعوتنا من دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع إلى منهج التوحيد الذي لايفرق بين أمة وأمة، ولاشعب وشعب، ولا عنصر وآخر، وعلمه كامل، وعدله شامل. منهج لا تسجد فيه جباه العباد إلا لرب العباد، ولا تخضع الرقاب إلا لمالكها، والنفوس إلا لبارئها .
نحن الإسلاميين لانرضى أن يتخذنا أحدٌ أرباباً – عليٌ عليه السلام حرق من أراد أن يؤلهه – ولا نرضى بأن نتخذ من الآخرين أرباباً، وعلينا إذا رفض الغير منهج الحق والعدل والتوحيد، بأن نُشهِدَ الدنيا كل قولاً وعملاً بأنا مسلمون، لا نقبل العبودية إلا لله، ولا نرى الربوبية إلا له، ولا يتجه سعينا أبداً لأن نكون أرباباً للغير، ولا نعطي يدنا لمن أرادوا أن نتخذ منهم أرباباً من دون الله أو معه.
اللهم صل على البشير النذير والسراج المنير محمد وعلى آل محمد، واغفر لنا ولجميع أهل الإيمان ولمن كان له حق خاص علينا منهم، وثبت أقدامنا في كل موطن تزل فيه الأقدام عن طريق هداك، وأحينا مسلمين وتوفنا موقنين ياكريم يا رحيم.

بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}90/ النحل

زر الذهاب إلى الأعلى