خطبة الجمعة (40) 20شوال 1422هـ 4-1-2002م

مواضيع الخطبة:

الاسرة في الإسلام ( 2 )

– العلاقة بالأولاد – ما هو الانتماء – حجم الأمة والخيار المستقبلي والوسيلة

أن تجعل نفسك و أنت في الأربعين أو الستين وكأنك صبيٌ في تعاملك مع طفلك ، بشاشةً وخطاباً يفهمه وحركاتٍ مستقيمةً مربية تسرّه وما ماثل ذلك .

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا يقابلُ نعمه شكر المخلوقين ، ولا تنفعه غنىً منه طاعة المطيعين ، ولا تضره لتنزهه معصية العاصين ، ولا تؤثر فيه شفاعة الشافعين ، وإنما يقبل الشفاعة ممن ارتضى كرماً وجوداً وتفضلاً . نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وليس له وليٌ من الذل وكبّره تكبيراً ، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله ، بلّغ رسالات ربه ، وأوضح معالم الدين ، وهدى إلى الصراط المستقيم ، وجاهد في الله جهاد المخلصين . صلى الله عليه وآله الهداة الميامين .

عباد الله أوصيكم ونفسي من قبلكم بتقوى الله الذي لا إله إلا هو ، وأن نخلص له التوحيد ما استطعنا إيماناً ومحبةً وشكراً وخوفاً ورجاءً ، وعملاً وطاعةً وجهاداً ، و أن نذكره سبحانه وتعالى في كل حركة وسكون ، لتأتي الأفعال والتروكات منا جميلة جليلة منطلقة من هداه ، طالبة رضاه ، وما كان كذلك لا يأتي إلا جميلاً جليلاً ، زاكياً كريماً نافعاً . عباد الله ألا كل من عليها فان ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، فلا تتخذوا من دون الله الباقي أرباباً ضعافاً من الفانيين . ومن استمسك بفان ما كان قد استمسك بشيء يغنيه ، ومن استمسك بالباقي ما فاته أبداً شيءٌ يثريه ،وله فيه خير، ومنه له صلاحٌ وفلاح .

اللهم صل على محمد وآل محمد ، واهدنا ولا تضلنا ، واجعل قولنا سديداً ، وعملنا صائباً ،ونيتنا عندك مرضية ، فأنت المؤمّل والمعتمد يا كريم ، يا أكرم من كل كريم.

أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فالحديث يتناول هذه المرة من علاقات الأسرة النامية العلاقة بالأولاد من بنين وبنات ، والمطروح بعض جوانب هذه العلاقة ، وإذا تحدثنا في هذه الدائرة فإنما نتحدث عن دائرة من دوائر الاجتماع ، وتكوين الإسلام للمجتمع الإسلامي القوي ..

1- للأولاد حق :

– (( يلزم الوالدين من عقوق الولد ما يلزم الولد لهما من العقوق )) عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ،كما إذا عقّ الابن أو البنت الأب كان ذلك وزراً ، فكذلك إذا عقّ الوالد ولداً من بنت أو ابنٍ كان ذلك وزراً ، فكلٌ منهما له حق.

– (( إن للولد على الوالد حقاً ، وإن للوالد على الولد حقاً …. )) عن عليٍ أمير المؤمنين عليه السلام .

ومن الحقوق التي ذكرتها الروايات عنهم عليهم السلام :

أ-اختيار والدة الولد :

وأن تكون هذه الوالدة إناءً طيباً وذاتاً جيدة يمكن أن تولدَ منها ذاتٌ حميدة ، امرأة لا ينظر فيها الجمال الظاهري ، بقدر ما ينظر منها إلى الجمال الباطني ؛ جمال الروح والقلب والعقل والضمير والوجدان ..

ب- الاسم الحسن :

يتابع الإسلام المسألة في دقائقها حتى أن يكون له تركيزٌ على الاسم المختار للولد لما قد يكون للاسم من أثرٍ ما على تكوين شخصية الولد ونفسيته مستقبلاً .

ج-أن يضعه موضعاً حسناً :

بعد أن يلده يضعه موضعاً حسنا ، يختار له البيئة المناسبة ، الحضن المربي الكفوء ، الأجواء التربوية المساعدة على الخير ، المدرسة التي تربيه تربية الإيمان والتقوى والعلم والعمل الصالح ، المناخات الاجتماعية النظيفة التي تساعده على أن ينمو نمواً زاكياً طيباً طاهرا.

د- تأديبه :

أي تربيته تربيةً حسنة ، وليس معنى التأديب هو الضرب ، تأديبه بكل اسلوب جيد مؤثر ومنه الضرب المحدد المشروط عند الضرورة … تأديبه : تقويمه ، العمل على تحسين خلقه ، العمل على صياغته الصياغة التي يرضاها الله سبحانه وتعالى ، تعليمه القرآن ، وتعليم القرآن لا يعني تعليم حروفه فقط ، وإنما تعليم القرآن يتناول مفاهيمه ،عقائده، رؤيته ، أحكامه .. تعليمه الكتابة …

هـ- التصابي للولد :

أن تجعل نفسك و أنت في الأربعين أو الستين وكأنك صبيٌ في تعاملك مع طفلك ، بشاشةً وخطاباً يفهمه وحركاتٍ مستقيمةً مربية تسرّه وما ماثل ذلك .

ز- حسن معاملته :

لا أن تعامله كالعبد وإنما تعامله معاملة الرجل الذي تتوقع فيه ، وتريد له مستقبلاً أن يكون من رجالات الأمة ، ومن صفوفها المتقدمة في ميادين الجهاد المختلفة ، ولا بد أن تزرع في نفسه الاحترام، وتريه بأنه رجل ، وتريه من كرامته الشيء الكثير ، من دون أن تصل به حد الغرور والإعجاب بالذات .

عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (( رحم الله من أعان ولده على برّه وهو أن يعفو عنه ويدعو له فيما بينه وبين الله )) . عفوك عن ولدك حين يسيء وبموازين منضبطة يساعده على ان يبرك وأن يطيعك ، وحين تخلق بينه وبينك فجوة ، وتجعل المسافة بينك وبينه هائلة فإنك ستخسره ، وقد يخسر ذاته .

وعن أبي عبد الله عليه السلام وهو الإمام الصادق عليه السلام حين سُئل : من أبرّ ؟ قال : (( والديك )) ، قال : قد مضيا – توفيّا – ، قال : (( بُرّ ولدك )) … وكأن برّ ولدك يقوم مقام برّ والدك .

2- تربيةٌ شاملةٌ هادفة :

(( الغلام يلعب سبع سنين ، ويتعلم الكتاب سبع سنين ، ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين )) (( مروا أولادكم بطلب العلم ))

– (( مروا أولادكم بطلب العلم ))

– (( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حبّ نبيكم ، وحبّ أهل بيته ، وقراءة القرآن )) الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .

– ((بادورا أحداثكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة )) الإمام الصادق عليه السلام .

– (( علموا أولادكم من علمنا – أي من علم أهل البيت عليهم السلام – ما ينفعهم الله به لا تغلب عليهم المرجئة برأيها )) علي عليه السلام .

أهل البيت عليهم السلام وهم أهل بيت العصمة يدركون أهمية صناعة الطفل وأن رجولة الإنسان من طفولته ، ولن يأتي الطفل رجلاً مستقيماً ما لم يوضع في طفولته على الطريق المستقيم .. هذا غالباً . إذا أردته رجلاً قويماً فلا بد أن تقوّمه أيام الطفولة ، إذا أردت لابنك الانتماء العقيدي الصحيح وأن يكون من أصحاب الرؤية الإسلامية المركزّة ، وأن تحميه من التيارات الفكرية والتيارات السلوكية المنحرفة ، فعليك أن تملأ روحه ، أن تملأ عقله ، أن تملأ نفسيته بالزاد الطاهر النقي الصحيح مبكراً .

ذات الإنسان فكراً ، روحاً ، نفسيةً لا يمكن أن تبقى فارغة لا بد لها من زاد ، وهدا الزاد قد يكون من الزاد المسموم ، وقد يكون من الزاد النقي ، ولدك لن ينتظرك حتى العشرين ، لتخاطبه بالإسلام ، وبالمفهوم الصحيح ، وبالرؤية السليمة ، لن يصل إلى سن العشرين ، إلا وقد تكوّن فكرياً وسلوكياً ، ونفسياً على أي درب من الدروب ، فهي المسئولية الكبرى التي تجعلنا نختار لأبنائنا المدرسة ،والمسجد، والبيئة ، وأن نحول البيت إلى مدرسةٍ خاصةٍ في مثل هذه الأزمان ، مدرسةٍ تقدّم لهم دروس العقيدة ، ودروس الخلق القويم ، ودروس الولاء لله ولرسوله ولأئمة أهل البيت عليهم السلام ولأولياء الله في كل يوم …

ما لم نفعل ذلك فأبناؤنا شيوعيون ، أبناؤنا علمانيون ، أبناؤنا انحلاليون ، أبناؤنا أعداء لدين الله ، أعداءٌ لمدرسةٍ أهل البيت عليهم السلام ، وهم الذين سيكون القضاء على الإسلام على أيديهم .

– وطفلك اليوم أنت مُغالبٌ عليه في بيتك ، ومنذ نعومة أظفاره ، مُغالبٌ عليه في المدرسة ، مُغالبٌ عليه في البيئة العامة ، مُغالبٌ عليه في كل مراحل نموه ، فلننتبه ، فإن المسألة أخطر مما نحن عليه من حساب .

– (( إنا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين ، فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين ، ونحن نأمر صبياننا بالصوم إذا كانوا بني سبع سنين .)) وتممت حديثٌ يقول (( ومروهم بالصيام إذا كانوا بني تسع سنين .)) عن أبي عبد الله عليه السلام .

المقصود في الرواية ، فيما يفهمه عدد من الفقهاء ، وفيما يعطيه الفهم العرفي لمثل الروايات أنها تنظر إلى قابلية الطفل ، فقد تكون قابليته مرتفعة فيدرب على العبادة في مرحلة أكثر تبكيراً ، وقد تكون قابلياته متأخرةً بعض الشيء فيراعى فيه هذا المستوى المتخلف شيئاً ما في القابليات ، ولمّا كانت بيئة أهل البيت عليه السلام هي البيئة الأكثر نظافةً ، والأكثر مناسبةً للنمو ، ولأن عنايتهم عليهم السلام عناية فائقة بالولد ، لذلك ناسب أن يُبكر بتدريب أولادهم عليهم السلام أكثر من غيرهم ، وكلما كانت بيئة البيت مناسبةً ، كان يمكن أن تبكر بالتدريب على العبادات لطفلك ، فيكون من سن الخامسة للصلاة أو السابعة للصوم ، وتراعى في الطفل حتى أثناء تدريبه قدرته فلا يؤخذ بما لا يطيق

– (( علّموا أولادكم السباحة والرماية .. )) الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .

– في مجموعة الروايات –
تجدون هنا تربية شاملةً هادفة ؛ شاملة تركز على البعد النفسي ، على البعد البدني ، على الخبرات ، على تنمية القابليات ، على المسار الفكري ، على المسار الروحي . هذه التربية تنظر إلى الشخصية الإنسانية بكل حيثياتها وأبعادها لترعاها وتوافي بين هذه الأبعاد والحيثيات ، لتأتي شخصية الإنسان منتظمةً متناسقةً متناغمةً في أبعادها وواقعها .

وليس همّ الإسلام أن يركّز على الجانب الروحي فقط ، وإنما ترون فيه أنه يهتم بالجانب البدني ، بالخبرات العسكرية ، بالخبرات الحياتية العامة .

وإذا كانت التربية العسكرية بالأمس من مسئولية البيت ، من مسئولية الأب ، فإن التربية العسكرية اليوم من مسئولية الدول . حين أخذت الدول على نفسها أن تتولى العملية بالكامل فهي مسئولةٌ أمام الله سبحانه وتعالى عن هذا التخلّف الذريع ، وعن هذه السذاجة والسماجة ، وعن هذا المستوى الهابط ، بل عن هذا العدم …. العدم الكامل في الجانب التربوي العسكري لقطاعات الأمة الأكثر سعة .

إن يوماً قد يأتي على الأمة ، تحتاج فيه الأمة إلى كل أبنائها بل وحتى بناتها ، من أجل مواجهة الخطر ، بينما تعيش الشعوب الإسلامية أمام تقدّم الخبرة العسكرية وتقدّم مستوى السلاح ، بمستوى الدجاجة الراكنة لصائدها لو قامت حرب ، ذلك أن أحدنا لا يجيد أن يطلق رصاصة .

3- طموح الصالحين :

(( هنالك دعا زكريا . ))

نحن نطلب الولد ترويةً لدافعٍ فطري طبيعي ، نحن نشعر بالحاجة إلى الامتداد ، وندرك من جهة أخرى أن الموت يقف بمرصدٍ لنا ، لذلك نطلب البقاء الثانوي في عمر الولد . هذا مطلبٌ فطري طبيعي لا غبار عليه ، لكن لا يصح للإنسان المؤمن أن يبقى عند مستواه . إن النصوص تتجاوز بك همّاً وإرادة وطموحاً وعملاً هذا الحد البسيط إلى أن تطمح إلى تكوين جيلٍ قوي ، جيلٍ هادف ، جيلٍ رسالتي ، جيلٍ يتحمل أعباء الخلافة عن الله في الأرض ، فتكون بذلك خلاّقا ، تكون بذلك مبدعاً . أما قضية الولادة الطبيعية فأنت تشارك فيها حتى الحشرات ، فليس فخراً أن يأتي أحدنا ولادةً بعشرين أو أربعين أو خمسين ولداً ، إنما الفخر كل الفخر أن يُهيئ الله له سبحانه وتعالى أن ينشئ من الولد رجلاً صالحاً يحمل رسالة الله في الأرض ، ويكون من الداعين إلى الله . فلنسمع النصوص :

– (( هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذريةً طيبةً إنك سميع الدعاء )) ليس ذرية فقط .. ذرية طيبة ، وطيبة في فهم زكريا .. (( رب هب لي من الصالحين ))

– (( والذين يقولون ربنا – هؤلاء عباد الله الصالحون ، عباد الله المتقون ، عباد الرحمن – (( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين )) قرة عين المؤمن سيأتي عنها في حديث لأمير المؤمنين عليه السلام (( من سعادة الرجل الولد الصالح ))

– الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام – فيما أتذكر – (( ما سألت ربي أولاداً نضر الوجه – يعني وجوههم نضرة جملية – ولا سألته ولداً حسن القامة … أمير المؤمنين عليه السلام يشتهي أن يكون ولده حسن الوجه ، حسن القامة ، لكن هذا المطلب يتجاوزه ، ينساه ، أمام مطلب أكبر حتى لا يلتفت إلى المطلب الأول لأهمية الثاني – ولكن سألت ربي أولاداً مطيعين لله ، وجلين منه حتى إذا نظرت إليه وهو مطيعٌ لله قرّ عيني – أي قرت عيني ))

– (( ولد السوء يهدم الشرف ، ويشين السلف )) .من سعادة الرجل الولد الصالح .. ويقابله ولد السوء يهدم الشرف ويشين السلف ، فيُحملّنا الإسلام مسؤولية تنشئة الولد التنشئة الصالحة فيأتي الصالَح الذي تقرّ به عين المؤمن.

4- المبدأ أولاً :

الدين اكبر ، الله أجلّ وأعظم ، والإنسان المؤمن لا يمكن أن يُقدّم ولداً على الله ، وكل شيء ينسحق وكل شيء يضيع وكل شيء يفلت ما دام الحفاظ على العلافة بالله عز وجل حاصلاً قائماً .

– (( واعلموا انما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجرٌ عظيم )) 28الأنفال.

الولد محل الابتلاء ، إما أن تأخذه إلى الجنة ، وإما أن تذهب وحدك إلى الجنة ، ويذهب وحده إلى النار ، وإما أن يذهب بك هو إلى النار ، فلنعمل على أن نأخذ أولادنا معاً إلى الجنة ، ولنحذر شديداً أن نعطي أيدينا لأولادنا يقودننا إلى النار ، وكثيراً ما نفعل فنعطي اليد للولد ، ونعطي اليد للزوج ، ونعطي اليد للصديق ، ونعطي اليد للعدو ليأخذ بنا بعيداً عن الله ، ليأخذ بنا إلى قعر جهنم .

– (( الولد فتنة )) الإمام الصادق عليه السلام .

– (( الولد مجبنة مبخلة محزنة )) سبب بخلك ؛ تريد أن تجمع المال له ، سبب جبنك ؛ حذاراً عليه ، تحافظ على ذاتك، ولا تخطو خطوة على طريق الجهاد في سبيل الله ، محزنة ؛ ألمه ألمك ، جرحه جرحك ، وفاته منغصةٌ لحياتك فهو محزنة .

– (( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون )) 9 المنافقون .

– (( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فأحذروهم .. )) 4 التغابن .

– (( لا تجعلن أكثر شغلك بأهلك وولدك ، فإن يكن أهلك وولدك أولياء لله ، فإن الله لا ضيع أولياءه ، وإن يكونوا أعداء الله فما همك وشغلك بأعداء الله )) الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام .

– اللهم صل وسلم وزد وبارك على الحبيب محمد وآل محمد واجعلنا من صالحي عبيدك ، واجعل رضانا من رضاك ، وسخطنا من سخطك ، ولا تجعلنا نعدل بك أحداً ، أو نرضى عنك بدلاً ، أو نشرك بك شريكاً أبدا ، وأغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ، ولمن علمنا علماً نافعاً من أهل ولايتك ومحبتك ، ولكل ذي حق علينا من أهل الإسلام والإيمان ، ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين .

بسم الله الرحمن الرحيم
(قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد)

الخطبة الثانية

الحمد لله غفّار الخطايا، دافع البلايا، كاشف الكربات، الرحيم الودود. نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إذا سأله عبد أعطاه، وإذا استغناه أغناه، وإذا لجأ إليه كفاه، هاد لمن استهداه، غافر لمن استغفره، رحيم بمن استرحمه، شديد على من عصاه وأدبر واستكبر. ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، طهره بعصمته، واصطفاه لرسالته، واجتباه لكرامته.

اللهم صلّ وسلم عليه وآله وزد وبارك كثيرا كثيرا.

عباد الله اتقوا الله، وانظروا إلى الحياة الدنيا نظر البصير الممعن المعتبر ، تجدوا لذائذها منتهية ، وعواقب هذه اللذات مؤذية، وما عليه التنافس منها اليوم من طعام أو شراب تنفر منه النفوس غدا وتزكم الآناف، ويعود على الأبدان بالأسقام والتلف، وأن صورة ما تشتمل عليه مصارف المياه، من موائد الأمس الفاخرة، التي كان يدعى لها من يدعى تكريما، وما تحتويه معدة الإنسان مما طعم أو شرب من قريب، وما تضمه حاويات القمامة مما كان عليه التنافس قبل حين وربما كان قتل وقتال إذا حضرت الذهن . الصورة التي ذكرت ساءت لها النفس وأصابها التقبض والنفور. في الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام حينما مرّ على مزبلة قمامة فيها بقايا طعام قال لمن معه ( هذا ما كنتم تتنافسون عليه بالأمس). ابن العم يقتل ابن عمه ، ويختلف الأخان على سبب اللقمة التي تثير الغثيان في الأخير. وإن محتوى القبور من جثث هامدة، وركام خليط تعلمون ما هو، وبقايا متناثرة من أعضاء مبددة، وعظام بالية، ورميم ضائع في التراب ليقدم للإنسان صورة عن الدنيا، وخاتمة لقصتها أليس كذلك؟. فلا تغرنكم الدنيا، وأقبلوا على الله، واطلبوا الآخرة، تسعدون فيها ولا تشقون، وتكرمون ولا تهانون، وتسرون ولا تساؤون، ولا يكون لكم ما تكرهون.

اللهم صلّ وسلم على عبدك المصطفى ، وزد وبارك وتحنن وترحم عليه وآله. اللهم صلّ وسلم على وليك المرتضى أبي الحسنين الشهيد والمجتبى. اللهم صلّ وسلم على أمتك الطاهرة فاطمة الزهراء. اللهم صلّ وسلم على السبطين الزاكيين لنبيك الهادي الحسن بن علي وأخيه الحسين الشهيد بكربلاء. اللهم صلّ وسلم على أئمة الهدى والعروة الوثقى التسعة الهادين النجباء علي بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر وارث الأنبياء والأوصياء.

اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه وافتح له فتحا يسيرا وانصره نصرا عزيزا وكثّر أولياءه ، وأظهره على أعدائه ياقوي ياعزيز.

اللهم أيد وسدد وبارك في الموالي له، السالك مسلكه، القاصد مقصده، الآخذ بطريقته، يا ولي المؤمنين وأرحم الراحمين.

أما بعد فقد أصبح لزاما على أمتنا الإسلامية أن تقرأ نفسها، انتماء، وحجما، وموقعا، وخيارا، ووسيلة انطلاق ونهوض:

ما هو الانتماء؟
أي أمة أنت؟ نحن أبناء أي أمة؟ هل نعرف هويتنا؟ هل نعرف انتماءنا؟ علينا أن نحدد هذا الانتماء. ما لم تحدد الأمة انتماءها فإنها ستتيه، وكل الأمم الأخرى وإن ضلّت، والتزمت قاعدة معينة تنطلق منها ، وإن كانت هشّة ستبني نفسها بعض الشيء، ولو على مستوى من المستويات، وفي بعد من أبعاد الحياة، أما الأمة الإسلامية وكأي أمة أخرى حين تبقى بلا قاعدة ، تعيش التذبذب والتزلزل في الرؤية وفي الانتماء، فإنها ستضيع ، ستتيه ستكون مغلوبة مقهورة مفجوعة ، ملقاة حصاة رخيصة، أو ذرة ضائعة . علينا أن نحدد انتماءنا، وأننا أبناء القرآن، وأبناء سنة رسول الله صلى الله عليه وآله. أننا أبناء القادة الذين اختارهم الله عزّ وجل للبشرية كلّ البشرية قادة، …. أبناء رسالة السماء. أننا نمثل الأمة الامتداد في مسيرتها لمسيرة الأنبياء والمرسلين، هذا هو انتماؤنا، وإذا عرفنا هذا الانتماء، عرفنا أين نضع القدم وعلى أي طريق، وكيف نصنع.

ما هو حجم هذه الأمة؟ هذه الأمة المليارية، من ناحية العدد البشري، والتى تمتلك الثروة الهائلة من مختلف أنواعها، الثروات الطبيعية الأولية، ماء ومعادن، وتمتلك مناخات مختلفة، وينتشر عنصرها البشري في كل القارت، وتمتلك شرايين صناعة هذا العالم وزراعته وسلاحه، هذه الأمة التي تتوفر على الإمكانات المادية الهائلة، أين فرنسا منها؟ أين بريطانيا منها؟ أين كثير من بلدان الكفر المتقدمة منها؟ أين الهند منها ؛ الهند التي تختلف عناصرها اختلافا مبدئيا يجعلها دائما في انقسام ؟! هذه الأمة على المستوى المادي أمة عملاقة، وعلى المستوى المعنوي تمتلك أكبر كنوز المعرفة الإنسانية، وهي مهيئة من خلال المنهج العلمي، الذي يشدّها إليه قرآنها وسنّة نبيّها صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن تسبق في العلوم المادية، نعم الأمة الإسلامية لو التزمت المنهجة التي يدل عليها القرآن، وتدل عليها السنة، وهي منهجة معرفية تقدر العقل، وتقدر الحس وتقدر مصادر معرفية أخرى، وتضع كل مصدر من مصادر المعرفة في موقعه، وتناغم بين كل مصادر المعرفة، لتثري معرفة الإنسان وعلم الإنسان بحياته وأخراه، لو التزمت الأمة الإسلامية بالمنهجة العلمية التي يفتح القرآن واعيتها عليها لسبقت كل الأمم، وماتقدمت الأمم الأخرى على المسار المادي، وفي العلوم العصرية، إلا من خلال التزام المنهجة العلمية التي يدلّ عليها القرآن، وفي جانب منها وهو جانب التجربة والاستقراء الحسي. التجربة والاستقراء الحسي دلت عليهما المنهجة القرآنية ومنهجة السنة، كما دلّت على منهج العقل، ومنهج الوجدان، ومنهج الوحي، هذه الأمة في بعدها المعنوي تمتلك هذه المنهجة العلمية، وتمتلك قرآنا يدلها على مختلف حقول المعرفة، وتستطيع أن تستخرج منه قواعد الحياة الصحيحة ، والاجتماع الصحيح ، والسياسة الصحيحة المتقدمة، تستطيع أن تنفتح على كل القواعد التي تموّل الفكر البشري في كل مساراته وفي كل ما تحتاجه الحياة، من خلال انفتاحها على القرآن والسنة، القرآن الكريم والسنة المطهرة يقدمان نظاما اجتماعيا ، ونظاما عباديا ، ونظاما سياسيا واقتصاديا، ونظاما حياتيا متكاملا، لا يمكن ان يتقادم مع مرور القرون، وهو لازال يثبت جدارته أمام كل الاطروحات البشرية التي ما أن يمر عليها قرن أو أقل إلا واهترأت وتقادمت، هذه الأمة التي تمتلك هذا القرآن والسنة، وتمتلك من جهة أخرى الانتماء إلى الله عزّ وجل، وتمتلك قادة مثاليين، وحين أقول مثاليين ليس معنى ذلك أنّهم لا يعرفون الواقع، مثاليين بمعنى نموذجيين، يجمعون بين المثالية والواقعية أتم جمع وأحسن جمع، هذه الأمة التي تتمتع بقيادة مثل قيادة رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام ، وتمتلك من الرموز الفعلية الكم الكبير والمتقدم نوعيا جدا من خلال الفقهاء والمفكرين الإسلاميين، هذه الأمة لا ينبغي لها أن تقع في موقعها الحاضر ، وهو موقع التخلف موقع التمزق موقع الذيلية . كفى أنّ الهند تفرض نفسها على باكستان وأن تطالبها بأن تقدم لها الإسلاميين الذين يدافعون عن أرضهم في كشمير . كفى أن تفرض أمريكا على كل حكومة إسلامية أن تطارد كل رصيد من أرصدة الإسلاميين في مصارف المال وأن تفرض على الحكومات الإسلامية أن تقدم لها رؤوس الإسلاميين الذين يجاهدون عن أرضهم وحريّتهم وكرامتهم، لا أظن أن يوما سيمر على الأمة هو مشبع بذل أكبر من هذا اليوم.

ما هو الخيار المستقبلي؟

لابد أن نحدد خيارنا المستقبلي أيها الاخوة إما أن نذوب في الآخرين، إما أن ننسلخ من هويتنا، إما أن نستسلم حضاريا، إما أن نقبل بالبديل، إما أن نذوب في الآخر، وننسحق في الآخر، وإما أن نختار خيارا آخر هذا الخيار الآخر يمكن أن يكون هو حالة التذبذب ، هو حالة عدم الاستقرار ، هو حالة القلق ؛ أنا الأمة الإسلامية أنتمي إلى غرب أو إلى شرق ، أنا الشاب المسلم أنا الشيخ المسلم لا أدري شطر من ايمم بوجهي؟ شطر الغرب ، شطر الشرق ، شطر الإسلام. هكذا حياةُ ستسحق الأمة، ستؤول بالأمة إلى الضياع ، إلى التيه ، ستنهي الأمة أيضا كما ينهيها الفرض الأول. الخيار الوحيد لهذه الأمة أن تعود إلى أصالتها ، أن تعمل على اكتشاف ذاتها، على اكتشاف كنوزها، أن تفرض إرادتها الشعبية شيئا فشيئا على الأنظمة التي حكمتها الإرادة الأمريكية. تفرض إرادتها من خلال التقدم العلمي ما أمكن – وأنا أعرف أنها محاصرة علميا – ، ان تفرض نفسها من خلال التقدم الإيماني ما أمكن – وأنا أعرف أنها محاصرة إيمانيا- ، أن تفرض نفسها على الأنظمة من خلال ثقافة عالية أصيلة ، هذه الثقافة المطاردة المقزّمة المحجّمة الحبيسة، أن تنمي نفسها من مختلف الجوانب والأبعاد، وهي مطاردة في جميع الجوانب والأبعاد. لا أقول أن هذا بإرادة داخلية تعيش في أفكار أنظمة البلاد الإسلامية، ولكن بما أن أنظمة البلاد الإسلامية بما أن كثيراً من هذه الأنظمة قد عاشت الضغط الأمريكي الهائل، وقد أُسرت للإرادة الأمريكية، وللإرادة الأوروبية، فهي لا تستطيع إلا أن تستجيب لإرادة الطرف الآخر ولو على حساب أمتها، ولو على حساب أمانيها الخيالية المفصولة عن واقعها العملي.

ما هي الوسيلة؟

الوسيلة هذا التقدم، الوسيلة طلب الخبرة في كل الجوانب، والوسيلة هو التنسيق ما أمكن بين الشعوب الإسلامية وبين حكوماتها، وإشعار هذه الشعوب لحكوماتها بأنها لا تعاديها، وبأنها لا تريد بها كيدا. في الوقت الذي يحترم الشعب نفسه، وفي الوقت الذي يحاول أن يفرض إرادته من خلال وعي وصحوة ومن خلال تقدم ينفع البلاد الإسلامية ويبنيها ولا يهدمها، إلا أنه يشعر الحكومات وعن صدق بأنه لا يريد بها كيداً ولايتآمر عليها، نريد التنسيق ، نريد التلاحم بين الحكومات وبين الشعوب، لكن لا لتقتل الشعوب وإنما لتتقدم ، لا لتموت الأمة وإنما لتحيا.

اللهم إنا أفقر الفقراء إليك، وأنت أغنى من كل غني فأغننا، وإنا أضعف الضعفاء اليك، وأنت أقوى من كل قوي فقونا، اللهم إنا أشد المحتاجين إلى رحمتك فارحمنا واغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الكريم. واغفر لآبائنا وأمهاتنا ، وذوي قرابتنا ، ومعلمينا وكل ذي فضل علينا من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وجميع إخواننا وأخواتنا من أهل الإيمان والإسلام يا خير من سئل، ويا أكرم من أعطى ، وأحسن من تجاوز يا أرحم الراحمين ورب العالمين. اللهم صلي وسلم على جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة والأوصياء والصديقين وضاعف صلواتك وتسليماتك على محمد وآله الطاهرين.

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون

زر الذهاب إلى الأعلى