خطبة الجمعة (36) 21 رمضان 1422هـ -7-12-2001 م

مواضيع الخطبة:

البعد الجهادي في حياة
أمير المؤمنين عليه السلام – أضواء على معركة بدر الكبرى
– السادس عشر من ديسمبر

أي مؤسسة تتعارض مع الشعائر الدينية فهي غير دستورية وأي قانون يتعارض مع حرية الشعائر الدينية هو غير دستوري

الخطبة الأولى

الحمد لله بجميع محامده كلّها، على جميع نعمه كلّها، أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ولا عديل، ولا خلف لقوله ولا تبديل، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، وليه وصفيّه صلى الله عليه وآله، وعليهم جميعاً تسليماته وتحياته.
عباد الله .. اتقوا الله وادخلوا في ولايته آمنين، ومن لم يدخل في ولاية الله فلا ولي له من دونه، وغداً يخسر المبطلون، واطلبوا إلى الله الوسيلة، والوسيلة من بعد كرمه وعفوه ومغفرته، أن نتولاه ونتولى أولياءه، وأن نضمر خيراً، ونعمل عملاً صالحاً، ونقول قولاً سديداً.
اللهم صلّ على عبدك ورسولك المصطفى، وآله الهداة النجباء، وأرنا الحق حقاً فنتبعه، وأرنا الباطل باطلاً فنجتنبه يا كريم يا رحيم.
أما بعد فهذه ذكرى استشهاد أمير المؤمنين، علي ابن أبي طالب عليه السلام تستوقفنا بكل ألمها الممض، وعظمة رجلها الكبير، الرجل الثاني في الإسلام بلا منازع، وانه لئن كان الإسلام عظيماً، وهو كذلك حقاً وصدقاً ويقيناً فأمير المؤمنين عليه السلام عظيم لأنه ما شذّ عن الإسلام، وما فارقه يوماً، والعظمة الإيمانية، والعبودية الصادقة، تتدفق بها كل الأبعاد لهذه الشخصية التي صاغها الإسلام صياغة محكمة، لتتحمل الأعباء الكبرى، التي كان يتحملها رسول الله (ص) في حياته من بعده، عدا ما كان من تنزل الوحي عليه (ص).
وهذه لمحة سريعة عن البعد الجهادي في حياة أمير المؤمنين عليه السلام:-
المبيت في فراش الرسول ( ص ) :-
بات في فراش رسول الله (ص) يوم خرج الرسول (ص) من مكة لينجو الإسلام بنجاته (ص) من يد الشرك. والمبيت في الفراش فداء واضح وتضحية صريحة، ومواجهة للموت في سبيل الله بلا أدنى شك.
هجرته مع الفواطم :-
وقاد صلوات الله وسلامه عليه ركب الفواطم فاطمة بنت رسول الله (ص)، فاطمة بنت حمزة، فاطمة بنت الزبير ابن عبد المطلب، وغيرهن، قاد هذا الركب نهاراً في حين تسلل عددٌ من المسلمين ليلاً إلى المدينة وكان معه في الركب أيمن وأبو واقد الليثي، ولكنه (ص) كان قائد الركب ورجله الأول، وبطله الكبير…
عليٌ في بدر وأحد :-
قتل نحواً من نصف قتلة المشركين في بدر، وفي أحد كان بيده لواء المهاجرين وكان النصر في البداية للمسلمين، ثم تغير الموقف كما تعرفون، حين تخلّى نفر – كان موقعهم الجبل، بأمر رسول الله (ص) – عمّا أمرهم به (ص)، فلم يبقَ مع النبي (ص) بعد تغير الموقف في صالح المشركين إلا علي (ع) وأبو دجانة وسهل ابن حنيف وكان (ص) أن قتل حملة اللواء من المشركين واحداً بعد الآخر وهم تسعة فهلع العدو وفر.
في غزوة الأحزاب :-
كان التحدي كبيراً وصارخاً وفارضاً نفسه على ساحة المسلمين من عمرو ابن عبد ود العامري. لم يكن التحدي فارغاً دعائياً وانما كانت واقعيته كبيرة، وكان صناديد المسلمين، وكبار الصحابة، يتراجعون أمام ذلك التحدي ولم ينهض بعبء الرد عليه بكفاءة فائقة، وبصبر المجاهد المسلم المؤمن بربه، الطامع في رضوانه، إلا أمير المؤمنين (ع). بارزه فقتله، فجاءت الكلمة عن رسول الله (ص) في كتب التاريخ وكتب الحديث بليغة قوية في حق علي عليه السلام. مثلاً الحاكم في مستدرك الصحيحين، يروي الرواية،عن رسول الله (ص) والتي تقول: ( لمبارزة علي ابن أبي طالب (ع) لعمرو بن عبد ود، أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة ) ورواه البغدادي في تاريخ بغداد. الموقف كان موقفاً خطيراً، يرتبط به مصير الإسلام والمسلمين، وكان هناك مفترق طرق أما أن تعلو كلمة الله، وأما أن يعلو صراخ الشيطان في الأرض، وكان شرف حسم المسألة في صالح الإسلام بتوفيق من الله على يد أمير المؤمنين (ع). الضربة التي تعدل عمل الثقلين أو عمل الأمة، إلى يوم القيامة، لا يمكن أن تنطلق من روح أخرى، غير روح الإيمان، أو أن تكون فيها شائبة لغير الإيمان، فترتفع بوزنها إلى هذا الحد، ضربة أمير المؤمنين (ع)، مبارزته لعمرو ابن عبد ود إنما عدلت عمل الأمة إلى يوم القيامة لجهتين: لأهميتها الكبرى في تلك اللحظة الحاسمة التي يتعرض فيها الإسلام للمحق، وما أسسته تلك الضربة من نصر يمتد به الإسلام إلى ما شاء الله، هذه جهة. لكن الأهم من تلك الجهة، هي أن القلب الذي كان وراء هذه الضربة، كان قلباً مخلصاً لله سبحانه وتعالى. الضربة اليدوية الشجاعة، هذه لا يجازي عليها الله سبحانه وتعالى. إنما يعبد الله بالقلوب وبالنيات. كان علي (ع) في الموقف الذي يبرز فيه الاعتزاز بالشجاعة، وبالعطاء، وكان سلام الله عليه خاليا من أي تعلق بالدنيا، من أي نظر إلى الذات، من أي ملاحظة للناس، كان نظره (ع) متجهاً منصباً على رضوان ربه، كان يعيش عبودية خالصة لله عز وجل، وبذلك ارتفع ميزان تلك الضربة إلى جنب أثرها الموضوعي الخارجي.
غزوة خيبر :-
هذه الكلمة المنقولة عن رسول الله (ص) والتي تقول: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرّاراً غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه) مصادرها تاريخية وحديثية. المهم هنا أيضاً ليس قتل مرحب فقط، وقتل مرحب شئ كبير عظيم، ودك الحصون حصون اليهود الأمر الذي تراجع عنه كبار الصحابة هو عظيم كذلك. إن كل من حمل اللواء، رجع غير فاتح، وأمير المؤمنين (ع) وحده هو الذي حمل اللواء ليرجع فاتحاً، لكن الأمر كل الأمر في هذه الكلمة من رسول الله (ص) وهو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، ( لأعطين الراية غداً رجلا يحب الله ورسوله)، القلب الذي يحب الله ورسوله، قلب كبير، قلب وعي، قلب طاهر، قلب صاف، قلب رباه الإيمان، وطهرت فيه ونقت الفطرة، وكبر وعيه واشتد، قلب له رؤية غير متزلزلة، قلب عفّ عن الدنيا كلّها، قلب لم يرَ في الدنيا، لم يرَ في أي شئ جمالاً يغريه عن جمال الله، أو يزاحم فيه جمال الله عز وجل، القلب الذي يحب الله ورسوله، قلب خلا من حب الدنيا، كان عشقه، وكان ولهه وتعلقه بجمال الله سبحانه وتعالى. وراء هذا الحب قلب خاص، هو قلب الولي الصادق (ع). ( ويحبه الله ورسوله)، عين الله تبارك وتعالى لا تقع إلا على جميل، ذكر الله يحتاج إلى قلب جميل، وحب الله للعبد يتوقف على أن يكون ذلك العبد قد كان لقلبه من ذكر الله ومن حب الله ما يجعله الطاهر، ما يجعله النقي الزكي، ما يجعله الجميل، وإنما تجمل القلوب، وانما تزهر القلوب، وانما تحيا القلوب بذكر الله، وبحب الله سبحانه وتعالى، فلما كان قلب علي (ع) ملؤه الحب لله، ملؤه الذكر لله سبحانه وتعالى، أحب الله ذلك القلب، أحب الله ذلك العبد، ( يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرّاراً غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه)، أمير المؤمنين (ع)، لم يرجع لحظة عن درب الإيمان، لا في لحظة الجهاد العام، ولا في لحظة الجهاد الخاص، مع الصديق والقريب في أي ساحة من الساحات، وفي أي ميدان من الميادين، سيرة علي (ع) لم تعرف التراجع عن خط الإيمان، ولا التذبذب إنما كان (ع) على الاستقامة (فاستقم) وكان (ع) في ما تقضي به عصمته من المستقيمين على الدرب دائما.
غزوة حنين :-
فرّ المسلمون ولم يبق مع النبي (ص) غير علي (ع) والعباس وبعض بني هاشم، ثم عاد السلمون الفارون وكان النصر بثبات أمير المؤمنين (ع). فرّ المسلمون ومنهم كبار الصحابة، كما تعرفون، وكادت الهزيمة أن تتحقق، لكن ثبات أمير المؤمنين (ع) مع النفر القليل، مع رسول الله (ص) كان مدعاة للآخرين أن يرجعوا، أو لعدد منهم أن يرجع، فكان النصر.
اشترك في حروب رسول الله (ص) كلها :-
اشترك في حروب رسول الله (ص) كلها من غير تبوك التي كان أمره (ص) فيها بالبقاء في المدينة لأمر مهم، يضاف إلى ذلك الغزوات التي تولّى قيادتها بنفسه عليه السلام.
والجهاد عند أمير المؤمنين (ع) ليس ضرباً من الهواية العسكرية، أو اندفاعة من الجرأة الهائلة المفصولة عن قيم الروح وقضاء العقل وسمو الغاية، فمن كلماته المنقولة في هذا الصدد ( الجهادَ الجهادَ عباد الله ألا واني معسكر في يومي هذا فمن أراد الرواح إلى الله فليخرج ) الجهاد عند أمير المؤمنين رواح إلى الله، الجهاد ليس قتل عدو، المنظور ليس التشفي، ليس النصر، ليس أي شئ آخر. منظوره (ع) نصرة الله، نصرة كلمة الله في الأرض، وهذه الاندفاعة منه التي لا تلوي على شئ في طريق الجهاد، والتي لا تتراجع أمام أي خطر أو تحد من منطلق دافع واحد. ذلك أن هذا الجهاد رواح ورحلة روحية وقلبية وجدانية إلى الله. قلب علي (ع) في الجهاد، لا يشغله شئ مما يشغل ملايين القلوب في تلك اللحظات من أسباب الأرض، وأهداف الأرض، وحسابات الأرض. لا يشغل قلبه (ع) ألا أنه في رواح إلى الله، وفي رحلة إلى الله، فالجهاد الذي يستهوي ذلك القلب التقي والشخصية الثقيلة والعقل الجبّار، هو ما كان رواحاً لله، وعروجاً روحياً على طريق كماله، وباباً من أبواب جنته، وهو القائل (ع) أما بعد .. ( فان الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة ). هذه قيمة الجهاد عند أمير المؤمنين (ع): كونُه طريق إلى الجنة، باب من أبواب رضوان الله، لباس التقوى، فيه تركيز للتقوى، فيه عروج إلى الله، درع حصينة تحمي من الشيطان، وتحمي الأمة، جنة وثيقة من دخلها لم تهجم عليه وساوس الشيطان. من دخلها لله سبحانه وتعالى، لم تهجم عليه هواجس الشيطان.
أما السياسة عند أمير المؤمنين (ع) فهي فن وخبرة وذكاء وفطنة، لكن بلا غدر ونفعية وتلاعب بالقيم، وذبح للمقدسات ( قد يرى الحوّل القلّب (البصير بتحويل الأمور وتقليبها) سياسي ماهر جدا يعرف المداخل والمخارج ويستطيع أن يفسّر الناحية الموضوعية ويبني عليها المواقف المناسبة ، يستطيع أن يفتح أبواباً للنصر من خلال تدبيراته السياسية بإذن الله، قد يرى الحوّل القلّب، وهو الحوّل القلّب (ع) والمدبر السياسي الكبير – يشير بالكلمة إلى نفسه ويواجه بها تهمة كونه غير سياسي أمام ما يغري السذج من خداع معاوية ومن مكره وتلاعبه بالقيم – (قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها) النصر على مسافة قدمين منه، ليس بينه وبين النصر إلا أن يتعدى حاجزاً من حواجز النواهي والأوامر الإلهية. لو تعدا هذا الحاجز لتحقق النصر الكبير ولكنه لا يتعداه. ( فيدعها رأي عين ) الآن يرى النصر على مسافة قريبة جداً، يراه رأي عين، ويرى الباب مفتوحاً له تماما، ويغلق هذا الباب. لأنه لا يتجاوز حدّاً من حدود الله سبحانه. ( فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين )
اللهم صل على عبدك المصطفى وآله الميامين الشرفاء، وهب لنا من لدنك رحمة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وأزواجنا ومن علّمنا علماً نافعاً ومن أحسن إلينا من المؤمنين والمؤمنات، ولجميع أهل الإيمان برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسم الله الرحمن الرحيم (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد).

الخطبة الثانية

الحمد لله من أوّل الدنيا إلى فنائها ومن أوّل الآخرة إلى بقائها، أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شاهد غير مشهود، واحد غير معدود، كامل غير محدود، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون. اللهم صلّ وسلّم عليه وآله الهداة الأطهار الميامين الأبرار.
عباد الله اتقوا الله وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، حاسبوها على أساس من دين وعقل، وزنوها بموازين الإيمان، و جاهدوها على طريق الجنّة، وضنّوا بها أن تعطوها ثمنا لما عند غير الله، فغير الله وما ملك فان، والله لا يفنى، وما عنده لا يزول.
الله صلّ وسلّم وزد وبارك على البشير النذير والسّراج المنير النبيّ الخاتم، رسولك المصطفى محمد أبي القاسم. الله صلّ وسلّم على إمام الورى، وسيد أهل التقوى، خليفة رسولك الأوّل، أبي الحسنين، شهيد المحراب، علي دليل الحقّ والصواب. اللهم صلّ وسلّم على أمتك الطاهرة فاطمة أم العترة الفاخرة. اللهم صلّ وسلّم على الإمامين الهاديين والنورين الساطعين سيدنا أبي محمد الحسن وسيدنا أبي عبد الله الحسين. اللهم صلّ وسلّم على أئمة التقوى وأنوار الإيمان والهدى علي زين العابدين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري رضيّ بعد رضي، وزكيّ بعد زكيّ.
اللهم صلّ وسلّم على بدر الدّجى وإمام الورى، والفرج بعد البلوى، التقي الزكي، المنتظر الولي.
اللهم انصره نصرا عزيزا وافتح له فتحا يسيرا، وأجمع به القلوب، واكشف به الكروب، اللهم الآخذ بطريقه اسلك به طريق النصر والعزّ والظهور. اللهم ارزقنا شرف التمهيد لدولته واكتبنا من الداخلين في نصرته يا كريم.
أما بعد فإنّ معركة بدر الكبرى ونتائجها الرابحة الضخمة قد مثّلت منعطفا تاريخيا كبيرا في صالح الإسلام والمسلمين وهي تحمل من الدروس الثّرة مالا تستغني عنها حياة المسلمين العامة حاضرا ومستقبلا، وهذا غيض من فيض مدرستها.
1- ” وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنّها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ” 7/ الأنفال
موقف نفسي للمسلمين تصوّره الآية الكريمة مما يتّصل بمعركة بدر وأحداثها، فكانت هناك كما تعرفون القافلة التجارية وكانت هناك غزوة بدر الكبرى، القافلة التجارية تمثّل ربحا مالياً وصيداً سهلاً ومؤونتها مؤنة يسيرة، والنصر عند المسلمين مؤكد أما غزوة بدر والمواجهة العسكرية مع قريش فهي مغامرة خطيرة جدا وتمثّل موقف حرج للمسلمين، وهم الطرف الأقل عدداً وعدّة، وهيبة قريش لازالت تفرض نفسها على الساحة العربية بكاملها، والنصر نسبته ضئيلة جداً في حساب المسلمين، والهزيمة تكاد تكون محققة بحساب الاحتمالات وما عليه النظر العسكري للإنسان، فكانت نفس المسلمين تتجه إلى أن تكون المواجهة مع القافلة. فهناك النصر، وهناك الغنيمة المالية. أما ما يختاره الله سبحانه وتعالى فهو غير ذلك وإنما أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون المواجهة مع ذات الشوكة… مع قريش بعنفوانها… بعدّتها… بعددها… بخيلائها و بغرورها لتتلقى قريش درسا لا تنساه، ولينمحق الكفر، ويظهر الإيمان بتوفيق الله سبحانه وتعالى على يد القلّة المؤمنة تكريماً لها ولإعطائها درسا هي الأخرى بأن الإيمان إذا نازل به الناس وقلوبهم مؤمنة فإن النصر يكون مع الإيمان، وإن أي معركة خاسرة في حياة المسلمين وراءها تخلف في مستوى الإيمان، وتخلف فيما تقتضيه تعاليم الإيمان، أما إذا كان الإيمان هو الرائد، وكانت تعاليمه مراعاة والأحكام الشرعية مأخوذاً بها، والأعداد للقوة كان معمولاً به فأنّ النصر دائما يكون للمسلمين.
{ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنّها لكم } أنتم تفوزون بواحدة { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين }. وهنا نقطة وهي أن رسول الله(ص) كان يعد المسلمين بأن ينتصروا لو واجهوا جماعة قريش. ومع وعد رسول (ص) كانت القلوب واجفة، وكانت النفوس مترددة، في كل مراحل التاريخ الإسلامي هناك أمثلة من رجالات إسلامية ساطعة كبيرة جداً تحتذى وتقتدي، ولكن الأمة الإسلامية حتى وفي ظل قيادة رسول الله (ص) كانت تعاني في بعض جنباتها وبعض قطاعاتها من ضعف ومن وهن. في المواجهة لا تنتظر أن تنبني الأمة بكاملها فرداً فردا، وإنما تتطلب المواجهة دائما أن تكون هناك كتلة معقولة الوزن تتحرك على الأرض في مواجهة مع الباطل. مع وعد رسول الله إلا إن الميل النفسي عند المسلمين كان لمواجهة القافلة وليس المعركة.
{ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام }.
العنصر النفسي عنصر فعّال جدا في النصر والهزيمة والأمَّة كثير ما تؤتى، والهزيمة كثير ما تفرض من خلال العامل النفسي السلبي عند الأمة الذي تكونه الدعاية المضادة. في كل المعارك، وفي كل الساحات نحتاج إلى نفوس، واثقة إلى قلوب مطمئنة، الى نفوس تتعلّق بالله سبحانه وتعالى وترى ذاتها، ولا تعيش الوهم ولا تعيش تحت تأثير الإعلام المضاد فتفقد وزنها، نحتاج إلى أمة تعيش النظرة الصحيحة فلا تفقد وزنها في نفسها، ففقد الوزن في النفس وفي النظري إلى الذات هو سر هزائم كثيرة تكون في الأرض. المسلمون مطلوب لهم أن يرجعوا إلى الإحساس بانتمائهم، بأصالتهم، بقوة رموزهم، بحقانية قضيتهم، بوعد الله سبحانه وتعالى لهم بالنصر، ان يلتفتوا إلى رصيدهم الكبير وهم ينتمون إلى الله، ويعملون في سبيله، فينطلقون على هذا الطريق. إذ التفتوا إلى هذا كله انطلقوا على الطريق واثقين مطمئنين، وفي غير ذلك وفي فرض التردي للحالة النفسية، ورسم الحالة النفسية عن طريق الإعلام المضاد، والاستسلام إلى وسائل الإعلام المضاد، وصياغة نفسية عند الإنسان المسلم على أساس هذه الوسائل الإعلامية المضادة تكون نكسة كبرى في حياة المسلم الخاصة وحياة المسلمين العامة هذه عوامل نفسية { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام } الحالة النفسية المتينة التي تثبت القدم في موقع المعركة سلاح ضخم كبير يبعد معه التراجع، ويسقط احتمال الهزيمة معه.
{ فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى }. لا غرور. سورة النصر تقول: { إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنّه كان توابا }. المؤمنون وهم يحققون أي نصر، في أي ساحة من الساحات ليس لهم أن يصيبهم الغرور وأن يروا من أنفسهم أنهم حققوا هذه النتائج وهم بحسب المطلوب الإيماني لا يرون في هذه الساحة الكبرى الكونية إلا فاعلية واحدة هي فاعلية الله سبحانه وتعالى التي تقف وراء كل سبب، وما الأسباب الظاهرية إلا غطاء وراءه إرادة فاعلة واحدة هي إرادة الله سبحانه وتعالى.
الإنسان المسلم وهو يعطي كل جهده في سبيل النصر ويتحقق له النصر يحتاج إلى مراجعة نفسه، إلى محاسبة نفسه، إلى استغفار ربه سبحانه وتعالى على تقصيره، وما قد يكون قد داخل مشاعره من النظر إلى الذات… من النظر إلى الدنيا ومما يصيب النفوس بالغرور مثلاً.
من كلمات الصحابة في هذه المعركة:
( فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن. ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن ) . هذا التعبير يعبر به أكثر من مصدر من مصادر التاريخ التي تتعرض للمعركة. وهناك في بعض المصادر تصريح بالكلمة لعمر ولأبي بكر ونتجاوز هنا هذا التصريح. ثم قام المقداد ابن عمرو فقال: (( فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد ( منطقة بعيدة يتطلب الوصول إليها جهدا جهيدا وتعبا شاقا وتضحيات كبرى وقد يوصل إليها أو لا يوصل). فوا الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه فقال له رسول الله (ص) خيرا ودعا له بخير)) فهناك نفوس تريد غير ذات الشوكة، تريد القافلة السهلة اليسيرة، وهذه نفوس أخرى نفوس تهيبت من كبرياء قريش وخيلاء قريش وغرور وعنفوان قريش ونفوس قالت هكذا: ( لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك ).
وسيبقى المسلمون دائماً، وسيبقى المجاهدون وسيبقى المضحون مختلفين في مستواهم النفسي، وعلى درجات من الوثوق بالنصر، ومن الجرأة ومن البذل في سبيل الله سبحانه وتعالى وهنيئاً للسابقين وهنيئاً للمتقدمين..
سعد بن معاذ.. فوا الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر ( قضية استعراض البحر كانت قضية صعبة جداً فهذا يتحدث وهو راجل – الجماعة ليست لهم إلا بعض الجمال وواحد منهم عنده فرس وليست عندهم قوارب وما إلى ذلك).
لو خضت بنا هذا البحر يعني لو عرَّضتنا للهلكة الواضحة حداً. لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا..
نعرف أن القيادة الكبرى لا يمكن أن تتحرك إلا من خلال رصيد ذي وزن وإن قيادة الرسول (ص) كانت العامل الكبير في النصر ولكن دائماً كان لابد من القاعدة ولابد من الأنصار ولابد من المضحين والباذلين أنفسهم في سبيل الله. نموذج المقداد، وسعد بن معاذ هل هو نموذج اختفى في المسلمين، أو زاد كثرة؟ هذا النموذج في الحقيقة زاد كثرة ولم يصل إلى قلة. والآن من أمثال المقداد ومن أمثال سعد بن معاذ يوجد الألوف ومئات الألوف من المسلمين المؤمنين المستعدين لبذل النفس رخيصة في سبيل الله وبإيمان حق. الساحة الإسلامية تعطي بكل وضوح في كثير من جنباتها أمثلة كثيرة من تضحيات الإنسان المسلم وإقدامه على التضحية، ونرجو أن يكون دائماً وراء هذا الاندفاع للتضحية في الساحات الإسلامية المواجهة روحاً إيمانية كبيرة وإخلاصاً لله سبحانه وتعالى.
{ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس }.
قريش خرجت بطراً ورئاء للناس، الرسول (ص) خرج يحمل القيم الإلهية، خرج ينتصر لتلك القيم، خرج ينتصر للإنسان، خرج ينتصر للفطرة، خرج ينتصر إلى المستوى الانساني الكبير، خرج ينتصر للأرض… لقضية أن تكون الأرض موصولة تاريخية دائماً وأبداً بخط السماء. الرسول (ص) خرج بخلق النبيين، وبتعاليم الله، وبقيم الفطرة، أولئك خرجوا بغرورهم وخيلائهم والمعركة دائما هكذا؛ قوم يخرجون إلى المعركة بخيلاء وبغرور، ومن أجل تحقيق نصر عاجل ومن أجل الظهور في الأرض، الظهور فقط لأجل الظهور، وقوم يخرجون نصرةً لكلمة الله سبحانه وتعالى أمّلوا النصر المادي أولم يؤملوه.
يقرب تاريخ السادس عشر من ديسمبر ويؤمل كثيراً لهذا الوطن أن تتعزز وحدته وأن يتماسك نسيجه، وأن يجدّ في أمر البناء وفي أمر الإصلاح. وتتطلع المؤمنون في البحرين وخارج البحرين ألا يبقى أحد من أهل البحرين ألا ويسمح له بالعودة إلى وطنه قبل هذا التاريخ إذا كان ممنوعاً من العودة إلى الآن. هذا الوطن نحبه ونحرص على سلامته ونأمل له المستقبل الكبير وعلينا أن نتعاون جميعاً في سبيل عزته وكرامته على خط الإسلام والإيمان وهو بلد من بلدان الإسلام وبلدان الإيمان، وكل بلد هو من بلاد الإسلام والإيمان له قدسيته وله حرمته، ونحن نحترم الإنسان ونؤمن بالحوار، ونؤكد على أن يعرف كل إنسان واجبه وحقه، ونطالب بمعرفة الحقوق والواجبات، ونؤكد بأن الشعائر الدينية من أهم حقوق الإنسان المسلم. وإنّ الشعائر الدينية للمسلمين سنة وشيعة هي للتلاحم وللتآلف والتّلاقي على خط الله سبحانه وتعالى، لا تحمل كيد لأحد ولا تؤسس لفرقة، ولا تطلب الشتات لأبناء هذا الوطن وفئاته. الدستور بعد الإسلام يؤكد على حرية الشعائر الدينية وبذلك يكون كل قرار، وكل لائحة داخلية، وكل قانون، وكل مؤسسة تتقاطع وتتعارض مع حرية الشعائر الدينية غير دستورية. أي مؤسسة تتعارض مع الشعائر الدينية فهي غير دستورية وأي قانون يتعارض مع حرية الشعائر الدينية هو غير دستوري، وإذا كان القانون غير دستوري فهو ساقط، فالمؤمل هو أن تلتفت الحكومة الموقرة إلى مثل هذا الأمر وتراجع بعض القوانين، وتراجع بعض المؤسسات التي قد تكون مخالفة للمادة الدستورية المصرّحة بحرية الشعائر الدينية وبذلك تراها ساقطة ولا قيمة لها من ناحية دستورية. وأؤكد بأن استمرار الحرية المذهبية لا للفرقة المذهبية وإنما للتلاحم المذهبي وللتفاهم المذهبي وللأخوة الإسلامية ضرورة من ضرورات استقرار الوطن والاتجاه إلى بناءة والتخلص من كل سلبية تعرقل مسيرة التقدم فيه. نرفض بكل قوة أي حالة تفرقة بين الأخوة المسلمين سواء جاءت هذه المحاولة من شيعي أو سني، من واحد من موقع شعبي أو من واحد من موقع حكومي. علينا جميعاً شعباً وحكومة أن نتناصر، أن نتكاتف أن نعمل عمل اليد الواحدة في سبيل بناء وحدة وطنية إسلامية حقيقية وأن يقبل بعضنا البعض الآخر. وكيف لا يقبله وهو مسلم؟ على طريق واحد هو طريق الإنتاج الإيجابي في صالح الوطن وعلى خط الله سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولجميع المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم صل وسلم على نبيك وخاتم رسلك محمد وآله الطاهرين واغفر لنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات أجمعين ولا تخرجنا من طاعتك، ولا تدخلنا في معصيتك، وتولنا برعايتك وكفايتك يا أرحم من كل رحيم ويا أكرم من كل كريم.

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون

زر الذهاب إلى الأعلى