خطبة الجمعة (35) 14 رمضان 1422هـ – 30-11-2001 م

مواضيع الخطبة

التآخي الإيماني – فتح مكة
– الدين والفكر الديني – تقديس الإسلام الواقعي

هناك فرق كبير
بين الإسلام الاجتهادي الذي تنتجه عقلية علمية فقهية متخصصة، أو تفسيرية متخصصة توفرت على كل ركائز الاجتهاد وأعمدته المطلوبة في فهم المختصين، فرق بين هذا الفكر الإسلامي الاجتهادي، وبين فكر إسلامي ينتجه شخص له اختصاصه الآخر…..

الخطبة الأولى

الحمد لله رب الأرض والسماء، المتفرد بالعز والكبرياء والبقاء، المتفضّل بالنعم والآلاء، له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، نشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ عليه وآله صلاة كثيرة متتابعة.

دوام الذكر تكبيل لهوى النفس

عباد الله اتقوا الله واسعوا في الأرض بالإصلاح، ولنجاهد الأنفس، ونحملها على طاعة بارئها، يكن لها في ذلك الفوز والنجاة، ولنواجه الأهواء حتى لا تهوي بنا في نار جهنم، وان الشيطان وجنده للإنسان بكل مرصد، فما أحرانا أن نحترس من كيد المضلين بدوام ذكر الله واللجأ إليه، والنظر في الآخرة ومآل الأمور، والتذكر لأيام الوحدة والوحشة، والتأمل في قلة الزاد وبعد المسير، وخطورة السفر وعذاب سقر.

اللهم صلّ على البشير النذير، والسراج المنير، محمد الصادق الأمين، وآله الطيبين الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وجنّبنا العسير، وسهّل علينا اليسير، واسلك بنا إليك سبيلاً سهلة، وطريقاً قويما،ً وصراطاً مستقيماً.

التآخي الإيماني الشامل سدّ منيع

أما بعد أيها المؤمنون .. فإننا نمر في هذا الشهر الكريم بعدد من ذكريات الإسلام والمسلمين، ومن ذلك يوم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، التي جاء أن رسول الله (ص)، قد عقدها بينهم على مستوى ثنائي بين الأفراد على قاعدة صلبة من الإيمان واللقاء في محبة الله، ونصرة دينه، والمؤمنون كما في الكتاب الكريم أخوة (إنما المؤمنون أخوة فاصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلّكم ترحمون) (الحجرات) ويذكر هنا أمران:

أولاً: ضرورة التآخي الإيماني العام في الظروف الحالية العصيبة، التي تواجه المؤمنين في العالم، وتنزل بمجتمعاتهم وجماعاتهم الضربات القاصمة فأمامنا ظروف الأفغان والشيشان والعراق كأمثلة من أمثلة المحنة الإسلامية العامة، وضرورة التآخي الخاص على مستوى القطر والمدينة والقرية والمحلّة، فان التآزر والتعاضد بين المؤمنين معيشياً وثقافياً واجتماعياً وعلى كل المستويات لهو من أكبر الضرورات وخاصة في مثل الظروف الحالية التي يواجه الإسلام والمسلمون فيها الهجمة الشرسة المنظمة، المستمرة المدعومة بالتخطيط والرصيد المالي الضخم.

هادفية مؤاخاة النيّرين

ثانياً: ما يشير إليه عقد الرسول الكريم (ص) المؤاخاة بينه وبين ابن عمه أمير المؤمنين عليه السلام، قال ابن هشام عن ابن إسحاق -من السيرة النبوية له ص 172 “فقال – يعني رسول الله (ص) – فيما بلغنا، ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل: تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي ابن أبي طالب (ع)، فقال هذا أخي، فكان رسول الله (ص) سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعلي ابن أبي طالب (رضي) أخوين، انتهى كلامه، أقول نلتفت إلى أن حمزة ابن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله (ص) وعم رسول الله (ص) في المحضر، ولم يختره (ص) له أخاً والأنسب أن يختار عمه أخاً فذلك أقرب في العرف من أن يختار من لا زال في عمر مبكر له أخاً.

نعم من أكبر وجوه بني هاشم يوم ذاك حمزة ولكنه (ص) لم يختره أخاً و إنما اختار أمير المؤمنين عليه السلام أخاً، وهي أخوة إيمان وأخوة تقوى، ولها دلالاتها الخاصة حيث يترك رسول الله (ص) أهل عشيرته وكبار أصحابه من متقدمي السن، وكل الشخصيات ليقع اختياره على أمير المؤمنين (ع) ذلك ليقدمه نموذجاً إسلامياً أولاً من بعده، وقد كان ليمهد له التمهيد بعد التمهيد، لخلافته من بعده صلى الله عليه وآله وسلم، هذا وإذا تم الحديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى ألا أنه لا نبي بعدي قد تم المطلوب بصورة أجلى .

فتح مكة تجسيد لحاكمية الله وخلق الرسالة

ومن ذكريات التاريخ الناصع لحياة الجهاد تحت راية لا اله إلا الله محمد رسول الله (ص) في هذا الشهر الكريم فتح مكة وهنا أكثر من وقفة:-

1-سقوط قلعة الشرك الحصينة على يد اليتيم، ثم المحاصر والمطارد والذي اضطر إلى أن يفرّ بنفسه من أجل مصلحة الإسلام والحفاظ على الرسالة إلى المدينة المنورة، وهو الرسول الكريم (ص)، فكانت الأرض تخطّط لمستقبل خاص، وكانت الأرض جاهدة في القضاء على بذرة الإسلام الأولى، وكان رأي البيئة ورأي كل المراقبين، أن الإسلام لا يمكن أن تقوم له قائمة في مكة حيث تحتوشه سباع الجاهلية هناك، وأشرس الناس وأكثر الناس حرصاً على بقاء الوضع قائماً آنذاك، وهو وضع يخدم الفئة المستكبرة المتنفذة في ذلك المجتمع. وحسابات الناس شئ، وتقدير الله شيئاً آخر، والذين لا يرون النصر للمستقبل الإسلامي، هم على مثل من أولئك الذين كانوا يحكمون على الإسلام بالفشل، حيث ينهض به رسول الله (ص) فريداً، ثم في فئة قليلة مطاردة معذبة.

2- الخلق الرفيع الكريم من رسول الله (ص)، وهو خلق الإسلام وخلق القرآن، درساً لكل الأمم حتى تنتهي الأرض ومن عليها، جاءت كلمته صلى الله عليه وآله التي تقول اليوم وهو يوم النصر، ويوم اكتساح الشرك، ويوم هزيمة الذين عذبوا رسول الله (ص)، وطاردوه، وعذبوا أصحابه، ولم تبق بيدهم وسيلة من وسائل الشر، إلا واستخدموها من أجل القضاء على الإسلام ورسول الإسلام يوم المرحمة، اليوم تحمي الحرمة. في يوم النصر الكبير والنصر يثير في النفس روح الفخر، والنصر ينسي كثيراً من النفوس ما تستوجبه الإنسانية، تأتى هذه الكلمة منه(ص) كما يشهد التاريخ لتهدئ وتطمئن الذين عذبوه وطاردوه وألبوا عليه. وكثيرون هم الذين يخسرون دينهم في أثناء النصر، وحالة النصر، ألا أن الرسل المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ما اختيروا قيادة إلا لأنهم أكبر من كل الأحداث، ولأنهم فوق كل العصبيات، وفوق ضغط كل الظروف، وهم أشم من الجبل وأقوى وأرفع من كل القمم، وأقوى من كل فولاذ أمام كل حدث من الأحداث التي تزلزل النفوس، فالرسول (ص) كان الرسول في فقره، وكان الرسول في غناه، وكان الرسول في الهزائم العسكرية، وكان الرسول في الانتصارات، وهو الرسول في موقع الدعوة، وهو الرسول في موقع الحكم والقوة، وهكذا هم تلامذة الرسول (ص) حتى اليوم، إن أهل القرن الواحد والعشرين، من تلامذة الرسول (ص) إنما يحذوهم ويقود خطواتهم، ويترسمون دائماً في كل الظروف رضوان الله وحكم الله سبحانه وتعالى النصر لا يصيبهم بالغرور، والهزيمة لا تكسر عزيمتهم، وهكذا هو الإنسان المؤمن، هي هذه النفس المؤمنة، النفس التي اطمأنت بذكر الله سبحانه وتعالى، وصارت لا تتلقى تعاليمها من ظرف من الظروف ولا تحت ضغط من الضغوط. صحيح أن الضغط يلوّن الموقف ويخلق موضوعاً جديداً للحكم الشرعي، لكن الحكم الذي يأتي متناسباً مع حالة الضغط، إنما جاء بالصورة المعينة لأن الحكم يتناسب مع الموضوع في شريعة الله، والمنظور للمؤمن في كل حالة من الحالات إنما هو الحكم الشرعي، كانت الحالة حالة سعة أو حالة شدة.

يقول الرسول (ص) في ذلك الظرف اليوم ترعى الحرمة على خلاف نداء كان لأحدهم اليوم تسبى الحرمة. يوم النصر في الإسلام، ليس يوم سبي الحرمات، ليس يوم نسيان القيم، ليس يوم السخرية بالإنسان، ليس يوم التنكر للخط، ان الإخلاص للحق والوفاء للخط، هو شيمة الإنسان المسلم، في كل ظروفه. ثم تأتي كلمته الأخرى (ص) أنتم الطلقاء، خذوا حريتكم ليس عليكم من قيد إلا قيد الإسلام، لا توجد هنا روح تسلط، ولا توجد هنا روح تشنج، توجد روح التسامح، والتعالي فوق كل جراح الماضي، وفوق كل مآسي الماضي. إنها النفس الكبيرة، انه الأفق الفسيح، إنها الروح الموصولة بالله، التي لا تجتذبها عصبيات الأرض، ولا تخلّق عصبيات الأرض، وظروفها المختلفة لها الموقف، إنما تستمد موقفها دائماً من الله سبحانه وتعالى، ولا تنظر دائماً وأبداً إلا إلى رضوانه.

عليّ وسام سماوي للتطهير والأمرة

3- علي أخو النبي (ص) بأخوة الإيمان والتقوى والعلم، هو المختار لتكسير الأصنام، وتطهير قبلة العبادة من مظهر الشرك القبيح، وهو مرشح السماء، وهو منصوب السماء بأن يطهر الأرض من الشرك الامتدادي بعد رسول الله (ص)، أن يواجه الشرك في كل رموزه، وفي كل أوضاعه، وفي كل الظروف، وألا يتوقف عن بذل أي ثمن وان كان الثمن روحه الشريفة، وولده وزوجه (ص) وكل ما تملك يداه، وهكذا كان بيت الرسالة هو بيت العطاء، وهو بيت البذل، وهو بيت التضحية والإيثار في سبيل الله، فكان الله عز وجل، يوم نصّب علياً عليه السلام على يد رسول الله (ص) أميراً وخليفة بالحق من بعده، يعلم منه أهليته التي تتسع بكفاءاتها العالية، وبإمتداداتها الروحية، وبأفقها الوسيع، تتسع لكل مشكلات الحياة، وله كاهل صلوات الله وسلامه عليه لا يعي تحت ثقل المشكلات، فنهض (ع) بعد رسول الله (ص) بأمر الإسلام وواجه كل الأمواج، وواجه كل الفتن، بعقلية الإنسان الرسولي، وبصبر الإنسان الرسولي، وبرؤية الإمام المعصوم، وبجلد الإمام المعصوم صلوات الله وسلامه عليه.

النبوة والإمامة عنوانان لنهج واحد

وثالثة الذكريات التي تستوقفنا في هذا الحديث السريع ذكرى ولادة السبط الأول من سبطي رسول الله (ص)، الإمام الحسن ابن علي الزكي، وهو أحد أهل الكساء وآية التطهير، ورمز من رموز قمة الإيمان على صغر سنه يوم المباهلة، وعمود من أعمدة أهل البيت الذين عناهم حديث الثقلين. انه الإمام المعصوم في حربه وسلمه وقيامه وقعوده، الصابر صبر الأنبياء والمرسلين، أمام جهل الصديق، صبره أمام شراسة العدو، وهو صبر من يقوم لله، ويقعد لله، لا للضغوط، ولا للإغراء ولا للتهديد. واسأل أخيراً لماذا لا نجد الحسن والحسين (ع) إلا من خلال حدث المواجهة السياسية والعسكرية الصارخ، الذي لم يمكن إخفاؤه؟ لماذا لا نجدهما صلوات الله وسلامه عليهما، علما، ولا دوراً اجتماعياً، ولا سيرة حية فاعلة في المسلمين، مواقع مؤثرة؟ لماذا لا نجدهم كذلك وأكثر؟ انه الحصار والعداء السياسي، الذي يبخس حتى أكبر الشخصيات حقها إلى حد التهميش، حتى على مستوى التأريخ.

اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعلنا من أوليائك، الموالين لأحبائك، المعادين لأعدائك، الراضين بقدرك وقضائك، المعافين عند بلائك، المجاهدين في سبيلك. اللهم اغفر لنا ولأهل الإيمان، وأعزنا بعز الإسلام، واجعلنا من عبادك الكرام، يا خير من سأل وأكرم من أجاب.

بسم الله الرحمن الرحيم (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أنار العقول بمعرفته، وشرّف القلوب بفيض هدايته، ودلّت رسله على أحكام شريعته. أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، سبقت رحمته غضبه، ورغّب في جنته، وحذّر من ناره وسخطه رحمة بالعالمين، وهدى للمتقين. وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، بشّر بما هو حق، وأنذر بما هو صدق، صلى الله عليه وآله حكماء الصمت والنطق.

التقوى مفتاح الفلاح
عباد الله .. أوصيكم ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله، فمن اتقى الله، وعلم ما أراد ففعله، وما كره فاجتنبه طاعة له سبحانه، وإذعاناً لعظمته، وشكراً لنعمته لم يفته خير، ولم يلحقه شر، وخرج من هذه الدنيا سالماً، وصار إلى الآخرة غانما، وغُنُم الدنيا في خسارة الآخرة خسارة، وخسارتها في غنم الآخرة غنم، على إن الإسلام يجمع بين خير الدنيا وخير الآخرة، لو كان الناس يعلمون، ولأنفسهم يحسنون.

اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك، وتحنّن وترحّم على محمد وآل محمد كما صلّيت وباركت وترحّمت وتحنّنت على إبراهيم وآل إبراهيم انك حميد مجيد. اللهم صلّ وسلم على المبعوث بالرسالة لكشف العماية والضلالة، عبدك المصطفى محمد وآله النجباء. اللهم صلّ وسلم على إمام المتقين وأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب. اللهم صلّ وسلّم على التقية النقية فاطمة الزهراء الزكية. اللهم صلي وسلّم على القمرين النيّرين والإمامين الهاديين أبي محمد الحسن وأبي عبد الله الحسين، اللهم صلّ وسلم على أنوار الوحي ومصابيح الرسالة وحملة علم الكتاب خلفاء رسولك المهديين علي ابن الحسين زين العابدين ومحمد ابن علي الباقر وجعفر ابن محمد الصادق، وموسى ابن جعفر الكاظم وعلي ابن موسى الرضا، ومحمد ابن علي الجواد، وعلي ابن محمد الهادي، والحسن ابن علي العسكري، الطيبين الطاهرين.

اللهم صلّ وسلم على الإمام المرتقب، والمنقذ المنتظر قائم آل الرسول محمد ابن الحسن المأمول المنصور. اللهم عجّل فرجه وسهل مخرجه، وانصره نصراً عزيزا، وافتح له فتحاً يسيرا، ومكّن له في الأرض تمكينا وابق دولته طويلا. اللهم انصر السائر على دربه، الآخذ بهديه، وثبته على الحق، وأعزّه في الخلق، وادفع عنه، وكد له ولا تخذله يا كريم.

اللهم اجعلنا من جندك وأنصار دينك، والممهدين لدولة وليك المنتظر يا رحمن يا رحيم.

مثقفو الغرب: نحترم النص الإسلامي ونرفض الوصاية عليه
أما بعد .. أيها المؤمنون والمؤمنات فانه كثيراً ما تطرح المقابلة بين الدين والفكر الديني، وأود أن أطرح بعض النقاط بشأن هذه المقابلة:-

ماذا يعني هذا التقابل؟ يعني أن الدين هو ما جاء به الوحي من عند الله سبحانه وتعالى، هو الإسلام في صورته التي في ذهن رسول الله (ص)، والمعصومين من بعده، الإسلام بمضامينه الواقعية وبمراداته الحقة المطابقة لواقع ما أراد الله سبحانه وتعالى، هذا هو الدين، هو الإسلام. أما الفكر الديني، الفكر الإسلامي، فهو فهم غير المعصوم للدين اجتهادا. هذه الاجتهادات: على المستوى الفقهي، وعلى مستوى بعض التفاصيل في العقيدة، على مستوى المفهوم الإسلامي، على مستوى الأطروحة الإسلامية، النظام الإسلامي العبادي، النظام الإسلامي الاقتصادي، النظام الإسلامي السياسي، الاجتهادات في كل هذه الدائرة لا تمثل الإسلام، و إنما يمثل الفكر الإسلامي.

ماذا يترتب عند المروّجين لهذه المقابلة، وهي مقابلة حقة؟ في الصحيح أن هناك ديناً وهناك فكراً دينيا، وأن الإسلام يختلف مستوىً عن الفكر الإسلامي، إذا كان المعني بالفكر الإسلامي هو المطروح. لكن ماذا يترتب عندهم على هذا التقابل؟ ما يروجه الغرب أولاً والمثقفة على يد الغرب، هو أن القدسية والاحترام والتعامل الإيجابي، إنما يكون مع الإسلام، مع الدين، أما الفكر الديني، الفكر الإسلامي، فهو فكر بشري لا يمتلك أي قيمة استثنائية، لا يمتلك أي قيمة تعطيه خصوصية الاحترام والتقدير والتقديس، انه فكر اجتهادي كأي فكر اجتهادي آخر، في أي حقل من الحقول، وهذا الفكر الاجتهادي لا يصح أن يقود البشرية وأن يخضع له المجتمع، وأن يتعبد به المكلفون، وانه لفكر اجتهادي غير مقصور على فئة معينة تحتكر لنفسها فهم الدين، وتجعل لنفسها على الدين الوصاية، إن هذه الوصاية من الفقهاء والمجتهدين، في حقول المعرفة الإسلامية، وصاية مرفوضة، ومن حق كل مثقف أن يتعامل مع القرآن ومع السنة، وأن يقدم بحسب اجتهاده الأحكام والمفاهيم والرؤى الإسلامية و الأطروحات والنظم الإسلامية على مستوى الاجتهاد. وربما فاق المثقف بالثقافة الغربية التي عايشت الميدان كثيرا ، واكتسبت خبرة في مجال السياسة، أو في مجال الاجتماع، أو في مجال الاقتصاد، أو في مجال الطب، أو في مجال الهندسة، قد يفوق اجتهاد هذا المثقف بالثقافة الغربية في قيمته العلمية، قيمة اجتهاد المجتهدين، المتخصصين بدراسة العلوم الإسلامية، في مثل الأزهر، في مثل قم، في مثل النجف الأشرف.

إذاً لا معنى لهذا الارتباط من الأمة، بهذه الفئة الخاصة، فئة الفقهاء والمجتهدين، ولا معنى لأن يتوقعوا من هؤلاء أن يقدموا لهم فكراً إسلامياً ذا قيمة خاصة. فصحيح أننا نحترم الإسلام، نقدر الإسلام، نقدس الإسلام، لكن بمراداته الواقعية، بنصه، أما هذا النص الذي يقدمه لنا الآخرون، هو فهم بشري لا يمتلك أي قيمة وأي قدسية تفرض نفسها على الأمة ومكلفيها.

الفرق بين الدين والفكر الديني
أما الصحيح بشأن هذه المقابلة المذكورة فهو أن هناك فرقاً بين ما هو دين وبين ما هو فكراً ديني، بين الدين الواقعي والدين الاجتهادي. الدين الواقعي دين لا يمسه التغيير أبدا، دين هو واقع ما أراد الله سبحانه وتعالى، ويمثل الحل الكامل الدقيق للمشكلة البشرية. أما الإسلام الاجتهادي فهو اقرب صورة إلى الإسلام، يمكن أن تتأتى للأمة في غياب المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم، حينما يكون للمعصوم (ع) التواجد المكشوف في الأمة، ويكون هو المرجعية، فالمعصوم يقدم لنا إسلاماً حقيقياً واقعياً دقيقاً، يقدم لنا فهماً قرآنياً لا شوب فيه. أما المفسر الإسلامي القدير، والفقيه الإسلامي الكبير، وكل المتخصصين في الدراسات الإسلامية تخصصاً حقيقياً فانهم يقدمون لنا صورة عن الإسلام، قد يدخل في هذه الصورة تأثير محدودية فهم هذا المجتهد وذاك، وما قد يضغط على هذا المجتهد أو ذاك، من عالم اللاشعور في داخله، فهو يقدم لنا أقرب صورة للإسلام أمكنت له على أساس من عامل الاجتهاد والتقوى، أما أنه يقدم لنا الإسلام الواقعي فهو الشيء الذي لا يدعيه أي مجتهد من المجتهدين، وأن كل ما يقوله هو الإسلام الحق، هو الإسلام الأصل. لكن هذا الإسلام الاجتهادي أما أن يكون في زمن غيبة المعصوم (ع) هو مرجع الأمة، وهو مرجع المكلف في عباداته ومعاملاته وكل مساحات حياته، وكل مساحات الأمة، و أما أن يكون البديل هو الفهم الواقعي للإسلام والذي لا يمكن في حال من الغيبة بصورة مطلقة، يعني لا يمكن لنا أن نتوفر على إسلام شامل كامل واقعي، وان كان الإسلام الواقعي نحن متوفرون عليه الآن في مساحة كبيرة من المساحة الفكرية ومساحة المفاهيم والمساحة العقيدية بلا أدنى إشكال. حينما نقول بأننا الآن نتوفر على إسلام اجتهادي لا يعني ذلك أننا نفتقد الإسلام الواقعي بالكامل، إن مساحة كبيرة من مساحة الفكر، ومساحة العقيدة هي في أصولها بالكامل مساحة واقعية ، بعض تفاصيل الناحية العقيدية، مساحة الفكر في جزء كبير منها هو إسلام واقعي. المفاهيم كثير منها هي مفاهيم واقعية، تمثل الإسلام الواقعي: المواقف ثلاثة أما أن نأخذ بالإسلام الاجتهادي، و أما أن ننتظر الإسلام الواقعي وظهور المعصوم (ع) ليقدم لنا ذلك الإسلام، فنعطل الإسلام، حتى ظهور المعصوم عليه السلام، أو نرجع إلى كل رأي اجتهادي، من أي مثقف من المثقفين، تعطيلُ الإسلام معلوم بالضرورة أنه غير جائز، والأخذ بالإسلام الاجتهادي هو ما دلّت عليه النصوص الواردة من الأئمة عليهم السلام، وما تقود إليه السيرة العقلائية، وما يقضي به العقل العملي. الرجوع إلى الإسلام الاجتهادي من أي مستو من المستويات مخالف لمقتضى العقل، العقل لا يرضى للجاهل أن يقود الجاهل، العقل يقول بتقليد الجاهل للعالم وليس بتقليد الجاهل للجاهل، والمثقف غير المختص في الدراسات الإسلامية، بالنسبة للدراسات الإسلامية عامي، ودقيق هو اصطلاح الفقهاء على مجموع الأمة بكل مستوياتها العلمية العملاقة بأنهم عوام من الناحية الفقهية، حيث لا الاختصاص لهم بها، وحتى الدارس بالدراسات الفقهية المعمقة إلى حد كبير، إذا لم يبلغ درجة الاجتهاد فهو من حيث الفقهي عامي، وكذلك الفقيه عامي من حيث الطب، لماذا نستوحش من هذا الاصطلاح؟ هذا اصطلاح علمي دقيق صارم لا مجاملة فيه، الفقيه غير الطبيب من حيث الطب عامي، من حيث الهندسة عامي، والمهندس المتضلع من حيث الفقه إذا لم يكن فقيهاً فهو عامي، فالعامي هنا جاهل بالإسلام، ولا صحح العقل أن يرجع الجاهل إلى الجاهل، ويقلد الجاهل الجاهل، سيرة العقلاء وعرفهم أيضاً بعيد كل البعد عن الموافقة على أن تكون المرجعية للجاهل، و إنما تكون المرجعية للعالم، وهكذا النصوص ترفض مرجعية الجاهل.

فإذاً هناك فرق كبير بين الإسلام الاجتهادي الذي تنتجه عقلية علمية فقهية متخصصة، أو تفسيرية متخصصة توفرت على كل ركائز الاجتهاد وأعمدته المطلوبة في فهم المختصين، فرق بين هذا الفكر الإسلامي الاجتهادي، وبين فكر إسلامي ينتجه شخص له اختصاصه الآخر الخاص والذي يمثل مرجعية محترمة في اختصاصه لكن لو أراد أن ينصب نفسه مرجعية في اختصاص هو غير اختصاصه فهو غير مخلص لقضية العلم والموضوعية، بعيد كل البعد عما هو عليه العقل والعقلاء والنصوص الشرعية.

تقديس الإسلام الواقعي يستتبع تقديساً للإسلام الاجتهادي

فيبقى الإسلام الاجتهادي له قدسية، الإسلام الاجتهادي حيث يكون من المجتهدين المختصين له درجة من القدسية، صحيح أنها لا تبلغ قدسية الإسلام الواقعي، ويجب على المكلفين. ويجب على الأمة، الأخذ بالإسلام الاجتهادي، كما يجب عليهم الأخذ بالإسلام أيام رسول الله (ص) والمتلقى من رسول الله (ص). المنقول عن الإمام عليه السلام: الراد عليهم – يعني الفقهاء- كالراد علينا، والراد علينا كالراد على رسول الله (ص) والراد على رسول الله (ص) كالراد على الله سبحانه وتعالى، أنت لا تستطيع أن ترد الجريدة الرسمية حيث تنشر لك القوانين. قد تخطأ الجريدة الرسمية خطأً مطبعياً، وقد يتعمد متعمد من المسئولين عن الجريدة الرسمية الخطأ في نشر قانون من القوانين. الجريدة الرسمية تبقى حتى مع احتمال الخطأ فيها، هي المرجع الرسمي المحترم، ولست معذوراً حين تقول أنا لن أرجع إلى الجريدة الرسمية في القانون الفلاني، لاحتمال الخطأ فيها. فلا يقبل منك الرسميون، المحاكم لا تقبل، الجهات التنفيذية لا تقبل، توقع عليك العقوبة حين تخالف مؤدى الجريدة الرسمية في قانون من القوانين، ولو اعتذرت باحتمال الخطأ. أيضاً الله عز وجل في فهمنا لا يقبل منك العذر في رد قول مقلدك، حين تقول أنا أحتمل أن مقلدي في اجتهاده لم يوافق الواقع، عدم موافقة الواقع ربما جاءت حتى في احتمال مجتهدك، وهو معذور فيه، وهو لديه الحجة في أن يطبق سلوكه على فتواه الاجتهادية، ولك الحجة، وعليك الحجة في تطبيق فتوى مقلدك وتطبيق سلوكك على هذه الفتوى حتى مع احتمال المخالفة للواقع. ويبقى فرق بين الإسلام الواقعي والإسلام الاجتهادي، يبقى فرقان، فرق أن الحل الدقيق الكامل الشامل لمشكلات البشر، يحققه الإسلام الواقعي 100%، وقد يحققه الاجتهادي بنسبة 80%، قد يقدم لنا الإسلام الاجتهادي في الاقتصاد وفي السياسة، بدرجة وفي مختلف حقول الحياة، حلاً لمشكلات البشرية بمقدار 80% وبمقدار الإصابة للواقع، وقد يأتي فوق ذلك توفيق من الله سبحانه وتعالى وتسديده وتكميل النقص من ناحية عملية، رحمة بالعباد وجزاءاً لهم على تمشيهم مع مقتضيات الشريعة. ونضمن أن مشكلات البشرية تحل بالكامل وبدرجة 100% في ظل تطبيق الإسلام الواقعي، هذا فرق.

الفرق الآخر هو أن الإسلام الواقعي لا يصح بعد معرفته أن يمس بالاجتهاد، إذا عرفت أن هذا الحكم هو حكم الله. وجداناً علمنا وتيقنا أن الصلاة واجبة في الإسلام وهذا ضروري من ضروريات الإسلام، لا يكون لأي مجتهد مهما علا قدره أن يقارب باجتهاده أو يلامس هذا الحكم. إن له من القدسية ما يجعله في منعة وعصمة من أن يمسه الاجتهاد من أي مجتهد. أما الرأي الإسلامي الاجتهادي الداخل في الفكر الاجتهادي الإسلامي، فيمكن أن يتغير من خلال عملية اجتهادية لمجتهد آخر، لمجتهد وليس لغير مجتهد، الفكر الإسلامي الاجتهادي يمتلك حرمة قدسية أمام الفكر غير الاجتهادي ولا يمتلك قدسية أمام نفس الفكر الاجتهادي، هذا فكر اجتهادي أنتجته عقلية اجتهادية لفلان، يمكن أن يأتي عليه النقد من عقلية اجتهادية لفلان الآخر.

الفكر الإسلامي يستلزم عقلية اجتهادية

وأسأل هل كل فكر ينسبه صاحبه للإسلام يدخل في الفكر الإسلامي؟ هل كل ما يكتب من كتب، وما ينشر في الصحف، وما يدبج من مقالات يصح أن يدخل في فهمنا، في دائرة الفكر الإسلامي؟ لا ما يدخل في دائرة الفكر الإسلامي هو نتاج فكر اجتهادي، قد توفر على كل مقومات الاجتهاد في نظر المختصين الإسلاميين. ما لم يصل الشخص إلى حد الاجتهاد في التفسير، ففكره التفسيري ليس فكراً إسلامياً. السيد محمد حسين الطباطبائي -أعلى الله مقامه- تفسيره تفسير اجتهادي وهو داخل في الفكر الإسلامي. لماذا؟ لأنه يمتلك عقلية اجتهادية بشهادة كل المختصين وأنه قطع رحلة طويلة مع كل المقدمات التي تؤهل عقليته لهذا المستوى الاجتهادي، لماذا لا يكون تفسير شخص يكتب عن سورة الحمد بثقافة غربية أو بثقافة شرقية من الفكر الإسلامي؟ ذلك لأنه لم يتوفر على أسس الاجتهاد الصحيح. فيجب أن نميز أيها الأخوة بين ما هو فكر إسلامي وبين ما هو ليس بفكر إسلامي. ومتى نقول للشخص أنه مفكر إسلامي؟ نحن نطلق الكلمات على عواهنها وهذا من الخطأ، متى نطلق على الشخص بأنه مفكر إسلامي؟ نطلق عليه حين يمتلك عقلية اجتهادية في حقل من حقول المعرفة الإسلامية.

الغرض: فصل الأمة عن رموزها
ما هو الغرض من الترويج للتقابل المذكور والنتائج المرتبة عليه عندهم؟ في الحقيقة الغرض هو إسقاط قيمة الفكر الاجتهادي، وفصل نفسية الأمة عن المؤسسة الفكرية على يد المختصين، هو عزل الأمة نظرياً وعملياً عن الفقهاء، قادة الأمة. وهو إسقاط كلمة الفقهاء، تمييعها، جعل المثقف بالثقافة الغربية والمثقف بالثقافة الملتقطة، جعل كلمته مساوية لكلمة الفقيه، تشتيت الأمة وجعلها ترجع إلى كل ناعق. يراد لكل وكل ما كتب باسم الفكر الإسلامي، وهو غير مؤهل لأن يدخل في دائرته، ترجع إليه الأمة فيضيع الإسلام. المطلوب أن يضيع الإسلام، وأن ينفصل المسلمون والمؤمنون عن قيادتهم الدينية. هذا هو غرض الترويج بما وراءه من خلفية، وبما وراءه من نتائج يرتبونها علناً أحياناً على القول بالفرق بين الدين والفكر الديني.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين يا كريم. اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك. اللهم ما بلغتنا من الحق فحملناه وما قصرنا عنه فبلغناه، يا كريم يا كريم.

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون

زر الذهاب إلى الأعلى