خطبة الجمعة (34) 7 رمضان 1422هـ – 23-11-2001 م

مواضيع الخطبة

الغرور –
الإيمان المطلوب – العقبة الأولى والثانية

إننا معرّضون دائماً للانخداع، ووسائلُ الخداع قد كبرت إلى الحد الكبير، وتجاوزت مقدور كل الذين لا يعطون من أنفسهم التأمل في وجودهم، في بدايتهم، في مصيرهم، في تقلبات أحوالهم.

الخطبة الأولى

يا من دان له كل شئ طالباً رفده
الحمد لله الذي جبلت القلوب على معرفته، وانقادت العقول إلى عظمته، وتواضعت الجبابرة لهيبته، واستكان كل شئ لقهره وعزته، نشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، منقادين طائعين مؤملين في فضله ورحمته، فزعين من عذابه ونقمته، متعلقة قلوبنا بأنوار جماله وجلاله، مسترفدة هداها من عطاياه ومواهبه، ونشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، أرسله للوحي مبلغاً، وبالعدل قائماً، وللحق داعياً، وعلى الفضيلة مربياً، بشيراً لمن استجاب، نذيراً لمن تخلف وعصى، اللهم صلى وسلم على محمد وآله النجباء.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وافتحوا منافذ قلوبكم لأنوار معرفته، وطهّروها لاستقبال فيوضات.. ……
اللهم إنا نستهديك ونسترشدك ونستلهم الرشد من عندك، والحكمة من فضلك، ونعوّل عليك، وننقطع إليك.
الغرور مصيدة الشيطان
أما بعد .. فان صلاح ذات المرء أعزّ ما يطلب، ولم يهمّ ذا حجىً أكثر من صلاح نفسه، ولا تصلح نفس إلا بأن تخرج من حبائل الغرور وكيد الشيطان، ومصيدة الهوى، وفتن أهل الضلال، ويكون لها من اليقظة، وحسن الانتباه ما لا تقع به في الغفلة عن عداوة هذه الجهات كلها، وما تمكر به في الليل والنهار. وليكن حديثنا الآن عن الغرور في موردين من موارده، أو صورتين من صوره، تعرض لكل منهما آية كريمة من آيات الذكر الحكيم وقبل ذلك قالوا عن الغرور: غرّ الرجل غرارة، وغرّة: جهل الأمور وغفل عنها فهو غرّ. فالغرّ جاهل غافل عمّا يهمّ، وتتوقف عليه مصلحته، وغرّ فلاناً غرّاً وغرورا: خدعه وأطمعه بالباطل. فالغرور عملية تظهر الباطل حقا، وتظهر الحق باطلا، والمصلحة مفسدة والمفسدة مصلحة، والعدوً صديقا، والصديق عدوّا، فهي عملية تتولى قلب الحقائق عند النفس وتغريها لأن تسير وراء السراب، والغرّة غفلة في اليقظة، والغرار: غفلة مع غفوة. وغررت فلاناً أصبت غرّته أي غفلته، ونلت منه ما أريد. فالمغرّرون في الأرض من شيطان وقوى شيطانية، وزينة الحياة الدنيا، كل أولئك ينالون من المرء غرّته، فيوقعونه في مفسدته.
والآيتان الكريمتان هما قوله تعالى (يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم، الذي خلقك فسوّاك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركّبك) (الانفطار آية 6-8)، وقوله عز مـن قائـل (لا يغرًنك تقلًب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) (آل عمران آية 196-197).
مع الآية الأولى في كلمات مختصرة جدّاً:
معرفة حاكمية المولى تستوجب عدم الغفلة
أولاً: انه غرور الجرأة وغرور المعصية وعدم التوقير، وهي جرأة على الرب المالك، ومعصية للكريم المفيض، ونسيان لتوقير الملك القادر المتصرف، هذا الغرور يستوجب الادبار وعدم المبالاة والتصرف المشين، مع من يملك من هذا الإنسان كل شئ، وجوده وأثره، ليس في البين مكان للغفلة، ولا مجال للانخداع بحسب طبيعة علاقة الهيمنة الكاملة والحاكمية التامة من جهة ثم المحكومية المستوعبة من الجهة الأخرى، وبمقتضى حضور فاعلية الله وتدفق نعمه، والإطلاق في تصرفه في هذا الإنسان المخدوع المغرور، الناسي المستكبر جهلاً، والمستعلي زوراً. هناك علاقة بين الله وبين الإنسان هي علاقة افتقار محض من قبل الإنسان، علاقة استعطاء، استرفاد، حاجة مستمرة. وعلاقة عطاء، غنى، إرفاد دائم ومستمر من قبل الله سبحانه وتعالى، هذه العلاقة بطبيعتها وبموجبها لا ينبغي للإنسان أن يغفل عن الله، عظمته، حقه سبحانه وتعالى، جلاله وجماله لحظة، لكن وسائل في الأرض من هوى النفس ومن تغرير الدنيا، ومن عبث الشيطان، وجند الشيطان، تستطيع أن تصرف هذا الإنسان عن الله سبحانه وتعالى.
غرور العبد كشف لفاعلية وسائل التغرير
ثانياً: إذا حصل الغرور من العبد بالله، ربه ومالكه مع ذلك كله.. مع هذه العلاقة التي لا تسمح بالغفلة أبداً، كشف عن الفاعلية الكبيرة لوسائل الخداع والتغرير، التي تواجه الإنسان في داخله ومن خارجه، وما تتطلبه سلامة المرء من شدة احتراس واستعانة بالله الكريم.
فأنا حتى لا أغفل حتى لا أقع في خداع الشيطان، في حبائل القوى الشيطانية، لابد من الاعتماد على الله، من الاستعانة بالله. الإنسان ليس في وجوده فقط وإنما في موقفه، في خواطره، في هادفيته، في كل أمر من أموره هو محتاج إلى اللجأ إلى الله، والاعتماد عليه سبحانه وتعالى.
ثالثاً: إذا كان الإنسان في موضوع علاقته بربه الكريم وهي علاقة الاعتماد الكامل من العبد على الرب يقع في الغفلة والانخداع ونسيان عظمة الله ونعمته وجبروته، إذاً فهو أضعف في الموضوعات الأخرى وأقرب إلى الوقوع في حبائل الغرور… فيما يمسه من مصالح دنيوية… من صداقة، من عداوة، من ترتيب مواقف. إننا معرّضون دائماً للانخداع، ووسائلُ الخداع قد كبرت إلى الحد الكبير، وتجاوزت مقدور كل الذين لا يعطون من أنفسهم التأمل في وجودهم، في بدايتهم، في مصيرهم، في تقلبات أحوالهم. الإنسان لو غفل لحظة عن موقعه من هذا الكون عن عظمة الله سبحانه وتعالى عما هو عليه من الوهن والضعف والحاجة إلى الله، والاستغراق في نعم الله لوقع فريسة الخداع الكثير الذي يملك وسائل تغزو قلوب الكثير من أهل الخبرة ومن أهل البصيرة وما أقرب الإنسان للوقوع في حبائل الشيطان، وجند الشيطان في أي لحظة. فالاحتراس، وطلب المزيد من المعرفة، وطلب المزيد من التعلق بالله سبحانه وتعالى.
سبحان الخالق العظيم
ولنأخذ هذه الصورة الصغيرة عن التسوية والتعديل في خلق الإنسان، في زاوية صغيرة من زوايا بدنه، “وان جزءاًً من أذن الإنسان (الأذن الوسطى) هو سلسلة من نحو أربعة آلاف حنيّة أي قوس، دقيقة معقدة، متدرجة، بنظام بالغ في الدقة، ويبدو أنها معدّة بحث تلتقط وتنقل إلى المخ بشكل ما كل وقع صوت أو ضجة، من قصف الرعد إلى حفيف الشجر”[1] من جسم هذا الإنسان “ومركز حاسة الأبصار في العين التي تحتوي على مائة وثلاثين مليوناً من مستقبلات الضوء، وهي أطراف الأعصاب… وحركة الجفن علاوة على هذه الوقاية تمنع جفاف العين، أما السائل المحيط بالعين والذي يعرف باسم الدموع، فهو أقوى مطهّر”[2] هذه صور صغيرة جداً ولا تساوي بلايين الصور المعقدة بدرجات ودرجات مما يشهده جسم الإنسان فضلاً عما يشهده هذا الكون العظيم. ورحلة العلماء طويلة وممتعة وحجة وبرهان إيماني لا يرد ممن لم يقع في حبائل الزور، حين يتعاملون مع دقائق وعجائب الجهاز العظمي، والجهاز العضلي، والجهاز الجلدي، والجهاز الهظمي، والجهاز الدموي، والجهاز التنفسي، والجهاز التناسلي، والجهاز الليمفاوي، والجهاز العصبي، والجهاز البولي، وأجهزة الذوق والشم والسمع والبصر، هذا عدا عالم النفس، وعالم الروح على ما هما عليه من الإتقان ودقة الأسرار والألغاز.
والآية الثانية:
أولاً: تقلّب الذين كفروا في البلاد يغرّهم – ويغرّ عدداً من المؤمنين العاملين – ويغرّ الجماهير المسلمة العامة، وهو سبب فتنة وانقلاب في الفكر والشعور، وتراجع في الموقف العملي. إن الانتصارات التي يحققها الكفر في الساحة العالمية، وفي الساحة الإسلامية، لها مردودات نفسية خطيرة، حين لا تكون يقظة، وحين لا يكون وعي، وحين لا يكون انشداد بالله، أما القلوب المؤمنة المطمئنة، فهي لا ترى إلا فاعلية الله، ولا ترى في هذا الكون إلا هيمنة الله، وتعرف أن كل جند من جند الأرض إنما هم جند مهزول مهزوم لإرادة الله سبحانه وتعالى، وان شيئاً في الأرض لا يمكن أن يتم إلا بإذن من الله سبحانه وتعالى، وإذا وقع شر في الأرض على المسلمين فهو بمقدمات من فعل أنفسهم وبحسب حاكمية القوانين الاجتماعية التي كتبها الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان في اجتماعه. نعم هذه الانتصارات التي يمكن أن تتحقق على وجه الأرض على يد الكفر، تعطي للكفر انتفاخاً وانتفاشاً أكبر، وتريه أنه الرب الفاعل، وأنه القوة التي لا يمكن أن تواجه، فيزيده ذلك طغيانا، وإدباراً عن الله سبحانه وتعالى، وتمادياً في الظلم والبطش والفتك. ومن جهة أخرى وفي دائرة المؤمنين العاملين، إذا لم تكن لهم من التربية الإسلامية ومن الارتباط بالله سبحانه وتعالى ما يكفي حماية ووقاية، فان شعوراً سلبياً يغزو أفئدتهم في هذا الظرف، وربما سبّب لهم الفتور والتراجع في الحركة، ذلك من وحي شيطاني يترتب على مثل هذه الأسباب. ولذلك لابد من دوام ذكر الله سبحانه وتعالى وانشغال النفس بالنظر إلى جبروته وعظمته، وآثار ذلك في النفس والآفاق، من أجل أن يصغر كل شئ في النفس أمام عظمة الله سبحانه وتعالى، وألا لكان الإنسان قريباً من الشرك وخسارة الإيمان.
أما القواعد المؤمنة العامة فهي أكثر تأثراً بمثل هذه الأحداث، وعلى المبلّغين والدعاة أن يعالجوا سلبية هذا الشعور، حين الأزمات وأن يعطوا ضخّاً إيمانيا كبيراً، وزخماً إيمانياً فاعلاً بالنفوس، نفوس الجماهير المؤمنة من أجل أن لا تلتفت إلا إلى عظمة الله، وفاعلية الله، وجبروت الله، وحتى لا تقع ساجدة لعدو الله.
ثانيا: المؤمن الذي يتمتع برؤية كونية ثابتة، ونظرة إيمانية متأصلة، ويقين بالله وباليوم الآخر، وتقييم دقيق لوزن الدنيا والآخرة، والذي يرى النهايات والمصائر هو الذي لا يرى في تقلّب الذين كفروا في البلاد شيئاً كبيراً، ولا وزناً ثقيلاً ولا نعمة يغبط عليها، وهي تعقب النار، وتذهب سريعاً ليحل محلها مهاد وهو بئس المهاد، وعذاب هو أشد العذاب.
ثالثاً: وكيف ينسى هذا الإنسان جبروت ربه، ويغفل حاكميته وقهره، وبطشه وأخذه، وملكه ونعمائه وافتقار الأشياء إليه، وتقوّمها بعطاء رحمته، ويملك عليه كلّ نفس ظهور عابر، ونصر عاجل، يسجّل هنا أو هناك، وسلطان محدود متزلزل لهذا أو ذاك؟! انه جهل الإنسان، غفلته، انخداعه، اغتراره، وأنها وسائل المكر والخديعة والتظليل والتهويل وتصغير الكبير وتكبير الصغير. النصر الذي قد يأتي في ظروف معينة للكفر يمكن أن يأتي في ظروف أخرى للإسلام، الكفر يأخذ بأسباب من أسباب القوة التي أمر الله بها، فيمتنع ويعز في دنياه، ويغلب وينتصر، والمسلمون حين يفرّطون في الأخذ في الأسباب المدفوعين إليها من قبل الله سبحانه وتعالى، يقعون في الهزيمة. اطلبوا أسباب القوًة أيها المسلمون، أسباب العزّة، (أعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله) ابنوا أنفسكم علمياً، ابنوا أنفسكم إراداياً، ابنوا أنفسكم في كل أبعادها، تحركوا خطّطوا، التفوا حول قيادة رشيدة، اطلبوا كل أسباب الاجتماع المتين والتماسك، تحتلون الموقع الأول من بين الأمم، تنجون من مثل هذه الظروف التي تهز الثقة، التي تقلّل الإيمان بالإسلام، بعظمة الإسلام، بفعالية الإسلام، بقدرته على تحقيق النصر واعطائه الريادة لكم من بين كل الأمم .

لا مقايسة بين متاع الدنيا ونعيم الآخرة
الآية الكريمة تضع كل الانتصارات الدنيوية، والبذخ الدنيوي، والمكاسب العاجلة، في حجمها الطبيعي، وهو حجم صغير متاع قليل بالقياس إلى النعيم الأخروي. ان الحياة الدنيا كلها جولة صغيرة، ودورة سريعة، عابرة وهي شئ لا يذكر أمام ما يعقب لذاتها الضئيلة من عذاب طويل مقيم. لا يتوقف بك الحدث الدنيوي عنده، فلتكن رؤيتك دائماً كونية، ولتكن رؤياك دائماً ممتدة، ولترمي ببصرك إلى بعيد ولتنظر إلى دول كأمريكا، وأقوى من أمريكا عرفها التاريخ، وتحولت إلى صفر، كل هذه الانتصارات، وكل هذه الهزائم، كل الغنى والفقر، سيعقبه أمر آخر. أرضك هذه ستنسف نسفاً، جبالك الراسيات ستندك دكاً بحارك هذه ستنفجر تفجراً، سماؤك هذه ستتغير، أي بناء على يد الإنسان سيبقى بعد أن يأتي الزلزال الكوني الهائل المدمر الذي يبعثر كل شئ مما كان الإنسان يرى أن استناده إليه واتكائه عليه وأن حياته به؟! يرى حين ذاك أن لا اله إلا الله حقاً حقا صدقاً صدقا. فلتكن لنا هذه الرؤية البعيدة الفسيحة الممتدة حتى لا نقع في خداع الأحداث الصغيرة وحتى لا تستوعبنا دوائر الحدث الضئيل فنفقد الوعي ونفقد البصيرة، ونفقد الموقف الإيماني الصائب، حين أرى الحياة بحجمها، الدنيا بحجمها، حين أرى للآخرة حجماً، حين أرى الإنسان وكل فاعلياته، موجوداً صغيراً مملوكاً لله، تأتيه لحظة الموت بلا إرادة تسقط عندي عظمة الإنسان، ويسقط وزن جبروته وكبريائه، إنها الجبروت الموهومة والكبرياء الكاذبة المزعومة.
اللهم صل على محمد وآل محمد وارنا الحق فنتبعه، وأرنا الباطل باطلاً فنجتنبه، ولا تجعلنا ممن يشرك بك أحداً، أو يبتغي عنك حولا، اللهم وأسلك بنا صراطك المستقيم، ولا تجعلنا على جرف هار فينهار بنا في جهنم، واغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وأهلينا ومن علّمنا علماً يقرّبنا إليك وترضى به عنّا ومن أحسن إلينا، ومن عفى عنا، وإخواننا وأخواتنا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
ومن أحسن إلينا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
(والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا اللذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)

الخطبة الثانية

الحمد لله الملك الحق المبين، نشهد أن لا اله إلا الله، وحده لا شريك له، محوّل الليل والنهار، مقلّب الأفئدة والأبصار، مجري البحور والأنهار، ربّ الكبار والصغار، ونشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، أرسله بأكمل دين، وأتم رسالة، فرضي ما كلّف، وبلّغ ما حمّل، اللهم صلّ على محمد وآله عبيدك الأتقياء، وأوليائك السعداء.
عباد الله .. اتقوا الله واذكروا نعم الله عندكم، وقدرته عليكم، وأنّ أنفاسكم بيده، وأرزاقكم من عنده، وآجالكم في تصرّفه، ومرجعكم إليه، وأن لا حول ولا قوة إلا به، وأنّ الملك ملكه، وقبضة الكون بيده، فلا أحقّ بالخشية، ولا أولى بالطاعة منه، بل الخشية منه وحده، والطاعة له لا لمن سواه.
اللهم صلّ وسلم على سيد العرب والعجم، نبي الأجيال والأمم، من لا نبيّ بعده، ولا ناسخ لشريعته، ولا تبديل لكتابه، عبدك المجتبى، ونبيك المصطفى أبي القاسم محمد وآل محمد. اللهم صلّ وسلم على السابق للإيمان، المقدام في الميدان، أمير المؤمنين، علي ابن أبي طالب إمام المتقين. اللهم صلّ وسلم على بضعة نبيك الطاهرة، أمتك العابدة الصابرة فاطمة البتول الزاهرة. اللهم صل وسلم على إمامي المسلمين وقدوتي العابدين، الراكعين الساجدين، علمي الهدى، الحسن ابن علي الزكي، والحسين ابن علي الأمين. اللهم صلّ وسلم على أهل التقوى، والسادة في الورى، والأئمة النجباء، أبي محمد علي ابن الحسين زين العابدين ومحمد ابن علي الباقر وجعفر ابن محمد الصادق وموسى ابن جعفر الكاظم وعلي ابن موسى الرضا ومحمد ابن علي الجواد وعلي ابن محمد الهادي والحسن ابن علي العسكري، الهداة الميامين.
اللهم صلّ وسلم على صاحب الأمر، والمغيّب للقهر، والمبشّر بالنصر، الولي التقي، محمد ابن الحسن المهدي، اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وانصره نصراً عزيزا، وافتح له فتحاً يسيرا، يا عظيم يا كريم، اللهم انصر ناصره، وسدّده وأيّده وادفع عنه، وعن جميع المؤمنين والمؤمنات، يارحمن يا رحيم.

المطلوب إيمان ذو خلفية و نفسية ثابتة
أما بعد .. فما أعظم التجارة مع الله، وما أربح مبايعته، ومبايعة رسوله صلّ الله عليه وآله وقد قال عزّ من قائل: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، يغفر لكم ذنوبكم، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة، في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها، نصر من الله وفتح قريب وبشّر المؤمنين) (الصف 10-13) وقفة قصيرة مع هذه الصفقة الرابحة، عرض وتشجيع وترغيب وتشويق لتجارة معينة. (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم؟) سؤال تشويقي فيما يظهر والله العالم، (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ؟) ما هذه التجارة؟ (تؤمنون بالله ورسوله) هم مؤمنون و المطلوب منهم والمعروض عليهم أن يؤمنوا، هم مؤمنون بالإيمان العام والمطلوب الإيمان الخاص، والمؤمنون بالإيمان الخاص الداخلون في النداء، قد توفروا على هذا المطلوب، (يؤمنون بالله ورسوله) والإيمان المطلوب بالله ورسوله هو الإيمان الذي يقف خلفية فكرية قوية وخلفية نفسية شديدة جداً لا تلين، لا تميل، لا تتزلزل وراء السلوك، وراء الموقف، ليس في الظرف السهل فقط وانما في كل الظروف، الإيمان المطلوب، إيمان متعمق متغلغل يقوم على أساس من علم، وبرهان، وفطرة سليمة سديدة صافية، يعطي للإنسان قوة الاندفاع، وقوة الفاعلية في مواجهة كل التحديات، (وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) فهو خلفية تسمح بأن يبذل الإنسان كلّ وجوده لقضية الإيمان، لقضيته، قضية الإيمان والانشداد لله عز وجل.
الجهاد و العطاء من ركائز بناء المجتمعات
(وتجاهدون في سبيل الله)، ليس في سبيل الوطن إلا أن يكون الجهاد من أجل حماية الوطن، واقعاً على طريق الله وفي سبيل الله، تجاهدون ليس لعزتكم، وانما لعزة الدين وعزتكم من عزة الدين، تجاهدون لا لأنكم شجعان و أصحاب جرأة، درّبتكم عليها التدريبات العسكرية، وانما تجاهدون ؟ لأن السبيل سبيل الله، وأن عليكم أن تجاهدوا في سبيل الله، تجاهدون مخلصين لله، ومن أجل الله سبحانه وتعالى، هذا هو المطلوب،(وتجاهدون في سبيل الله)، وهذا أصعب من مطلق الجهاد، جهاد يكون لله أصعب بكثير من أن يكون مطلقاً ويحتاج إلى معاناة نفسية وجهاد نفسي ضخم أحتاجُ إلى جهاد ضخم، لأن يكون جهادي في الخارج بالكلمة بالسيف، بالمال جهاداً في سبيل الله، وليس جهاداً من أي منطلق آخر، (وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) – وبعد النفس لا شئ – (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون). الجهاد بالأموال… بالأنفس… بالوقت…، بكل أنواع الجهاد، وتقديم النفس إلى الموت في سبيل الله، خير للفرد، خير للمجتمع، لا ينبني مجتمع آمن مستقر مهتد بدون جهاد وعطاء، ولا يكسب امرؤ جنة الخلد وهو يبخل على الله عز وجل بمال أو نفس أو ولد. إذا كنت أبخل على الله عز وجل بالدينار، أبخل على الله عز وجل بالكلمة في سبيله، أبخل على الله عز وجل بالبدن الذي هو من عطائه، بالنفس الحيوانية، فلا مكان لي في الجنة على أني في هدا الجهاد لا أخسر نفسي، لا أخسر وجودي. أنا أربح وجودي من خلال هذا الجهاد. أنا أتنازل عن حياة عابرة على مستوى متدن لأنتقل إلى حياة خالدة غزيرة وكبيرة وممتدة ووافرة الهناء.
بذل النفس تطهير للذات و فوز مخلد
(يغفر لكم ذنوبكم، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار)، ابحثوا عن هذا العطاء في الدنيا الإنسان يجاهدون في عساكر الظالمين، يعطي كل وجوده بأن يكون عميلاً لروسيا، يكون عميلاً لأمريكا، يخرج من محبة قومه، ومن صداقة أصدقائه ويخرج من علاقته بالله عز وجل، قبال ثمن زهيد من أمريكا، أو من روسيا. أما الثمن الذي يقدمه الله سبحانه وتعالى، وهو المالك – أنت لا تعطيه شيئاً من عندك، تعطيه من ماله الثمن (يغفر لكم ذنوبكم) تطهرون، مغفرة الذنب معناها أن تتحول الذات إلى ذات طاهرة، ويكفي جزاءً بأن أنظر إلى ذاتي أنها رفيعة سامية طاهرة، ينضاف إلى ذلك (ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة) – ويصفها الله سبحانه بالطيب – طيبة ليست في النظر فقط، طيبة على كل المستويات، (في جنات عدن ذلك الفوز العظيم)، جنات مقيمات، حياة مقيمة، غير متزلزلة، غير مهددة بالفناء، غير مهددة بالفقر، لا خوف، لا قلق، لا كدر، ومن أوفى من الله ذلك الفوز العظيم، (وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب) النصر جاء هنا إضافة وليس من صلب التجارة، صلب الثمن هو جنات الخلد، البيعة في الإسلام يعطي فيها العبد المكلّف كلّ شئ من وجوده ثم إن الثمن الموعود هو الجنة، ولما ذكرت الآية الكريمة هنا النصر ولخصوصية، ذكرته كلاحق ولم تذكره من صلب الثمن، (وأخرى تحبونها) وكأن الملتفت إليه هو أنكم تتشوّقون إلى النصر، وتطييباً لخواطركم تعطون النصر ولكنه ليس الثمن، والله العالم.
حذار من جهاد تشوبه عبادة الذات
فالجهاد ليس للنصر، لرضا الله. صحيح علينا أن نخطط للنصر لأن الجهاد الذي أمرنا به هو جهاد يخطط للنصر، ولنصر دين الله وليس لنصر أنفسنا، ليس لنظهر، ليس لنغذي شعورنا بالغلبة، نحن عندنا جوعة، جوعة الشعور بالنصر، جوعة الشعور بالغلبة، بالقهر، بالعزة، بالتفوق. مرة يكون الجهاد جهاداً لهذه الأمور، وهذا الجهاد فيه عبادة للذات، ومرة يكون الجهاد جهاداً لله سبحانه وتعالى، هو المأمور به. والموعود به، الجنة والنصر القريب، هو أن يكون الجهاد جهاداً في سبيل الله وليس كردة فعل نفسية.
البيعة مع الله فوز أبدي
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ) – ثلاث وثائق للبيع يوقّع الله عليها سبحانه وتعالى وعز وجل يعني يجعلها سنداً لهذا العبد ولا حجة لأحد على الله عز وجل، على أن الله لا يحتاج إلى وثائق –ِ (ٍ ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم) (التوبة – 111) ليس النصر الدنيوي هو الفوز العظيم، وليس بناء القصور، وليس فرض الإرادة. الفوز العظيم هو هذا: أن ندخل في بيعة مع الله، لا ننظر إلا ما أعطى من ثمن؛ جنته الكريمة، والأعظم في الجنة رضوانه، وجنة بلا رضوان الله، يعيش فيها الإنسان الأبد، تنعكس على الإنسان بالملل وان جملت. وما يجعلها خالية من الملل، وما يجعلها جديدة دائماً، وما يجعلها حلوة دائماً هو ذلك الشعور الكبير عند العبد المؤمن من أنه موصول برحمة الله، وأنه تحت رعاية الله، وتحت مظلة عناية الله، وأنه يرى تكريم الله له، ويرى تقدير الله له، وهذا يكفي لأن تبقى الحياة لذيذة دائماً ويبقى الأبد متدفقاً دائماً بالمسرات والحبور،

العقبة الأولى:
المؤمن دائم الأهبة
البيعة للرسول صلى الله عليه وآله: في خبر عبادة ابن الصامت (كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صل الله عليه وآله على بيعة النساء وبيعة النساء ليس فيها حرب – النساء لم يؤخذ عليهن أن يشتركن في الحرب، أن يدافعن بالسيف، في مسألة الجهاد والمعروف بأن هذا في الجهاد الابتدائي – وذلك قبل أن تفترض الحرب. مفردات البيعة وما أعطاه المسلمون يوم ذاك هو: على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا. والشرك بالله مساحاته واسعة جداً، كل مساحة من مساحات الحياة فيها شرك بالله، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا. هذه هي المفردات التي بايعت عليها النساء بايع عليها المسلمون الرجال في العقبة الأولى ومنها: (ولا نعصيه في معروف، فان وفيتم فلكم الجنة …). المراكز غير موجودة، غير موعود بها، توزيع أوسمة غير موجود، تحقيق نصر غير موجود، فلكم الجنة، تقبلون؟! أنت أيها المسلم تقبل؟! دخولك الإسلام…. دخولك جمعية إسلامية… دخولك أي نشاط، مفيد بثمن الجنة. أنت تنتظر ثواب عشرة دنانير؟ ما يسمى بالعمل التطوعي لماذا يتعطل؟ أنت بايعت الله على الجنة، المسلم يعد عدة الحرب بنفسه، يربّي فرسه، ويشتري سهمه، ويشتري السيف، ويشتري كل العدة، ويخرج لقتال المشركين، عند نداء رسول الله صل الله عليه وآله. أنت لابد أن تكون متأهباً دائماً، وفي الخط الأمام دائماً، تسمع أول نداء لنشاط ثقافي إسلامي، أول نداء بنشاط اقتصادي إسلامي، لخدمة اجتماعية على الخط الإسلامي، فتتقدم فرحاً أنت بايعت الله، بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله، على أن يكون الثمن الجنة وليس الدينار! وليس التكريم الاجتماعي أيضاً.
العقبة الثانية- والبيعة فيها تسمى بيعة الحرب:
مدرسة البيعة بذل متناه و زهد في الدنيا
قال العباس ابن عبادة ابن نضلة الأنصاري (يا معشر الخزرج.. وان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال – النهكة الضعف يعني على أن ثروتكم تذهب، على أن موقعكم الاقتصادي يهتز على نهكة الأموال، نقصها – وقتل الأشراف – القيادات الكبرى عندكم، محاوركم، رجالكم الكبار يقتلون، فضلاً عن الجندي العادي، إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه له على نهكة الأموال، نقصها وقتل الأشراف، فخذوه يعني خذوا رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة إلى صفكم – فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فأنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا قال: الجنة. فما هو الثمن؟ الجنة، أنت لماذا تأتي المسجد؟ للجنة، تذهب إلى أي جمعية من الجمعيات الإسلامية، إلى أي نشاط من الأنشطة الإسلامية للجنة، تقوم وتقعد؟ للجنة التي تعبًر عن رضوان الله سبحانه وتعالى. قالوا: أبسط يدك – رأوا في الثمن شيئاً مغرياً جداً ولم يسألوا عن مركز، موقع، وما هي القسمة التي ستأتي، وأين يكون موقع الرئيس الفلاني. لم يأت شئ من هذا قالوا ابسط يدك – فبسط يده فبايعوه) بايعوه على نقص الأموال، على قتل الأشراف، والثمن ليس إلا الجنة، و هو ثمن مؤجل.
هذه المدرسة والموقف الفاتر من عملية التبليغ ونشر الكلمة الإيمانية، والخلق الإسلامي الرفيع، أمران لا يتناسبان، فمن أراد أن يتتلمذ على هذه المدرسة، مدرسة البيعة فلا يطمعن في الدنيا، ولا يبخل بشيئً من ماله، أو نفسه، أو جهده، غفر الله لي ولكم.
اللهم انا نستهديك ونسترشدك، ونتوكل عليك، اللهم أغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، وأرحامنا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ومن أحسن إلينا، ومن علمنا علماً نافعاً من مسلم أو مسلمة، ومن عفى عن سيئة من سيئاتنا إليه ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات كافة، وارفع درجتنا عندك، وأنلنا رضوانك يا كريم يارحيم.

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الضلال مج 6 ص 3848 عن كتاب: العلم يدعو للإيمان.
[2] المصدر السابق ص 3849 عن كتاب: الله والعلم الحديث.

زر الذهاب إلى الأعلى