خطبة الجمعة (19) 20 جمادى الأولى 1422هـ – 10-8-2001 م

مواضيع الخطبة:

مشكلة الفقر – غزوة ذات الرقاع –
قنبلة هيروشيما –فتح البصرة- العمليات الإستشهادية للمقاومة الإسلامية

قنبلة هيروشيما شاهدة العدوانية التاريخية للحضارة المادية وعدوانية أميركا بالخصوص، وهذا الحادث هو في السادس من أغسطس في سنة 1945م، ومساندة إسرائيل شاهد حي على العدوانية الحاضرة لهما

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي خلق العباد وقدّر أقواتهم وأوجد أرزاقهم وهداهم إلى سبل العيش ، وطرائق الحياة ، وحث على السعي والعمل ، وذم الخمول والكسل ، وأمر بالعدل والإحسان ، وحرّم البغي والعدوان . أشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له ،بإذنه تقوم السماوات والأرض ، ويكون الموت والحياة . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله جاء من عند ربه بالنظام الأكمل والشريعة الأتم ، والدين الباقي ، والمنهج الساري .صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين .عباد الله اتقوا اله وتزودوا من أولاكم لأخراكم ، فما الأولى إلا ممّر ، والآخرة هي المقر ، وكل ما نبنيه للدنيا ينهدم وما كان لغير الله فان ، وما كان لله يبقى ، ولا يأتي عليه زوال . أنفع ما ينفع من حيث الدنيا هو ما أصلح البدن وبناه ، وما ذاق به المتعة ، واستوفى به اللذة ، وكل متعة للجسد عابرة ، وكل لذ ائذه منتهية ، والجسد نفسه إلى رميم . فلا يستكثرن امرؤ ما أعطى في سبيل الله ، ولا يخدعنّك الشيطان فتمن على الله عز وجل أن أعطاك ووفقك للطاعة ووضع النعمة موضعها ، فقضيت حاجة فقير مسكين ، أو مسحت دمعة يتيم ، أو فرج الله بك عن مكروب وشفى سقيماً من سقمه . ورفع عن مهمومٍ همه .
أيها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات : أتحدّث عن الفقر حديثاً قصيراً مما يتسع له هذا الوقت القليل في ضوء البعض من نصوص غفيرة تخص هذا الموضوع في مصادر الحديث .
1 – الفقر يجافي الإيمان ويقرب الكفر ، والإسلام لا يُقرّ الكفر ويواجهه .
(( كاد الفقر أن يكون كفراً )) ، (( لو لا رحمة ربي على فقراء أمتّي كاد الفقر أن يكون كفراً )) ..
وكيف يكاد الفقر أن يكون كفرا ؟؟
إنه مدخلٌ لسوء الظن بالله تعالى ، مدخلٌ للشيطان ، ومدخلٌ للنفس الأمارة بالسوء ، يدخلان منه على ذات الإنسان ، يؤثران على فطرته يغطيان وعي عقله ، ينسيانه نعم ربه فلا يرى من الله عز وجل إلا تضيقا ، ولا يرى من الله سبحانه وتعالى إلا شدة ، ولا يرى من الله سبحانه وتعالى إلا شحّا ..وهو كفر ، وقد يرتقي الأمر عن ذلك وهو عظيم ، بأن ينكر وجود الله سبحانه وتعالى بعد أن تسقط عدالته سبحانه وتعالى في نفسه ..
هذا إلى حقدٍ وغلٍ دفينين يثيران في المجتمع الفتن ، وإلى حسدٍ يشعل النفس ويحرقها ، وإلى مشغلةٍ تلهيه إن لم يكفر عن دين الله ، وعن الاهتمام بواجباته ، وعن السعي إلى تكميل ذاته ، فالفقر كاد أن يكون كفرا ..ولولا رحمةُ من الله عز وجل تنقذ عدداً من الفقراء من الأمة الإسلامية لعاشوا هذا الكفر ولتغلغل في نفوسهم ، ولكن من رحمة الله ما يأتي على القلوب المؤمنة ، ما يلّطف أجواءها ، ما ينقذها من وسوسة النفس الأمارة بالسوء وكيد الشيطان .
2- إنه يقزّم الذات ويلغي الدور الكبير للإنسان :
(( إن الفقر مذهلةٌ للنفس ، مدهشةٌ للعقل ، جالبٌ للهموم )) … لا يتيح للنفس أن تأنس ، أن تفرح ، أن تنفتح على الحياة ، على ما في الحياة من مراءٍ جميلة ، وما فيها من مناظر حلوة ، إنه السبب على النفس بالمساءة ، ويجعلها تعيش الظلمة ، وينسيها لذة الحياة ، يمتلك على الإنسان وعيه ، عقله ، تفكيره يلفهُ بالهموم والمأساة ، ويأسرهُ للمشاعر السوداء ، إنه الكآبة .. إنه البؤس .. إنه الشقاء ..
إذا كان الإسلامُ يرى الفقر بهذه المنزلة فهل ترى من الإسلام أن يترك الفقر ؟ أن يسكت عليه ؟ أن يتفرج على مأساة الفقراء ؟ أن يقف مكتوف اليد أمام بغي الأغنياء ؟ …أترى من النظام الإسلامي العادل ، أترى من رب العباد تعالى أن يهمل نظامٌ منه عباده هذا الإهمال ؟
على المستوى التكويني أوجد الله سبحانه وتعالى هذه الأرض ، وأودع فيها ما يكفي الحياة ، ليست حياة الإنسان فقط ، وإنما كل شيءٍ يدب على الأرض ، ولم يوّسع في الخيرات بقدرٍ يُغرقُ الإنسان إغراقا حكمةً منه ، ولأن الحياة حياة ابتلاء وحياة تربية ومدرسة تخرّيج الإنسان من خلال الكد والكدح في ذات الله .
جاءت الثروات الأرضية ، تكافئ مستوى البشرية مع عدلٍ للقوي بالنسبة للضعيف ، ومن الغني بالنسبة للفقير ، وفي ذلك امتحانٌ للطرفين ، وحتى تتم التجربة البشرية على الأرض في وضعٍ مناسب ، وليس من فقرٍ لله سبحانه ولا شحٍ منه سبحانه وتعالى أن يجوع فقير ، ولا تهن عظام ضعيف ، وإنما هي مدرسة حياة مدرسة الابتلاء مدرسة الامتحان التي تخرّج للجنة أفواجا ، وللنار قوافل وأفواجا ..
هذا على المستوى التكويني ، أما على المستوى النظام التشريعي ، فالدارسون للإسلام يجدون منه نظاماً اقتصادياً متكاملاً ، في وسطٍ من نظام شامل يهيئ الأرضية الكافية لنجاح هذا النظام الاقتصادي العادل ..
لفتةُ نظرٍ للنظام الإسلامي الجزئي ، سواء أن كان نظاماً اقتصاديا أو نظاماً اجتماعياً ، أو نظاماً سياسياً ، أو أي نظام تفصيليٍ آخر .. كل هذه الأنظمة لا تعمل على درب غايتها ، ولا تبلغ بغيتها مفصولةً عن وسطها الذي يشكله النظام الإسلامي العام الشامل الذي يبدأ من جذر العقيدة حتى ينتهي إلى كل مسألةٍ تفصيلية من مسائل الحياة والإنسان ينظمها بما يصلحها ..
لا نرتقب النجاح الكامل للنظام الاقتصادي الإسلامي ( مثلاً ) في وسطٍ من تربيةٍ كافرة ، في وسطٍ من فلسفةٍ كافرةٍ توجّه الحياة ، في وسطٍ من نظامٍ اجتماعي كافر ، في وسطٍ من نظامٍ سياسي وضعي .. أنت لا تستطيع أن تقتطع النظام الاقتصادي الإسلامي لتعطيه النجاح الكامل الذي يستطيعه عندما تقتطع هذا النظام وتفصله عن أرضيته التي يشكلها النظام العام الإسلامي وتأخذ به إلى الوسط الأمريكي ..إلى الوسط الأوربي .. إلى الوسط الروسي .. إلى الوسط التربوي .. إلى الوسط الفلسفي …الوسط الشعوري .. الوسط الاجتماعي .. الوسط الخلقي المتردي .. هناك لن تستطيع أن تحقق للنظام الإسلامي الاقتصادي نتائجه وثمراته ..
يعطي النظام الاقتصادي الإسلامي ضمانة مائة في المائة أن يحلّ مشكلة الحياة من ناحيةٍ اقتصادية ، ويساهم في تربية الإنسان تربيةً صالحةً بدرجة عالية ، لو طُبقَ في وسطٍ من النظام العام الإسلامي ، وهكذا هو حال النظام السياسي والنظام الاجتماعي وكل نظامٍ آخر من الأنظمة التفصيلية الإسلامية ..
عن أمير المؤمنين عليه السلام : (( يا بني الفقير حقير لا ُيسمع كلامه ، ولا يعرف مقامه ، ولو كان الفقير صادقاً يسمّونه كاذباً ، ولو كان الفقير زاهداً يسمّونه جاهلاً )) ..
.. (( يا بني الفقير حقير لا ُيسمع كلامه ..)) ليس حقيراً في ذاته وإنما حقيرٌ بنظر المجتمع الجائر في نظرته الذي يقف عند السطحيات ولا يصل إلى اللباب ، ولا ينظر إلى الذات الإنسانية في صفائها ونقاوتها ، إنما يقف عند حد السطح لينظر إلى الثوب الخَلِق ، إلى البشرة المتجعدة ، إلى اللون المغبر ..
.. (( يا بني الفقير حقير لا ُيسمع كلامه ..)) والإسلام لا يريد لأحدٍ أن يكون حقيرا ..(( ولا يعرف مقامه.. )) قد يكون العالم الكبير الفذ ، وهناك علماء كانوا على الأرض وكان لهم شأنٌ كبير إلا أن وضعهم الاقتصادي أخرّهم في نظر المجتمع وحتى في أوساطٍ علمائية ..
((.. ولو كان الفقير صادقاً يسمّونه كاذباً ، ولو كان الفقير زاهداً يسمّونه جاهلاً )) وما أحرص الإسلام على الشخصية الإنسانية وسلامتها ، وموقعها في مجتمعها لتنمو وتعطي ، فهو يعادي هذه النظرة ويعادي أساسها وهو الفقر الذي يبتلي به فئةٌ من الناس ..
3- كيف يواجه الإسلام الفقر ؟؟
طبعاً لسنا هنا لنبحث نظاماً اقتصادياً متكاملاً ..
أ – على المستوى النفسي ..
لا نجعل الفقر يسطو على ذواتنا ..قد نبتلي بالفقر والإسلام يحرص على ألاّ نعطي للفقر بأن يسطو على ذواتنا يؤثر عليها سلباً ، يحولها إلى لا شيء .
(( لا مال أذهب بالفاقة من الرضا بالقوت ، الصبر جُنّةٌ من الفاقة )) .. فنتعلم كيف نرضى بمستوانا لا نقف عنده ، هناك بعدان : بُعد أن اسخط على نفسي ، أن احتقر نفسي ، أن ارمي نفسي بالدونية لفقري ..
بعدٌ آخر أن أتعطّل عن العمل أن أقنع بالمستوى فلا أتحرّك ، قناعةً عمليةً بحيث تمنعني من التحرّك لتحسين مستواي .. الثاني مرفوض ، الأول مطلوب ..
الصبر جنةٌ من الفاقة ، الفاقة التي تسطو على النفس ، التي تذوي بكرامة النفس ، التي تذهب بمتانة النفس ..الصبرُ في جنبةٍ منه قد يكون جنةً من الفقر الخارجي – وهذا يحتاج إلى شرح – ، وفي جنبةٍ منه أكيدة هو وقايةٌ وجنةٌ من الفقر الداخلي ، من الشعور السلبي الانهزامي ، الشعور الإحتقاري الذي يسحق الفقر .
( إظهار الحرص يورث الفقر ، الحرصُ مفقره )… هذا الشره ، هذا الارتباط الشديد بالأشياء الدنيا ، الارتماء في أحضان زينتها ، فقدان الشعور ..بالذات .. الشعور بالأصالة .. الشعور بالكرامة .. الشعور بالإنسانية .. أمام شهوات الدنيا ، التعلق الشديد بشهوات الدنيا أن ترى نفسك صغيراً بدون الشهوات ، أن ترى نفسك كبيراً بالشهوات مصيبة النفس وكارثتها والعاصف الذي يأتي على كل شيءٍ مما يعطيها الكرامة ..
– – (( أقلل من الشهوات يسهل عليك الفقر )).. الذي لم يعتد إلا الفراش الناعم ، إلا أطيب المأكل والمشرب ، إلا أعلى القصور ، إلا أعلى المراتب ، تتحول حياته إلى كارثةٍ ساحقة لذاته إذا قلّ مستواه ..أما الذي تعلّم جشوبة العيش ، أما الذي تزّهد ، أما الذي اقتنع بالذي هو أقل فماذا يهمه من ظرف الفقر الذي يفقده القصر ، ويفقده الثوب الناعم ، ويفقده المأكل الطيب ، إنه يجد في التمرة واللبن ما يكفي ، في القرص اليابس ما يغني ..ماذا يؤثر ظرف الفقر على نفس أمير المؤمنين عليه السلام ، لا بل على نفس أبي ذر الغفاري ؟؟ أولئك نفرٌ لا يستطيع الفقر أن يتحداهم .. أما الذين يغرقون في النعم ، ويستسلمون للشهوات فيكبر يوم مصيبتهم إذا قل ما في اليد ..
ب- على مستوى الموقع الاجتماعي ..
(( من أظهر فقره أذلّ قدره )).. ألم تتقدم الكلمات التي تشير إلى أن المجتمع لا يرحم الفقير ، ولا ينظر إليه إلا في موضع السخرية ، ما لك تضع نفسك موضع السخرية ؟ ما لك تضع نفسك في الموضع الذي يستهزأ به ؟ حاول أن تتستر على فقرك ما استطعت لئلا ترتكب خسارتين : خسارة المال ، وما هو أفدح خسارة الذات في موقعها الاجتماعي
(( العفاف زينة الفقر ))… أن يتعفف ، لا يظهر عليه مظهر الفقر أن يحتفظ بتوازنه ، بوقاره ، بحيث لا يظهر عليه مظهرٌ من مظاهر الفقر ما استطاع ..

جـ – على المستوى الوقائي :
(( إن الأشياء لما ازدوجت ، ازدوج الكسل والعجز فنتج منها الفقر )) … فحذار يا شباب الأمة من الكسل ومن التخلف عن العمل ، ابحثوا ما استطعتم عن أدنى فرصة من فرص العمل ..
لن يهلك من اقتصد ولن يفتقر من زهد ..وهذا موضوعٌ مستقلٌ ويرتبط بمعاناةٍ ومأساة يثيرها تصرف إخواننا المؤمنين والمؤمنات في المال ، وهو تصرفٌ في الكثير ..الكثير غير رشيد ومع الأسف ..
نحن نفتقد إلى الرشد المالي إلى أقصى حد ، فالكافر والوثني في اليابان وفي الصين أرشد منا مليون مرة في التصرف المالي – أقولها مستعجلا – ..
… لن يهلك من اقتصد ولن يفتقر من زهد .. ما لك وراتبك 700 دينار تتحول إلى فقير مدقع ؟ حين تصرّ على أكبر البيوت وأبذخها ، حين تجاري الكبار الأغنياء جداً في مستوى البيت وأنت لا زلت على عتبة الزواج ..الموضوع يحتاج إلى شرحٍ كثير .. لن يهلك من اقتصد ولن يفتقر من زهد …
د – علاقات غيبية بين الفقر وأمور أخرى ..
(( داووا الفقر بالصدقة والبذل ))..نحن ندرك العلاقة بين العمل وبين الغنى ، بين الكسل وبين الفقر ، لكنا قد لا ندرك العلاقة بين الصدقة واليسار .. وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ..
داوو الفقر بالصدقة والبذل .. ونحن مؤمنون نؤمن بأن قوانين الله اكبر من القوانين التي نرى ، ونؤمن أن قدرة الله تحكم القوانين وليس أن القوانين تحكم قدرة الله ..
(( صلة الرحم تزيد في العمر وتنفي الفقر ))…
(( من ألّح عليه الفقر فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ))..يدواي به نفسه وقد يصلح بها شأنه الخارجي أيضاً ..
وربط نص بين اليمين الفاجرة والفقر ، وبين الزنا والفقر ، وبين كثرة الاستماع إلى الغناء والفقر ..
أما الفقر على مستوى الظاهرة الاجتماعية فقد واجهها الإسلام بنظام اقتصادي كامل .. يقول عليه أفضل الصلاة والسلام فيما روي عنه أمير المؤمنين : (( لو تمثل الفقر رجلاً لقتلته )) أمير المؤمنين الحاكم قالها في موقع الحكم أو قالها في غير موقع الحكم فهو صلوات الله وسلامه عليه لا يتخلى عنها في موقع الحكم ، إنه يأخذ على نفسه أن يقاتل الفقر وأن يواجه مشكلة الفقر من الجذور وأن يلاحقها ويطاردها من خلال تطبيقٍ دقيق لنظام إلهي عادل وأمير المؤمنين وغيره ممن يحكمون بالإسلام لا يحتاجون في مطاردة الفقر واستئصاله إلا إلى العمل بأحكام الله عز وجل والأخذ بدقائق نظامه علاقات اقتصادية عادلة ونظام تربوي ونظام عقيدي ونظام سياسي ونظام اجتماعي ونظم تفصيلية أخرى كلها تعالج المشكلة الاقتصادية كما أن النظام الاقتصادي يكمل النظام السياسي والنظام الاجتماعي وأي نظام آخر من نظم الإسلام في سعيها في القضاء على مشكلات الإنسان .
المسألة تبدأ من توزيع الثروات الأولية ، ويتابع العدل الإلهي المسيرة الاقتصادية وفي التوزيع الناتج بحيث يلاحق مشكلة الفقر واسباب هذه المشكلة من أول الطريق إلى آخره ليقطع على الجشع أن يكبر الثروة في أيدي قليلة ويفقر أيدي الملايين .
اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ومن يعنينا أمره ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ، وادفع عنا فقر الدنيا والآخرة وذل الدنيا والآخرة ، اجعلنا ممن لا يقدم الغنى في معصيتك على الفقر في طاعتك ، ولا يرضى عن غنى الآخرة بغنى الدنيا ، واجعل لنا عزاً بك لا يثلم في كل الأحوال يا عزيز يا كريم ..
بسم الله الرحمن الرحيم تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)

الخطبة الثانية

الحمد لله المبدء المعيد، الذي أنشئ الخلائق بقدرته مبتدئا، وأوجد نظام الأشياء مبتدعا، لا ينقطع ابداعه، ولا ينتهي إحيائه، صنعه دائم، وتدبيره قائم، وتصرفه في الخلق مشهود، وتقليبه للأحوال مستمر.
أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، قيومٌ قدير، حيٌ لا يموت، غنيٌ لا يفتقر. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله رحمةً للعالمين، وهدىً للمتقين، ونذيراً للعاصين، وبشيراً للمطيعين، صلى الله عليه وآله الميامين.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله، والرغبة فيما رغب فيه، والزهد فيما زهد عنه، فما رغب فيما رغب فيه لحاجة منه إليه، وما زهد عن ما زهد فيه من ضيقٍ في ملكه، أو شح على عباده، وإنما الأمر منه رعايةً لمصالح العباد، والنهي ذرءٌ للمفاسد عنهم.
اللهم صل وسلم على المرجوّ بفضلك للشفاعة، ومن أوجبت له الطاعة، عبدك ورسولك الأمين، محمدٍ خاتم المرسلين.
اللهم صل وسلم على من حبوته ميراث علم الكتاب من نبيك، ورضيته للناس إماما، وأتممت الإسلام بإمامته إتماما، عبدك ووليك، منارة الهدى، علي بن أبي طالب المرتضى.
اللهم صل وسلم على بنت الرسول المختار، وأم الأئمة الأطهار، مشكاة الأنوار، الصديقة الكبرى، فاطمة الزهراء.
اللهم صل وسلم على من حبهما نعمة، واتباعهما جُنّة، ورضاهما جَنّة، الرضيين الزكيين، أبي محمد الحسن وأبي عبدالله الحسين.اللهم صل وسلم على أنوار الإسلام، والقادة الكرام، علي بن الحسين السجاد ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري عليهم السلام.
اللهم صل وسلم على بقية الله في الأرض، المستتر خوفا، الموعود بالنصر حقا، المظهر للدين صدقا، ناشر العدل وكاشف الكرب الإمام الولي محمد بن الحسن المهدي.اللهم آمن خوفه، وعجل نصره، وأظهره على عدوه، وأثلج صدور المؤمنين المنطلقة المتطلعة إلى قدومه، يا أكرم الأكرمين. اللهم من كان في نصره تقريبٌ لفرجه فانصره، ومن كان نصره عائقاً عن ظهوره فاخذله، يا من بيده الأمر كله، وهو على كل شيء قدير.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولكل مؤمن ومؤمنة، واجعلنا لا نبتغي عنك بدلا، ولا نرضى عنك متحولا، وادفع عنا وعافنا واعفوا عنا، وسلم لنا أمور ديننا ودنيانا، يا خير من آوى إليه طريد، ويا خير مسؤول ومجيب.
أيها الأخوة والأخوات من المؤمنين والمؤمنات، هنا أكثر من وقفة سريعة مع بعض القضايا والمناسبات، غزوة ذات الرقاع زمنها جمادى الأولى من السنة الرابعة الهجرية، كان التوجه فيها إلى نجد، لمحاربة بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، سميت ذات الرقاع باسم الجبل الذي وقع عنده التقارب، أو لأنهم أي جند الإسلام وضعوا على أقدامهم رقاعاً بسبب الحجارة التي أوهنت أقدامهم، عندما تقارب الطرفان وتلاقيا، طرف المسلمين وطرف المشركين، خاف الناس بعضهم بعضا، جيش الشرك خاف من جيش الإسلام، وجيش الإسلام خاف من جيش الكفر، فلم تقع حرب، وصلى رسول الله صلى الله عليه وآله بالمسلمين صلاة الخوف وقفل بهم راجعين. أمامنا أن هذه الغزوة لم تكد تكون قد حققت شيئاً من أهدافها العسكرية إلا بمستوىً محدود، فحروب الإسلام، وفي ظل أكبر قيادة قد تتعرض حتى للهزيمة، الحروب التي قادها رسول الله صلى الله عليه وآله القيادة المعصومة أكبر قيادة تتصور في الأرض، قد تعرت أحياناً للهزيمة، والمقطوع به أن ليس من سبب الهزيمة لنقص في القيادة دخل فيه أبدا، فالقيادة كاملة، فعنصر القيادة عنصر متوفر بأكمل صورة، ومع ذلك تقع الهزيمة في الجيش المسلم ويحصل التراجع، ويحصل الخوف كما تحدثنا غزوة ذات الرقاع، ولكن لا الهزيمة ولا النصر يوقفان الحركة، فلا يأس مع الهزيمة، ولا استرخاء مع النصر، وهذا درس يجب أن تتعلمه الأمة دائماً، والذين يتوقعون في حركتهم النصر دائماً يتوقفون عند أول هزيمة، والذين ينعشهم النصر إلى حد الشعور بالكبرياء، وحد الشعور بتحقيق الغاية، أيضاً يقفون وبينهم وبين الغاية مسافات، فلا الهزيمة توقف المؤمن، ولا النصر يستوقفه ليجمده، إنما هي الحركة الدؤوب، والتجربة على الأرض تكبو مرة، وتقوم أخرى، وهو كد وكدح وكفاح ولا بد منه في تجربة الدنيا التي هي تجربة للابتلاء والامتحان، وليس من الحكمة الإلهية في واضح العقل أن يتحقق النصر في كل مرة لجيوش المسلمين وإلا لأصيب هذا الإنسان بالغرور لأنه يبقى إنسانا، لو كان النصر حليف جيوش المسلمين دائماً لاستقطب الإسلام كل الناس ولدخل عنصر ما يشبه القهر في تكوين العقيدة وتكوين العقيدة والدخول تحت راية الإسلام إنما ترك لخيار الإنسان للاختيار عند الإنسان، مواقف الضعف البشري الذي سجلت غزوة ذات الرقاع واحداً منها توضح أن الإسلام لم ينتصر بأناس يختلفون كاملاً عن الناس اليوم فيما يعتورهم من شعور القوة والضعف والعزيمة والوهن والتردد، إذاً فلنقبل الواقع، وحين نجد ضعفاً في البعض أو لحظة من الضعف تعتري الأكثر فإن هذا لا يعني مثبطاً عن الحركة، ولا يعني أن المسلمين غير قادرين على تحقيق النصر، الذين حققوا الانتصارات الكبيرة في صدر الإسلام، كانوا أناساً يعيشون ما نعيشه من شعور القوة والضعف، ومن شعور العزيمة والوهم، ومن الثقة المتجدرة ومن اهتزاز الثقة كل ذلك قد يحصل وكل ذلك يقبل العلاج في ظل قيادةٍ حكيمةٍ مختارة، وأكبر القيادة ما اختارها الله سبحانه وتعالى. وفي ظل تجربة مستمرة لا تتوقف تنمو من خلالها الإرادة وينمو من خلالها الوعي ويتثبت الصبر، وتشتد قوى البدن والروح والنفس، أما الوقوف، أما الخمول والكسل، فمن شأنه أن تذبل معه كل قوى الإنسان، فكانت تربيهم وتقويهم تجارب وتوجيهات القيادة الحكيمة وما ورائها من تسديد رباني وتوجيه. في هذه الغزوة ينقل التاريخ أن مشركاً أسر أحد المسلمين زوجه، فأخذ على نفسه أن يتبع المسلمين حتى يسفك منهم دما، وقد كان المسلمين في أحد مواقعهم قام فيهم رجلان يحرسانهم ليلا بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله، يتناوبان الحراسة بينهما، كما هذا منقول تاريخياً، وكان المناوب مشتغلاً بالصلاة، فصوب ذلك المشرك سهامه إليه، وكان كلما نفذ أحدها فيه نزعه مواصلاً صلاته، يأتيه السهم بعد الآخر، ينفذ في بدنه، يستله، يواصل صلاة صابرا، حتى ركع وربما لخوفٍ على المسلم الآخر، وعلى الجماعة المسلمة التي كانت تغط في الرقاد، أيقظه فسأله صاحبه: ولما تأخرت إلى هذا الحد؟؟ فكان جوابه: أنه لولا خوف تفريطه فيما كلف به من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله لما تخلى عن صلاته حتى ينهيها على تلك الحال. هذا واحدٌ من الجيش الذين خافوا عند الملاقاة، وهنا نعرف أن صلابة البعض وثباته، لا يحقق وحده النصر العام في كثير من الأحيان، نعم تحقق نصر على يد شجاعة وبطولة واحدة في مواقف لأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام، كما في مواجهته لمرحب بن عبد ود، وإنما النصر العام يحتاج إلى إعداد عام واسع، وصلابة من تيار في الأمة كبير، فحين تكون قلة، تجد من نفسها التوفر على الشجاعة فيما تظن بنفسها، وعلى اليقين، وعلى القدرة على مواصلة الدرب إلى الأخير، فلا يغرنها هذا فإنها وحدها إذا كانت قليلة، لا تحقق النصر العام وإنما تحتاج إلى وعي عام في أوساط الأمة، يسند ويرفد ويعطي وقودا، ويعطي مددا.
تمر ذكرى فتح البصرة على يد أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الشهر وفي معركة الجمل، وتعامل أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الفتح دروس – أقرأ بسرعة لمضايقة الوقت – توجيهات بعد الفتح ودخول البصرة لا تهتكن سترا – يخاطب الرجال – ولا تدخلن دارا، ولا تهيجن امرأة بأذى، وإن شتمن أعراضكم وسفهن أمراءكم وصلحائكم، فإنهن ضعاف، ولقد كنا نؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات تحتاج الحروب الإسلامية الداخلية إلى أدب من أدب أمير المؤمنين إلى خلق من خلقه، إلى تقوى من تقواه.
ابن الأثير في الكامل وكان مذهبه – أي أمير المؤمنين عليه السلام – أن لا يقتل مدبرا، ولا يذفذف على جريح، ولا يكشف سترا، ولا يأخذ مالا، ولنتذكر بعض حروب المنطقة وما كان فيها من الاعتداء الصارخ الفاضح على الأعراض والأموال والبيئة، اختلاف الكبار من أصحاب المواقع الدينية فتنة كبرى، وهذا بما يزيد في مسئوليتهم لكبح شهوة الجاه والموقع في نفوسهم.
الزبير وطلحة، وسوقهما أم المؤمنين إلى مواجهة أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام، وما كان وراءه من مطامع الدنيا، لو كان المتحرك إنسان معروف بالفسق، مشهور بارتكاب المحرمات، ساقط الشأن، ما كانت كارثة. لكن لأن المتحرك طلحة ولأن المتحرك الزبير، ولأن عدد المتحركين معهم من أصحاب اللحى الطويلة وجباههم ربما كانت سودا، وتقوى ظاهرية، هنا كانت الكارثة وهنا كان افتراق المسلمين إلى تيارين عظيمين يستبيح كل منهما أن يقتل الآخر وهو يطلب الجنة، فلنتقي الله، فئة العلماء فلتتقي الله، فلتتقي الله يا فئة العلماء في الناس في جمهور المؤمنين.
التحالفات الدنيوية لا تكون إلا مؤقتة، وهي تحمل بذور تفجرها منذ ولادتها هكذا ما عناه بعض أصحاب جيش الجمل وهو يعلق على العلاقة بين طلحة والزبير وأنهما لا يفرغا من قتال أمير المؤمنين عليه السلام لو كان معهم النصر، حتى يدخلا في مواجهة بينهما اقتتالاً على الخلافة.
أيهما النصر وأيهما الاجتهاد؟؟ وقفت أم المؤمنين عائشة موقفاً في مواجهة أمير المؤمنين عليه السلام، واعتذرت أم سلمة لأمير المؤمنين عليه السلام من أن تخرج معهم بكون ذلك محرما، الخروج ترك وقار البيت منها بعد وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد حديث نبح كلاب الحوأب، هذان الأمران سجلا حرمة واضحة في نظر أم سلمة من خلال النص، عليها أن تخرج حتى في نصرة الإسلام المؤكدة، ومع القيادة الشرعية المعصومة، وكانت تستل في موقفها إلى النصر، فتعتذر إلى أمير المؤمنين عليه السلام بالحرمة، وبأنه هو عليه السلام لا يرضى، أما عائشة فلربما كان ذلك اجتهاد منها أن وافقت طلحة والزبير، ولكنه الإجتهاد الذي اصطدم بنبح كلاب الحوأب، ومصيبة كبرى أن يواجه الإجتهاد النصر أمس واليوم،
قنبلة هيروشيما شاهدة العدوانية التاريخية للحضارة المادية وعدوانية أميركا بالخصوص، وهذا الحادث هو في السادس من أغسطس في سنة 1945م، ومساندة إسرائيل شاهد حي على العدوانية الحاضرة لهما، للحضارة المادية ولأميركا، مساندة إسرائيل في التنكيل بالفلسطينيين في العدوانية الشرسة على فلسطين، شاهد حاضر حي على فشل الحضارة المادية بأكملها، ومن حقه أن يعطي في نفوس شباب المسلمين قناعة بعدم متابعة هذه الحضارة، وهو شاهد صارخ على أن الأرض لا تصلح ما دامت أمريكا وحضارة المادية التي تمثلها حاكمة وقائمة.
العمليات الإستشهادية الكبرى وبارك الله للمجاهدين الإسلاميين في انتصاراتهم، وفي ضرباتهم القاسمة للعدو الإسرائيلي الصهيوني، وبارك الله لهم هذا الثبات والإقدام على خط الإسلام ومن وحي التوق إلى الجنة، هذه المواقف شاهد صارخ من جهة أخرى على أن المتعهد عملياً وحقاً وصدقاً بمواجهة إسرائيل، ومن خلال أبناء الإسلام المؤمنين به هو الإسلام وحده، الإسلام هو المتعهد الوحيد الصادق بتسجيل أكبر هزيمة على إسرائيل بل بسحق إسرائيل سحقاً نهائياً إن شاء الله وبارك الله لكل حركة ولكل مسيرة ولكل مظاهرة ولكل كلمة صادقة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر تواجه صدف إسرائيل واستكبار إسرائيل وتستنكره، الناس صنفان في كل مكان: مسرور لسيادة القيم والعفة والخلق النزيه، وهلع مكروث لذلك، ونلاحظ الصحافة كل الصحافة صحافة العالم العربي تجدون أن هناك من يهلع ومن يتوقع سقوط السماء على الأرضٍ، لماذا؟؟ لأن الإسلاميين على طريق الظهور وعلى طريق أن تنفسح أمامهم أجواء لأن يقولوا كلمة، فتنتشر العفة وتخف مظاهر الخزي والعار والتعري، وتطوي الفحشاء من الساحة العلنية بعض ذيولها. هذا تعتبره الصحافة كارثة ونذير خطر شديد، ونحن من منطلقنا الإسلامي نعتبره كما هو الحق رحمة من رحمة الله سبحانه وتعالى للأمة والإنسانية جمعاء.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا وأخواتنا في الإيمان، وانصر الإسلام وأهله واخذل الكفر وأهله، وأذق الصهاينة مر الذل والهوان والهزيمة الساحقة يا قوي يا عزيز.

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون

زر الذهاب إلى الأعلى