مقال آية الله قاسم: الحلقة الثالثة : الوحدة والطريق لها

الوحدة والطريق لها
      وحدة الأمَّة بل وحدة المجتمع البشري هدف واضح للدِّين الإسلاميّ ورسول الإسلام (صلَّى الله عليه وآله)، والنوع البشري في تكوينه ومشتركه الإنساني أمَّة واحدة، وما تفرق هذه الأمَّة الواحدة إلى أمم إلَّا اختلافها في المناهج التي اختارتها لحكم حياتها وإقامة كيانها الإجتماعي ووحدة هذا المجتمع فتباينت بذلك هوياتها السطحية وبقيت في تكوينها الأصل ومشتركها الإنساني حسب الخلقة أمَّة واحدة ولو أخذت كلّها بمنهج الله الحقّ وتركت عصبيتها والانسياق وراء رغبات مستكبريها لكانت أمَّة واحدة موحّدة تحت راية الإسلام في وضعها الإجتماعي والشعور الحيّ البارز والقوي لكلّ مكوّناتها وأفرادها.

      وفيما يفهم من الآية الكريمة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (92/الأنبياء) بمساعدة قرينة السياق الذي منه ما تقوله الآية التالية لها وهي {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ}(93/الأنبياء). وهي قرينة واضحة أنّ الأمَّة في المعنى المقصود في الآية هي الأمَّة المتكوّنة من النوع الإنساني من حيث وحدته النوعية واشتراكه الخلقي فيما يجعله أمَّة واحدة لا تصلح أبعاضها بمناهج متضاربة وإنّما صلاحها متوقف على أن تتمحور كلّها حول منهج واحد من جعل خالقها العليم بكلّ خفاياها وكلّ ما يصلحها ويفسدها.

      فهي بلحاظ وحدتها النوعية وجامعها الإنساني وما يتقوم به أمَّة واحدة وليست أمماً متفرقة، وأن تقطيعها لأمر الدِّين الحقّ الواحد أو تقطعها في الدِّين من حيث أنها تفرقت جماعات كلّ جماعة أخذت ديناً خاصّاً بها ومنهجاً آخر لحياتها وإن تنافى مع الدِّين الحقّ وهو ليس إلَّا دين واحد في الحقّ جاء من عند الربّ الواحد ربّ الجميع إلى النوع الواحد الذي لا صلاح له إلَّا بهذا الحقّ، والمنهج الحقيق بالاتباع.

      ومن تقطعوا أمرهم، وتشتت الأكثر منهم عن الدِّين ليسوا هم الرسل والأنبياء وإنما سائر النّاس من دونهم ودون أئمة الحقّ الذين ارتضاهم، ومن كان وصيَّاً من أوصياء الرسل فهؤلاء كلّهم ليسوا من تقطعوا أمرهم بينهم وإنما بقوا على خط الله ودينه لا يرضون عنه بدلاً ولا تحولاً.

      فمن ذهب إلى أن الأمَّة المعني بها جماعة الرسل الذين جاء ذكرهم قبل الآية القرينة على رأيه.

      ولا جدال في أن الإسلام يعتبر الإنسانية بكلّ أقوامها وقومياتها واختلافاتها السطحية هي أمَّة واحدة بوحدتها النوعية، وهي ترجع في كلّ أمرها إلى ربّ واحد هو الله سبحانه وأب واحد وأم واحدة هما آدم عليه السلام وحواء، ولأن الإنسانية أمَّة واحدة جاءت رسالة الإسلام لها جميعاً، وجاء الرسول الواحد محمد صلّى الله عليه وآله في شخصه ومنهجه ودينه وهدف هذا الدِّين إليها جميعاً وذلك بلحاظ وحدتها الطبيعية في تكوينها وغاية حياتها وما يصلحها أو يفسدها ممّا يتطلّب وحدة الهدف الذي يجب أن تتحرك حياة النّاس جميعاً في خطّه، وتكرّس جهودها كلّها من أجل الوصول إليه.

      وغاية حياة الإنسان واحدة لا أكثر كما هو مقتضى واقع الوحدة في نوعيّته، وهي كذلك واحدة بلا تعدّد في النظر المتطابق بحسب هذه النوعيّة، وبحسب ما عليه الدِّين الحقّ الذي جاء من عند الله سبحانه ودعا إليه كلّ رسله وأنبيائه. والمنهجُ الموصلُ إليها منهج واحد لا غير، وهو المنهج الإلهي المتنزل بتمامه وأكمل مراحله في جانبه التشريعي والتي كانت متماشية في تدرّجها مع مراحل النموّ البشري والحضارة البشرية وتطورهما.

      ولذا فالحقّ : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (19/آل عمران).

– الطريق إلى الوحدة والحفاظ عليها:

      من ناحية عملية الطريق إلى الوحدة أحد أمرين. طريق خطأ وطريق صواب.

      الطريق الأول والمأخوذ به جهلاً وعصبيّة وبوحي الطاغوتيّة المتحكمة في بعض النفوس طريق الإكراه والعنف وإعمال السيف في رقاب النّاس للإجبار على عقيدة واحدة ومنهج واحد هو الذي يراه أصحاب هذه النفوس التي قد تكون من أهل هذا الدِّين أو ذاك، وهذا النوع من الطرح أو النوع الآخر كان طرحاً مؤمناً أو طرحاً كافراً وإلحاديّاً، وذلك حتى يتوحد العالم على الدِّين والمنهج الذي يختاره لهم هذا البعض الجبّار في الأرض أو الآخر من مثله استجابة لطاغوتيّته، أو لعمى جهله، أو غليان وفوران عصبيّته.

      وهو طريق ترفضه الطبيعة الإنسانيّة وتمسّكها الشديد بالحريَّة، وواقع ما عليه حال العقيدة وانحصار طريق تحقّقها بالاطمئنان وسكون النفس لما يراد لها أن تعتقد به.

      وقد سجّل هذا الطريق فشله على مستوى الواقع العمليّ في الماضي من التاريخ، وفي الحاضر، وأعطى ردّ فعل مقاومٍ جدَّاً، وأكّد التمسّك بالعقيدة المحاربة في نفوس من يعتنقها.

– الطريق الثاني:

      أن يتحمّل النَّاس مسؤوليّتهم التي حمَّلهم الله إيَّاها في البحث عن الدِّين الحقّ المنقذ لهم والمحقّق لأعظم وأصدق وأنقى وأنفع وحدة لهم.

      وإن لم يكن ذلك فليبحثوا عن المنهج الذي يحفظ لهم الوحدة بصورة أخرى ممّا يرون فيه القضاء على نزاعاتهم الدنيويّة ويعمّهم بالعدل الذي لا يقتلُ لعصبية أو هوى، ولا ينهب أحداً لصالح أحد، ولا يجبرُ ذا عقيدة أخرى على العقيدة التي قام بناؤه هوَ عليها، ولن يجدوا كالإسلام الحقّ عدلاً وتسامحاً وقدرة على إيجاد حالة التعايش للمجتمع الذي من صِفته التعدّديةُ في الأصول والأعراق، واللغات، والألوان، والعقائد السماويّة، ولن يروا مثله إشاعةً لروح التّسامح والتعاون على الخير.

      وإن لم يكن هذا كذلك فليسلك زعماء هذه الأديان المعتدلون منهم طريق التفاهم والحوار المقلّل من تباعد المسافات الوهميّة والفواصل الخياليّة لفتح باب السلم العالمي والتعايش السلمي بين المجتمعات المتعددة رغم اختلاف الأديان.

      ولا بُدَّ لهذا التقارب كي ينتج النتيجة المرجوَّة لا بُدَّ لزعماء كلّ دين ممّن يتمتّعون بصفة الاعتدال أن يضغطوا الضغط الجدّي على السياسيين من أتباع ديانتهم بأن لا يحكّموا مصالحهم السياسيّة في التعامل مع الآخرين في دولهم وخارجها حتى فيما تكون الوسيلة إليه الخروج على الأخلاقيات الثابتة، واستباحة كلّ المحرّمات ومخالفة كلّ البديهيّات في التعامل الإنساني مع الآخر، وألَّا يكون طمعهم الدنيوي خلفية لشنّ الحروب المدمّرة، واستعباد الشعوب.

      إلى جانب ذلك مطلوب من زعماء الأديان الذين لهم تلك الصفة أن يخلقوا حالة ضغط جماهيري في بلدانهم ضد التعسّفات الداخلية الظالمة ضدّ الأقليّات الأخرى في الداخل، والمنهاهضة لهذا النوع من السياسة الجائرة في التعامل مع الخارج.

      وزعماء الأديان وعلماء كلّ دين لا تقلّ مسؤوليتهم عن الحالة العدوانيّة السارية في الأرض اليوم ممّا وصلت إليه من البطش الواسع داخل البلد الواحد، والشعب الواحد، وفي تعامل الدّول بعضها مع بعض، والشعوب كذلك… لا تقلّ مسؤوليتهم عن مسؤولية جبابرة السياسة وفراعنتها، إن لم تزد عليها وإن قلّت إمكاناتهم واختلفت وسائلهم عمّا يمتلكه الجبابرة الفراعنة.

      وكثيراً ما تكون هذه الفوضى وهذا القتل غير المُبرّر وإشاعة الشهيّة في الاعتداء وسفك الدماء ونشر الرعب باسم الدِّين والانتصار له ممّا يغري الكثير ممّن لا وعي لهم بالاندفاعة إليه، واسترخاص العمر على طريقه.

      ومعلوم أن الطريق إلى إصلاح العلاقات البشريّة وتخليصها من حالة التدهور الهائل الذي تعاني منه طريق شاق طويل ويحتاج إلى جهود مضنية مكثفة، وتقف في وجهه عدة عوامل من عصبية عمياء، وجهل بالدِّين، وقابلية كبيرة للاغترار بتزيين المفسدين والحاقدين على الإنسان، وأموال المخربين، وسياسة المستكبرين، وذوي الأطماع الدنيئة الذين يجدون في الفرقة حيث تسود الشعب الواحد، وفي استعداء هذه الأقلية أو تلك، أو هذا المكوّن أو ذاك في البلدان التي يحكمونها، وفي حالة التوتر مع أيّ دولة الحصول على رصيد أكبر من التأييد والالتفاف بهم ممّن يتوقعون منهم ذلك عن طريق ممارسة هذا الفساد.

      وهناك علماء دين من أتباع هذا الدِّين أو ذلك الدِّين الذين لا يفكرون إلَّا في الزعامة والتفاف العدد الأكبر ما أمكن بهم لتعزيز هذه الزعامة السيئة ممّن يعمل جادَّاً على إشاعة روح الفرقة والتشتّت بين الشعب الواحد وكذلك بين الشعوب المتعدّدة إذا وجد في ذلك ما يخدم غايته الهابطة.

      وكلّ ما يجري بين أهل الأديان من مظالم واستباحة للدماء البريئة جار بين أهل المذاهب من الدِّين الواحد.

والأسباب هنا هي الأسباب هناك، والعلاج هو العلاج.

      وفي الوطن الواحد والشعب الواحد مع التعدديَّة الدِّينية وعدمها، أو التعدّدية المذهبيّة وعدمها، والتعدديَّة القوميّة وغيرها وبدونها عدل الحكم وظلمه وتمييزه بين فئات الشعب من غير وجهِ حقّ تحكيماً للهوى من هوى عصبيَّة، أو حُقدٍ، أو أيّ عقدة نفسيّة أو غير ذلك له الأثر العملي البيّن الضخم الايجابي أو السلبي على تمزّق الشعب ووحدته، وتفككه وتماسكه، وسلمه واحترابه، وواقعه الإنساني العام.
عيسى أحمد قاسم

الخميس ١٩ ربيع الأوَّل 1437هـ 

 31 ديسمبر 2015م

زر الذهاب إلى الأعلى