خطبة الجمعة (624) 13 محرم 1436هـ – 7 نوفمبر 2014م

الخطبة الأولى: الأمل
الخطبة الثانية: متى نكون أنصار الحسين ع ؟ – الاعتداء الآثم في الإحساء

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله الذي قضى على خلقه بتغيّر الأحوال لتعرف محدوديتها، وتعلم قهره، وهيمنته عليها، وأنها لا تملك الاستقلال، ولا التفلّت من قبضة القهّار، وأن شأنها أن يُذعن منها لإرادته كلّ متوجِّه إليهِ أمر التشريع، ويخضع لعبادته على حدّ ما هو عليه حاله في أمر التكوين.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله إنَّ حاجة العبد إلى الربّ الحقّ في حال سعته لا تختلف عنها في ضيقه؛ ذلك لأنه لا خير عنده، ولا شرّ يدرأ عنه إلّا بإذنه سبحانه.

       وإذا كان هذا هو شأن العبودية الحقّة وكلُّنا عبيد حقًّا لله، وهو المالك منا لكلّ شيء من وجودنا وحياتنا إلى أدنى أثر لنا فلا ينبغي لأحد أن ينسى حاجته لله تبارك وتعالى في شدّة أو رخاء، وواجبَ التضرع إليه، وعدم قصر عبادته على حالٍ من الأحوال.

       عباد الله لنبق على تقواه ما بقينا، ونُدِمْ ذكره بكرة وأصيلًا، وصباحًا ومساء، وليلًا ونهارًا لنكون مذكورين لرحمته، وأهلًا للطفه ونعمته.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالكلام لا زال في موضوع الأمل:

       لكلِّ نفس آمالها، ومن الآمال ما هو نافع محيي، ومنها ما هو ضارٌّ مميت. وقد تغنى نفس بهذا النوع من الآمال، بينما تزدحم نفس أخرى بالنوع الآخر منها.

       ولكلّ نوع من آمال النفوس مبادئُ وأسبابٌ ومنطلقات. فأسباب تبني آمالًا كريمة ترقى بالنفوس وتضعها على طريق النضج والكمال، وأسباب تُقيم فيها آمالًا لئيمة تؤول بها إلى السخف والسقوط، وتزيد من تردّيها ومن شقاء مقيت.

       ولا ينفصل نوعُ الأمل ولا تعاظمه واستطالتُه في النفس أو تراجعه وانحساره عما عليه حال تلك المبادئ والأسباب.

       ولنطالع ذلك في هدي عدد من النصوص الدينية:

  1. عن الإمام عليّ عليه السلام:“إنّ قلوب الجُهّال تستفزُّها الأطماع، وترتَهِنها المُنى، وتستعلقها الخدائع”([1]).

الجهل من فاقد العلم، أو الجهالة من فاقد الرشد وعلى عكس العلم والرشد يُثير في النفس التعلّق بأطماع الدّنيا، ويجعلها مشدودة لمناها الفاسدة، ومحبوسة للآمال الخادعة، موقوفةً عليها، مستثارةً منها، منصرفة عما هو المهم من الأمور وأهميته بالغة. ولو كان لهذه النفس علم ورشد لعصمها ذلك من الانسياق وراء ما لا يُدرك، وما في إدراكه ما لا تحتاجه حياة مُدرِكه([2])، ويضيع به وبالسعي إليه الأهم.

وتقول الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام أن طلب المستحيل وراءه جهل، حيث تقول كلمته “رغبتك في المستحيل جهل”([3]).

  1. عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:“أحمقُ الحمقى من أتْبع([4]) نفسه هواها، وتمنى على الله تعالى الأماني”([5]).

الحُمْقُ ضعف العقل، ومن كان ضعيفَ عقلٍ قلَّ علمه، وكثر جهله، ولم تتعمق رؤيته. وهذا يجعله يُسلِمُ النفس لهواها، أو يتَّبع منها الهوى. والهوى يذهب بالنفس إلى ألوانٍ من الأماني الباطلة الضّارة بصاحبها بأنواع من الضرر، الموقعة له في الخسائر الفادحة والمهالك العظيمة.

       والأماني التي يُملي الحُمُق على النفس تمنّيها على الله سبحانه هي الأماني الباطلة التي لا يليق بعبد صالح أن يتمنّاها على الله عزّ وجلّ.

  1. عن الإمام عليّ عليه السلام:“من غفل غرّته الأماني، وأخذته الحسرة إذا انكشف الغطاء وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب”([6]).

الغفلة جهل يطول الجهلُ بطولها، وتقصر مدّته بِقِصَر مدَّتها، وبطولها يزداد منه الضرر للنفس.

وبما أن الغفلة جهل حيث تُغيّب العلمَ والذكرَ والرشدَ، وأنّ العمى في البصيرة لا يرى معه مَنْ استولت عليه الغفلة حقًّا من باطل، ولا يُميّز بين مُقيم وعابر، ولا يذكر عِزَّ الربّ وذل النفس، وينسى عظمة العظيم وحقارة الحقير؛ فهي تدفع للأخذ بالأماني الوهمية والسخيفة وما فيه سقوط الشرف وخسارة العمر.

ومن كان كذلك تغرّه الأمانيّ الصغيرة، وينقاد للآمال الساقطة، ويركض وراء السراب، ويكون أمرًا خلَّابًا له.

ويوم ينكشف الغطاء، وتُفاجأ هذه النفس بأَمَرِّ النتائج وأفدح الخسائر لمتابعتها لأمانيها الكاذبة تواجه حسرةً تكون فريسة لها ونهبًا لظلمائها، وعذابًا من الله ما كان له لها من ذلك العذاب حسبان.

  1. عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“إن آدم قبل أن يصيب الذنب كان أجله بين عينيه وأمله خلفه، فلما أصاب الذنب جعل الله أمله بين عينيه، وأجله خَلَفَه، فلا يزال يأمل حتى يموت”([7]).

ومن آخر الحديث أن من يبقى يُلهيه أمله عن أجله لمعصيته وخطئه هو نوع ابن آدم وفي الأكثر من أفراده إذ كيف لا يزال يأمل آدم حتى يموت وقد مضت على موته القرون تلو القرون([8]).

       وعن معمر بن يحيى: قلت لأبي جعفر عليه السلام: ما بال الناس يعقلون ولا يعلمون” ويذكر عن المجلسي رحمه الله استظهاره أن الكلمة في الحديث “ولايعملون” وليس أنها لا يعلمون. وبذلك يفيد الحديث أن السؤال عن أنه كيف يجتمع من الناس أنهم يعقلون ويتخلفون عما يحملهم عقلهم عليه من العمل الصالح.

       وعلى كل تقدير فإن من كان أمله أمامه ونظره إليه، وأجلُه خلفه لا يراه، يشغله الأمل والمعنيّ الأمل الدنيوي ويستولي على كلّ اهتمام الإنسان فيعطّل ذلك عنده العمل الصالح، ويصرفه عنه وعن أي استعداد لليوم الآخر.

       ولو بقي لمن صار أمله أمامه وأجله خلفه علمٌ لكان علمًا غير نافع لأن النفس مغلوبة بما تعلقت به من الأمل([9]).

       وماذا يجعل الأمل أمام المرء ويشُدّ نظره إليه، ويجعله يصب اهتمامه عليه، ويؤخر الأجل وراء الظهر بحيث لا تراه النفس فيدفعها إلى الاحتراس من المعصية والإقدام على الطاعة؟


إنّ الآثام والذنوب منشأ للآمال السقيمة والأماني السافلة([10]).

  1. عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:“إذا استحقَّت ولاية الشيطان والشقاوة جاء الأمل بين العينين وذهب الأجل وراء الظهر”([11]). وماذا يرتقب من الشيطان أن يعمل بالإنسان إذا أسلم له زمام نفسه ودخل في طاعته؟!([12])
  2. عن الإمام عليّ عليه السلام:“أيها النّاس إنكم إن آثرتم الدّنيا على الآخرة أسرعتم إلى إجابتها إلى العرض الأدنى، ورحلت مطايا آمالكم إلى الغاية القصوى”([13]).

إيثار الدنيا على الآخرة، والتعلّق بها والعزوف عن الآخرة يُركّز الآمال الدنيوية في النفس، ويجعل هذه الآمال يمتدّ عنقها دائمًا إلى أمام ومسافات بعيدة مما يتعلق بالبقاء في الدّنيا والازدياد من شهواتها، وتذهب بالنفس إلى بعيد وبعيد في هذا الطريق حتى يسرق تمدّدها وتفاقمها من الإنسان عمره، ويوقعه في أليم ندامته، وشديد حسرته.

       اللهم إنّا نعوذ بك من أمل صارف عن الآخرة، منتهٍ بصاحبه إلى الخزي والهوان، موقع له في الندامة، صائر به إلى الجحيم.

       افعل بنا ربّنا خير الدّنيا والآخرة، وجنبنا خسارة الدّنيا والآخرة وشرهما يا كريم يا رحيم.

       اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ، سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ}([14]).

الخطبة الثانية

       الحمد لله كما هو أهله حمدًا يفوق حمد الحامدين، وله الشكر كما يستحقه شكرًا يتجاوز شكر الشاكرين، ولا حمد من مخلوق يمكن أن يبلغ حمده، ولا شكر من عبد من عبيده يمكن أن يفيَ بحقّه. وهو الذي حَمْدُه نعمة على حامديه، وشكره منّة منه على شاكريه، وهو المجازي حمد كلّ حامد، وشكر كلّ شاكر فوق ما يطمع الطامعون، ويتطلّع إليه المتطلعون.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله ما استكبر مستكبر على الله إلَّا أذلَّه، وما ضادَّه مضادٌّ إلّا وأخزاه، وما عصاه عاصٍ إلّا وأهلك نفسه فلنحذر الله حذرًا لا نحذره من أحد، ولنتّق منه قدرته وعلمه وعدله، وشديد أخذه وأليم عذابه([15]).

       وما أهمل عبد حظّ نفسه وخيرها كمن أهمل طاعة الله، وما استقلّ مما يطمع فيه العاقل ويسعد حقًّا كمن استقلّ من عبادة ربّه العزيز الحميد. والراضي بثواب دون ثواب الله ظالم لنفسه، ولا حظ له من عقل.

       فلنرغب عباد الله في المزيد من طاعته وعبادته، ولنستعن به على النفس الأمارة بالسوء، والشيطان الغوي الرجيم المثبّطَين عن الطاعة، والمزينين للمعصية.

       اللهم يا من لا معين لمن لم يعنه، ولا يضرُّ مع عونه خذلان خاذل، ويا هادي من استهداه، ومرشد من استرشده، ومعين من استعانه اهدنا بهداك، وارزقنا من لدنك رشدًا، وأعنّا على أنفسنا وعن أن نقع في معصيتك، ووفّقنا لالتزام طريقك، ولا تجعل لنا ميلًأ عن سبيلك، ولا تزهّدنا في طاعتك يا من هو بعباده المؤمنين رؤوف رحيم.

       اللهم صلّ على محمد المصطفى الأمين خاتم النبيين والمرسلين، وصلّ على أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين: حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن عليّ العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يا ربّ العالمين.

اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.

       أما بعد أيّها الأحبّة في الله فإلى هذه العناوين:

       متى نكون أنصار الحسين عليه السلام؟

       متى نكون أنصارًا للحسين عليه السلام ومتى نكون أنصارًا ليزيد؟

       أن أكون من أنصار الحسين عليه السلام أو أنصار يزيد راجع إلى كيفيّة صناعتي لذاتي، وانتصاري في معركتي مع نفسي أو هزيمتي فيها. لن أنصر الحسين ما غلبت لنفسي، ولن أتأخر عن نصرته ما انتصرت عليها. وكلّ مهزوم لنفسه مهيّأ لأن يكون مع معسكر يزيد.

       إن معركة كربلاء ليست لمرة واحدة في التاريخ، ويوم عاشوراء ليس يومًا شاذًّا من بين كلّ الأيام، إنما كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء.

       وعاشوراء المعركة بين الدين والكفر، والتقوى والفجور على اختلاف مستوياتهما بين العقل والجهل، بين النفس الأمّارة بالسوء والنفس اللوّامة، بين قيم الدنيا وقيم الآخرة، بين إرادة الخير وإرادة الشرّ في كل مجتمع، وفي كل نفس إلّا نفسًا عصمها الله بعصمته.

       وثورة كربلاء ثورة الدين الحقّ على دين مغشوش مزوَّر ممزوج بالجاهلية، مسخَّر لخدمة الطواغيت، مخدّر للأمّة، إباحيّ إلى حدّ كبير، مبرّر للظلم، يشرّع للأثرة والنهب والاستحواذ بغير حقّ على الثروة([16]).

       وثورة عقل في قّمة النضج والرشد والبصيرة على عقول قاصرة فجّة بلا رشد، ولا حكمة، ولا بصيرة.

       ثورة عقل تنوَّر بهدايات الله على عقول لعبت بها الجاهلية، وأعمتها الشهواتُ، وأضلّها الطغيان.

       كربلاء ثورة القيم الروحيّة الطاهرة في أعلى طهرها ونقاوتها، على قيم الطين الهابطة، والشهوات المادية المتدنّية، والحيوانية والبهيمية حين تكون السيادة لها على الإنسان.

       وثورة الإرادة الإيمانية الحيّة القويّة الخيّرة على إرادة الشرّ في الطغاة، والإرادة المسحوقة والمهزومة للأمّة أمام الرغبة والرهبة، ودنيا السلطان وبطشه ونقمته([17]).

       وهي معركة تُحاكي معركة الداخل في نفس الإنسان، والجانبُ من النفس جانبُ هذه القوى أو تلك القوى جانبُ الإيجاب أو السلب المتنتصرُ في معركة النفس هو الذي يُعيِّن لي موقعي في هذا المعسكر أو ذلك المعسكر في معارك الخارج.

       ومحال أن أكون المنتصر على باطل النفس فأكون في معسكر أهل الباطل([18])، أو أكون المهزوم لباطلها فأكون المنتصر لجبهة الحقّ في ساحة الحياة الخارجية التي تعجّ بالصراع.

       وما صراعات الخارج إلا تعبير عن الصراعات داخل النفوس ونتائجها عند هذا الفريق وذلك الفريق، وتجسيد لها.

       وإن بناءً يقيمه الإنسان داخله يكون به دائما في معسكر الحسين عليه السلام، ومن بين أنصاره في أي زمن يعيشه الإنسان، وإن كان يملك جذوره الضاربة في الفطرة والتي لا تنفصل عنها إلا أنه يحتاج إلى جهد جهيد كبير متواصل حثيث لا يلتقي معه وهن أو إهمال أو تساهل أو تقطّع أو فتور.

       ما لم نُدِم النظر في النفس ومعاقبتها ومحاسبتها وما لم نحملها على ما لا تشتهي النفس الأمارة بالسوء فإننا لا نملك أن نكون منتصرين على أنفسنا، وبالتالي لا نملك أن نكون في معسكر الحسين عليه السلام([19]).

       لذلك ومن دون مراقبة النفس ورعايتها ومحاسبتها والدفع بها وخوضها التجارب الجهادية تكون على طريق اللين والاسترخاء والانحدار مما يفقدها القدرة على الصمود والاستجابة لما تتطلبه مجابهة الباطل ومناهضته، والثبات في خندق الحقّ وجبهته.

       إن نصرة الحسين عليه السلام في أي زمان تحتاج إلى عقل، ودين، وحياة روح، وبصيرة عملية، وخبرة بطبيعة الجبهات، وإرادة وقدرة وثبات، وروح تضحية؛ دين واعٍ قويم لا زيغ ولا تحريف فيه، وعقل نابه رشيد محتفظ ببصيرته، وخبرة بطبيعة الجبهات التي تخوض الصراع، وإرادة خيّرة وراءها نفس تعشق الحق، وتنفر من الباطل، ولا تلتقي معه في شعور، وقدرة ثبات أمام هول التحدّيات، وروح تضحية بكل ما في الدنيا والحياة فيها في سبيل الله غير هيّابة، ولا متلكّئة، ولا مترددة([20]).

       وكل ما هو من هذه العدّة الثقيلة الغالية والعالية لا يتوفّر للإنسان إلّا بالإعداد والمصابرة والمجاهدة، وخوض ألوان التجارب الصعاب، وتربية حكيمة رشيدة واعية خيّرة خبيرة نظرية وعملية معا.

       إنّ عقلاً مخدوعاً لا يجعلني نصيرًا للحسين عليه السلام، دينًا مهزوزًا مضطربًا، سذاجة في التشخيص، ضحالة في معرفة جبهات الصراع، إرادة شريرة، إرادة خائرة، نفساً دنيوية جشعة، آمالًا دنيوية عريضة، نفسية مرتجفة، شعورًا يركن للباطل، تعلّقًا غير طبيعي بالدنيا، ضعفًا أمام شهواتها، تربية غير رشيدة، أو إهمالًا تربويّا كل ذلك يبعُد بأي إنسان ويحول بينه وبين أن يُقدم على نصرة الحسين عليه السلام واختيار معسكره، وكل ذلك إنما يدفعه لأن يكون من أنصار يزيد.

       إن الانتصار للإمام الحسين عليه السلام أو ليزيد لا يرجع إلى لحظة الاختيار في الظرف الحاسم الحرج، وإنما يعود إلى حصيلة تاريخ طويل من تربية صالحة أو فاسدة، ومن مجاهدة للنفس أو إهمالها.

       إنه لا يهمّ نفسًا سيئة أن يقتل الإمام الحسين عليه السلام ألف مرة، وأن يُقتل ألف حسين، وأن تُطمس معالم الإسلام، وأن يُهدم، وأن يُقضى على الأمة الإسلامية، أو تُسترقّ للغير، وإن كانت هذه النفس يقف صاحبها في صفوف المسلمين في الصلوات الخمس لكن بعقل ونفس وإرادة وشعور لا أهليّة له للاستجابة للصلاة، لهداها، ووعيها، ودروسها، ومردودها الروحي، والنفسي والعملي الرشيد الكبير.

       أيها الإخوة والأخوات، إن الباحثين عن الفرص الدنيوية الكبيرة، عن المناصب النفعية، المستعدين لأن يبذلوا في سبيلها كل شيء، وأن يضحّوا بكل شيء، وبكل الآخرين من أجلها، والباحثين عن سلامتهم وإن كان بإهلاك الأبرياء، المستعدّين لأن يقتاتوا على لحوم الآخرين، وآهات وعذابات الآخرين، والمضحّين بمصالح الشعوب والأمم من أجل أمنهم المادي، ومصالحهم المادية لا يمكن أن يكونوا إلا محاربين للحسين عليه السلام، ولا يمكن أن يكونوا في صفّه ومن أنصاره.

       وكربلاء كانت مليئة بالنماذج التي لا يمكن إلا أن تخذل الحسين عليه السلام، وتكون عدوًّا له وتحاربه، كما هي مليئة بالنماذج التي لا يرشّحها تكوينها العقلي والروحي والنفسي والإرادي وتربيتها وطهرها ووعيها إلا بأن تكون نصرتها له عليه السلام، وموقفها معه، وإلا أن تكون سبّاقة للتضحية في سبيل الله، والذود عن دينه وكرامة الأمة.

       ومن كان له فكر من فكر الحسين عليه السلام، وإيمان من إيمانه، وهدى من هداه، وبصيرة من بصيرته، من كان له إباء من إباء الحسين، وغيرة على الدين من غيرته، من كانت له تربية من تربيته، وإرادة من إرادته لا يمكن أن يقبل، ولا يرضى بالهوان، أو يسكت على ذل مؤمن وهوانه، وعلى أن يُساء للإسلام، أو تُثلم كرامة المسلم، أو أن يُمارس الظلم في الأرض، ويترسخ المنكر، ويستعلي وهو قادر على دفعه ولو بالشهادة، والإقدام على الموت الذي لا ريب فيه.

       ولماذا كان الإمام الحسين عليه السلام نموذجًا من النماذج الأعلى في البشرية في التضحية والفداء لا يوقفه عن نصرة الحق فقد الأحبّة، وتكالب الأعداء، وقلّة الناصر، وموت الأمّة، ولا يرى الحياة مع الظالمين إلا برما، وضجرًا ومللًا وألما، ولا يرده عن الوقوف في وجه الظالم أن يموت، ويموت كل أهل بيته وأنصاره، وأن يتيتم من يتيتم من أبناء وبنات الذرية الطاهرة، وأن تُسلب حرائر الرسالة المحمدية، وأطهر بيت في الأرض، ويتعرضن لما تعرضن إليه من الإذلال والدخول على يزيد وابن زياد ؟

       كان الحسين عليه السلام بكل تلك القوة، وكل ذلك الصمود، وصلابة الموقف، والروح المثالية في التضحية والفداء لأنه يعرف الإسلام، ويقدّم ويوقّر الله عز وجل، ويخافه، ويخشاه، ولا تطيق نفسه غضبه، ولا يرضى عن نفسه ما لم يرض عنه، ولأنه يطمع في ثوابه، ويطمئن له، ويقينه كامل به.

       فحين نكون شيئًا من الحسين عليه السلام نكون شيئًا من صموده، وثباته، وقوته، وصلابة موقفه مع الحقّ، وفي نصرته.

       حين نكون شيئًا من الحسين عليه السلام نجد شيئًا من ذلك الصمود، والثبات، والقوة، وصلابة الموقف التي تؤهلنا لأن نقف مع الحقّ الوقفة اللائقة.

       ولا هدى، ولا نجاح، ولا ظهور للحقّ، ولا نصر من النصر الصحيح للسالكين على طريق غير طريق الحسين عليه السلام.

       الاعتداء الآثم في الإحساء:

       الحادث الإرهابي الآثم في الإحساء الذي استهدف المشاركين في مجلس تعزية أبي عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام سبط الرسول الأعظم صلَّى الله عليه وآله وحصد من حصد من الأرواح المؤمنة البريئة، وجرح من جرح هو مثال لأمقت ألوان العدوان الجاهلي حيث لا خلفية من دين ولا عقل ولا ضمير إنساني، ولا عقلانية لهذه الجريمة البشعة، وهي واحدة من سلسلة طويلة متكررة من حوادث من هذا المستوى القذر الغريب عن الإسلام والذي تحوّل إلى ظاهرة تُنذر بالفوضى العامة المقوِّضة لأمن الأمة…. ظاهرة عدوانية ظالمة، وإرهاب بهيمي يطال الشيعيَّ والسنيَّ والمسلمَ والمسيحيَّ ويتلذذ بالدماء المتدفقة واللحم المتناثر للأبرياء.

       ظاهرة تبتدأ أولًا بالإساءة للإسلام بتقديم صورةِ زور عنه بأنه دين عدواني فوضوي سفّاك للدماء لا يتورّع ولا يشبع من القتل وإحداث الدمار، ويُعادي الأمن والحياة([21]).

       وليت حكومات المسلمين تتوقف عن تغذية هذا الإرهاب ومدّه بأسباب التوسّع والقوة، ومن أبرز ذلك مواصلتها لمعاداتها للشعوب، ومناهضتها لمطالبتها بحقوقها.

       وإن ظاهرة الإرهاب بما صارت إليه من امتداد وتوسّع وقوة، وقدرة على البطش، وانفلات من القيم لَتُمثّل مأساة أمة أهدى أمة…. مأساة دين أقوم دين…. مأساة أخوّة أمتن أخوّة… وهي وليد مشؤوم لسياسة ظالمة باطشة بالشّعوب لا زالت تُصِرّ عليها حكومات عديدة من حكومات المسلمين.

       نعزّي الإخوة الكرام الأعزّاء في الإحساء، وكلّ الشعب السعودي الشقيق.

       رحم الله شهداء الإحساء وكل الشهداء المسلمين، وعوَّضهم بالجنة والرضوان، وشفى جرحى هذا الحادث الأليم وكل الجرحى في سبيل الله. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

       اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([22]).

[1]الكافي ج1 ص23 ط5.

[2]وهي حياة من أدرك حقيقة الحياة ووظيفتها وحاجاتها.

[3]عيون الحكم والمواعظ ص269 ط1.

[4]ويجوز أن يكون التعبير اتَّبضعَ فيكون هواها بدلًا من النفس.

[5]تفسير الإمام العسكري (ع) (منسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام) ص38.

[6]الخصال ص 232.

[7]كنز العمال ج3 ص490.

[8]– قال الحديث : لا يزال حتى يموت، ولم يقل حتى مات، وهذا ما يعني أن المعنيّ في الحديث الذي يقول بأنه جُعل أمله بين عينيه وأجله من خلفه ليس المعني بذلك آدم عليه السلام.

 

[9] قل إما أنه فاقد للعلم نهائيًّا أو أنه يبقى له علم لا يجديه في مقام العمل.

[10]– وأما الطاعات والعبادات فهي التي تحيي فيك قلبك فتجعل أجلك أمام مرآك، وأمنيات الدنيا خلف ظهرك. فبالعبادات أنت ترى بعين البصيرة، وتقيّم التقييم الصحيح، ما هي الدنيا، وما هي الآخرة. وتريك أن أيام الإنسان في هذه الحياة أيام محدودة منقضية.

[11]الكافي ج3 ص258 ط3.

[12]– إن الشيطان لا يُرتقب منه إلا أن يقود النفس إلى هلاكها ونارها وشقائها.

[13]بحار الأنوار ج75 ص60 ط2 المصححة.

[14]– سورة المسد.

[15]– بما لا نتقي به أحدًا من الخلق.

[16]– أتبحث عن دين بهذا الوصف؟ إنه موجود بكثرة هذه الأيام.

[17]– الإرادة الخيّرة ثورتها على إرادتين: إرادة حاكم ظالم، وإرادة أمة مستسلمة.

[18]– من انتصر على باطل النفس لا يمكن أن يكون في معسكر الباطل

[19]– هتاف جموع المصلين (لبيك يا حسين).

[20]– إنه لزادٌ كبيرٌ صعب المنال، ولا يمكن أن تتوفّر عليه أي نفس إلا بجهاد طويل مرير.

[21]– هذه هي الصورة التي يقدّمها الإرهاب السائد الآن عن إسلامنا العظيم العزيز الكريم.

[22]– 90/ النحل.

 

(( إضغط هنا للاستماع للخطبة صوت ))

زر الذهاب إلى الأعلى