خطبة الجمعة (614) 11 شوال 1435هـ – 8 أغسطس 2014م

مواضيع الخطبة :

الخطبة الاولى : البصيرة

الخطبة الثانية : بديهية – انزعاجٌ من السلطة – مواطَنتان – هل يعود الربيع ربيعًا؟

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والمنِّ والإحسان، والفضل العظيم، والعطاء الجسيم.

       هو الذي بفضله تقوم السماوات والأرض، ويُعطي كلَّ موجود وجوده، وكلَّ حيّ حياته، وكلَّ مرزوق رزقه، وكلّ ذي عقل عقله، وتأثير تأثيره.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله لا يُعذر جاهل بأمرٍ يحتاجه من أمور دينه وهو قادر على تحصيل العلم به، ولا مقصِّرٌ في اتّباع الدين وهو يعلمه، ولا قادر على إنقاذ الأمّة من جهل يضِرّ بدينها ويتركها غارقة فيه.

       فهذه ثلاثة أمور لا يسع المسلم أن يفرّط في واحد منها، ولو وُفِّيت حقّها لوجد النّاس كلّ الخير، وكُفُوا كلّ شر.

       ولو عرفنا شأن الدّين، وحقّ الله سبحانه، وكنّا على تصديق كامل بما وعد الله المحسنين، وتوعّد المسيئين لاتّقيناه، وهان علينا كلُّ ما كلَّفنا به، وفرضه علينا.

       فلنطلب معرفته عزّ جلّ، ومعرفة حقّه العظيم، ولنُعِدّ النّفس بتطهيرها للتصديق بوعده ووعيده، ولنتّق الله لتصلح حياتنا، ونفوز يوم القيام.

       اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم أنقذنا من جهلنا، وأخرجنا من كلّ ضلالة، وقنا الزيغ، والوقوع في معاصيك، وما يَحرِم من رحمتك، ويُسقط منزلة العبد عندك، ويحول بين العبد وبين الجنّة التي أعددتها للصّالحين من عبادك يا غفور يا رحيم يا كريم.

       أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فمع متابعة أخرى للحديث في البصيرة:

       نماء البصيرة:

       ما من واقعِ كمالٍ في أيّ بُعدٍ من أبعاد الإنسان يتحقق له في حياته إلّا وكان وراءه منشأٌ من فطرته، وأصلٌ طبيعيٌّ في وجوده.

       أمّا ما يصل إليه هذا البُعْدُ من درجة من درجات النماء والكمال فيأتي في السُّنة العامّة التي اقتضتها الحكمة الإلهية عن طريق الجهد الإنساني على طريق منهج الله تبارك وتعالى لتربية وتكميل عباده.

       فلكمال الإنسان مناشئه وطرق نمائه، وتقدّم الكلام في المناشئ، وهذا كلام في طُرُق النماء والزيادة.

  1. نماء التفكير:

القدرة على التفكير عند الإنسان موهوبة له من ربّه، وعليه أن يطلب تفعيلها بما يضيف لها قوّة واشتدادًا، ويزيد من عطائها، وذلك عن طريق إعمال هذه القدرة بالتفكير والتدبُّر والتبصّر فعلًا، وأن يصبر على ما يقضي به التدبُّر والتبصُّر والتبحُّر في الأمور من جهود مضنية.

       {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ}([1]).

       وكم من فرق بين من يُعمِلُ تفكيره في خلق السماوات والأرض، ومن يتعامل مع هذا الخلق العظيم بلا تفكير؟! وكم هو البون الشاسع بين من ينظر إليهما نظرة عُجلى عابرة، وبين من ينظر إليهما بالنظر العلمي الغزير؟!([2]) وكم من مسافة بين تفكّر من عقل لا تحصيل له في العلم وبين عقل صقلته علوم كثيرة وغزيرة؟!

       وعن الرسول صلّى الله عليه وآله:“إن التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنيرُ في الظلمات بالنّور….”([3]).

       وعن الإمام عليّ عليه السلام:“من طالت فكرته حسُنت بصيرته”([4]).

       وعن الإمام الحسن عليه السلام:“عليكم بالفكر، فإنّه حياة قلب البصير، ومفاتيح أبواب الحكمة”([5]).

       والتفكّر كما لابد منه في نموّ بصيرة الدّين لابد منه في النموّ في بصيرة الدّنيا وطلب الإصابة في ما هو من شؤون الحياة الحاضرة.

       فعن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:“على العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه”([6]).

       وإذا كانت وظيفة الإبصار بالزمان ومعرفة أُناسه وأحواله وأوضاعه وُضِعَت على الإنسان كان عليه أن يُطالع هذه الأمور، ويحيط بما يَحسُن الإحاطةُ به منها، ويُعمِلَ تفكيره وتحليله بشأنها، ويتدبَّر فيها، وما تعنيه، وما تُؤدي إليه، ولا ينتظر من الغيب أن يُعطيه الرؤية الواضحة عنها وهو معطِّل لقدرته على التفكير. نعم عليه مع إعماله هذه الموهبة في هذا المجال وكل مجال آخر نافع ألا يستغني في نفسه عن الاعتماد على التسديد من الله وهدايته.

       ونُضْجُ التفكير، وعمق التدبر، ونفوذ النظر، وتعاظم جدواه يحتاج إلى التعلّم.

       عن الإمام علي عليه السلام:“الحكمة ضياء للبصر”([7]) الوقوف على الحكمة، والرأي الصائب، والاستفادة من إنتاج العقول النيّرة يثير البصيرة، ويُحفّزُها لأن تنشط، ويرفع من القدرة على التفكير.

       وعنه عليه السلام:“جاور العلماء تستبصر”([8]) تستبصر بما تسمع منهم، وما تتلمذ به على يدهم، وبما ترى من أثر هديهم، وصواب فكرهم، وطُهْر سيرتهم.

  1. عطاء التقوى:

تقوى العبد ربّه يجعله محلَّ العناية الخاصة من رحمته، وأهلًا عنده للمزيد من هدايته، فيُنير الطريق له، ويُعمّق في نظره، ويوقفه على غوامض من العلم ما كانت تتكشّف له لولا تقواه.

       {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}([9]).

       والتقوى تَحضُر الإنسانَ عند وسوسة الشيطان، وتعيد له نباهته، وتثير بصيرته وتشدّ من قوّتها ودرئها لوسوسته بما يُوفّق إليه الله سبحانه في ذلك الموقف الخطير الشائك من ذكرهالمنقذ للقلب، وتبصيره بما يريده الشيطان من إضلاله، وما عليه من حاجته لربّه، وما له سبحانه من الحقّ العظيم عليه فينتعش ويقوى ويخيب أمامه الشّيطان الرَّجيم وكلّ سعيه.

       عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام قال:“سألته عن قول الله عزّ وجلّ:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}([10])قال: هو العبد يهمُّ بالذنب ثمّ يتذكّر فيمسكُ، فذلك قوله {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}([11]).

       وعن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى:“{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}([12]): إذا ذكّرهم الشيطان المعاصي، وحملهم عليها يذكرون اسم الله فإذا هم مبصرون”([13]).

  1. الاعتبار:

الإلمام بطرق السلوك، والوقوف على مؤدّاها للآخِذين بها، وتتبّع الآيات والوصول إلى دلالاتها، وأحداث الماضي والحاضر وما ينتجه من معرفةٍ؛ كلّ ذلك علم. أمّا الاعتبار فيتمثّل في الأخذ بهذا العلم في مقام العمل، وعدم المخالفة أو الإهمال لمقتضى تلك الدروس([14]). وهذا الاعتبار تقوى به البصيرة.

عن الإمام عليّ عليه السلام:“في كلّ اعتبار استبصار”([15])، “دوام الاعتبار يؤدّي إلى الاستبصار، ويثمر الازدجار([16])([17]).

  1. الزهد:

عن رسول الله صلّى الله عليه وآله في الترغيب بالزهد في الدّنيا:“من زهد فيها فقصّر فيها أملَه أعطاه الله علمًا بغير تعلّم، وهدى بغير هداية فأذهب عنه العمى وجعله بصيرًا”([18]).

وعن الإمام عليّ عليه السلام:“ازهد في الدنيا يبصّرك الله عوراتها”([19]).

حبُّ الدنيا والإقبال عليها يُعمي القلب ويَطمس نور البصيرة، وعلى العكس من ذلك فإن زهد المرء فيها يُبصّره عيوبها، ويفتح أمام القلب آفاق الحكمة، ويُزوّده بالكثير من العلم مما يصلحه، وبهدى منقذ له، ويقوم مقام المعلّم والهادي له.

ومما يُنمّي البصيرة ويُكسبها قبول النصح الجوعُ بمعنى عدم امتلاء البطن وإدخال الطعام على الطعام، والإحساس بدرجة غير ضارّة من الجوع، واستباق الأمور قبل مفاجئتها.

ولا يغيب الدور الكبير للجأ إلى الله سبحانه والاستعانة به والانقطاع إليه بطلب الهداية كما في السعي لكلّ خير يحتاجه الإنسان وينشُدُ الوصول إليه.

       وكان من دأب المعصومين عليهم السلام التوجُّه إلى الله بطلب الهداية، والمزيد من البصيرة، ونور القلوب، ودرأ الضلالة، والرّشد من الغواية إلى جنب كل ما يأخذون به من الأسباب التي يسّرها الله لعباده لنماء البصيرة([20]).

       اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم إنّه لا حول ولا قوّة في أمر عقل ولا قلب ولا جسد ولا دين ولا دنيا ولا أي شيء إلّا بك فأنقذ قلوبنا من ضلالتها، ووفّقنا للأخذ بأسباب الهدى والبصيرة التي يسّرتها لعبادك، واجعل أخذنا بها نافعًا لنا، وزدنا نورًا على النور، وهدى على الهدى مما مننت به علينا يا هادي يا رحمان، يا رحيم، يا جواد، يا كريم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([21]).

الخطبة الثانية

       الحمد لله الذي منح لعباده الهداية ابتداء، وفتح الأبواب، وسبَّب الأسباب لطالبي الزيادة من الهدى، وعُمْق البصيرة، والسّعة في العلم، ووفّق السّاعين لذلك توفيقًا عظيمًا، ودعا الضّالين وهو الغنيّ عن العالَمين جميعًا إلى العودة إلى الطريق بالأخذ بأسبابها والتمسُّك بمنهج دينه القويم. وهو الذي لا هاديَ ابتداءً، ولا بقاءً إلا هو، ولا عودة لضالّ عن ضلاله، ولا عاص عن معصيته إلّا بإذنه، ولا توفيق لخير إلّا من عنده. له الحمد فوق حمد كلّ حامد، وله الشكر فوق شكر كلّ شاكر وهو الغنيُّ عن حمد كلّ الحامدين، وشكر الشّاكرين.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله ظَلَمَ نفسه من تخلَّى عن طاعة الله لطاعة غيره، ودخل في معصيته إرضاءً لمن سواه، وساءت عقبى من فعل ذلك، وكان من أخسر الخاسرين.

       عبادَ الله علينا بطاعة الله وتقواه؛ فهو الذي لا مولى لأحد غيرُه، ولا مدبّر لشيء سواه، ولا مالك لنفع أو ضرّ من دونه. ومن لم يكن له مولى كان من الهالكين، ومن اتخذ مولى غير الله فهو من الواهمين، ولم يتولّ في الحقّ أحدًا.

       اللهم اجعل ولاءنا لك خالصًا، وطاعتنا إليك صادقة، واستجابتنا لأمرك ونهيك مطلقة، واجعلنا لا نشرك في عبادتك أحدًا، ولا نبتغي عن دينك متحوَّلا، ولا نرضى عن رضاك رضا أحدٍ لنكون عندك من الفائزين. ربنا واغفر لنا، وتب علينا، وتقبّل منا، واغفر لإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم صلِّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين: حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن عليّ العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يا ربّ العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.

أما بعد أيّها الأحبة في الله فإلى بعض كلمات:

بديهية:

بديهيّة لا تخفى على أحد، ولا ينبغي أن تكون محلًّا للاشتباه.

بديهيّةٌ هي أن ما هو منطقي لا يُعطيه منطقيّته ولا يسلبها اعتبارأو اصطلاح قانوني أو حقوقي أو سياسيّ، وأنّ ما هو حقٌّ لا يُعطيه ولا يسلبه حقّانيّته كذلك اعتبارٌ أو اصطلاحٌ قانونيٌّ أو حقوقيٌّ أو سياسيّ.

وما هو صحيحٌ ونافع وما يتحتّم في الدّين والعقل أنَّ المنطق والحقّ يحكمان القانون والسّياسة لا أنَّ القانون والسياسة يحكمان ما هو منطقيٌّ وحقّ.

ووضوحُ كلِّ ذلك يمنع أيّ اشتباه أو مغالطة فيما ينبغي.

انزعاجٌ من السلطة:

انزعجت السلطة وبدت منزعجة جدًّا مما ذكر عنها بأنها صاحبة فكرة (ستّة ستّة ستّة) أو (ثمانية ثمانية أربعة) على مستوى التشكيلة الوزارية فيما يأتي من تشكيلة وصيغة لها.

وموضع الانزعاج الشديد أن هذه الصيغة لا يمكن أن تصدر من السلطة أو توافق عليها لأنها تنطلق من روح فئوية وطائفية وتُحكِّم المقياس الطائفي في سياسة البلد، وفيها تأثير سلبيّ كبير على وحدة النسيج الاجتماعيّ الذي يجب أن يكون متماسكًا، وإلغاءٌ لمقياس المواطَنة([22]).

وإذا كانت الخلفيّة لهذا الانزعاج هو كفر السلطة بالمقياس الطائفي، وتمسُّكها بمقياس المواطنة فالأمر جميل جدًّا، وبذلك يكون الوطن قد خرج من أزمته، واستراح العباد والبلاد والأرض وما عليها ومن عليها.

ولكن هل تكون هذه الخلفية هي الخلفية حقًّا لذلك الانزعاج؟

يُحدّد الخلفية الحقيقية لذلك الانزعاج أولًا أن تجيب الحكومة إجابة علمية واقعية حقيقية لا لَبْسَ ولا مواربة ولا مغالطة فيها على ما يأتي:

ما هو واقع التركيبة الوزارية الآن وعدد من التركيبات الوزارية السابقة؟ وما هو واقعها من حيث العدد الكلّي للوزراء في كلّ تشكيلة وزارية فيها؟ وما هي النِّسَب في كل واحدة منها للعائلة الحاكمة وللطائفتين الكريمتين في الوطن؟ وهذه التشكيلات بهذا الواقع مِنْ صُنْع مَنْ وسياسة مَنْ؟ وما هو المقياس الذي اعتمده صانعوها؟ وفي أي اتجاه كان التطور لهذه التشكيلات؛ في اتجاه التخفيف أو التأكيد للمقياس الثابت الذي كان يقف وراءها؟

وتأتي الأسئلة السابقة كلّها في شأن وكلاء الوزارات، والمراكز الإداريّة، والمجلس النيابي ومجلس الشّورى، والمؤسسة القضائية، والمؤسسة الأمنيّة، ومؤسسة الجيش والمستشارين وكلّ أجهزة الدولة ذات الأهمية المتميّزة.

وبعد الإجابة الصريحة الحقيقية الخالية من اللف والدوران سيتضح أنَّ المرفوض من الدولة هو المقياس الطائفي أو نسبة التمثيل التي تتضمنها صيغة (6 – 6 – 6) أو صيغة (8 – 8 – 4) وأن ما هو مطلوب الدولة ما هو أبشع في الصورة وفي الإطار الطائفي وحسب المقياس الطائفي بأن تكون التشكيلة من مثل (8 – 8 – 2) على أن نسبة اثنين من 18 هي نصيب طائفة معيّنة كُتِبَ عليها في نظر السلطة قَدَرُ التهميش والإقصاء والإضعاف.

الإجابة العلمية الدقيقة غير المنفعلة على الأسئلة المتقدمة هي التي توضّح الحقيقة.

هل يعود الربيع ربيعًا؟

أُطلق عنوان الربيع العربي على الثورات العربية التي شهدتها الساحة العربية من قريب.

وأظهر ما دفع لإعطاء هذا الوصف لها هو إسقاطها لعدد من كيانات النظام العربيّ القديم الذي عانت من ويلاته شعوب الأمة الثائرة.

والآن شَهِد استعمال هذا الوصف انحسارًا وتراجعًا بدرجة ملحوظة، وحلَّ في أوساط الأمة يأسٌ بعد الأمل الكبير.

والسبب لذلك هو تخلُّف النتائج المتوقّعة للشعوب للأنظمة التي كان مرتقبًا أن تتولّد من رَحِم هذه الثورات وهي نتائج مغرية([23]). وأكثر من ذلك أن جاءت النتائج صادمة من تقاتل على السلطة، ومذابح بشِعة، وهمجية قاسية، وفوضى عارِمة وحياة غاب، وأخلاقيات حيوان، وخطر يتهدّد الأمة كلّها.

الرّبيع تحوّل في النظر العام من ربيع إلى خريف، ومن نسيم إلى جحيم.

ويُسأل ما هو ربيع شعوب أو أمة لنتعرّف من الجواب ما بين الرّبيع في معناه الصّحيح وصورته الجذّابة الرَّائعة وبين ما عليه ما صارت إليه الأمور اليوم، وما ينتظر الأمة في غدها القريب أو البعيد.

وإنما يصدق ربيع شعب أو أمة بعدد من الأوصاف والمقوّمات. ومن ذلك ما يأتي:

1)أمن واستقرار يسود حياة المجتمع، وعلاقات عادلة مرضيّة وانسجام وتعاون في البناء الصّالح للإنسان والوطن بين شعبٍ وسلطته، وأمّة وحاكمها.

2)نظامُ حكمٍ متوافق عليه ودستور يكفل العدالة ويقوم على احترام الحق، ويُحقّق حاجات الحياة وطموح الإنسان وهدفه بما هو إنسان وغايته التي تتناسب مع فطرته، وتكوينه المحكم الدقيق الهادف الكبير.

3)تقدُّمٌ ولو أوّلي في مستوى الإنسان، وأوضاع حياته من سياسية واقتصادية وصناعية وزراعية وخَدَمِيّة وصحية وغيرها من أوضاع القوّة والبناء السليم. وعودةٌ للقوة والمتانة والصلاح للبُنية التحتية للبلاد، ووضعُها في خطّ النموّ والتطور والازدهار.

4)اكتسابُ الشعب أو الأمة بفعل تقدُّمها موقعًا جديدًا متقدّمًا من بين سائر الشعوب والأمم على خلاف ما كان قبل الثورة والنظام الجديد.

5)خروجُ الوطن المنتصِر من أيّ تبعية مذلّة كان يعيشها قبل الثورة والدّولة التي أنجبتها، وتمتُّعه باستقلال حقيقي ثابت يقوم على الاكتفاء الذاتيّ، ويضمنه موقع القوة، وتُعزّزه الثقة بالذات.

6)عودة شعوب هذه الأوطان وحكوماتها المنتصرة أو الأمّة إلى انتمائها الحضاري عودة صادقة، وهويتها الأصيلة التي تُمثّل سر تميّزها، وتمدها بروح الهدى والعزة والبناء والجهاد والاستقامة والصمود، وتميّزها بمستواها الإنسانيّ الرفيع الرائع الجذّاب.

ولا شيء من هذه الكيانات من عطاء الثورات العربية قد تحقَّق له نصيب من ذلك، بل جاءت النتائج في واقعها الحالي مخيّبة للآمال. ولهذا الواقع المؤسف أسبابه الخاصة المؤلمة وإن كان سير الشعوب الثائرة والأمة الحيّة الناهضة لا يتوقّف، وحركتهما لا تعرف الانكسار([24]).

       مواطَنتان:

       هناك مُواطَنتان؛ مواطَنةٌ حقيقية واقعية تتمثّل في الولادة على أرض بلد معيّن، والعيش فيها، والانشداد النفسيّ بها وبجوّها وأهلها، والتفاعل مع حركة الحياة القائمة عليها، ومواطَنة أخرى اعتبارية تُعتبر من جهة مسؤولة أو شخص مسؤول يمتلك صلاحية ذلك قانونًا على أساس من شروط ومواصفات محدَّدة فيما ينبغي، أو بصورة اعتباطية وغير قانونية كما قد يحصل خارجًا في بعض البلدان وأنظمة الحكم المتخلِّفة.

       وهناك حقوق وواجبات قانونية موضوعها المواطنة بقسميها الواقعية والاعتبارية.

       ومما لا ينبغي أن يُشَكَّ فيه أن المواطنة الواقعية هي الأصل ولا يمكن للمواطنة من القسم الثاني أن تُجاريها ثباتًا وقوّة، ولو جاء تفاوت في الحقوق المترتبة على هذه وتلك فلا بد أن يكون الترجيح والتميُّز للحقوق القائمة على المواطنة الحقيقية المتأصِّلة، وهذه المواطَنة ثابتة في الواقع لا يُلغيها الاعتبار، ومصادرتها تعسّف محض، وأيّ قانون لا يسلبها وصفها، وتبقى قائمة في ميزان الحقّ وبلحاظ تأصُّلها.

       ونفي المواطن من وطنه لوجه أو غير وجه عدلًا أو ظلمًا لا يُلغي أنه مولود في هذه الأرض وقد عاش فيها، وعودته بعد نفيه لا يُحوِّل مواطنته من مواطنة واقعية إلى كونها من النوع الاعتباري([25]).

       وهذا النوع القوي المتأصّل والأصل في المواطنة يُعامَل كما في البحرين هذه الأيام على مستوى كونه ورقة رخيصة تثبت بالاعتبار وتسقط بالاعتبار وحتى من غير ضوابط أو محدِّدات قانونية ثابتة ولو جائرة.

       وتُقدَّم المواطنة الاعتبارية عليها وتتميّز بحقوق أشدّ منها حسب هوى السياسة، وتقديرها لمصالحها التي لا تعرف حقًّا ولا قِيَمًا.

       وفي غياب الرادع يستمر إجراء إسقاط الجنسية اليوم ويتوسّع ويُهدِّد كلّ مواطن أصليّ لا ترضاه السلطة.

       البحرين في وضعها الواقعيّ اليوم، وفي أكبر مساحة منه، وبلحاظ ما يجري على الأرض فيها من أحكام قضائية، وسياسية وتنفيذيّة، وإجراءات أمنيّة، وتشريعات مما يجري على يد السلطات المتعددة كلها اسمًا الواحدة حقيقة ومسمًّى هو وضع لا ينتسب إلى خلفيّةٍ من أحكام الدين، ولا دستور عصري، ولا قانون عادل، ولا عرف عقلائي، ولا مصلحة وطنية، ولا احترام لحقوق الإنسان وكرامته. إنه وضع خارج العصر، وخارج الحضارة، وبعيد كل البعد عن ثوابت الدين، وقِيَمه الخالدة.

       وضع مُمْعِنٌ في الرجعية والتخلف… وضع من أوضاع الغاب. وإلّا فكيف يحدث كل الذي يحدث على الأرض على يد السلطات المختلفة، وكيف يستمرّ مسلسل إسقاط الجنسية عن المواطنين بالجملة ومن غير حساب؟!

       اللهم صلّ على محمد و آل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم ارحم أمّة الإسلام وأخرجها من الفتنة القاضية، وغمرة الهلاك المحدق بها، واضرب على يد كل ظلم وكل جهل تفتك بأمنها ووحدتها ووجودها يا قويّ يا عزيز يا شديد.

       اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، وردّ غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة وسلام.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([26]).

 

[1]– سورة ق/ 6 – 8.

[2]– وكم هي المسافة كذلك بين نظر غزير متخصّص ونظر غزير غير متخصّص؟

[3]الكافي ج2 ص599 ط4.

[4]– ميزان الحكمة ج3 ص2462 ط1.

[5]– بحار الأنوار ج75 ص115 ط2 المصححة.

[6]– بحار الأنوار ج68 ص279 ط3 المصححة.

[7]موسوعة معارف الكتاب والسنة ج8 ص354 ط1.

[8]عيون الحكم والمواعظ ص221 ط1.

[9]– الأنفال/ 29.

[10]– الأعراف/ 201.

[11]الكافي ج2 ص434، 435 ط4.

[12]– الأعراف/ 201.

[13]– بحار الأنوار ج60 ص236 ط2 المصححة.

[14]– فالاعتبار قضية تأتي في طول العلم بالاستفادة من العلم، وبناء المواقف سلبًا أو إيجابًا عليه.

[15]عيون الحكم والمواعظ ص353 ط1.

[16]– والازدجار موقف عملي.

[17]عيون الحكم والمواعظ ص251 ط1.

[18]تحف العقول ص60 ط2.

[19]نهج البلاغة ج4 ص93 ط1.

[20]– على أن العبد يبذل كلّ جهده، ويكون لجأه إلى الله في التوفيق للاستمرار في هذه الجهود، وفي إثمارها الثمرة المطلوبة.

[21]– سورة التوحيد.

[22]– تريد أن تقول الدولة بأنها بريئة من كلّ هذه السلبيات والسيئات.

[23]– فيما كان الظن يذهب إليه.

[24]– ولهذا الموضوع تتمّة تأتي إن شاء الله.

[25]– لأنها لم تفقد أصليتها وقوامها في يوم من الأيام.

[26]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى