مراجعات قبل فوات الأوان

مراجعات قبل فوات الأوان

قاسم حسين

في خطبة الجمعة الماضية، تطرق الشيخ عيسى قاسم إلى جانبين مهمين: الخطابة والمنبر الحسيني، وهما من المواضيع التي يتكرّر طرحها سنوياً، لدورهما الكبير في التغذية الفكرية وتشكيل الوعي العام. وانتقد تدنّي الخطابة وإسفافها أحياناً، لما لها من آثار مدمّرة على الإسلام والمسلمين.

قاسم عالم دين محافظ، وهو من خريجي حوزة النجف الأشرف، وهي حوزة تقليدية محافظة، واقترابه من طرح هذه العناوين، مؤشرٌ على مأزقٍ يعيشه المجتمع الشيعي المعاصر. ففي الوقت الذي تتكلم التقارير والدراسات عن ما يسمّى بـ «المدّ الشيعي»، إلا أن هذا الصعود السياسي لا يوازيه صعودٌ فكري. فبينما شهدت الخمسينيات ظهور الأسماء الكبيرة، فقهاء وخطباء وشعراء، نعيش اليوم نهاية مرحلة الأئمة والفقهاء الكبار. (ربما هي ظاهرةٌ عربيةٌ عامّة).

النقد الذاتي ومحاولات الإصلاح لم تكن وليدة اليوم، فهذه سنة الحياة، حيث تتصارع الأفكار في المجال الديني كما تتصارع في ميادين الحياة الأخرى. والانتقادات التي تُطرح اليوم وتثير الكثير من الجدل، بما فيها نقد بعض الطقوس الدينية، ليست جديدةً، فبعضها يرجع إلى أكثر من ثمانين عاماً، كما في حركة المرجع الديني الكبير السيد محسن الأمين (قدس سره). هذه المدرسة التي تدعو للإصلاح، برز من بين أقطابها رجالٌ كبارٌ مثل محمد جواد مغنية وأحمد الوائلي ومحمد حسين فضل الله، أغلبهم من خريجي النجف الأشرف، حاضنة الفكر «الشيعي»، وأقدم جامعة إسلامية في العالم. وكانت تقابلها مدارس دينية أخرى تميل إلى الإبقاء على التراث والتقاليد على ما هي عليه، بل ومحاولة تأصيلها، ورفض أية دعوةٍ لمراجعة الذات والمسار. وهذا الاختلاف الشديد في الرؤية هو ما يفسّر التوتر الذي يحيط بأيّ نقاش حول مثل هذه المواضيع.

لم نعد قرى معزولةً، ولا ينبغي لنا أن نتصرّف في هذا العصر كمجتمعاتٍ منغلقةٍ على ذاتها، لا يهمها ما يُقال عنها أو كيف ينظر إليها العالم من حولها، خصوصاً أنها لا تتعلق بتقييم أفراد أو مجتمع، بل بنظرةٍ إلى مذهبٍ إسلامي عريق، وتاريخ أصيل.

إن عجلة النقد الذاتي بدأت بالدوران، والحاجة للإصلاح الداخلي بات ضرورةً، ومن حسن الحظ أن من يتصدّون لذلك هم من خريجي الحوزة الدينية، الذين يشعرون بثقل المسئولية، وليس من «الأفندية» الذين إذا تكلّموا قُمِعوا بالقول إنه ليس من اختصاصك، و«هل أنت فقيه»؟ ومتى بتنا نأخذ فتاوانا من المثقفين؟ مع أن أحداً من «المثقفين» لم يدّعِ هذه القدرة ولا الاختصاص ولا الأهلية للفتوى من الأساس. إنه ليس موضوع فتوى، وإنّما مراجعةٌ واجبةٌ للذات.

هذا المجتمع يحتاج إلى أن يراجع موروثاته وعاداته، ولا أقول معتقداته وثوابته، ليس حرصاً على نصاعة هذا المذهب الإسلامي العريق فحسب، وإنّما أيضاً على سلامة الجيل الجديد والحفاظ على حسن إسلامه. فما يجري في البلدان الأخرى نذيرٌ لكم، لتعيدوا حساباتكم من جديد.

قبل سنوات، قرأت إحصائيةً عن عدد الشباب الذين يتحوّلون سنوياً من الإسلام إلى النصرانية في بلدان المغرب العربي، خصوصاً الجزائر، التي شهدت ردّةً عنيفةً على ما كانت تقوم به الجماعات الإسلامية. وفي العامين الأخيرين، يشهد المشرق انتشار الأفكار الإلحادية في أوساط الشباب الخليجي، كردّة فعل على أعمال القاعدة والحركات التكفيرية. شبابكم وبناتكم ليسوا بمنأى عن هذه المؤثرات، ولن ينتظروا حتى تنتهوا من إنجاز ثورتكم الفكرية، ومراجعاتكم الدينية، واستحساناتكم الفقهية… يكون الوقت قد فات.

الوسط | العدد 4108 | الجمعة 6 ديسمبر 2013م

زر الذهاب إلى الأعلى