خطبة الجمعة (567) 8 شوال 1434هـ – 16 أغسطس 2013م

مواضيع الخطبة :

الخطبة الاولى : المنطلق الصحيح

الخطبة الثانية : عالمنا العربي والواقع المرّ – رحم الله امرءًا انتصح ونصح

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله الموجود بذاته، وكلّ موجد من دونه إنّما وجوده به، ولا وجود له بنفسه، ولا تأثير لشيء مما كان أو يكون إلا بتأثيره، ولا استقلال لذات أو فعل طرفة عين ولا أقل من ذلك عن إرادته، ولا قيام لإرادة أو اختيار لمختار إلّا بإذنه، وهو الغنيُّ المطلق، وكلُّ شيء محتاج إليه، معتمد على عطائه، محكوم لحكمه، مقهور لمشيئته.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله ما أحسن لنفسه من لم يعرف صديقه من عدوِّه، وقد أضرَّ بها ضررًا بليغًا قاتلًا من اتّخذ الصديق عدوًّا، والعدوّ صديقًا.

       وما اتّخذ عبدٌ من عدوٍّ له صديقًا أضرّ عليه من الشيطان الملازم له، القريبِ من نفسه، الذي لا يفترُ من الكيد به، ومن اتخذ من أولياء الشيطان صديقًا فقد اتّخذ من الشيطان صديقا.

       فما أشدَّ ما يقضي به العقل، والدّين، وصون النفس من السوء بأن يتّخذ المرء من الشيطان العدوَّ الأوّلَ عدوًّا، ومن أوليائه مثله عدوًّا؛ يحترس منهم جميعًا، ويفِرُّ منهم جميعًا، ويجاهد كلّ المجاهدة ألَّا يعطي لهم في نفسه موقعًا أو تأثيرًا.

       علينا عباد الله اللجأ إلى الله عزّ وجل، والعياذ به، وملازمةُ تقواه، ففي ذلك المأمن الحقُّ من كيد الشيطان الرجيم، وأوليائه الغاوين.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وأزواجنا ومن علّمنا علما نافعا من مؤمن ومؤمنة وجميع إخواننا المؤمنين والمؤمنات، واغفر لنا ربنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم أعذنا من كلّ شيطان مارد، وكلّ عدو كائد، وكلّ ضالٍّ مضلٍّ، ومن سُعاة الشر، والظالمين في الأرض، وأصحاب الفساد.

       أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث تحت عنوان:

المنطلق الصحيح:

       يقضي المنطق السليم بهذه القاعدة: فكِّر ثم اعمل، حيث إنَّ العمل بلا تفكير طرح للعقل جانبًا وهو الجنون.

       والعقلاء يبدأون كلّ مشاريعهم في الحياة بالتفكير في الحاجة والغاية والمنهج والأسلوب  والطريق.

       ولكن مع الإهمال لمسألة الحياة والتفكير فيما ينبغي أن تُوظَّف له، وتنتجه، ويكون حصيلة لها، والمسار الذي يُتَّخذ فيها، وما تستهدفه كلُّ مشاريع الإنسان فيها، وما يجب أن تؤديَ إليه أهداف هذه المشاريع مجتمعة من هدف رئيس وتُحقِّقه من غاية مشتركة واحدة تنتهي إليها الحياة يبقى التفكير في مشاريعنا الخاصَّة والعامة كلِّها، وما هي الأهداف التفصيلية لها، والطرق الناجحة لتحقيقها غير كاف، وقد تنتهي هذه المشاريع رغم ما تُحقِّقه من مكاسب آنيّة إلى ما يُناقض الهدف الذي يجب أن تؤدّيَ إليه هذه الحياة.

       وحيث تخسر حياتُنا هدفَها الذي كانت من أجله، ويُناسب قيمتَها، وتؤدي إلى نتيجة معاكسة نكون قد خسرنا الحياة رغم كلِّ النجاحات الجزئية والآنية التي حققتها مشاريعنا، وهي نجاحات على ترائيها كذلك إلّا أنها في حقيقتها خسارة.

       ومن أجل ذلك فالمنطقيُّ جدًّا، والعقلائي جدًّا، واللازم عقلًا ومصلحة أن تبدأ انطلاقة الإنسان في الحياة وقبل كلِّ مشاريعها بالتفكير في الحياة نفسها؛ في أصلها، وبدايتها، ونهايتها، وقيمتها، وغايتها.

       على مستوى مشاريعنا في الحياة لو أقدم أحدُنا على بناء بيت من غير أن ينظر أصل حاجته له، أو مدى حاجته وحجمها، وما يُناسب ظروف بيئته من بناء ويحمي منها، ومن غير أن يعرف أصلًا أن البيت للسكن أو للتفاخر به فحسب ثمَّ فكّر جيّدًا في كل مقدّمة من مقدمات البناء([1])، وخطط له التخطيط الحسن الذي يراه، وطلب له أمهر البنّائين، وتنظّر في تحديد موقعه، وأتمّ إنشاءه بجهد كبير، فهل يُجديه ما بذله من تفكير وجهد وتصميم شيئًا وقد تبيَّن له بعد إنشائه من غير تفكير في الهدف منه، وحاجته إليه، وتناسبه مع حاجته ومقتضيات بيئته، وإمكان إيجاره أنه فاقد للمصلحة، ساقط القيمة، لا يُؤدّي هدفًا، ولا يسدّ حاجة، وقد كان مضيعة للوقت والمال والجهد؟!

       وإذا كان هذا شأنَ هذا المشروع وأيّ مشروع أصغر أو أكبر من مشاريع الحياة وما يؤول إليه أمره إذا جاء غير مسبوق بالتفكير الكافي في هدفه الذي يجب أن يتّجه التفكير في كلِّ المقدمات المقوّمة له إلى ما يؤدي إليه بحيث يصبح ضياعًا وخسارًا؛ فكيف بأمر الحياة لو انطلق الإنسان كيفما يهوى وتشتهي له نفسه، وتسوقه له العاطفة، وتحمله عليه الظروف والأوضاع المحيطة به بلا تفكير جدّي ولا وقفة تأمُّلية مع عدد من الأسئلة الأساس التي تُعينه على معرفة هدفِها، وما ينبغي أن يتّجه له فيها، وما هي الطريقة المُثلى لاستثمارها؟! ألا يمكن جدًّا على هذا الفرض أن تذهب الحياة هباء، وتنقلب خسارًا، وتُوقِع في مأساة، وتنتهي إلى كارثة؟!

       إنّ أمام الإنسان وهو يريد أن ينطلق في هذه الحياة يبني حاضره ومستقبله، ويطلب لها الخير، ويدفع عنها الشرّ، ويحقّق لها السعادة عليه أن يقف أمام عدد من الأسئلة ليجيب عليها بموضوعية وصِدْق وإخلاص مستعينًا بعقله وفطرته، وما تنطق به الحياة من عِبر ودروس وعظات لا تكتمها عن أحد.

       إنها أسئلة من هذا النوع:

       وجودي أصليٌّ أو طارئ؟ حياتي التي أعيشها دائمة أو مؤقتة؟ متى وُجِدت، وكيف وُجِدت؟ ماذا كانت بدايتُها، وكيف تكون النهاية؟ من أوجدني، ومن ينهيني؟ نهاية هذه الحياة هي النهاية، أو أنها نهاية حقيقتها البداية؟ حقيقتي من حقيقة النّاس الذين يضمهم هذا العالم أو أن لي حقيقة متميزة؟ أنا جزء من هذا الكون يجمعني مع كل من فيه وما فيه أننا جميعًا لم نكن ثم كنّا أو أنّ شيئًا منّا له تميزه الخاص حيث كان غنيًّا بالوجود بذاته، فما سُبِقَ بعدم ولا احتاج من أحد إلى وجود؟([2]) أنا حرّ بحرية مطلقة، سيد في هذا الكون، أو أنّي محكوم، ومَسُود وحياتي مقيَّدة ومشروطة بما لا يُعدّ من القيود والشروط التي لا أملك من أمرها شيئًا كما لا أملك من أمر نفسي شيئًا؟ أجدني مهيئًا خلقةً وكيانًا لحياة هادفة قاصدة واعية، أو أجدني وجودًا ليس له إلّا الضياع، والتسيُّب، والانفلات، والذوبان الأعمى في التيار العام، وأن يقضي الحياة بلا خارطة طريق، ولا منهج معيّن، ولا غاية محدّدة، ولا قصد؟

       لي عقل يُميّزني عن الحيوان، وأسئلة تتجاوز عالم الحسّ وكلِّ حدوده، وتتجاوز الزمان والمكان، وتتصل بعالم الغيب وما قبل الكون الحادث، وما بعده مما ليس له، ولكن أَلي أشواق وتطلعات وهدف وطموح ليس مما يرتبط بالبدن، ومما يتقوم به، وإنما مما يعطيني دورًا آخر غير دوره، ووظيفة أخرى غير وظيفته، وممارسات فوق ممارساته، ونوع لذّة لا يعرفها هي لذّة روح لا بدن أم أنا بدنٌ فحسب إحساسًا ماديًّا، ودوافع مادية وشهوة مِن هذا المستوى، ودورًا ووظيفة ولذّة لا غير؟

       واضح أنْ ليس من كرامتي أنْ أتنازل عن مائزي العقلي لأكون عند مستوى الحيوان، ولكن أليس من الواضح كذلك أنه ليس من كرامتي ولا سعادتي أن أنسى مائزي الرّوحي، وأتخلّى عما أفترق به عن الحيوان من هدفٍ وطموح، ودور للرّوح يتناسب مع هذا الهدف والطموح، ويُغذّيني بلذةٍ أكبر وأبقى وأرقى من لذّة البدن؟ ذلك مع كون المائز العقلي إنما هو مقدّمة بينما تألّقُ الرّوح، وازدهارها وشعورها بلذّة الهدى والرّضا والسعادة هو الهدف.

       قبل أن تنفلت حياةُ أحدنا على غير هدى، وإلى غير غاية، وأن لا تأخذ بضابط من ضوابط العقل والدّين والخُلُق والضمير، وقبل أن نخضعها للكثير من القيود والضوابط، ونفترض لها غاية معيّنة، ومسارًا محدَّد من الضروري أن نطرح على أنفسنا النوع المتقدم من الأسئلة، ونتوثّق من صحة الإجابات التي نتوصَّل إليها([3]).

       ولا ترجع في إجاباتك على هذه الأسئلة الجذرية إلى كافر أو مؤمن. يكفيك أن ترجع فيها إلى العقل الإنساني المشترك الذي يعرفه داخلك، وفطرتك ووجدانك العامَّان، والهُدى الذي تقدّمه إليك عِبَرُ وعظات ودروس الحياة وسننها القائمة الدائمة الحاكمة.

       ولن يجد أحدنا صعوبة أبدًا في أن يتلقَّى من هذه المصادر المعرفيّة الأكيدة الإجابة الواضحة الشّافية الي لا تردُّد فيها بأنه وكلّ شيء آخر لا يغنى بالوجود بذاته، وأنه ما كان ثم كان، وأنه يبقى على الحاجة والافتقار للوجود من خارجه لا يَفْرُق في ذلك في مرحلة استمراره عن مرحلة ابتدائه، وأنَّ إحداثه لا يُحوّل ذاته من الفقر بالذات إلى الغنى بالذات، ولا يقلب حقيقة ذاته([4]).

       ولن يصعب عليه كذلك أن يعلم بأن كان على بداية متواضعة في ابتداء وجوده، وعاش حالة من التدرُّج في الوجود حتى وصل إلى ما هو عليه من نُضْج وقوى ومواهب، وأنه إلى انحدار ونهاية تُغادر به ساحة هذه الحياة.

       وأنَّ له عِدّة من فطرة، وقوى ومواهب عقلية وروحية، وإرادية تجعله مسؤولًا عن أن يكون هادفًا، وأن يعيش كلّ حياته على طريق الهدف الصحيح([5]).

       ولن يشتبه أبدًا في أنَّ الكون الذي كان غارقًا في العدم لم يُخرِج نفسه منه بنفسه، ولم يغنَ بالوجود الذاتي بإحداثه من غيره، وأنَّ وراء الكون خالقًا موجودًا بذاته، غنيًا بوجوده، مُدبّرا للكون، قائمًا على أمره، يحفظ له دوامه، ويُبقي له نظامه، ويُحكم بقدرته وإرادته وحكمته بناءه.

       ولن يُخطئ بعد ذلك ولن يشك في أنَّ الهدف الصحيح لحياة كلّ شيء لا يمكن أن يكون على غير طريق الله سبحانه، والتقرُّب إليه، والاستكمال باقتباس النور من أسمائه، ونيل رضاه.

       والحمد لله رب العالمين.

       اللهم صلّ وسلّم وزد بارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم كما أقمت لنا في داخلنا وخارجنا براهين عظمتك وقدسك وجلالك وجمالك وكمالك وربوبيتك وألوهيتك فلا تجعل لنا تخلّفًا أبدًا عن معرفتك، ولا ميلًا عن دينك، ولا فتورًا في طاعتك، ولا شكًّا في حقك، ولا شركًا بك يا واحد، يا أحد، يا فرد، يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد، يا عليّ يا عظيم، يا رؤوف، يا رحمان، يا رحيم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}([6]).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية

       الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، ولا هاديَ لمن لم يهده، ولا مُضلّ لمن هداه، ولا منقِذ لمن أهلكه، ولا مُهلِك لمن أنجاه، ولا يُخطئ السّوءُ من أراد سوءَه، وما فَقَدَ الخير من أراد به الخير إذ لا مالك لخيرٍ أو شرٍّ، أو نفعٍ أو ضرٍّ ممن سواه.

       أشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.

       عباد الله ما حقّ لغير الله سبحانه في عقل ولا فطرة أو دين أن يُعبد من أحد وما حقّ له، أن يُطاع إلّا بإذن الله.

       والحقّ كلّ الحقّ أن كلّ من عداه عزّ وجلّ كان عليه أن يعبده لأنه من خلقه، وملكه، وكل تدبيره بيده.

       ومن ذهب إلى غير ذلك فقد ضلَّ ضلالًا مُبينًا وخسر خسارًا فادحًا كبيرًا.

       فلنُوحِّد الله عباد الله، ونخصّه بالطاعة والعبادة، ونَدُمْ على تقواه، ومن يتّقه يجعل له من أمره فرجًا ومخرجًا، ويأته رزقُه من حيث لا يحتسب.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين.

       اللهم اجعل قلوبنا موقنة بدينك، مضيئة بنور معرفتك، غنيّة بالهدى من عندك، مشغولة بذكرك وحمدك وشكرك، مُسارِعة إلى طاعتك، مفارقة لمعصيتك، راضية بقضائك وقدرك، متوكِّلة عليك، منصرفة إليك يا أرحم من استُرحِم، وأكرم من سُئِل، وأجود من أعطى.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصَّادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.

أما بعد أيّها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى حديث تحت عنوان:

عالمنا العربي والواقع المرّ:

واقعٌ خطيرٌ منذرٌ مخوفٌ مرٌّ يعيشه عالمنا العربي في هذا المقطع من الزمن. أكثرُ من بلد من البلدان العربية وفي مقدّمتها مصر ذات الثِّقل الكبير والتأثير المركزي في العالم العربي يتهدّده مصير أسودٌ كالحٌ كئيب، وقد بدأ هذا البلد المهم المحور هذا الاتجاه وبصورة متسارعة قاسية.

وهو شيءٌ يأسى له كلّ عربيّ، وكلّ مسلم غيور يهمّه أمرُ الدين والأمَّة، ويرى فيه خسارة كبرى من خسائرهما، وتهديدًا لمصير الأمة بكاملها.

وتونس وليبيا إنْ لم تبادر كلٌّ منهما لتدارك أمرها فإنّها سالِكة إلى المصير نفسه وكارثته.

ما لم يقتنع الكلُّ في أيِّ بلد عربي بالاستحالة العملية بحسب ما يُمليه ما وصلت إليه الأمة من أوضاع ذات واقع فعليٍّ حادٍّ من استمرار تفرُّد الحزب الواحد تحت أيِّ عنوان كان، والفصيل الواحد، والتوجُّه الواحد، والطرف الواحد، والقبيلة الواحدة، في تجاوزه كلّ الآخرين أو أيَّ مكوّن ملحوظ من مكوّنات المجتمع، واستخفافه بوجودهم وحقوقهم وإنسانيتهم وانتمائهم فإنَّ ظاهرة الاحتقان والانفجارات التي تعقِبُها لن تختفي من البلاد العربية، وسيبقى الخطر المهلك محدِقًا بهذه الأمة([7]).

وقد غدا عالمنا العربي والإسلامي كذلك في غالبهما بلدانًا مضطربة، وأوضاعًا قلِقة، تُنذر بفتن كبرى ونتائج كارثيَّة، وعلاقات دولية متقلِّبة بينها لا تستقرُّ على وضع، لا تنطلق من الحِسِّ بوحدة الأمة، ولا التقدير لدينها، ولا الرعاية لمصلحتها، وإنما تخضع لمصلحة الحكم هنا وهناك، وما قد تُمليه عليه علاقته مع الأجنبيّ، ويضمن له استمراره في موقع النفوذ والسلطة.

ترون أنَّ عدوَّ اليومِ من بين هذه الدول كان صديق الأمس القريب حسب المُعلن، وإن كان لا صداقة في الواقع بين هذه الدول.

وأعان الله بلدًا تجرّه السياسة الخاطئة إلى أيّ لون من ألوان الحرب الداخلية، وتقويض أمنه فإنه، وإن صعُب أمر الحرب كلِّ الحرب، وعظُمت خسائرها إلَّا أنَّ الحرب الأهلية وكلّ حرب داخلية أشدّ ضغطًا، وأشمل سوءًا، وأبلغ أثرًا.

يتحارب البلدان فتُشغِل الحربُ الجيشَ في كل منهما، وقد يسع الشعبين أو الأغلب من أبنائهما الانصراف إلى أعمال الإعمار والبناء المعتادة للبلدين، ويستمر الإنتاج الفكري المبدعِ في الحقول الأخرى، وتعيش مجالات الحياة المختلِفة فيهما حركتها الإنتاجية إلى حدّ طبيعي أو كبير.

بينما تشغل الحرب الداخلية كلّ الأطراف، وتشدها إليها شدًّا متوترًا بدرجة أكبر، وتجعلها تُشارك فعلًا في تحطيم البلد، وعملية الإضعاف والاستنزاف لكلِّ القوى، وتستقطب كلَّ الأطراف باعتبارها أطرافًا مشارِكة متجاذبة متقاتلة عن أيّ إبداع فكريّ، وإنتاج عملي إلَّا ما يُغذّي الحرب ويُوسّعها ويُعمّقها ويمدّها بأسباب الفتك والاجتثاث والاستئصال التي تُسهم في حرق الوطن، وتجتمع على التعجيل بإنهاكه وتدميره.

ومن بعد حرب بين بلدين تبقى العلاقة متشنِّجة بين شعبيهما، وتستمرّ المقاطعة إلى حين، وهي علاقة متعِبة لهما ومستتبعة خسائر، ولكن كلُّ ذلك لا يُساوي شيئًا مما تُعقبه حرب الداخل من توابع وذيول وتصدُّعات وتوترات وتعديات وعداوات في احتكاكات الأسواق والمؤسسات والمدارس والشوارع والدوائر والمعاملات بين أبناء الشعب الواحد الذين يلتقون يوميًّا وتتشابك بينهم المصالح بصورة كبيرة، وتكثر التفاعلات، ويتبادلون الحاجة الشديدة للتفاهم والتعاون وحل المشكلات المشتركة العامة.

إنَّ البلد الواحد يبقى فاقدًا للأمن لمدة طويلة بعد التوقُّف الأولي لحربه الداخلية ليشقى أبناؤه بذلك وتضطرب حياتهم وتقلق إلى أمد بعيد.

وقد أصبح الأمن اليوم أشدّ اشتراكًا بين البلدان المختلفة، وأكبر تأثّرًا سلبًا وإيجابًا في انتعاشه وتضرره بقيامه هنا أو انحساره هناك، وهو أشدّ في هذا وذاك في البلد الواحد، ولم يعُد ممكنًا أن يعيش آمنًا في قسم منه مرعوبًا في قسم آخر، وأن يكون أمنُ هذا على حساب أمن ذاك، أو أمن ذاك على حساب هذا وإن تمتّعت طبقةٌ بما لا تتمتع به أخرى من أسباب البطش والفتك.

فالتفكير يجب أن يتّجه عند الجميع إلى كيفية الحفاظ على أمنهم جميعًا، لا على أن يتّجه التفكير عند كلِّ طرف في كيفية إرعاب الآخر ليُوفّر لنفسه الأمن بإرعابه.

فذلك إلى جنب أنه على خلاف الدّين والقِيَم ومصلحة الأوطان وبنائها، ومطلب وحدة أبناء الوطن الواحد الذي تمُدّه بالقوة فإنه لا يُؤدّي غرض الأمن الجزئيّ المطلوب ويهدمه.

وأمنُ الجميع ليس مستحيلًا ولا مستبعدًا وله طريقه الواضح الذي دلَّ عليه العقل والدين وتجارب الشعوب والأمم. طريقه العدل لا الظلم، وتقاسم خيرات الوطن لا الاستئثار، والاعتراف بقيمة الآخر لا التنكُّر لها، وبحق الشَّراكة في صوغ الحاضر والمصير، لا تفرُد طرف بالتصرف في شأن الآخر([8]).

وقد تبلور اليوم أنَّ الشعوب هي صاحبة الحق في اختيار كيفية سياستها، وأنَّ من واجب الحكومات أن تستجيب لاختيار الشعوب، وأن تتماشى في سياستها مع رغائبها([9])، وأن الأصيل في هذه السياسة هو الشعب، والحكومة بمنزلة الوكيل الذي تتقيَّد إرادته في مجال توكيله بإرادة موكّله.

والدنيا اليوم وبرغم كلِّ المخاضات الصعبة التي تُعاني منها المساحة السياسية آخذة بهذا الاتجاه.

ولو أخذ المسلمون بهدي إسلامهم في كلِّ مساحة الحياة لما احتاجوا إلى تعب التجارب، والمرور بالأخطاء الكثيرة حتى يكون لهم ما يكفيهم من الرُّشد في السياسة أو غيرها من مسائل الشأن الخاصّ والعامّ، ويُحقّقوا لأنفسهم العلاقة المستقرة، والأمن المطلوب، والنجاح المنشود، والتقدُّم الزاهر.

لو أخذوابهدي الدين لحقّق لهم ذلك من الأمن والنجاح والتقدُّم والسَّبْق ما لا تحققه كلُّ التجارب، ولا تلحقهم فيه أمّة من الأمم([10]).

رحم الله امرءًا انتصح ونصح:

جاء عن الوسط العدد 3995 الخميس أمس تحت عنوان: البحرين تُتابع التطوّرات في مصر أنَّ مملكة البحرين أكّدت أنَّ حقّ التعبير عن الرأي بشتّى الوسائل السلمية بما في ذلك التجمُّعات والاعتصامات هو حقٌّ مكفول للجميع ما تم الالتزام بالقانون والنظام، ولم يُعطِّل مصالح المواطنين أو يعرض حياتهم للخطر.

وما أجمل  النصيحة ممن انتصح بها أولًا، وقدَّم من نفسه مثالًا حيًّا ليَقتدي بفعله قبل قوله الآخرون.

والناس هنا يطالبون الحكومة أن تأخذ على نفسها الالتزام بما نصحت به الحكومة في مصر، وأن تعترف لشعبها بما اعترفت به للشعب المصري الكريم من حقّ، فهل تفعل؟!

اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم أنقذ أمة الإسلام مما صارت إليه من شفا جُرُفٍ هار، وانقلها من سوء الحال إلى حسن الحال، وارأف بها يا أرحم الراحمين.

اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، وفك أسرانا وسجناءنا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة وأمن وسلام.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([11]).

 

[1]– بعد أن أهمل الأسئلة الرئيسة.. بعد أن تجاوز التفكير في هدف المنزل والبناء.

[2]– هل أنا وغيري كذلك؟

[3]– لا تترك للنفس أن تأخذ طريقها بلا دراسة، ولا تخضعها لألف قيد وقيد، ونلزمها غاية محدَّدة بلا دراسة.

[4]– العصا التي تفقد وجودها من داخلها حين تُوجد لا تكون غنيّة بذاتها عن العطاء.

[5]– داخلك يُملي عليك ذلك.

[6]– سورة الكافرون.

[7]– وهو أحرم الحرام.

[8]– وكأنّه قد خُلِق سيّدًا وخُلِق الآخر له عبدا.

[9]– أي رغائب الشعوب.

[10]– وفوق ما كانوا يحلمون به.

[11]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى