خطبة الجمعة (566) 1 شوال 1434هـ – 9 أغسطس 2013م

مواضيع الخطبة :

الخطبة الاولى : من هدي القرآن الكريم

الخطبة الثانية :الاستقرار الأمني –  الإصلاح – كيف تكون قويتا ؟-  أمّتنا إلى أين؟

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله الخالق الذي لم يُخلق، الرّازق الذي لا يُرزق، الغنيّ الذي لا يفتقر، القويّ الذي لا يضعثف، القادر الذي لا يُعجزه شيء، العليم الذي لا تخفى عليه خافيةٌ في أرضٍ ولا سماء، ولا برٍّ ولا بحر، ولا مما كان أو يكون.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله إنّ في تقوى الله وقايةَ النفس من كلّ ما ينحطّ بقدرها، ويطفئ نورَها، ويؤول بها إلى الفساد، وينتهي بها إلى النّار. وفيها الجنّة التي وَعَدَ الله بها المتقين، وهي منزل أهل العقول الكاملة، والأرواح الطاهرة، والقلوب النيّرة، والخُلُق العظيم.

       ولأنَّ التقوى هدى بلا ضلال، وحقٌّ بلا باطل، وخير بلا شرّ، وسعادة بلا شقاء، ولرأفة الله عزّ وجلّ بعباده ورحمته بهم شدّد على دعوتهم لتقواه، وتواصلت الدّعوة إليها من أنبيائه ورسله.

       يقول عزّ من قائل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}([1]). وما أكثر ما زَخَرَ به كتاب الله من أمره لعباده بالتقوى.

       ونقرأ من نُصْح الأنبياء والرُّسل لأقوامهم بتقوى الله الخالق العظيم.

       {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ}([2]).

       {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ}([3]).

       {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ}([4]).

{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ}([5]).

{إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ}([6]).

وتكرَّرت كلمة أخوهم في هذه الآيات الآمرة للأقوام بالتقوى عدى الآية الأخيرة. وأيّ أخوّة صادقة لا تدعو صاحبَها لدعوة إخوانه لتقوى الله الذي لا سبيل لأحدٍ لنجاة من شقاء، وفوز بنعيم إلا بتقواه.

وتكرّرت هذه الآية الكريمة {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} بعد كلِّ آية من الآيات السابقة.

وكلُّ من صَدَقَت أمانته كان عليه أن ينصح عباد الله بتقواه.

اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.

اللهم اعمر قلوبنا، وكلَّ حياتنا بتقواك، واجعل تقوانا إليك كما تريد، وسعينا في سبيلك على ما شَرَعت، وجهادَنا فيك كما أمرت، وقصدَنا إليك خالصًا، وطاعتنا إليك ثابتة برحمتك يا أرحم الرّاحمين.

أما بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى هذا الحديث القرآني:

من هدي القرآن الكريم:

يقول الكتاب العزيز:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}([7]).

يقول الله سبحانه:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وهي قضية يقولها عقلُ الإنسان الذي جعله دليلَه، وفطرته التي هي المنطلق الأوّل لمعرفته، والوجدان الأصل الذي يرجع إليه، والأمر الذي كلُّ آيات الكون ونظامه دلائل عليه، وما يقود واقع كل الموجودات في فقرها الذاتي إليه.

لا شيء مما هو غيرُ حقيقة الوجود الحقّ الذي هو موجود بذاته، غنيٌّ عن فرض موجِدٍ له، وكلّ ما هو غيره إنما هو عَدَمٌ في نفسه([8])، وليس شيء من هذا بقادر على أن يُخرج نفسه بنفسه من عدمه فضلًا عن أن يخرج شيئًا آخر من المعدومات إلى الوجود([9]).

والميّت لا يُعطي الحياة، والعاجز لا يَهَب القدرة، والجاهل لا يمنح العلم، والفاقد للإرادة لا يوجدها فيمن سواه، ولمن سواه.

والله الذي هو خالق كلّ شيء لا يكون غيره وكيلًا على كلّ شيء يرجع إليه أمر تدبيره وتصريف شأنه وحفظه ورعايته وإيصاله لغايته وهدايته ودلالته وحُكْم وجوده ورزقه[10]).

وعليه فلا شيء غير الله عز وجل يملك كثيرًا أو قليلًا من أمر نفسه أو أيّ شيء غيره خارج ما ملّكَه الله، وأَذِن به.

وكلُّ خزائن السماوات والأرض مما به تقوم وتُحفظ وتدوم، وما يمدّها من مقاديرها التي تنتظم بها من وجود وحياة، مختلف الرزق، وما لها من القدرة على التأثير، وكل ّما لها من حاجة، وكلُّ مفاتيح هذه الخزائن إنما هي لله وحده، لا شيء منها لمن سواه.

وهي خزائن غيب لا تنفد، ولا يأتي عليها نقص يتنزّل منها إلى عالم الشَّهادة بالمقدار المقدور، والوزن الموزون الذي يصلح به([11]).

وقِوام تلك الخزائن قدرة لا تُحدّ، وعلم لا يتناهى، وإبداع لا ينقطع، وحياة لا تتوقّف، وإرادةٌ مطلقة لا مُعطِّل لها.

فمن بعد هذا من للكافر إذا كفر بالله؟! ومن أين يجد الخير ممن سواه؟ ومن أين يطلب النجاة التي يريد؟! وماذا ينقذه من الخسارة ويخرجه من الهلاك؟!

من أين يجد أحد مُعينًا له على خير، منقذًا له من شر، دافعًا عنه خسارة وهو يكفر ويجحد بآيات الله على نورانيتها وهداياتها التامّة استعلاءً على الحقّ وخروجًا على العدل، واعتزازًا بالباطل؟!

وللكفر خسارة في الدّنيا، وخسارة في الآخرة.

خسارة في الدنيا حيث يفقِد في حياته اليقين الذي لا يُعوّضه عنه شيء آخر، ولا يُعطيه ما يورثه من الثقة والطمأنينة، واستقرار النفس، والرّضا بمجاري القضاء، ولا يكون له بفقده له، وارتكاسته في الظلمة والشكّ والرّيب من سبيل إلى ما يوفّر له الأمل في مستقبل يعرف أنه مُقدِمٌ عليه؛ وهو مستقبل ما بعد هذه الحياة التي لا تبقى ولا تطول.

وفي الآخرة يخسر الكافر نفسه، ويخسر أهله… إنه يخسر مقامًا كريمًا وحياة سعيدة أبدية ليصير إلى بديل عنها من شقاء دائم، وعذاب مقيم.

والحال هذه الحال، والواقع هذا الواقع، ومع كون الحقّ جليًّا لا غبار عليه في أن الخلق والملك وكلّ التدبير والتصرف في كلّ شيء في الكون بيد الواحد الأحدماذا تقول فيمن يأتيك، ويعرض عليك، ويأمرك أن تعبد مع الله أحدًا؟!

{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}([12]).

أكبر الجهل، أعظم السَّفه، أغشّ النصح، أبشع الظلم، أسوأ الطلب أعدى العداوة، وأشدّ الكيد أن تقول لي اعبُدْ غير الله.

وإنّه لا أسقط منّي، ولا أقسى على نفسي منّي ولا أشدّ استخفافًا بها وإهلاكًا إليها حين أُعطي لطلبك هذا بعض لين، أو ألقاك بشيء من الابتسامة وأنت تعرض عليَّ مثل هذا الطلب السّاقط السفيه المهلك.

طلب مرفوض منبوذ مردود بكلّ حسم وجزم عند أي عاقل محترم لنفسه، مشفق عليها، له بقيّة من وجدان، شيء من الأخذ بالحقّ جاء هذا الطلب بأيّ عنوان، وأيّ ذريعة، وتحت أيّ إغراء، أو تهديد أو وعيد، ولا يقبل منه شيئًا إلا منكوسُ عقلٍ، ومنكوس ضمير، خاسر لإنسانيته.

تأكيد من الوحي الذي لا مِراء فيه، والقرآن الذي لا يقرُبه باطل أنَّ الحياة خواء، والعمر هباء، والعمل وإن بدا صالحًا محبطٌ باطل، والمصير خسار، والعافية شقاء، والخاتمة هلاك وعذاب لمن أشرك بالله في ربوبيته وألوهيته وهو الذي لا شريك له ولا عديل ولا نظير ولا معين ولا وزير.

{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ([13]) وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}([14]).

إذًا لا شيء غير قَصْر العبادة على الله وحده، وحصر الطاعة له، وأن لا طاعة لأحد إلا من طاعته حيث تكون بأمره وإذنه ومقرّبة إليه؛ ومع إخلاص العبادة والطاعة له يُحتّم إنعامه وجليل نعمائه والتوفيق لتوحيده دوام شكره والثناء عليه، ومضاعفة الطاعة، والنأيَ الشديد عن المعصية.

 

اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم.

اللهم اجعلنا ممن لا يتّخذ منك بدلًا، ولا يرضى عنك مُتحوَّلًا، ولا يرى معك ربًّا، ولا يشرك بك إلهًا، ولا يستغني بأحد من خلقك عن اللجأ إليك، والتعلّق برحمتك وكرمك يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([15]).

 

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية

       الحمد لله الذي تنتهي إليه كلُّ نعمة، وترجع إليه كلُّ حسنة، ولا يصدر منه إلّا الجميل، ولا يؤاخِذ إلّا على السّيئة، ولا يعاقب بأكثر من الاستحقاق، ويثيب تفضّلًا، ويضاعف الحسنات.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله إنما تكون التقوى ممن لا يُردّ قَدَرُه، ولا تحول قوّةٌ بينه وبين ما يُريد، وكلُّ أمرٍ له نافذ؛ ولا أحدَ غيرَ الله كذلك؛ ثم لا يُعوّل على المغفرة من أحد ما لم تكن من الله لأن مغفرته وحدها النافذة أمّا المغفرة من غيره، والتجاوز ممن سواه فلا ينفع إلا بإذنه، ولا يندفع به محذور قدَره.

       الله سبحانه تقول الآية 56 من سورة المدّثر {… هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} هو وحده لا غيره أهل التقوى لمالكيته وربوبيته وألوهيته دون سواه، والذي لا نفعَ في رضا بلا رضاه، ولا ضرَّ في غضب من دون غضبه، وبلا قَدَره. وهو وحده أهل المغفرة الذي يملكها من نفسه وبتقديره وبمحض إرادته، وهو القادر دون سواه على إنفاذ مغفرته دون أن يملك أحدٌ أبدًا التدخُّل في أمره، والتأثير عليه. وهو الغنيَّ الرحيم الكريم الذي لا يشبهه شيء ومن شأن ذلك أن يغفر ويستر.

       فلنطلب تقوى الله في كلّ أمر، ومغفرته من كلّ إثم فنغنى ونُكفى ونُوقى.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين.

       اللهم أطمعنا في رحمتك بما يُقوّي من أوبنا إليك، ويزيدنا من الأخذ بما أمرت، والنشاط في طاعتك، ولا تجعل من ذلك سببًا في تساهلنا في أمر دينك، وأعذنا من اليأس من عفوك وتجاوزك حتى لا نترك الاستغفار من الذنب أو لا نُصدق التوبة إليك، والرّجوع القاطع عن معصيتك يا حنّان، يا منّان، يا كريم.

       اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصِّدّيقة الطّاهرة المعصومة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا مقيمًا.

       أما بعد أيّها الأحبّة في الله فإلى هذه الكلمات:

       الاستقرار الأمني:-

       الاستقرار الأمنيّ مطلب حكومات وشعوب.

       والأمن أمن أديان ومذاهبَ وأبدان وأعراض وأموال وشرف وعزّة وكرامة ومال ومعيشة، وحقوق مما يجب أن يتمتّع به كل إنسان من حيث هو إنسان، وكلّ مواطن بما هو مواطن.

       والمعروف في كلِّ الدنيا أنَّ من يعيشون تحت سقف واحد، ومن يركبون سفينة واحدة لا يتجزّأ أمنُهم عملًا فما خاف بعضهم من بعض إلّا خاف الآخر، وما غدر بعضهم ببعض إلا توقَّع الغدر من الآخر.

       فأمنهم جميعًا ينتقض بنقض طرف، وينهدم بهدمه من طرف. فما أحسن لنفسه، وقد أساء إليها من قوّض أمن أخيه وشركائه الذين هم معه في البيت الذي يؤويه. وما يفعل ذلك فاعلٌ إلّا في غير تدبّر.

       إنّه بغض النظر عن الدين والقيم والضمير والأخلاق والشيَم والحقوق يتحتم من باب المصلحة المشتركة والضرورة ودفع الضرر أن يجتنب أهل السقف الواحد عن اللعب بأمن بعضهم البعض.

       والوطن الواحد الذي يضمُّ شعبًا واحدًا وحكومة واحدة في حكم السقف الواحد، وحكم أهله جميعًا حكم أهل بيت واحد وسفينة واحدة. أمنهم غيرُ قابل للتجزئة… أمنهم واحد، وخوفهم واحد جاءهم الخوف من خارج أو جاءهم من عند أنفسهم.

       حقيقة قد لا يختلف عليها اثنان من الناحية النظرية، ولكنَّ الحكومات التي تضرب بها عرض الحائط ليست من القليل.

       ولا يُعالج هذا الأمر إلا التدبُّر والتفكُّر والتعقُّل. وحين نتحدث عن الاشتراك في أمن البيت الواحد والسفينة الواحدة والوطن الواحد وتصدُّعه وتدهوره وتضرُّر جميع الأطراف بتعدّي طرف عليه لابد أن نُفرّق بين ما عليه وضع البيت ووضع السّفينة ووضع الوطن. فأمنُ البيت تدهوره يكون سريعًا وتضرُّر الأطراف كلِّها به ربما يكون عاجلًا بهذا التعدّي، وأمن السفينة أسرع فَقدًا وبصورة جامعة. أمَّا أمن الأوطان فقد يُغري طرفًا عدم تضرُّره لمدى زمنيٍّ بتعدّيه عليه، وعدم وجود ردَّات فعل سلبيّة قريبة أو متوسطة مؤذية بالنسبة له إلّا أنَّ المقطوع به أنه أسّس لانتقاض أمن الوطن كلِّه، وأساء إلى من لا يُحب ومن يحب وحتّى لنفسه([16]).

       ولا يحفظ أمن بلد، ولا يسعد أهل بلد، ولا تتمتنّ الثقة بين أبناء بلد بمثل ما تنتجه سياسة العدل والإصلاح والإنصاف، ولا هادم، ولا مِعولَ أشدَّ فتكًا بأمن الأوطان، وسعادة الناس، وأُخوّتهم من معول الظلم والعدوان.

       وإذا كان أهلُ السفينة الواحدة أمنُهم مشتركٌ، وخوفهم مشترك فإن أهل الحقل الواحد والمزرعة الواحدة يشتركون شبعًا وجوعًا ويسارًا وفقرًا، وغنى وحاجة ولا يصح لهذا أن يشبع وذاك يأكله جوعُه ولا العكس فلا بُدَّ من عدل ولا بد من إنصاف، وإلّا اختلّ وضع الجميع وساءت حياة المجتمع كلّه.

       وهذا واضح كذلك عند كلّ النّاس على المستوى الذهني والمخالفون له كثيرون في مقام العمل. ووطن كلِّ قوم مزرعتهم المشتركة التي لا يصح أن يشبع فيها طرف ويجوع آخر، ولا يستقيم لهم ان يستمروا لهم الوضع مع ذلك.

       الإصلاح:

       وقد يُقدّر للإصلاح وزنه وقيمته أناس ولا يُقدّرها أناس، وقد يُحس بالحاجة إليه أناس دون آخرين، وقد يلمس ضرورته العملية قوم دون قوم. وقد تختلف عليه المصالح فيما تراه الأطراف المتعدّدة كلٌّ من جانبه وحسب ما عليه واقعه وظرفه.

       ولكن قد تصل أوضاع أيّ ساحة من الساحات إلى الحدّ الذي يفرض حتميته([17])، ويجعله الخيار الذي لا بديل له، ولا محيص منه، ولا يوقف عنه طوفان ولا نار ولا حديد، ويجعله المنطق الأقوى، واللغة العملية الأنسب، بل القدر الذي لا تحول بينه وبين أن يكون كل المحاولات.

       وكل الساحات قد تختلف فيها لغة الإعلام عن عطاءات الواقع، وتحاول أن تُعطّلها إلّا أنَّ أيّ لغة إعلامية مكابرة لابد أن تنهزم أمام لغة الواقع والضرورة الملحة.

       ولا شيء بعد اليوم في كلِّ ساحاتنا العربية يمكن أن ينسف فكرة الإصلاح أو يُعطلها أو يقاومها طويلًا بعد أن أصبحت القضية في لغة الواقع ضرورية.

       وستجد الأصوات المنادية بغير ذلك نفسها شاذّة ومعزولة ومهزومة ومندحِرة أمام صراحة إلحاح الواقع، ودفع الضرورة، والإحساس العام المتوسّع جدًّا في كلّ الساحة العربية والعالمية بحاجةِ الإصلاح وتسريعه.

       أمّتنا إلى أين؟

       لهذه الأمة ماض مضيء بعيد عاشته في ظلِّ الإسلام وحاكميته العادلة الراقية وصناعته المجيدة للإنسان وأوضاع الإنسان التي تأتي على يده.

       وماضٍ أقرب منه ظلَّ ممتدًّا إلى يومها هذا فيه بؤس وظلمة وتخلُّف وتفكُّك وشتات. وقد دخلت في نفقه المظلم البئيس المخزي منذ بدأت رحلتُها تشطّ عن خطِّ الإسلام، واستمرت تتوغّل فيه([18]) وتطبق عليها ظلماته، وتلف وجودها وحشته كلما زادت بُعدًا عن دين الله.

       والأمة اليوم وهي لا زالت في معاناتها المرَّة من النفق الذي أدخلها فيه تخلّيها عن دين ربّها تعيش حالة من الحنين والتطلّع والشوق للإسلام الذي ينقذها من المأساة.

       ولكنّ العودة للإسلام لا يكفي فيها الشوق والتطلُّع والحنين، ولا استرخاص النفوس، والسّخاء الكبير بالتضحيات من دون فهم سديد للإسلام، ودرجة عالية من رُشده، واستيعابٍ واعٍ لحقيقته، وارتفاع في مستوى النفوس والمشاعر والسّلوك لأفق أهدافه وأخلاقه وطُهره وانفتاحه ورحمته ورأفته، ورسالته البريئة من الهوى ومطامع الدّنيا، وعصبية الأرض والجاهلية ومن كلّ ما يتنافى مع جلاله وقدسيّته وعدله وإحسانه.

       والمسافة اليوم بين قيادات كثيرة متعدّدة تنتشر في الساحة العربية والإسلامية وتحمل شعار الإسلام والانتصار إليه وعودته لقيادة الأمة وبين الإسلام مسافة شاسعة فهمًا ورؤية وفقهًا واستيعابًا، وهدفًا وتوجّهًا، وتقديرًا للإنسان وانفتاحًا وعدلًا وإحسانًا وتسامحًا، ونأيًا عن الضيق والعصبية الجاهلية من قوميّة وجغرافية وغيرهما وتعاليًا خلقيًا ورفعة وتساميًا.

       قيادات تُخطئ فهم الإسلام، وتقيم من عصبيتها ودمويتها وعدوانيتها، وإساءتها لعدل الإسلام وانفتاحه ورحمته وإحسانه نماذج عملية وشواهد زور على الأرض تسلبه قوّته وصدقيته وجلاله وجماله.

       وبهذا تكون المسافة بين الأمة وبين العودة للإسلام العودة الحقيقية التي تُظهر عظمته، وتعيد لها قوتها وعزّتها وكرامتها وموقعها الريادي الذي يصبّ في مصلحة الإنسانية كلها ليست قصيرة، ويومها ليس بذلك القريب.

       ولكنّ عملية التخلُّص والانعتاق من واقع النكسة في تاريخ الأمة بدأت بلا ريب وبدأت الهجرة للإسلام بعد هجرانه تتنامى في أوساط الأمة ومختلف مستوياتها، ولن يكون مستقبلها من جنس الماضي الذي عاشته طوال العمر الطويل لانتكاستها، ولن تستقر على شيء في مستقبلها رغم الاستمرار على خط التجارب المتعثرة غير ما هو من خطِّ ماضيها المجيد، وتاريخها المشرق الكبير حتى تلتحم حياتها بأكمل صورة حيّة للإسلام على الأرض التحامًا كاملًا على يد القيادة الإلهية الرشيدة التي أعدّتها العناية الإلهية وبشَّر بها الإسلام لإنقاذ الناس.

       إنَّ صفحة الماضي البئيس الكئيب المذِلّ الذي عاشته الأمّة زمن انحدارتها وبُعدها عن الإسلام إلى انطواء وهيهات أن تردّ المحاولات الأرضية قوافل النور إلى الوراء، أو تُعطِّل حركة الركب الصاعد ولكن يبقى في الطريق طول، وفيه متاعب ومشاقّ وتحديات ضخام، ويبقى على الأمة أن تبذل الكثير، وتُعاني الكثير، وتصبر على الكثير، وأن تشهد انتكاسات وعثرات وتخبُّطات من بعض التجارب والمحاولات.

       كيف تكون قويًّا؟

       كيف تكون قويًّا أمام كلِّ الدنيا بإغراءاتها وتوعُّداتها، وكلّ تحدّياتها؟ أمام فقرها وغناها، وهزائمها وانتصاراتها، ومخوفها ومرجوّها، وصغارها وكبارها؟

       وكيف تكون قويًّا أمام أكاذيب أهلها وعبيدها وافتراءاتهم وأراجيفهم فلا ينالون من نفسك ثَلمة، ولا تمسّها من حربهم هزيمة، ولا تهتزّ من محاولاتهم بنفسك ثقتُك، ويستحيل على أباطيلهم أن تنال من عزّتك؟

       الطريق واضح ولا يحتاج إلى بحث، والنتيجة مضمونة لا تخلّف لها.

       لا عليك إلَّا أن توحّد الله الواحد الأحد ربوبيةً وألوهيّة، وأن لا ترى نافعًا ولا ضارًّا غيره، وأن تُحسن التوكّل عليه، وتفويض الأمر إليه.

       وعندئذ دع الدّنيا كلّها تجتمع عليك، وتُضادَّك، وتفترِ عليك، وتمكر بك ولا تبال.

       وما هدّد عبدٌ من عبيد الله عبدًا آخر له سبحانه بأشدّ وأخطر من الموت. ويُبطل هذا التهديد في النفس المؤمنة أمور ثلاثة وأكثر:

       أن الموت قدرٌ لابد منه، ومن لم يمت اليوم مات غدًا، وأن الموت مظلومًا يُحمّل القاتل الكثير من آثام المقتول، وأن لا نفس تملك أن تُنقِص من أَجَل نفس شيئًا.

       وكما يُنقذ الإيمانُ الحقُّ بالله سبحانه العبادَ من خوف العباد، فكذلك ما كفّ يدًا عن العدوان، وما حَبَسَ لسانًا عن الفُحش والبغي، وما عصم كلّ الجوارح عن القبيح، وما نقى القلب من نيّة الشرّ، وقصد الآثام، وصدَّ عن فعل السوء، وأوجد إنسانًا نفّاعًا محبًّا للخير كالإيمان.

       فكن مؤمنًا تكن قويًّا مطمئن النفس، نظيف القلب، نزيه اليد، غير آثم ولا ظالم، لا يرتقب منك شرّ، فعَّالًا للخير([19]).

       اللهم صلّ على محمد وآل محمد وسلّم عليهم تسليمًا دائمًا، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم اجعل قبلتنا رضاك، ودليلنا دينك، ومرجعنا شريعتك، وجهادنا في سبيلك، وأنجِز لنا ما وعدت الساعين في نصر دينك من النصر، وهب لنا ما وعدت عبادك المؤمنين من العزّ، وادرأ عنّا كلّ سوء يا قويّ، يا عليّ، يا عزيز.

       اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرنا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة وأمن.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([20]).

 

[1]– 102/ آل عمران.

[2]– 106/ الشعراء.

[3]124/ الشعراء.

[4]142/ الشعراء.

[5]161/ الشعراء.

[6]177/ الشعراء.

[7]– 62-67/ الزمر.

[8]– وكلُّ ما عدا الله فهو عدم في نفسه.

[9]– كلّ شيء ممن عدا الله وما عدا الله فهو عدم في نفسه، فهل تراه قادرا على إخراج نفسه من عدمه بنفسه؟! وإذا لم يكن بنفسه قادرا على إخراجه نفسه بنفسه من عدمه فكيف يخرج غيره؟! لو لم يكن الله فلا كون على الإطلاق!

[10]– الله وكيل، كفيل؛ وكيل على العباد كل العباد، على الخلق كل الخلق؛ لا يقوم لهم وجود ولا حياة ولا بقاء لشيء من هذه الموجودات كلها إلا بما يمدّه الله به، وهذا يعني أن الله على كلّ شيء وكيل، ولا وكيل غيره سبحانه.

[11]– وعالم الغيب عالم القدرة، وعالم العلم، وعالم الحياة الإلهية ولا نفاد لذلك أبدًا ولا حدود له.

[12]– 64/ الزمر.

[13]– الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وآله.

[14]– 65/ الزمر.

[15]– سورة التوحيد.

[16]– فإنّ الأوطان لا يمكن أن يحفظ أمنها وعزّتها وثرواتها بمثل هذا.

[17]– أي حتمية الإصلاح.

[18]– أي في هذا النفق.

[19]– ومما يسقط قيمة التهديد للمؤمن بالقتل أنه لا يعطي للحياة الدنيا تلك القيمة المطلقة، ولا يرى خسارتها الخسارة الكلية والنهائية، ولا يساوي بينها قيمة وبين الآخرة، وهذا ما نطق به الإيمان على لسان سحرة آل فرعون عندما استقرت حقيقته في نفوسهم { فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (72/ طه).

[20]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى